نحو استراتيجية للتعليم العالي في الوطن العربي

المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم
«نحو استراتيجية للتعليم العالي في الوطن العربي»
بقلم
الدكتور عبد الله عبد الدائم

بحث مقدم إلى المؤتمر الرابع لوزراء التعليم العرب
طرابلس – ليبيا – /9-12 تشرين ثاني/ نوفمبر 1991

نحو استراتيجية التعليم العالي في الوطن العربي
بقلم الدكتور عبد الله عبد الدائم

(أولاً) مدخل:
أول ما يقفز إلى الذهن عند محاولة البحث عن استراتيجية للتعليم العالي في الوطن العربي، أن هدف مثل هذا البحث هو في خاتمة المطاف رسم مسيرة التعليم العالي في الوطن العربي في العقود القادمة رسماً من شأنه أن يجعل من التعليم العالي بوجه خاص (ومن التعليم بوجه عام)، عاملاً أساسياً في بناء التنمية بأبعادها المتعددة الشاملة، أو بتعبير أصح في بناء مجتمع عربي متحرر من أثقال التخلف، سائر في طريق الحضارة بأوسع معانيها.
والحق، إن منطلقنا الأساسي في هذا البحث هو أن الاستراتيجية المطلوبة للتعليم العالي في الوطن العربي، ينبغي أن تكون قادرة فعلاً على تحقيق هذا المطلب، نعني التحرر من التخلف، ودخول معارج التقدم، ومواكبة الحضارة العالمية المغذّة في تقدمها وتجددها. وهذا يعني عندنا أن المسألة تتجاوز مجرد إصلاح الثغرات القائمة في نظام التعليم العالي في البلدان العربية، وأنها بالتالي تستلزم مراجعة جذرية وتجديداً حاسماً في هذا النظام، انطلاقاً من المعطيات العالمية الجديدة والمعطيات العربية الجديدة.
وبتعبير أوضح، إذا كان الهدف الأساسي لاستراتيجية التعليم العالي في البلاد العربية هو اللحاق بالعصر وبناء حضارة عربية حديثة في عطائها العلمي التكنولوجي، أصيلة في هويتها الثقافية وعمق جذورها الذاتية، فإن هذا لن يكون إلا إذا أدركنا أولاً وقبل كل شيء طبيعة الحضارة العالمية المعاصرة ومرتجيات مسيرتها المتجددة المتغيرة أبداً، وأمسكنا بالتالي بأسس الحضارة العلمية التكنولوجية وطبيعتها ومقومات إنتاجها، وأدركنا مصدر القوة الاقتصادية فيها، ودور التربية بوجه عام والتعليم العالي بوجه خاص في توليد هذه القوة.
وقد يبدو أننا بهذا لا نقول جديداً. فالحديث عن الحضارة العلمية التكنولوجية وعن ثورة ما بعد الصناعة حديث شغل الباحثين العرب منذ عقود عديدة، وكتبوا فيه كثير الكثير، والحديث عن الاقتصاد العالمي وعن قوى الإنتاج فيه حديث مكرور معاد أيضاً. والبحث في دور التربية بوجه عام والتعليم العالي بوجه خاص في التنمية الشاملة ملأ الصحف والمجلات والأسفار في البلاد العربية منذ أوائل الستينيات على أقل تقدير. ومثل ذلك يقال عن الدراسات الكثيرة التي شاعت وذاعت حول مستلزمات تطوير التعليم العالي كيما يستجيب لمستلزمات التنمية الشاملة.
ومع ذلك يسائل الباحث، لماذا لم يؤد ذلك كله إلى تطوير حقيقي للتعليم العالي، تطوير يجعل منه عاملاً أساسياً من عوامل التنمية الشاملة والحضارة الكاملة في البلدان العربية؟
وجوابنا نحن على هذا التساؤل يرتد في النهاية إلى أمرين:
أولهما أن التجربة العربية في التعليم العالي لم تستخرج بعد الدروس الحقيقية من تجربة البلدان المتقدمة في هذا المجال، ولم تدرك بوجه خاص إدراكاً عميقاً طبيعة الحضارة العلمية التكنولوجية في صلتها بالإعداد والتكوين.
وثانيهما أن التجربة العالمية نفسها تسير بخطى سريعة يصعب اللحاق بها. ومن هنا كان لا بد من فهمها فهماً حركياً «ديناميكياً» لا فهماً «سكونياً» جامداً.
أما الأسباب الأخرى التي حالت دون تطور التعليم العالي في البلاد العربية تطوراً يحقق الربط بينه وبين حاجات التنمية والبناء الحضاري الشامل، فهي عندنا أسباب ثانوية بل تابعة للسببين الرئيسين: ونعني بتلك الأسباب الثانوية ما يذكر مثلاً عن تقصر الموارد المالية والبشرية، أو عن تكاثر أعداد الطلاب تكاثراً تنوء بحمله إمكانات الجامعات أو عن تقص إعداد وأعداد أعضاء الهيئة التدريسية، أو عن سياسة الالتحاق بالتعليم العالي، أو عن توزع الاختصاصات بين الكليات والمعاهد والأقسام، الخ…
ولا أدل على ما نقول من أن معظم الدراسات المتصلة بالتعليم العالي في البلدان العربية لم تمسّ جوهر المشكلة، واقتصرت على تقديم تحليل وصفي إحصائي لواقع هذا التعليم ولمشكلاته بوجه خاص. لقد تريثت معظم هذه الدراسات عند أمور كالآتية:(1)
1- اختلال النسبة بين أعداد الطلاب في الدراسات العلمية والتطبيقية في الجامعات وبين طلاب الدراسات الإنسانية (هنالك اليوم تعادل تقريباً بين الجانبين إذا نظرنا إلى الأمر في جملة البلدان العربية).

2- التوزيع العشوائي غالباً للتخصصات داخل الكليات في الجامعات، وما يصاحب ذلك من ندرة بعض التخصصات الحديثة أو غيابها (علوم الحاسوب – علوم البيئة – علوم الفضاء – علوم الصحارى – الدراسات المائية – الدراسات الصحراوية – دراسة المناطق الجافة – إدارة الموارد الطبيعية – الثروة السمكية – البيولوجيا الحديثة – الهندسة الصناعية – هندسة الصيانة).
3- المشكلات المتصلة بأعضاء هيئة التدريس في الجامعات والمعاهد: عدم تناسب الزيادة في أعضاء هيئة التدريس مع التزايد السريع في أعداد الطلاب – عدم توافر المؤهل الجامعي المطلوب لدى بعض أعضاء هيئة التدريس – ضعف الإنتاج العلمي لأعضاء هيئة التدريس – ارتفاع نسبة عدد الطلاب لكل عضو هيئة تدريس، الخ.
4- نقائص سياسة الالتحاق بالتعليم العالي: ارتباط التخصصات الجامعية بمستوى العلامات في شهادة الدراسة الثانوية ومحاذيره.
5- إنتاجية (مردود) التعليم العالي، وارتفاع نسبة الهدر الناجم عن التسرب والرسوب.
6- تخلف البحث العلمي في التعليم العالي وفي مراكز البحوث وفي المجتمعات العربية بوجه عام.
7- الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه) في التعليم الجامعي العربي ونقائصها.
وتأمل مثل هذه الدراسات أن يتم تطوير التعليم العالي في البلاد العربية وأن يضطلع هذا التعليم بدوره في التنمية الشاملة، عن طريق بذل جهود حثيثة للتغلب على مثل هذه المشكلات.
وتضف دراسات أخرى بعض التفصيلات الخاصة بربط التعليم العالي بالتنمية، حيث تتحدث عن ضرورة تحقيق التكامل بين خطط القوى العاملة وبين خطط التعليم العالي، منادية بتعليمٍ عال يلبي الحاجات المتجددة للقوى العاملة. ومثل هذا المطلب مطلب سليم، ولكن المسألة كلها ههنا: كيف نحقق الربط بين خطط القوى العاملة وبين خطط التعليم العالي (والتربية بوجه عام)؟ بل كيف نرسم خطط القوى العاملة في البلدان العربية في عالم تتغير بناه الاقتصادية وبنية القوى العاملة فيه تغيراً جذرياً سريعاً؟ وما هو هذا التغير الذي يتم في تلك البنى، وما طبيعته وما صلته بالتربية والإعداد والتكوين؟ ذلكم هو السؤال الحقيقي. وإياه قصدنا منذ البداية. وسنحاول الإجابة عليه بعد حين.
(ثانياً) تعريفات لا بد منها:
وقبل أن نمضي في حديثنا عن استراتيجية التعليم العالي كما يهدينا إليها مثل هذا التحليل لطبيعة الثورة العلمية التكنولوجية، ولما يحدث فيها من تغير جذري في بنى القوى العاملة، وبالتالي في الصلة بين هذه القوى وبين التعليم والإعداد والتكوين، لا بد من جلاء بعض المصطلحات دفعاً لأي لبس:
1- يقصد بالتعليم العالي العالمي أي تعليم لاحق للتعليم الثانوي، سواء كان في الجامعات أو المعاهد أو سواها. وتطلق عليه تسميات تختلف باختلاف البلدان: ففي الولايات المتحدة يسمونه «التعليم التالي للتعليم الثانوي»، ويدل على أي تعليم نظامي يتم بعد المدرسة الثانوية، ويضم بالتالي تعليم الكبار. أما في بريطانيا وأوستراليا فتستخدم كلمة «التعليم اللاحق further education» وبعض البلدان تتحدث عن «المرحلة الثالثة من التعليم»، وبعضها الآخر يشير إلى «التعليم التالي لمرحلة الإلزام» (حين يشمل الإلزام المرحلة الثانوية). ويقصد بهذا «التعليم التالي لمرحلة الإلزام» تعليمٌ عال أوسع مدى من «التعليم التالي للمرحلة الثانوية»، يشمل شتى ضروب التعليم والإعداد والتكوين التي تعتبرها السلطات المعنية جزءاً من المرحلة الثالثة للتعليم، والتي يمكن أن توفرها أنماط مختلفة من المؤسسات الجامعية وغير الجامعية، في إطار برامج التعليم عن بعد، أو برامج الإعداد المختلفة.
2- وفي البلدان العربية نقصد بالتعليم العالي معنى قريباً من هذا المعنى الأخير، إذ نجد أنماطاً ثلاثة رئيسة من مؤسسات التعليم العالي:(2)
النمط الأول: المعاهد أو الكليات المتوسطة التي يجري فيها إعداد القوى العاملة لمدة سنتين أو ثلاث بعد الدراسة الثانوية. وتقود الدراسة في هذه المعاهد إلى منح درجة دبلوم مهني أو فني وتطلق على هذه المعاهد تسميات مختلفة في البلدان المختلفة وفي البلد الواحد أحياناً.
النمط الثاني: المعاهد العليا أو المدارس العليا التي يجري فيها إعداد القوى العاملة لمدة أربع سنوات أو أكثر بعد الدراسة الثانوية. وتقود الدراسة فيها إلى منج درجة بكالوريوس أو إجازة تعادل درجة البكالوريوس التي تمنحها الكليات والجامعات. ونجد لها أيضاً تسميات مختلفة تبعاً للبلدان. وقد تتبع هذه المعاهد وزارات غير وزارة التربية أو التعليم العالي.
النمط الثالث: هو الجامعات، وهو منتشر في البلدان العربية جميعها (وقد بلغ عددها 83 جامعة عام 1987). والصورة السائدة لمدة الدراسة فيها أربع سنوات في معظم الكليات ومن 5 إلى 6 سنوات في كليات الطب والهندسة والصيدلة وطب الأسنان. وتتوافر في بعض هذه الجامعات دراسات عليا تقود إلى منح الدبلوم العالي أو الماجستير أو الدكتوراه.
(ثالثاً) الملامح الكبرى لاستراتيجية التعليم العالي في البلاد العربية في إطار تطور العصر:
1- ذكرنا في المدخل أننا نود أن ننطلق في رسم معالم استراتيجية التعليم العالي في البلاد العربية من صلب المسألة وجوهرها، ونعني بذلك الإحاطة بما تفرضه الثورة العلمية التكنولوجية على التعليم العالي في البلاد العربية، إن هي أرادت أن تجعل هذا التعليم عاملاً أساسياً من عوامل التنمية الحضارية الشاملة.
ولهذا سنحاول تبيّن تلك الاتجاهات التي ينبغي أن تتجه إليها استراتيجية التعليم العالي من خلال تحليلنا لطبيعة العصر ولطبيعة الثورة العلمية التكنولوجية. وللقيام بهذه المهمة الصعبة سوف نلجأ إلى ضربين من التحليل لمنعكسات الثورة العلمية التكنولوجية على التعليم العالي. أولهما على المستوى الأكبر، مستوى الخطوط العريضة لتلك المنعسكات. وثانيهما أكثر دقة، نحاول من خلاله أن نتبين طبيعة «التمفصل» القائمة بين تطور القوى العاملة وتطور الإنتاج ووسائله وتطور الاقتصاد ومصادره في ثورة ما بعد الصناعة من جهة، وبين تطور دور التعليم والإعداد والتكوين تبعاً لذلك ومن أجل ذلك، من جهة ثانية.
2- فلنبدأ بالتحليل على المستوى الأكبر لمنعكسات الثورة العلمية التكنولوجية على التعليم العالي في العالم وفي البلاد العربية.(3)
يكشف هذا التحليل الشامل للثورة العلمية التكنولوجية عن أن من الممكن تلخيص أهم النتائج التي نستخلصها من هذه الثورة، فيما يتصل بالتربية والإعداد والتكوين بوجه عام، في الأمور الآتية:
2-1- النظام التربوي الثابت قد مات، ولا بد من أنظمة تربوية مرنة في بنيتها واختصاصاتها ومناهجها، متجددة بتجدد حاجات التطور السريع.
2-2- لا بد من تحليل مشكلات التربية والإعداد تحليلاً بنيوياً عضوياً يمس جوهر التعليم بدلاً من الاكتفاء – كما يجري غالباً- بتحليل هياكل التربية تحليلاً يغلب عليه الجانب الهندسي «المعماري» إن صح التعبير.
2-3- المؤسسات الصناعية وسواها من المؤسسات الاقتصادية والإنتاجية قد دخلت ميدان التربية، ولا بد أن يتزايد دورها في صياغة هذه التربية وفي الاضطلاع بجانب منها.
2-4- الثورة الصناعية الحالية (أو ثورة ما بعد الصناعة بتعبير أدق) تستلزم تغييرات جذرية في إعداد التربية للقوى العاملة. وهذا يعني، بإيجاز شديد بل مخلّ:
أ- المرونة المتزايدة في نظم التربية وبرامجها، كما سبق أن ذكرنا. والعزم على أن تستجيب لحاجات «الزبائن» المختلفة والمتجددة (من كبار وشبان، ومن عاملين وغير عاملين، ومن أصحاب المؤهلات التربوية ومن الفاقدين لها، الخ…).
ب- انفتاح المدرسة في شتى مراحلها (بما في ذلك مرحلة التعليم العالي) على عالم العمل وعلى العمل المنتج.
جـ- السير قدماً في مجال التنويع والتشعيب، ولا سيما في المرحلة الثانية من التعليم الثانوي وفي التعليم العالي.
د- ترسيخ مبدأ «التعلّم الذاتي» لمواجهة التغير السريع في العصر، سواء في ميدان العمالة أو سواها.
هـ- القضاء على الحواجز بين التعلم النظامي والتعليم غير النظامي وتحقيق التكامل بينهما.
و- نشر النظم التربوية التي توفر التناوب بين فترات الدراسة وبين فترات العمل في إطار تربية «مستمرة».
ز- الاهتمام بالإعداد العلمي العام ولا سيما في مرحلة التعليم العالي (وفي المرحلة الأولى) بوجه خاص.
ح- المراجعة المنهجية المنظمة للائحة الاختصاصات والاختصاصيين، ولا سيما في التعليم العالي.
ط- إنشاء أنواع جديدة من مؤسسات التعليم التالي للمرحلة الثانوية أكثر استجابة لحاجات سوق العمل المتغيرة.
ي- التعاون الوثيق بين التعليم بوجه عام والتعليم العالي بوجه خاص وبين مختلف المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية.
ك- إدخال التقنيات الحديثة في التربية، بأشكالها المختلفة، في التعليم العالي.
على أننا في هذا كله ما نزال، في هذا المستوى من دراسة المسألة. نحوم حول الموضوع، دون أن نواجهه أو نقتحمه. وهذا لا يعني أن هذه الخطوط العريضة التي قدمناها لا تزودنا بمؤشرات هامة حول الاستراتيجية المطلوبة للتعليم العالي في البلاد العربية. سوى أن علينا أن نملأ هذه المؤشرات باللحم والدم، وأن ننظر إلى ما يثوي خلفها من تغيرات جوهرية في طبيعة الارتباط بين التقدم العلمي التكنولوجي وبين التعليم العالي (والتعليم بوجه عام).
ومن هنا تأتي أهمية النمط الثاني من تحليل منعكسات الثورة العلمية التكنولوجية على التعليم والإعداد والتكوين. وعلينا الآن أن نمضي إليه.
(رابعاً) استراتيجية التعليم العالي أمام تغيّر بنية القوى العاملة وبنية الاقتصاد:
1- لعل مفتاح تعرّفنا على طبيعة العلاقة بين التعليم وحاجات القوى العاملة كما هي قائمة في إطار الثورة العلمية التكنولوجية هو مشكلة بطالة المثقفين، تلك المشكلة التي ذاعت في البلدان المتقدمة (وفي البلدان النامية طبعاً، وتفاقمت في العقدين الأخيرين، والتي يخشى أن تأخذ أبعاداً أخطر في السنوات المقبلة).

وفي البلدان العربية والنامية لا نغلو إن قلنا إن التعليم العالي يكاد يصبح في معظمها مجرد فرصة لتأجيل البطالة، ولنقلها من بطالة غير مثقفة إلى بطالة مثقفة.
ومن حقنا أن نعتبر هذه المشكلة بمثابة «الكاشف» عن الخلل الناجم عن العجز عن اللحاق بالتغير الذي يصيب العلاقة بين البنية الاقتصادية للبلدان المتقدمة وبنية التعليم والإعداد والتكوين فيها. وتصدق هذه الحقيقة من باب أولى على البلدان النامية.
2- وقبل أن نمضي في الحديث عن هذا التغير، نستدرك، دفعاً لأي لبس، فنقول موجزين ما سنتوقف عنده وقفة أطول فيما بعد: إن البلدان النامية، وإن اختلفت بنيتها الاقتصادية اختلافاً جذرياً عن البني الاقتصادية للدول المتقدمة، سوف تعاني من انعكاسات الوضع الاقتصادي العالمي على حياتها وعلى التعليم فيها، حين تقبل على دخول الثورة الصناعية التي تختلط عندها مع الثورة العلمية التكنولوجية. بل هي تعاني من آثار ذلك منذ اليوم وقبل أن تسهم في الثورة العلمية التكنولوجية، وذلك عن طريق تأثرها، مستهلكةً
لا منتجة، بحصاد هذه الثورة التي تغزوها شاءت أم أبت والتي تولّد عندها مشكلات التقدم من دون أن تولد التقدم. ولا أدل على ذلك من أن ثورة المعلومات، التي تتم عن طريق وسائل الاتصال الإلكترونية المتقدمة جداً، تنتقل آثارها إلى العالم كله وتغزو العالم الثالث بسرعة متزايدة يوماً بعد يوم. ومن هنا كان حديثنا عن الصلة الجديدة بين بنية الاقتصاد في الدول المتقدمة وبين بنية التعليم والإعداد، ينطبق إلى حد كبير على البلدان النامية وعلى البلدان العربية، ولا سيما حين تعزم أمرها على دخول الثورة العلمية التكنولوجية. بل لعل القصد من تحليلنا للواقع العالمي في هذا المجال هو أن نبحث عن التغييرات الجذرية التي لا بد أن تحدثها البلدان العربية في بنية التعليم بوجه عام والتعليم العالي بوجه خاص، إذا هي أرادت أن يكون لهذا التعليم دورٌ في توليد الثورة العلمية التكنولوجية. وبتعبير آخر، همنا أن نسائل: كيف يصبح التعليم العالي (والتعليم بوجه عام) في البلاد العربية مولّداً للعمل والإنتاج، خالقاً لبنى اقتصادية جديدة، مسهماً في مسيرة هذه البلدان العربية نحو الحضارة العلمية التكنولوجية؟ ونطمح إلى أن نجد الجواب على ذلك في فهم طبيعة هذه الحضارة وفي توليد نظام تعليمي يقود بنية الاقتصاد، بمعنى أنه يكوّن القوى العاملة القادرة على ذلك.
ونستدرك مرة ثانية فنقول إن اللقاء والالتحام بين التعليم (العالي بوجه خاص) والتكوين والإعداد وبين تنمية الاقتصاد وتطوير بنيته، مطلب ما تزال الدول المتقدمة نفسها تسعى إليه دون أن تبلغه. والتحليل الذي سنقدمه سوف يكشف لنا عن الثغرات العالمية (ولا سيما في العالم المتقدم) في اللحمة الواجبة بين بنية التعليم وبنية القوى العاملة وما وراءها من بنى اقتصادية واجتماعية. وهذه الثغرات هي المسؤولة هناك عن تفاقم مشكلة بطالة المثقفين وسواهم.
3- ولنعد أدراجنا إلى تحليل بنية الاقتصاد والعمالة في البلدان المتقدمة، وإلى ما تولده وتستلزمه من تغيرات جذرية في بنية التعليم والإعداد.
وجوهر ما سنقوله في هذا المجال قول قد يبدو بدهياً، ولكنه محمّل بمعاني ونتائج واسعة وضخمة: وهو أن ظهور التكنولوجيات الجديدة جعل المجتمعات في كل مكان في حاجة إلى قوى عاملة مختلفة اختلافاً جذرياً عن القوى العاملة التي سادت زمناً طويلاً والتي ما تزال إلى حد كبير سائدة حتى اليوم حتى في البلدان المتقدمة. فالثورة الصناعية التقليدية كانت تستخدم عمالاً يمكن أن يحلّ أحدهم محل الآخر. أما عمليات الإنتاج في الثورة العلمية التكنولوجية فتستلزم مؤهلاتٍ متنوعة ومتطورة باستمرار. وهذا يعني أن حلول العمال بعضهم مكان بعض يتضاءل يوماً بعد يوم. وهو يعني أيضاً وخاصة أن مشكلة البطالة تطرح اليوم طرحاً مبايناً تماماً للطرح المألوف. وبتعبير آخر، لقد غدت البطالة في الإطار الجديد مشكلة نوعية كيفية لا مشكلة كمية: فلو فرضنا مثلاً أن ثمة إعلاناً عن عشرة أعمال، وكان ثمة متقدم واحد فقط، فهذا لا يعني أنه سوف يتم اختياره. فالأمر أمر توافر كفاءات نوعية، لا أمر توافر أعداد كبيرة من طالبي العمل. وهكذا لو فرضنا أن ثمة مليون وظيفة شاغرة في مؤسسات العمل المختلفة، وكان ثمة مائة ألف متقدم لها فقط، فإن المائة الألف هؤلاء لا يستطيعون ملء الوظائف الشاغرة إلا إذا كانت مؤهلاتهم الفردية – أي معارفهم ومهاراتهم – تلبي حاجات مؤسسات العمل. وهكذا فإن الاختصاصات غدت اليوم على قدر كبير من التنوع والتشعب، وعلى حظ من التغيّر والتجدد، بحيث لم يعد استبدال عامل بآخر أمراً ممكناً. وبتعبير آخر، لم يعد العدد والمال أهم معطيات العمل ومقوماته، كما كان الأمر في الثورة الصناعية.
ومن هنا كانت أي استراتيجية تستهدف القضاء الفعّال على البطالة (أو تقليلها) استراتيجية غير ممكنة إلا إذا اعتمدت على تقديم المعرفة اللازمة للعاطلين بدلاً من مجرد تقديم التعويض المالي. لهذا نجد معظم الدول الغربية تلجأ في معالجتها لمشكلة البطالة إلى تقديم إعداد وتدريب ملائمين للعاطلين وغلى تجديد تأهيلهم أو تطويره تبعاً لحاجات سوق العمل الجديدة.

4- على أن البنية الاقتصادية الجديدة في العالم المتقدم (وإلى حد ما في العالم النامي التابع له) المعتمدة على أدوات إنتاج جديدة، على رأسها نظم المعلومات، لا تغيّر مفهوم البطالة وحده، بل تغير أيضاً أسلوب فهمنا لبنية العمل. فالتقسيم التقليدي للاقتصاد إلى قطاعات كبرى أساسية، كتقسيمه إلى «قطاع الزراعة» و«قطاع الصناعة» و«قطاع الخدمات» لم يعد صالحاً لفهم طبيعة العمل اليوم، بل من شانه أن يزيد المسألة غموضاً. فالتغيرات السريعة اليوم تمحو تلك التقسيمات التقليدية القاطعة. وبدلاً من أن نتعلق بتلك التقسيمات التقليدية، من الأفضل لنا أن نطرح المسألة على النحو الآتي: ماذا يتوجب على عمل مؤسسة إنتاجية معينة القيام به فعلاً من أجل أن تربح (أي من أجل أن تكوّن القيمة المضافة كما يقال؟) وعندما نطرح المسألة على هذا النحو سرعان ما نكتشف أن قوام العمل، في القطاعات الثلاثة على حد سواء، عمليات رمزية (عن طريق الحاسبات الإلكترونية ونظم المعلومات وسواها) أو بتعبير آخر، قوامه «العمل الفكري». فمربو الماشية اليوم يحسبون ما يحتاجون إليه من علف وسواه عن طريق الحاسبات الإلكترونية. والعاملون في قطاع المعادن والمناجم يراقبون ما يجري على الشاشة الإلكترونية. وأصحاب المصارف المتخصصون في الاستثمارات يُخرجون أجهزتهم التلفونية الصغيرة من جيوبهم من أجل القيام بأعمالهم المصرفية. وهكذا، لم يعد هاماً أن يسمي الاقتصاديون هذه الضروب من النشاطات «نشاطات زراعية» أو «صناعية»
أو «خدمات».
وعلى الشاكلة نفسها تتنوع الفئات المهنية وتتفتت أو تلبس حللاً جديدة. وعندما نقول اليوم عن شخص ما إنه سائق عربة أو ممثل مؤسسة تجارية، فمثل هذا القول يخفي من الصفات والكفاءات أكثر مما يظهر. وكثيراً ما تبقى الأسماء، أسماء المهن، كما هي ولكن العمل الحقيقي المطلوب فيها يتغير تغيراً أساسياً. ونستطيع أن نقول بإيجاز شديد إن بنية العمل تتشكل على النحو الآتي:
في قمة ما يمكن أن نسميه «طيف العمل» نجد أناساً كالباحث العلمي، والمحلل المالي، والمبرمج المعلوماتي، أو حتى «الموثق» العادي. وفي وسط الطيف نجد طائفة متعددة عريضة من الأعمال «المختلطة» ويه أعمال تتطلب بعض الجهد الجسدي، ولكنها تتطلب أيضاً معالجة المعلومات، وفي أسفل الطيف نجد مهناً يدوية محضة، هي في طريقها إلى الزوال بتأثير الميكنة. ولما كان عدد أصحاب هذه المهن قليلاً، فإن «البرولتاريا» بالمعنى التقليدي غدت أقلية. ومع تقدم الاقتصاد الرمزي (المعتمد على الرموز الإلكترونية) تصبح البرولتاريا يوماً بعد يوم «برولتاريا عقلية». ومن هنا نجد أن الكتل الكبرى من العاطلين عن العمل تتكون غالباً من أناس لا يملكون مؤهلات.
5- وقد يكون ما ذكرناه حتى الآن من تغيّر بنية الاقتصاد وبنية القوى العاملة وحاجاتها قولاً مكروراً ومعاداً. ولعل الجديد فيه هو ربطه بوجه خاص بثورة المعلومات التي تعد بحق أكبر ثورة في عصرنا. يضاف إلى ذلك ما قدمناه من أمثلة وشواهد على التغير الجذري في الأعمال والمهن والقطاعات الاقتصادية، وما حدث فيها كلها من حاجة متزايدة إلى «المعرفة» وإلى «القدرة على معالجة المعلومات» بسبب الثورة «المعلوماتية» بوجه خاص.
لقد تحدث المتحدثون منذ عقود عدة، ولا سيما في ذلك الكتاب الشهير الذي صدر قبل «ربيع براغ» عام 1968، كتاب «الحضارة على مفترق الطرق»(4) عن الثورة العلمية التكنولوجية وعن اختلافها في الطبيعة لا في الدرجة فحسب عن الثورة الصناعية. وأشاروا إلى التغيرات الجذرية التي أحدثتها في بنية الإنتاج وعلاقات الإنتاج وفي بنية المهن والأعمال بسبب سيطرة الآلة وسيطرة الميكنة. ولكن تلك التغيرات الكبيرة التي بدأت بالظهور كانت مجرد قرزمات أولية ومجرد إرهاص بالسيل العارم الذي ازداد شدة في العقود الأخيرة والذي بلغ أقصاه في «الثورة المعلوماتية» ثورة الأجهزة الإلكترونية ونظم المعلومات، التي أحدثت في بنية العمل انقلابات جذرية لا بد أن نعيها حق وعيها عندما نتحدث عن ربط نظام التعليم (ولا سيما التعليم العالي) بحاجات القوى العاملة وحاجات التنمية الشاملة وحاجات البناء الحضاري المنشود. ومن هنا كانت وقفتنا عند آثار هذه الثورة المعلوماتية بوجه خاص، إذ من خلالها ينبغي أن ندرك العلاقة الجديدة بين التعليم وبين التنمية والبناء الحضاري ومن خلالها نستطيع أن ندرك كثيراً من مشكلات العصر، سواء في العالم المتقدم أو النامي، ولا سيما مشكلة البطالة.
(خامساً) استراتيجية التعليم العالي والترابط بين التعليم والعمل في تجارب الدول المتقدمة:
والآن من حقنا أن نسائل كيف نواجه هذا التغير الجذري في العلاقة بين التعليم العالي (والتعليم بوجه عام) وبين بنية الأعمال والمهن؟ وللإجابة على هذا السؤال الخطير، الذي كان وما يزال ضالة النظم التربوية في البلاد العربية والبلاد النامية والبلاد المتقدمة، نبدأ بجولة خاطفة على الحلول المختلفة التي قدمتها بعض البلدان المتقدمة في هذا المجال.
ولن نتحدث بالتفصيل عن أنظمة التعليم والإعداد في البلدان المتقدمة(5). ونؤثر الحديث حديثاً نقدياً عن الاتجاهات الغالبة أو أمهات الاتجاهات.
1- بعض الأنظمة المتقدمة، ولا سيما الولايات المتحدة، لا تقيم وزناً كبيراً للتعليم والإعداد، وتعتبر ضعف الارتباط بين النظام التربوي والنظام الاقتصادي يرجع إلى هذا الأخير أكثر مما يرجع إلى الأول. ومن هنا كانت جهود الدولة منصبة على تطوير الاقتصاد وعلى إفساح المجال أمام المؤسسات الاقتصادية والإنتاجية الخاصة لتتولى إلى حد كبير عمليات التدريب الملائمة. أما التعليم والإعداد النظامي فدورهما ثانوي. ومن هنا شهدنا الأموال المخصصة للتعليم الرسمي في الولايات المتحدة تنخفض بمقدار الثلث بين عام 1980 وعام 1985، بينما يزداد بمقدار النصف تمويل المؤسسات الإنتاجية الخاصة. وما تزال الولايات المتحدة حتى اليوم تعتقد أن في وسع الاقتصاد فيها أن يعمل وينمو عن طريق الاستخدام الناجع لقوى عاملة ليست على قدر عال من التعليم والإعداد.
2- وفي الطرف المتطرف المقابل، نجد التقاليد الأوروبية في هذا المجال. فالسلطات الرسمية، الضامنة للمصلحة العامة، عليها أن توفر العمل لأكبر عدد ممكن من المواطنين، بل عليها أن تجتنب تمزق النسيج الاجتماعي، عن طريق إبعاد أو «تهميش» بعض أفراده. وفي مثل هذه الأحوال، يشكل تفاقم البطالة، بسبب سوء الإعداد والتكوين، مشكلة مقلقة للدول الأوروبية. ومن هنا قررت جميعها زيادة جهودها في مجال الإعداد والتكوين إلى أقصى حد ممكن.
ذلك أن التقاليد الفرنسية والتقاليد الأوروبية بوجه عام (باستثناء بعض الدول كألمانيا والبلاد السكندنافية كما سنرى) تؤكد، في معالجتها لمشكلات العمل، على أهمية التعليم النظامي، فضلاً عن الإعداد والتكوين بأشكالهما المختلفة، وترى، على العكس من الولايات المتحدة وسواها من الدول ذات الاتجاهات الليبرالية، أن معالجة مشكلات العمل والإنتاج والبطالة تستلزم رفع مستوى التعليم بوجه عام، وتعميمه على أوسع ناطق ممكن، ورفع عدد سنوات التعليم الإلزامي، وغير تلك من الوسائل التي تجعل أفراد الطاقة العاملة على شأو عال من المعرفة والمهارة قبل دخولهم سوق العمل، كما تزودهم بقدرة أكبر على حل المشكلات التي تواجههم خلال عملهم، وتجعلهم أقدر على الإبداع والابتكار فيه، وتمنحهم أكبر عون في رحلتهم الطويلة مع العمل، نعني القدرة على التعلم الذاتي. بل بلغ الأمر بهذه الدول الأوروبية حدّ الاعتقاد بأن الشهادات تضمن العمل وتبعد شبح البطالة. الأمر الذي لا يؤيده واقع سوق العمل.
3- وفي اليابان نقع على اتجاه ثالث فيما يتصل بمعالجة مشكلات الصلة بين التربية وبين حاجات القوى العاملة وحاجات الإنتاج والنمو الاقتصادي (بل حتى النمو الحضاري الشامل).
وقد يبدو غريباً أن نقول إن مستوى التعليم في اليابان هو دون ما نقع عليه في البلدان الأوروبية، غير أن الدراسات الإحصائية العديدة تشهد على هذه الحقيقة. ذلك أن الدراسات العديدة كشفت لليابانيين أن فرط التعليم وفرط المؤهلات التعليمية – شأنهما شأن قصور التعليم وضعف المؤهلات التعليمية – يسيئان إلى سوق العمل ويوقعان الاضطراب فيه. وهذا ما أكدته بعض الدراسات التي قامت بها «منظمة التعاون والتنمية O.E.C.D» حين بينت أن مؤسسات العمل والإنتاج، في دول هذه المنظمة، تطلب بوجه خاص من الراغبين في العمل مجرد تكوين عام يتصل بطرائق العمل أكثر مما يتصل بالمعارف. فحوالي (92%) من أصحاب هذه المؤسسات ينتظرون من المدرسة مجرد إعداد أساسي عام، أو صفات تتصل بالطرائق والسلوك: كالقدرة على التكيف (72%)، وامتلاك روح النظام (69%) والقدرة على العمل مع فريق (66%). والمعرفة الوحيدة المحددة التي يتوقعونها من التحصيل المدرسي هي معرفة لغة أجنبية.
والمدرسة اليابانية توفر هذه الشروط على أكمل وجه. فهي كلها موجهة نحو الإعداد للدخول في الحياة المهنية دونما صعوبة أو انفصام. ولئن كان مستوى الثقافة النظرية فيها مستوى ضعيفاً، فالقدرة على السيطرة العملية على الآليات العقلية الحديثة قدرة رفيعة نادرة. وليس في اليابان أي انشطار بين النظام المدرسي وبين نظام المؤسسة الإنتاجية. فالمدرسة فيها تعلّم أولاً وقبل كل شيء قواعد «النظام الاجتماعي» ومبادئ السلوك في المجتمع الياباني، بالإضافة إلى أساسيات المعارف والعلوم.
وهكذا نستطيع أن نقول إن التعليم الياباني هو كله في خدمة الاقتصاد، إلى حد أن ذلك الجزء المتواضع المخصص للمعرفة والبحث، ولا سيما في الجامعات، يشكو التعثر والقلق.
وفي الجملة إن كلاً من اليابان والولايات المتحدة تبرز خصائصها واتجاهاتها الطبيعية، من خلال معالجتها لمسألة الارتباط بين التعليم والعمل. فاليابان تولد نظاماً محوره الإعداد التقني والثقافي للعمل المهني داخل المؤسسات. وما عدا ذلك ثانوي. والولايات المتحدة تؤخذ وتبهر بمرونة نظامها الاقتصادي الذي يستطيع أن يوفر حاجاته عن طريق قدرته على التكيف. وقد يصح أن نقول إن تحكم الرغبة في خدمة الاقتصاد عند اليابانيين، يقابله في الولايات المتحدة احترام قواعد النظام الليبرالي. أما معظم الدول الأوروبية ففي مأزق بين هذين الموقفين المتباعدين.
4- على أننا نجد في البلدان المتقدمة، وفي أوربا نفسها اتجاهاً جديراً بأن نوليه عناية خاصة. ولعله أقرب الاتجاهات إلى ما يمكن أن تأخذ به البلاد العربية بعد تعديله وفق ظروفها. ونعني به ما نجده في ألمانيا (وفي البلدان السكاندنافية) في مجال الربط بين التعليم والعمل. فألمانيا (مع البلدان السكندنافية) هي البلد المتقدم الوحيد الذي أوجد مساقين من التعليم متوازيين حجماً وشأناً. أولهما التعليم العام، بالمعنى التقليدي المألوف. الذي يستقبل 40% من فئة العمر المقابلة. والثاني هو التعليم المهني، بالمعنى الياباني، الذي يستقبل 60% من فئة العمر. ومعدل النجاح يتحلق حول 80% في الأول و90% في الثاني. وقد نجم عن ذلك أن نسبة عدد الشبان الألمان الذي لا يحملون أي شهادة لا يكاد يبلغ 10% عام 1988، بينما بلغ حوالي ثلث الشبان في بلد مثل فرنسة. على أن نجاح هذا النظام الألماني لا يبدو فقط في هذه المعدلات التي ذكرناه، بل يتجلّى أيضاً في ثباته واستقراره وقدرته على تجاوز الأزمات الاقتصادية. والنظام الألماني مثل النظام الياباني في فعاليته ونجاعته. غير أنه أقل منه إلزاماً وقسراً. صحيح أن كلا النظامين يمنح المؤسسات الإنتاجية دوراً واسعاً، غير أن هذه المؤسسات في اليابان لها أثر حاسم يصوغ نظام التعليم الياباني صياغة كاملة. فليست هنالك مثلاً في اليابان مدارس فنية، لأن مؤسسات الإنتاج تتولى بنفسها الإعداد في الاختصاصات التي تحتاج إليها. أما الجامعات فدورها يشبه دور كثير من «المدارس الكبرى» في فرنسة: بمعنى أنها تعتمد على صرامة الاصطفاء أكثر من اعتمادها على محتوى التعليم. وجديرٌ بالذكر أن هذا النظام وليد المجتمع الياباني والتقاليد اليابانية التاريخية العريقة (قيم التضامن والعمل والعلم، وارتباط العامل ارتباطاً يشبه الارتباط الأسري بمؤسسات الإنتاج)، ولا يفهم خارج إطار هذا المجتمع.

وهكذا تفيد ألمانيا من منطقين تعليميين مختلفين ولكنهما متكاملان. وهذه الثنائية تسمح بقيام علاقات متوازنة بين المدرسة ومؤسسات العمل: إنها علاقات تعاون وليست علاقات سيطرة وخضوع. وجذور هذا النظام التعليمي الناجح تكمن في هذه العلاقة المباشرة والحميمة بين الجانبين. ومن الشواهد عليه أن 80% من التعليم المهني يتم على شكل «تلمذة appreuticeship» في مؤسسات الإنتاج، و20% منه فقط يتم في مدارس فنية متخصصة. ومؤسسات الإنتاج جميعها تتولى «التلمذة»، وذلك على شكل أربعة أيام من العمل ويوم من الدراسة. وحين يوضع الفتيان منذ البداية داخل مؤسسات الإنتاج، يتعلمون دون شك على نحو واضح وفعال ما يستلزمه العمل فيها. وهكذا تصبح المؤسسة الإنتاجية مؤسسة تعليمية Lernstatt بالمعنى الكامل لهذه الكلمة.
وهذا لا يعني أن هذا النظام يهدف إلى تحويل المجتمع المدني إلى وحدة إنتاج. وكل ما هنالك أنه ينمي العلاقات المتسقة المنسجمة بين مظهري الإعداد، مبقياً على ما بينهما من فروق يراها فروقاً خصيباً مثرية. ولقد استطاع هذا النظام، كما سبق أن أشرنا، أن يتجاوز سنوات الأزمة الخمس عشرة.
ولعل أهم ما قدمته التجربة الألمانية (والتجربة اليابانية على نقائصها وغلوّها) ضرورة الدمج الكامل للمؤسسات الإنتاجية في صلب نظام التعليم والإعداد. ففي التجربتين كلتيهما تتولى المؤسسات، بشكل مباشر أو غير مباشر، جوهر الإعداد المهني. كما أنها تفسح المجال للتعليم المستمر.(6)
5- هذه الاتجاهات الأربعة الكبرى التي نجدها في البلدان المتقدمة فيما يتصل بشكل الترابط بين التعليم والإعداد من جانب، وبين العمل والإنتاج وحاجات القوى العاملة من جانب ثان، تنطبق على أنواع التعليم والإعداد جميعها، في شتى مراحلها وأنواعها، بما في ذلك التعليم العالي.
ومع ذلك يجدر أن نخصص بعض الحديث في هذا المجال للتعليم العالي بوجه خاص. وههنا أيضاً تنعكس اتجاهات النظم المختلفة التي أتينا على ذكر أهمها – على التعليم العالي أهدافاً ومحتوى وبنية. ففي الولايات المتحدة مثلاً، حيث يحتاج الاقتصاد الأميركي إلى نقلة تكنولوجية عريضة، نجد على العكس من هذا أن الطلاب يهجرون كليات العلوم والكليات التكنولوجية (منذ عام 1975 بوجه خاص). وهكذا يكوّن الطلاب إلى جانب أكثرية الطلاب في الدراسات العليا العلمية وفي الدراسات المتصلة بالعلوم التكنولوجية الجديدة (58% من حملة الدكتوراه في علوم الإنتاج، 55% في الإلكترونيات، 50% في المعلوماتية).
وبوجه عام تزايد عدد الطلاب الذي يدرسون في فروع الإدارة بمقدار 70% بينما هبط عدد الذين يملكون دراسة عملية فنية بمقدار الثلث.
وفي هذا المجال يقوم فرق ملفت للنظر بين اليابان والولايات المتحدة: فحوالي ثلثي الأميركيين العاملين في (178) مؤسسة صناعية بارزة تمت دراستها، لا يملكون أي بضاعة علمية أو تقنية، سواء عن طريق التعليم أو الإعداد أو عن طريق الممارسة والخبرة. بينما نجد العكس في اليابان، إذ يملك مثل هذه المهارة العلمية والتقنية حوالي ثلثي العاملين في مؤسسات مماثلة.
ومعنى هذا أن آليات السوق الحرة عاجزة عن أن تلبي حاجات الإعداد. فعلى الرغم من الطلب الشديد على المهن المتصلة بتقنيات الإنتاج، لم يتعدّ عدد الأميركيين الذين اختاروا دراسة هذه التقنيات عام 1985 في «مدارس الهندسة» 5% من جملة الدارسين. والطلاب المهندسون لا يتعدون 1.5% من فئة العمر المقابلة في الولايات المتحدة، بينما يبلغون 4.2% في اليابان. ومعنى هذا مرة أخرى أن اقتصاد السوق ليس بالأداة الناجعة تماماً من أجل توجيه الإعداد وإدارته.
(سادساً) نحو استراتيجية للتعليم العالي في البلاد العربية:
1- لقد جلنا هذه الجولة الطويلة بعض الشيء كي نضع بين أيدينا المواد والمعطيات العالمية التي تساعدنا على أن نرسم استراتيجية جديدة للتعليم العالي، يتوافر فيها، كما أردنا لها منذ البداية، الإدراك الواضح لطبيعة العلاقة المتجددة بين التعليم وبين الإنتاج، بأشكاله المختلفة، في عصرنا الحاضر.
وتنطلق محاولتنا هذه من نظرة أساسية قوامها أن المشكلة كلها ، مشكلة التعليم ومشكلة الإنتاج، ناجمة عن الفصل بين هذين الميدانين المتآخذين، وأن العمل المطلوب ينبغي أن يكون قوامه تحقيق ترابط عضوي بينهما. ولا يعني هذا، كما يظن غالباً وكما يريد الاقتصاديون أحياناً، أن نخضع أحدهما للآخر، بل أن ندرك ان النظام التعليمي هو في آن واحد انعكاسٌ لحاجات المجتمع وحاجات الإنتاج، وتوليدٌ مبدع جديد لها في الوقت نفسه. والتعليم الأمثل ما هو ذاك الذي يكتفي بتوفير ما تحتاج إليه سوق العمل من كفاءات واختصاصات، بل هو فوق ذلك التعليم القادر على توليد طاقات إنتاجية جديدة وإحداث تقدم علمي تكنولوجي خلاّق للمهن والأعمال. وهكذا فإن إيجاد اتصال مستمر بين نظام الإنتاج وبين نظام التعليم لا يفسد هذا الأخير، كما يظن أحياناً، ولا يجعله في خدمة الاقتصاد وحده، ولا يعدو في الواقع أن يعبّر عن حقيقة قوامها أن هذا النظام التعليمي ينبغي أن يعمل بأشكال مختلفة وصور متعددة، كلها ضروري وواجب. وأخطر ما يتعرض له النظام التربوي أن يأخذ طابعاً ثابتاً يدور حول نمط واحد من الإعداد، ناسياً ما يجري حوله من تغير جذري في عالم الإنتاج.
2- ولقد ذكرنا منذ البداية أن الاستراتيجية المرجوة للتعليم العالي (وللتعليم بوجه عام) في البلاد العربية هي تلك التي تستطيع أن تسهم أكبر إسهام ممكن في إدخال هذه البلدان عصر الثورة العلمية التكنولوجية، وانتشالها بالتالي من هوة التخلف (غير المبرر في كثير من الأحيان)، وتحقيق نهضتها الحضارية الشاملة،. ومن أجل ذلك حاولنا أولاً وقبل كل شيء أن نفهم طبيعة هذه الثورة العلمية التكنولوجية وطبيعة الإنتاج فيها وحقيقة الصلة بين التعليم والعمل.
غير أن هذا لا يعني أننا ننادي بنقل التجربة الأجنبية، أياً كان شأوها، نقلاً حرفياً. ومن المكرور أن نقول إن نظام الإنتاج ونظام التعليم والصلة بين التعليم والإنتاج أمورٌ لصيقة بالبنية الثقافية لأي مجتمع، وأن العوامل الاجتماعية والنفسية تلعب في ذلك دوراً لا يقل عن دور العوامل الاقتصادية المحضة (إن صح أن هنالك عوامل اقتصادية محضة).
وكل ما في الأمر أن هنالك حقائق جديدة في العصر، لا بد أن نأخذها بعين الاعتبار عند رسمنا لمعالم الاستراتيجية العربية الخاصة: مثل التغير الجذري في أدوات الإنتاج ودخول الميكنة وسيطرة المعلوماتية والنظم الإلكترونية، ومثل التغير الأساسي في مؤهلات العاملين في الإنتاج، ومثل تغير قطاعات النشاط الاقتصادي وتغير المهن، وسوى ذلك كثير.
وهذه التغيرات التكنولوجية وسواها، كما سبق أن ذكرنا، تصيبنا آثارها إلى حد كبير
(ولا سيما ما اتصل بالثورة المعلوماتية والإلكترونية)، بل نحن مدعوون إلى استيعابها واستنباتها والإسهام في إنتاجها. ولعل أهم ما تهدف إليه استراتيجية تطوير التعليم في البلدان العربية هو بلوغ هذا الشأو، والإسهام الحضاري الذاتي في الثورة العلمية التكنولوجية. وهذا لا يتم، كما قلنا ونقول، إلا إذا أدركنا منطقها ومحركاتها، وأدركنا بوجه خاص كيف يعمل نظام التعليم فيها على تحقيق التكامل بينه وبين إنتاج خيراتها.
3- ولم نتريث في هذه الدراسة عند بعض الجزئيات (على أهميتها) المتصلة بالتعليم العالي وتنويع اختصاصاته وتجويد كفاءته التعليمية وسوى ذلك مما تطفح به الكتب والدراسات. وإذا كان من الهام أن ننادي بتنويع الاختصاصات أو إعادة البنى الهيكلية للتعليم العالي أو أن نتحدث عن المعاهد المتوسطة ودورها، فإن ما هو أهم أن نملك المعيار الذي نقيس به كل تلك المطالب، وهو معيارٌ قوامه الجواب عن التساؤل الآتي: ما هي الأسس التي نستند إليها في كل ما نفعل من تطوير للتعليم العالي في اختصاصاته وفروعه ومناهجه وإداراته وسوى ذلك؟ وما هو معيارنا في رسم الاختصاصات أو تنويعها أو تجديدها؟ وهل التعليم وحده (والتعليم العالي بوجه خاص) هو المسؤول عن ذلك كله، وهل هو قادر على الاضطلاع بهذه المهمة؟
لقد رأينا في حديثنا عن الاتجاهات العالمية أننا لسنا أمام جواب واحد في هذا المجال، وأن الأجوبة متعددة. كما أننا قلنا ونقول إن تجربتنا المنشودة لا يمكن ان تكون على أية حال مجرد نقل لتجربة دول أخرى. ثم إن إغفال جوهر الموضوع، كما نفهمه، كثيراً ما يوقعنا في مزالق رسم خططنا التعليمية وسواها انطلاقاً من سياسة اقتصادية استهلاكية تابعة. وهذا ما يتوجب على الاستراتيجية الحقيقية في البلاد العربية أن نتجنبه يوماً بعد يوم، عن طريق رسم خطة للإنتاج الذاتي المستقل.
4- والحق، إننا إذا ألقينا نظرة سريعة على الخطط التعليمية في البلاد العربية من جانب، وعلى خطط التنمية الشاملة فيها من جانب آخر، وجدنا في معظم الأحيان انفصاماً بين هذين المجالين المتكاملين. فالخطط التعليمية في هذه البلدان في كثير من الأحيان خطط مستقلة، لا تعدو أن تكون نبوءات وإسقاطات تتصل بمقدار حاجة التعليم في السنوات المقبلة من المعلمين والأبنية والتجهيزات في ضوء التزايد المنتظر لعدد الطلاب، وهو تزايد تؤخذ فيه بعين الاعتبار العوامل السكانية الديمغرافية وحدها في معظم الأحوال.
وفي أحيان أخرى تكوّن الخطط التعليمية باباً من أبواب خطة التنمية الشاملة، ولكنها في هذه الحال أيضاً قلما تحسب نبوءاتها المتصلة بحاجات التعليم المقبلة استناداً إلى حاجات القوى العاملة وحاجات مؤسسات الإنتاج.
وليس من الجديد أن نقول إن الصلة لم تنعقد بعد، في معظم محاولات التخطيط في البلاد العربية، بين مستوى التعليم وما ينتجه من المؤهلات والشهادات والاختصاصات خلال سنوات الخطة وبين مستوى ونوع التعليم الذي يحتاج إليه سوق العمل في حاضره وآتيه. وما تزال هذه الحلقة الأساسية في التخطيط مفقودة، نعني الحلقة التي تربط بين ما يقدمه النظام التعليمي كماً ومستوى وكفاءات وبين مؤهلات العاملين في شتى مجالات التنمية، ولا سيما في المجالات الإنتاجية وعلى رأسها الإنتاج الزراعي والصناعي والتكنولوجي والإداري.
وما نجده في أحسن الأحوال هو تقديرات متصلة بما تحتاج إليه القوى العاملة من مؤهلات تعليمية في القطاع الحكومي والمؤسسات الرسمية، بينما لا نقع على مثل هذا التقدير لحاجات القوى العاملة من المؤهلات التعليمية في المؤسسات الخاصة والقطاع الخاص. ذلك أن مثل هذه التقديرات تستلزم وجود إحصاءات للقوى العاملة ذات مدخل مزدوج «كما يقال» أي أنها تبين في آن واحد الحال المهنية والحال التعليمية لجميع أفراد القوى العاملة، بحيث يستبين توزع المستوى التعليمي والمؤهل التعليمي على العاملين في كل مهنة وعلى العاملين في قطاعات النشاط الاقتصادي المختلفة. وفي بعض البلاد العربية دراسات محدودة في هذا الاتجاه، ولكنها ليست شاملة.
5- لذلك كانت المهمة الأولى للمسؤولين عن التعليم العالي وللمسؤولين عن الخطة العامة للدولة في البلاد العربية، أن يحققوا هذه اللحمة الضرورية بين حاجات التنمية وبين مخرجات التعليم العالي. وهذا القول قول مكرور دون شك. غير أن موطن الجدة فيما نطرحه هو محاولة البحث عن «كيفية» هذا الربط وعن قوام تلك اللحمة.
وبتعبير آخر، في عصر لمسنا بعض معالمه، يتّسم أول ما يتسم بالتغير السريع في سوق العمل والإنتاج، ولا سيما في وسائل الإنتاج وفي طبيعة المهن والأعمال، كيف نستطيع أن نجعل النظام التعليمي، ونظام التعليم العالي بوجه خاص، قادراً على الاستجابة السريعة لما يستلزمه هذا التغير من قوة عاملة متعلمة جديدة، تتمتع بالمؤهلات والكفاءات اللازمة لتلك الاستجابة؟

هذا من جانب ومن جانب آخر، كيف تستطيع البلدان العربية أن تجعل من التعليم العالي، ومن التعليم بوجه عام، أداة لا تستجيب فحسب لحاجات سوق العمل على نحو ما يكشف عنها التحليل، بل تخلق أعمالاً جديدة وتعمل على تطوير الإنتاج والاقتصاد بحيث تقوى البلاد العربية على دخول الثورة العلمية التكنولوجية، وتنطلق في طريق بناء حضارة عربية تضيف عطاء جديداً إلى الركب الإنساني؟
لقد حسبت البلدان العربية، وحسب غيرها من البلدان، في فترة خالية عفّى عليها الزمن أن مجرد فتح أبواب المدارس مشرعة أمام المتعلمين، أياً كان نوع التعليم ومحتواه، سوف يؤدي إلى القضاء على التخلف وإلى تطوير جذري في بنية المجتمع. ومنذ أوائل الستينات بوجه خاص طرحت تلك الفكرة الجديدة التي نقلها التربويون عن الاقتصاديين، نعني القول إن التربية في أي بلد ليست مجرد خدمة استهلاكية بل هي توظيف مثمر للأموال يؤتي أكله أضعافاً مضاعفة. وتلقف بعض القوم هذه المقولة، وحسبوا أن أي تعليم يؤدي إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إلى التنمية الشاملة. ثم ما لبث هذا الوهم حتى تلاشى، وإن تكن بقاياه ما تزال قائمة في بعض الأحوال. وأدرك المربون وسواهم ان التربية التي تؤدي فعلاً إلى التنمية هي تلك التي نضع في صلبها، في أهدافها ومناهجها وطرائقها وبنيتها واختصاصاتها و…، ما يؤدي فعلاً إلى التنمية. ومن هنا بدأت الجهود حثيثة في سبيل ربط التربية بأهداف التنمية، وشاعت هذه المقولة وذاعت، ولكنها لم تلق في الواقع سوى ترجمة عملية حائرة.
ويبقى السؤال إذن قائماً: كيف نجعل من التعليم ومن التعليم العالي بوجه خاص أداة حقيقية للتنمية؟ كيف نربط بين ما ينتج من مؤهلات واختصاصات وبين تلبية حاجات سوق العمل بل تطويرها؟ وكيف يصبح سوق العمل، بفضل الترابط الذي تم بينه وبين ما يقدمه التعليم بوجه عام والتعليم العالي بوجه خاص، منطلقاً لثورة علمية تكنولوجية، ولنهضة حضارية شاملة.
هذا هو السؤال الصعب المطروح اليوم أمام المسؤولين عن التعليم العالي وسواه وعن خطط التنمية الشاملة في بلادنا العربية. ومن أجل الإجابة عليه جلنا تلك الجولة القصيرة في رحاب تجربة الدول المتقدمة وحددنا أهم الاتجاهات والحلول في هذا السبيل.

6- وأهم ما نستخرجه من الاتجاهات العالمية على اختلافها الأمور الآتية:
6-1- ثمة حقيقة أساسية تكشف عنها تلك الاتجاهات وهي أن الترابط بين التعليم العالي وسواه وبين سوق العمل والإنتاج يزداد وثوقاً بمقدار ما تقترب مؤسسات التعليم من مؤسسات الإنتاج، وبمقدار ما تشارك هذه المؤسسات في التعليم والإعداد، بل بمقدار ما تندمج فيهما. وتصدق هذه الحقيقة على البلاد العربية، على الرغم من ضعف مؤسسات الإنتاج كماً ونوعاً، بل بسبب هذا الضعف.
6-2- ليس العامل الأهم دوماً في تطوير الإنتاج المستوى التعليمي الذي يبلغه الفرد. وكثيراً ما يصبح فرط التعليم عقبة في طريق الإنتاج، شأنه شأن التفريط في مستوى التعليم. والذي ينبغي أن يحدد مستوى التعليم المطلوب هو الحوار بين مؤسسات التعليم العالي ومؤسسات التعليم بوجه عام وبين مؤسسات العمل والجهات المسؤولة عن خطط التنمية الشاملة.
6-3- دروس التجربة الألمانية بوجه خاص دروس مفيدة للبلاد العربية. وأهم ما فيها – كما سبق أن ذكرنا – وجود مساقين متوازيين للتعليم والإعداد، متساويين في الحجم والشأن. أولهما هو مساق التعليم العام (الذي يسمى عندنا أكاديمياً أو نظرياً)، والثاني مساق التعليم المهني الذي توفره مؤسسات الإنتاج.
وقد يكون من العسير، في الرحلة الحالية التي لم يشتد فيها عود مؤسسات الإنتاج في البلاد العربية، أن تأخذ هذه البلاد بالتجربة الألمانية بحذافيرها. والأخذ بأي نظام مجلوب، كما قلنا ونقول، مركب خطر بل محاولة فاشلة. غير أن الأخذ بمساقين للتعليم والإعداد يكادان يتساويان في القيمة والحجم، أمرٌ يمكن النظر فيه بإمعان في البلاد العربية، كما يمكن السير نحوه سيراً تدريجياً. وقد يقال إن هذا هو بالذات ما نجده في البلاد العربية. غير أن ثمة فوارق أساسية في الواقع بين الحالين: فالتعليم التقني والفني والمهني في البلاد العربية ما يزال أدنى في المنزلة والشأن من التعليم العام. وارتباط هذا التعليم بمؤسسات الإنتاج ليس موفوراً، بل هو ارتباط عكسي في معظم الحالات، وبينما ينتسب إلى هذا التعليم حوالي 60% من الطلاب في ألمانيا، لا تنتسب إليه إلا قلة قليلة في البلاد العربية، وهذه القلة القلية لا يمتصها كلها سوق العمل عند تخرجها، ويبقى جزء كبير منها عاطلاً. بل إن مؤسسات العمل في البلاد العربية كثيراً ما ترفض استخدام خريجي هذا التعليم بسبب عدم امتلاكهم المؤهلات اللازمة حتى في ميادين اختصاصهم.
6-4- تُبرز الاتجاهات العالمية التي تحدثنا عنها أهمية التعليم الذاتي، وتبين أن خير ما يقدمه النظام التعليمي لطلابه الذين سيتدخلون سوق العمل، هو القدرة على التعلم الذاتي، على الاستمرار في تعليم أنفسهم، على التكيف بالتالي مع المواقف الجديدة والأعمال الجديدة التي قد يضطرون إلى ممارستها. يضاف إلى ذلك: القدرة على التعليم الذاتي، أي على تطوير الإنسان نفسه بنفسه وإغناء ثقافته وكفاءاته، تعني القدرة على الإبداع والابتكار والتجديد، وهما عصب التطور في العصر الحديث.
6-5- كذلك تبرز الاتجاهات الحديثة أهمية «التعليم المستمر»، عن طريق متابعة إعداد العاملين بعد أن يدخلوا سوق العمل، تجديداً لذلك الإعداد، أو إعادة له، أو تحقيقاً للاتساق بينه وبين ظروف العمل الجديدة التي تطرأ ووسائل الإنتاج التي تتغير. وقد عرف هذا التعليم المستمر قفزة هائلة في الولايات المتحدة، ولكن في السنوات الأخيرة. وأول برنامج كبير في هذا المجال هو ذلك الذي تم في ميدان الصناعات الإلكترونية المتطورة جداً (صناعة البراغيث الإلكترونية كما يقال) عام 1987. ولا حاجة إلى القول إن الإعداد المستمر في الولايات المتحدة تقوم به مؤسسات الإنتاج، كذلك عنيت ألمانيا بالتعليم المستمر عناية بارزة في طور مبكر. ومثل ذلك بل أكثر من ذلك بكثير فعلته اليابان وفعلته بعض الدول الأوروبية (كفرنسة) لا سيما في إطار برامج الإعداد التي تستهدف معالجة مشكلة البطالة.
6-6- تبرز الاتجاهات كذلك أمراً هاماً جديراً بأن يكون موضع تأمل وبحث في الدول العربية وهو أن ضعف الترابط بين النظام التعليمي وبين الاقتصاد ناجم عن الاقتصاد أكثر من كونه ناجماً عن النظام التعليمي. ولا يعني هذا أننا نود أن نبرئ نظام التعليم، غير أن الواقع يدلنا على أن الصلة بين الاقتصاد وبين التعليم في بلادنا العربية ما تزال إلى حد كبير صلة خطية، صلة بين علة ومعلول، بدلاً من أن تكون صلة دائرية، صلة تأثر وتأثير متبادلين. فما يزال القول الفصل للاقتصاد، وما يزال هذا الاقتصاد يظن أن في مقدوره أن يحقق تقدماً حقيقياً دون التفات جدي إلى مسألة الربط بين نموه ونمو التعليم.
ولا نود أن نفتح أبواباً مفتوحة فنقول إن التقدم الاقتصادي الحقيقي (فضلاً عن الاجتماعي وسواه) لا يتحقق إلا من خلال الشرارة التي يطلقها اللقاء الفعلي بين تنمية الاقتصاد وبين تنمية التعليم وما يلحق به من إعداد للقوى البشرية. وكثيراً ما بين مخططو الاقتصاد وسواهم أن هذا اللقاء قائم. بينما تبين الدراسات الجادة أن اللقاء الحي الخصيب بين الجانبين ما يزال ضالة البلدان العربية وسواها من البلدان النامية، بل ما يزال ضالة البلدان المتقدمة ولكن بقدر أقل – وندرك ذلك بشكل ملموس إذا نحن عدنا إلى ما ذكرناه من ضرورة الاندماج بين مؤسسات الإنتاج ومؤسسات التعليم بحيث تكون خطة التعليم والإعداد (أي خطة تنمية القوى العاملة) حصاد التلاقح بينهما. ومثل هذا الاندماج لا يتوافر حتى اليوم في خطط التنمية في معظم البلدان العربية، لأسباب عديدة منها ضعف مؤسسات الإنتاج نفسها في غالب الأمر. ومن هنا كان الاندماج المرجو بين الجانبين (مؤسسات الإنتاج ومؤسسات التعليم) عاملاً من عوامل تطوير المؤسسات نفسها وتجديد إنتاجها. وهكذا يستمر الأخذ والعطاء بين هذين الجانبين بحيث نغدو أمام تغذية مستمرة يقدمها كل منهما للآخر، وبحيث تؤدي التغذية والتغذية الراجعة إلى تطوير كليهما.
7- هذا ونعود مرة أخرى فنستدرك دفعاً لأي لبس فنقول: إن هذا التأكيد الذي نطرحه بأشكال مختلفة على ضرورة الربط بين التعليم والإعداد وبين العمل والإنتاج وحاجات القوى العاملة، لا يعني أننا نرى أن هدف نظام التعليم العالي ونظام التعليم العام هو هدف إنتاجي محض أو هدف اقتصادي. فالإنتاج الذي نتحدث عنه يشمل سائر ميادين التنمية. والقوى العاملة التي نود الاستجابة لحاجاتها هي القوى العاملة في شتى مجالات التنمية الشاملة من اقتصادية واجتماعية وثقافية وسوى ذلك. ونحن في عصر تكاد تزول فيه الفوارق بين جوانب التنمية. وتزول أيضاً بين أنواع التعليم، ولا سيما بين الدراسات العلمية التطبيقية والدراسات الإنسانية. والمناهج المتعددة الاختصاصات أخذت تزداد شيوعاً في التعليم العالي في البلدان المتقدمة، استجابة للتغيرات التي حدثت وتحدث في بنية حاجات القوى العاملة وفي المؤهلات اللازمة للمهن والأعمال. بل نحن ممن يؤمن إيماناً عميقاً بأن الثقافة بالمعنى الواسع للكلمة، نعني ثقافة أي شعب وأنماط السلوك المعنوي والمادي السائدة لديه، ذات دور كبير في تيسير التنمية أو إعاقتها. ولا بد بالتالي، في عمليات التنمية، من معالجة عميقة لمقوماتها الثقافية والاجتماعية والنفسية.(6)
وقد نقول مكروراً إن أكدنا على أهمية العناية بمقومات الثقافة الأصيلة الحديثة التي ينبغي أن يبثها التعليم العالي وسواه في المجتمع، وغلى الدور الذي ينبغي أن يقوم به هذا التعليم في نقل وتعميق الأهداف والغايات القومية والإنسانية الكبرى، انطلاقاً من الفلسفة الاجتماعية والفلسفة التربوية التي سيرسمها كل بلد من أجل تكوين القيم الفردية والاجتماعية التي لا يكون بناء علمي تكنولوجي ولا تكون حضارة بدونها.
(سابعاً) مقترحات:
من السهل بعد هذه الجولة، وبعد أن أمسكنا، فيما نأمل، بأهم خيوط المسألة انطلاقاً من التجربة العالمية واهتداء بالواقع العربي، أن نقدم بعض المقترحات العملية التي نستخرجها من بحثنا:
1- أول ما يتوجب من أجل وضع استراتيجية للتعليم العالي في البلاد العربية أن يقوم حوار داخل كل بلد عربي وفي إطار البلدان العربية مجتمعة، بين المسؤولية عن السياسة الاقتصادية وخطط التنمية من جانب وبين المسؤولين عن التعليم العالي وعن التعليم بوجه عام من جانب آخر، تشارك فيه مراكز البحث العلمي ومؤسسات الإنتاج. وهدف هذا الحوار الوصول إلى تحديد الصيغة التي يمكن عن طريقها ربط التعليم بحاجات العمل والإنتاج وحاجات سوق العمل في العقود القادمة ربطاً فعلياً، يصبح فيه كل منهما عوناً للآخر في مهمته، ويغدو فيه نظام التعليم العالي بوجه خاص نظاماً قادراً على خلق أعمال جديدة وتقنيات جديدة، وعلى الاستجابة السريعة بالتالي لحاجات الثورة العلمية التكنولوجية.
ويستلزم وضع مثل هذه الصيغة أموراً كالآتية:
1-1- وضع إحصاءات ذات مدخل مزدوج «كما سبق أن ذكرنا، تبيّن في آن واحد الحال التعليمية والحال المهنية لكل فرد من أفراد القوى العاملة في القطاع العام والخاص (والمشترك إن وجد)».

1-2- وضع خطة بعيدة المدى تتصل بحاجات المؤسسات الرسمية وغير الرسمية من القوى العاملة وبمستلزماتها من التعليم والتدريب. انطلاقاً من النمو الاقتصادي على نحو ما تسعى إليه خطط التنمية.
1-3- مشاركة مؤسسات الإنتاج المختلفة، الحكومية وغير الحكومية، مشاركة فعالة في الدراسات المتصلة بحاجات القوى العاملة من المؤهلات التعليمية، ومشاركتها في وضع الخطط الاقتصادية وخطط التنمية الشاملة.
1-4- عقد حوار من أجل وضع استراتيجية للتعليم العالي فيما يتصل بإعداد القوى العاملة والربط بين التعليم والإنتاج، انطلاقاً من البيانات التي تقدمها البنود السابقة، هدفه تحديد دور التعليم العالي في الاستجابة للحاجات المحددة التي كشفت عنها الخطة البعيدة المدى المتصلة بحاجات القوى العاملة ومستلزماتها من التعليم والتدريب. ومن أهم أهداف هذا الحوار أن يضطلع التعليم العالي بدوره،
لا في الاستجابة لحاجات العمالة كما ترسمها الخطة الاقتصادية فحسب، بل في تعديل تلك الحاجات وتطويرها بما يتفق مع مستلزمات العصر ومع ما يستطيع أن يقدمه التعليم العالي لسوق العمل من أعمال ومهن جديدة. ذلك أن دور التعليم العالي، كما ذكرنا منذ البداية، في عملية الإنتاج في ازدياد وتطور مستمر في مجتمعنا الحديث بعد أن أصبح «العمل الفكري»، أهم مقومات الإنتاج في الثورة العلمية التكنولوجية بدلاً من رأس المال في الثورة الصناعية التقليدية.
2- وفي إطار هذا الحوار يحتل الحوار مع مؤسسات العمل كما ذكرنا مكانة خاصة. ومن أهدافه، بالإضافة إلى ربط التعليم بالإنتاج، وضع خطة مشتركة تؤدي إلى تنمية متكاملة ومتزايدة لمؤسسات العمل وللتعليم معاً من خلال الاندماج التدريجي بينهما.
3- توجيه عناية خاصة، في التعليم العالي، إلى الجوانب الآتية:
3-1- القدرة على التعلم الذاتي.
3-2- المناهج المتعددة الأغراض.
3-3- المرونة في الانتقال من مجال إلى آخر، ولا سيما من الجامعات إلى المعاهد الفنية المتخصصة، ومن بعض الاختصاصات إلى اختصاصات أخرى. ومنح المعاهد التقنية المتخصصة الشأو الذي للجامعات، وإلغاء كل ما من شأنه أن يولّد «تعليماً أعلى» و«تعليماً أدنى».
3-4- تحديد نسب المقبولين في التعليم الثانوي العام ثم في فروع التعليم الجامعي والعالي استناداً إلى معايير تكشف عن القابليات والكفاءات الفعلية، بدلاً من مجرد الاكتفاء بالعلامات.
3-5- تشجيع العمل المنتج وتقوية الصلة بين مؤسسات التعليم العالي ومؤسسات الإنتاج، ريثما يتم تبني نظام تكاملي أوفى.
3-6- التعليم المستمر بأشكاله المختلفة، بما في ذلك قبول طلاب «غير مألوفين» في التعليم العالي، كالكبار والعاملين في المؤسسات والراغبين في تجديد إعدادهم، وسواهم. ويشمل ذلك أيضاً تشجيع «التعليم المتناوب».
3-7- تقديم أنواع من التدريب المتخصص، يختلف في مدته وفي محتواه باختلاف المتدربين، يمتد أياماً أو أشهراً أو سنوات تبعاً لكل حال.
وليس هدفنا هنا طبعاً الحديث عن كل ما يتوجب على التعليم العالي القيام به في البلاد العربية. فلقد استبعدنا هذا المنهج منذ البداية، والمكتبة العربية عامرة بالكتب والدراسات في هذا الشأن. وقد كان همنا دوماً عبر هذا البحث أن نعنى بجوهر مشكلات التعليم العالي في البلاد العربية. وقوام هذا الجوهر البحث عن الحلول التي تقرّبنا من ربط التعليم العالي بالعمل والإنتاج قولاً وفعلاً. وبيت القصيد في هذه الحلول كما قلنا ونقول هو الوصول إلى الالتحام المتزايد بين التعليم العالي وسوق العمل، بين التعليم العالي والاقتصاد، بين التعليم العالي والتنمية الحضارية الشاملة. لقد كان همنا الأول والأخير في هذا البحث، أن ندفع إلى طرح الحوار الجاد بين مؤسسات ثلاث: مؤسسة التعليم ومؤسسة الاقتصاد ومؤسسات الإنتاج. فلقد آن الأوان لعقد هذا الحوار على أعلى المستويات، سواء على النطاق القطري أو على النطاق العربي الشامل. وكل استراتيجية للتعليم العالي توضع دون استكمال هذا الحوار استراتيجية تهرب من المشكلة الحقيقية، ومن خلال هذا الحوار يصبح لاستراتيجية التعليم العالي (وسواه) معناها ومدلولها العملي الملموس، وقدرتها على مواجهة المشكلات الأساسية في التنمية الشاملة والبناء الحضاري.

4- وغني عن القول إن انطلاق شرارة التنمية في البلاد العربية واللحاق بالثورة العلمية التكنولوجية، وبناء الحضارة الغنية، أمورٌ لا تجدي فيها جهود البلدان العربية فرادى،
ولا بد من العمل العربي المشترك في هذا المجال (وسواه). وبدهي أن العمل العربي المشترك في هذا الميدان من شأنه أن يزيد في طاقات كل البلدان العربية المساهمة فيه، وأن يخرجها جميعها من مآزق تنموية وحضارية كثيرة لا ينجو منها أي بلد عربي، وإن اختلفت في طبيعتها ونوعها من مصر إلى مصر.
على أن رأس ما يمكن أن تفيده البلاد العربية من خلال العمل المشترك في هذا المجال معالجة مشكلات البطالة الزاحفة قدماً في البلاد العربية. والبطالة، فضلاً عن معانيها الاقتصادية والإنسانية، أخطر داء يمكن أن يهدد استقرار المجتمعات وأمنها.
وفوق هذا وذاك، لقد طال الحديث عن الحضارة العربية المنشودة. ولا حاجة إلى القول إن بناء هذه الحضارة يفترض توافر شرطين متلاحمين متلازمين: أولهما العمل العلمي الواعي من أحل اللحاق بالثورة العلمية التكنولوجية، وثانيهما تنمية الثقافة القومية الذاتية. ولعلنا في بحثنا الموجز وضعنا بعض المعالم الهادية المتصلة بالشرط الأول (دون أن نغفل أهمية الشرط الثاني)، ونعني الطريق الذي يتوجب سلوكه في مجال التعليم العالي والتعليم بوجه عام وفي مجال العمل والإنتاج والاقتصاد من أجل تفجير الطاقات الخلاقة القادرة على الاضطلاع بمهمة السير التدريجي والسريع نحو صروح الحضارة العلمية التكنولوجية.
ومن نقل القول أن نؤكد، فيما يتصل بالشرط الثاني، أن التطور العلمي التكنولوجي والبناء الحضاري في البلاد العربية ينبغي أن يسيرا جنباً إلى جنب مع البناء الثقافي الذي يهدف إلى تكوين الفرد والمجتمع تكويناً ينطلق من الغايات الكبرى للفلسفة الاجتماعية والتربوية(7)، فالبناء العلمي التكنولوجي والحضاري لا يتم دون تعبئة الأفراد والمجتمع في سبيل أهداف وقيم قومية وإنسانية كبرى. والتقدم العلمي التكنولوجي يظل بلا نسغ
ولا حياة ويفقد الشحنة الانفعالية المحركة، إذا لم يتم في إطار إيمان المجتمع والأفراد بأهداف كبرى يدأبون من أجلها. وتكوين الأفراد على غرار تلك الأهداف والقيم القومية والإنسانية الكبرى مهمة من مهمات التعليم العالي (والتعليم بوجه عام) لا تعدلها مهمة أخرى.
ومن شرارة اللقاء بين الشرطين: نعني العمل على بناء المجتمع العلمي التكنولوجي الحديث، من جانب، والإيمان بقيم قومية إنسانية عميقة الأصول بعيدة الآفاق، من جانب آخر، تمّت معظم الثورات الحضارية الحديثة، ونمت «المعجزة اليابانية» بشكل خاص. ومن التحامهما اليوم يرجى أن نولد الحضارة العربية المأمولة وسط نظام عالمي يتوجب فيه على الشعوب الحية أن تحقق بنفسها وبما تصنع يداها شروط أمنها وسلامتها في شتى الميادين، وعلى رأسها ميادين الإنتاج بأوسع معانيه.

باريس في 30/9/1991
د. عبد الله عبد الدائم