الدكتور عبد الله عبد الدائم المفكر والمربي

أخي يا أبا أرود..
عاش الشعب العربي، وعشنا معه، كما عاش العالم في نصف القرن المنصرم من التبدلات المتعاقبة والسريعة في القوى التي تحرك العالم، في البنى التي تؤطر هذه القوى، في المعاني والإيديولوجيات الناظمة لحركتها، وكذلك في العلائق بين الناس أفراداً وجماعات، حكومات وأمماً وأيضاً في حساسياتهم وتفكيرهم وقيمهم ورؤاهم للعالم.. ما لم يعشه أجدادنا طوال قرون وقرون. يكفي أن تذكر العام الفائت ففيه وحده تبدل ميزان القوى الدولية، السياسية منها والاقتصادية والثقافية، بشكل فيه من الجذرية ما يجعلنا نضع موضع تساؤل أفكاراً كنا نعتقدها لسنوات قليلة خلت راسخة رسوخ الجبال. وهذه التبدلات مستمرة حتى اليوم وستستمر غداً وبعده على ما يبدو.
فالسؤال المطروح علينا اليوم، وعلى العالم بصورة ملحة، هو: ما المستقبل؟ أو بالأحرى إلى أين نحن صائرون؟ سؤال هو في الواقع جملة أسئلة، نخشى، نحن العرب، أقطاراً وقيادات، مواجهة أي منها. وعندما يصبح السؤال إحراجياً وعلينا أن نجيب، نرتجل، نرتجل المؤسسات والدولة، نرتجل المستقبل والماضي، نرتجل السؤال والجواب، كما نرتجل نزهة إلى بلودان والزبداني. ثم نرفع صوتنا عالياً لنؤكد جازمين أن ما نقوله حقيقة، لا بل هو الحقيقة.
لقد كان لنا في الخمسينات خط جعلنا منه خطة. واعتقدنا أنه إذا سلكت الأمة هذا الخط وتقيدت بهذه الخطة فستستعيد وحدتها ومعها مكانتها بين الأمم.
قل لي يا أخي، أين هو اليوم ذلك الخط؟ أأضعناه أم أنه كان بمثابة رصيد بددناه؟. أم أنا لم نكن بمستواه فصرنا تجاهه كدون كيخوته الذي يعجز عن تقدير العلاقة بين الوسيلة والهدف. أم أنه لم يكن أكثر من أفكار عامة استحالت ذات يوم شعارات فضفاضة، رصيدها انفعالاتنا التي جعلت منها حقائق موضوعية؟
ما أسرع ما تسقط الشعارات سقوط عملة ورقية فقدت تغطيتها في عصر التضخم النقدي وانهيارات الأمم المتسارعة.
قد يكون في كل من هذه الأسئلة – الأجوبة وجه من أوجه الواقع الذي نعيش.
قلت: لو طرحنا هذه الأسئلة على الأجيال التي تتكون اليوم فما عسى يكون رد فعلها؟. لو عرضنا على هذه الأجيال الخطوط الكبرى لما كنا نعتقد في الخمسينات أنه حقيقتنا، أفلا يرثون لحالنا؟
إن حقيقة اليوم الحقيقية إن صح التعبير، هي المجتمع الاستهلاكي. وما عداه فباطل الأباطيل وقبض الريح.
أخي يا أبا أرود،
عرفتك مثقفاً منفتحاً على ثقافات العالم كلها، تود لو تمكنت من التهامها دفعة واحدة. وعندما اخترت التربية اختصاصاً تجمع حوله خطوطك الثقافية العديدة، أحسنت الاختيار فالشعب العربي كان وما يزال وسيبقى لزمن طويل بحاجة إلى إعادة تكوين على الصعيدين الفردي والجماعي كي لا ينهار أمام الثورة العلمية التي تقوض الأمم والشعوب من الداخل وتخضعها لسلطة المتسلطين. لقد ألفت وترجمت، لخصت واقتبست.. وقدمت لهذا الشعب صورة مخلصة وصادقة عن الفكر التربوي الحديث. ولما دعيت للعمل، أسهمت على أرض الواقع في وضع حلول لمشكلاتنا التربوية.
كما أنك اقترحت على المسؤولين حلولاً لها أصالتها وموقعها المتميز. ولقد عرفك الوطن العربي بأغلب أقطاره مربياً وخبيراً بالتربية من مستوى عالمي. كما أنك أسهمت سنوات في عمل اليونسكو، إن في المركز – باريس – أو خارج المركز.
أخي يا أبا أرود.
طُلب مني أن أتحدث عنك. وها أنا أتحدث إليك، وهذا الحديث يسعدني. فنصف القرن الفائت الذي قضيناه معاً، نتلاقى ونفترق في الزمان والمكان، في العمل السياسي وفي النشاط الثقافي، أكسبك خبرة كبيرة وهي رصيد لنا كلنا.
ثم سؤال واحد، يخطر ببالي الآن ويا ليت أنك تجيبني عنه، أنت الذي سلخت من حياتك نصف قرن ونيف تعمل في الحقل القومي والثقافي: هذه الأمة، أهي قابلة للتربية؟ أم أنها، هي كما هي منذ أن وجدت في جاهليتها وإسلامها وحداثتها؟ قل لي: لو عاد اليوم إلى العالم محمد بن عبد الله الذي كونها، أفسيرى أن رسالته أخفقت أم نجحت؟
أنت تعلم أني أعطي للصمود على أرض المعركة المقام الأول في سلوكي. والذي يعمل متفائل أياً كان موقفه النظري. وأنا أعرفك طليعة بين العاملين والصابرين، لا تكل ولا تمل.
والحق أن علينا أن نتجاوز التفاؤل والتشاؤم، هي والانفعالات الأخرى التي تأتي وتزول في حينها. ومن ثم فإن الشعور العميق بالموقف أرسخ من كل الانفعالات وهو الذي يملي علينا سلوكنا ومواقفنا النظرية. وشعوري الشخصي العميق هو أني أشبه بمن يسبح في بحر
لا قرار له. فهو يطفو على وجه الماء حيث يتنفس، يبتسم للشمس والأحياء، يضحك للبشر والأصدقاء. ثم يغمض عينيه ويواصل السباحة. فإلى متى وحتى متى يمهلني الموج العاتي؟
قل لي هذا الشعور أهو شعور جبل أخفق أم أنه حقيقة أمة ترقص وهي تصارع الموت؟
على أية حال فسنواصل العمل حتى النفس الأخير من حياتنا ونترك ما تبقى للأجيال المقبلة ولمن خلقنا وخلق هذه الأجيال، رب العالمين.
والسلام عليك
أنطون مقدسي