رسالة باريس

الثقافة العالمية – العدد /53/ – يوليو 1990
رسالـة باريس
/1/
عند تباشير الربيع تطغى الأحداث الفنية وتكاد تطمس سواها. المسارح عامرة بالنتاج الجديد، ومعارض الرسم والفنون التشكيلية المختلفة تتزاحم، وقاعات الأوبرا وسواها ترجع أصداء كل مبدع ومبتكر. بل إن معارض الكتب نفسها تزدهر، وزيارات الأوبرا الأثرية ينتظم عقدها.
من هنا لم يكن بدعاً أن نتريث في رسالتنا هذه عند أهم الأحداث الفنية، غير منفلين دون شك ما تقذف به المطابع من نتاج فكري وأدبي لا يجف سيله.
(أولاً) أحداث كبرى:
(1) «الطرواديون» في أوبرا «الباستيل»:
يشغل الناس ويملأ الدنيا خلال شهر آذار/مارس الماضي. الحديث عن أكبر بواكير نشاطات الأوبرا الجديدة «أوبرا الباستيل» نعني تقديم أوبرا الموسيقار الكبير «بيرليوز Berlioz» «الطرواديون».
وقد سبق لنا أن تحدثنا في أكثر من رسالة عن ولادة هذا الصرح الشعبي الكبير، أوبرا «الباستيل» التي قامت في الساحة التي تضم سجن الباستيل الشهير. كما تحدثنا عن بنائها الفريد وأشهر قاعاتها.
وقد افتتحت هذه الأوبرا نشاطاتها هذا العام في السابع عشر من آذار / مارس 1990 وقدمت قطعة الأوبرا الشهيرة التي ألف موسيقاها الموسيقار الفرنسي العالمي «هكتور بيرليوز» مغني أوبرا «الطرواديين». وهذه القطعة الموسيقية الرائعة لم تقدمها الأوبرا قط منذ عام 1969.
وأوبرا الطرواديين، هذه الثلاثية التي رفضتها أوبرا باريس زهاء قرن ونصف، قدمتها أوبرا الباستيل ثلاث مرات في نصها الكامل (مدة ست ساعات ونصف، منها فاصل استراحة قدره ساعة ونصف). وقدمتها أربع مرات على شكل حلقتين منفصلتين تضمان: اجتياح طروادة، والطرواديين في قرطاجة. ومعنى هذا (مادامت القاعة الكبرى لأوبرا الباستيل تتسع لـ 2716 مكاناً) أن نيفاً و(32) ألف مشاهد استمتعوا برؤية أول أوبرا أنتجها صرح الباستيل الجديد. وبهذا يتحقق الهدف الأساسي من تشييد هذا الصرح الشعبي وهو أن يكون مفتوحاً لأكبر عدد ممكن من المشاهدين (بخلاف الأوبرا القديمة – في ساحة الأوبرا – التي لم تكن تتسع إلا للعدد القليل ولم يكن يشهدها إلا الصفوة).

وقد قاد الأوركسترا في هذه القطعة الرائعة الموسيقار (ميونغ – هوم شون Myung – Yhum Chung) وهو شاب في السابعة والثلاثين من عمره.
ومن أشهر مغنيات الأوبرا التي أسهمت في هذا العمل الجبار: المغنية: «شيرلي فيريت Shirley Verrette» وقد كان دورها بارزاً في الحلقة التي تم فيها عرض قطعة «الطرواديين في قرطاجة».
ومن المغنين البارزين في هذه الملحمة الموسيقية «غريغوري رينارت Gregory Reimhart» وقد كان دوره أساسياً في الحلقة الخاصة باحتلال طروادة.

وهكذا حمل تقديم هذه الأوبرا النادرة معنيين أساسيين: أولهما إعادة الاعتبار للموسيقار الفرنسي العالمي «بيرليوز»، بعد عقود طويلة من الإهمال. وثانيهما تجسيد الهدف الأساسي الذي كان وراء إشارة «أوبرا الباستيل»، نعني، كما قلنا ونقول، أن تكون أوبرا شعبية، تمنح الشعب حق تذوق هذا الفن الرفيع، فن الأوبرا الذي يتوق إليه ويحبّه ويكوّن جزءاً من ثقافته.

القاعة الكبرى في أوبرا الباستيل وقد غصت بالمشاهدين
2- معرض السجاد في معهد العالم العربي:
بين الأسبوع الأول من آذار/مارس الماضي والخامس والعشرين منه أقام معهد العالم العربي في مقره معرضاً هاماً جعل عنوانه: «السجاد، هدية الشرق إلى الغرب».

سجادة صلاة أناضولية ترجع إلى نهاية القرن الخامس عشر
ويضم المعرض ثمانياً وخمسين سجادة تعود إلى الفترة الواقعة بين القرن الخامس عشر والثامن عشر الميلادي، صنعت في بلدان الشرق الممتدة بين الصين وتركيا. ومصدر هذه القطع الثمينة النادرة خزائن خمس متاحف فرنسية، و«دار الأثاث الوطنية» ومجموعتان خاصيتان لهما قيمة عالمية كبيرة، أولاهما مجموعة السويسري «فير Vier»، والثانية مجموعة رجل كويتي شهير، على أن الفضل الأول في ذلك يرجع إلى رحّالة القرن الخامس عشر الذين قصدوا اسطنبول وأعجبوا بتلك السجادات الشرقية وعادوا بها معهم.
والكاتالوج الذي أعده القيمون على هذا المعرض يضمّ من روائع السجاد ما عزّ وراق. من القطع الجميلة فيه وفي المعرض أربع سجادات ترجع إلى العصر المملوكي في مصر (نهاية القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر). ونجد فيها رسوماً تترجح بين الدائرة والمربع. كما نجد فيها شموساً حمراء رائعة نقشت على قاع من العشب الأخضر الطري.
ومن القطع الجميلة كذلك تلك التي تضم «سجادات الصلاة». ومن أروعها سجادة أناضولية تعود إلى نهاية القرن الخامس عشر (123 سم × 163 سم)، ومصدرها منطقة «أوشاك» في الأناضول، تلك المنطقة التي عرفت من قطع السجاد أجملها.
وهذه السجادة واحدة من خمس لم يتم التعرف عليها إلا عام 1976. وأروع ما في المعرض تلك السجادة التي بهرت أعين الزائرين، على الأقل بسعتها وحجمها (9.25 مم × 3.80 م)، وهي سجادة عجمية فارسية تعود إلى القرن الثامن عشر. وهي تمثل بستاناً رائعاً، لعله «الفردوس».. فردوس من صوف عامر بالأشجار والورود والطيور، تحيط به أنهار تسبح فيها الأسماك ويرتطم رقيق الموج.

سجادة قروية عثمانية من القرن الثامن عشر (21 سم × 179 سم)
وبين أنواع سجاد البلاط أو صالونات الأثرياء، تلفت نظرنا السجادات المغولية، الحريرية الملمس والخيوط. وذات الصوف الكشميري المنمق.
3- ذكرى مرور مائة سنة على وفاة الرسام الفريد «فان غوغ»:
لمناسبة مرور مائة عام على وفاة الرسام الهولندي «فان غوغ Vincent Van Gogh» (1853 – 1890)، أقيم في هولندا معرضان، أحدهما في «أمستردام» والثاني في «أوترلو» بدءاً من 30 آذار / مارس الماضي. وقد شاركت الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة في فرنسا في الاحتفال بهذه الذكرى، كما اهتبلت صالات العرض والبيع هذه الفرصة، لتزيد من بيع لوحاته وأثمانها التي تفوق دوماً أثمان سواها. وجدير بالذكر أن هذا الفنان الذي تباع لوحاته اليوم بملايين الدولارات، قد شكا خلال حياته من كسادها وقال فيما قال: «ليست لي حيلة إن كانت لوحاتي لا تباع. ولكن لابد أن يأتي يوم يدرك الناس فيه أنها أثمن من لون الحياة». وقد جاء ذلك اليوم: ففي 30 آذار / مارس 1987 بيعت لوحة «دوّار الشمس». كما نعلم، باثنين وعشرين مليون ونصف مليون ليرة إسترلينية. ومثل هذا يقال عن لوحاته العديدة، ومن بينها: «صورة الدكتور غاشية Gachet» التي قدر ثمنها عام 1984 بأربعين أو خمسين مليون دولار (ويملكها رجل المصارف الأمريكي «كرامارسكي»). وقد كان «غاشيه» طبيبه الخاص، وقد زاره في اليوم السابق لوفاته (في 28 تموز / يوليو 1890).

نساء في منطقة الآرل Arles (خريف 1888)
ومثل هذا يقال عن لوحته «جسر ترانكوتاي Trinquetaille» التي بلغ ثمنها (12.6) مليون جنيه إسترليني.

سفن صيد في البحر (حزيران/يونيو 1888)
ويتحدث المتحدثون، وسط هذه الذكرى، عن حياة «فان غوغ»، وبوجه خاص عما ينسب إليه من جنون أصابه في آخر حياته. وفي هذا يبين الباحثون الثقات أن الاحتفالات العديدة التي أقيمت في الماضي لتخليد ذكرى الرسام، بدءاً من آذار / مارس 1891 وحتى عام 1920، لم ترد فيها أي إشارة إلى إصابته بالجنون. ولم تولد أسطورة «فان غوغ» المجنون إلا حوالي 1920 في ألمانيا.
وأول تاريخ لحياته ظهر عام 1910 في ميونيخ بقلم الناقد «ماير غريفي Mair Graefe» وقد أعاد النظر في هذا التاريخ وأضاف إليه معطيات جديدة ونشره في مجلدين عام 1921. ومنذ عام 1922 نشر الفيلسوف الألماني «كارل ياسبرز Karl Jaspers» في مدينة برلين دراسة في العلاج النفساني المقارن يضع فيها على قدم المساواة «فان غوغ» و«ستريندبرغ Struidberg». ثم نشرت مجلة «التقدم الطبي» عام 1926 مقالين بقلم «دواتو U.Doiteau» عنوانهما، دون مواربة «جنون فان غوغ». وبعد ذلك تسابق أطباء الأمراض العصبية والمحللون النفسيون من مختلف المذاهب والشيع لإثبات هذه الفكرة التي راقت لهم. وظهرت في عام 1927 في جنيف أطروحة دكتوراه في الطب وأخرى في ستراسبورغ عام 1936، تذهبان المذهب نفسه. وقد استهوى الأمر جماعة «السوربالبين» وقدم «باتاي Baataille» عام 1930 إلى مجلة «الوثائق» دراسة حول «التمثيل القرباني وأذن فان غوغ المقطوعة». وتكاثر من طاب لهم النسج على هذا المنوال، حتى أن «ريوالد Hohn Rowald» يضع قائمة تضم سبعين من الأعمال التي تنتمي إلى الطب أو التحليل النفسي التي ظهرت بين عام 1922 و1933، والتي تطرقت لموضوع جنون «فان غوغ». وهكذا كان هذا الرسام الشهير يغدو بطلاً، بطلاً يثير الفضيحة، ويتهمه من يتهم وينافح عنه من ينافح.
وقد جذبت شخصية «فان غوغ» الطريفة والغريبة مخرجي السينما. ففي عام 1956 أخرج «مينيلي Minelli» فيلماً سينمائياً عنه تقمص فيه «فان غوغ» ملامح الممثل «كيرك دوغلاس Kirk Douglas».
ويعد المخرج «موريس بيالا Mourice Pialat» فيلماً عنه، يلبس فيه وجهه لبوس الممثل «جاك دوترون Gacques Dutronc» وفيه يلعب الممثل دور رجل لا يعرف أنه «فان غوغ».

كيرك دوغلاس في فيلم (حياة فان غوغ الولهانة) (1956)
4 – صالون الكتاب:
بعد أن نُفي صالون الكتاب عامين تقريباً إلى مدينة المعارض في «باب فرساي
Porte de Versailles»، عاود أدراجه إلى موطنه الأصلي، نعني القصر الكبير، حيث أقيم بين الرابع والعشرين والثامن والعشرين من آذار/مارس الماضي.
ونظراً لضيق المكان اقتصر المعرض على الكتب الفرنسية، لا سيما بعد تجربة العام الماضي، تجربة اشتراك ألمانيا بالمعرض وضيق قاعاته عن استيعابه. على أن المعرض على الرغم من طابعه الفرنسي الضيق وعلى الرغم من تقوقعه على النتاج الفرنسي، لم يكن مغلقاً تماماً على العالم. فبالإضافة إلى حضور مائة وثلاثة وتسعين ناشراً من البلدان التي تسود فيها اللغة الفرنسية (كيبك، بلجيكا، سويسرا، المغرب، الجزائر)، تمت فيه مجموعة من التظاهرات التي نظمتها وزارة الثقافة بالاشتراك مع نقابة الناشرين، محورها كتّاب وناشروا بلدان أوروبا الوسطى والشرقية.
وقد ظهرت دراسات وأبحاث كثيرة عن الكتاب وانتشاره، وعن الصراع بين دور النشر وبين الممولين من أصحاب المصارف، وعن أنواع الكتب السائدة، وعما نشر من أمهات الكتب خلال عقد الثمانينات. ومن تلك الدراسات بعض الإحصاءات التي تبين أن الباريسيين هم أكثر الفرنسيين استهلاكاً للكتاب.
والصورة البيانية التالية تبين حصص كل من المؤلف (10 فرنكات) والناشر (15 فرنكاً) والباث (8 فرنكات) والموزع (14 فرنكاً) وصاحب المكتبة (33 فرنكاً) (من أصل كتاب ثمنه مائة فرنك).
ويسير جنباً إلى جنب مع هذا المعرض ويمتد بعده (حتى الثالث عشر من أيار/مايو) الماضي، معرض فريد قامت به، «المكتبة الوطنية» بباريس، ضمّ أربعمائة كتاب هي التي صنعت فرنسا في نظر أصحاب المعرض. ويدل على ذلك عنوان المعرض «عشرة قرون من النور بفضل الكتاب». والكتب الأربعمائة تضم أمهات الكتب التي صنعت الحضارة الفرنسية، بدءاً من «قسم ستراسبورغ»، وهو أول نص مكتوب باللغة التي سوف تغدو اللغة الفرنسية، حتى «طريق الفلاندر La Route de Flandres» وهو رواية من تأليف الكاتب الشهير «كلود سيمون Claude Simon» آخر فرنسي حصل على جائزة نوبل في الآداب.

(ثانياً) أحداث فنية متفرقة:
1- تمثيل مسرحية «موليير»: «المريض الواهم»:
بدءاً من السادس عشر من آذار / مارس الماضي (وحتى السابع من نيسان / أبريل) عرضت على مسرح «الشاتليه» بباريس مسرحية الكتاب الهزلي الشهير «موليير Moliere»: «المريض الواهم» وبعد جهد دائب. نجح مخرج المسرحية وقائد الأوركسترا وصانع الثياب ومدرب الرقص في تقديم، «مريض واهم» يحسب المرء أنه بعث حياً من القرن السابع عشر، وكأنه «المريض» كما كان يمكن أن يشاهده على المسرح لويس الرابع عشر عام 1673.
ولم يغلُ النقاد حين وصفوا هذا العمل بأنه بحث أثري ولّد عملاً أثرياً.
وقد أخرج المسرحية المخرج «جان ماري فيلجييه Villegier» ووضع موسيقاها «مارك أنطون شاربانتييه Charpentier». وقد أعاد هذا الأخير صياغة المسرحية كلها.

2- المهرجان العالمي للرقص والموسيقى في «مونيلييه»:
منذ حوالي خمسة عشر عاماً كانت «مونيلييه» مدينة حزينة صامتة. أما اليوم، بعد أن غمرتها المهرجانات وتوافد إليها الموسيقيون وأرباب الرقص الإيقاعي وسواهم، فقد غدت مقراً رائعاً للمتعة. لا سيما بعد أن أصبح مسرحها الغنائي الكبير واحداً من أكثر المسارح حيوية في فرنسا، تضاف إليه مراكز فنية أخرى فذة: مركز قومي للرقص الإيقاعي يطوف العالم كله – مركز مسرحي قومي يلقى نجاحاً كبيراً في باريس ويمتد نشاطه خارج الحدود – أوركسترا ستفونية تعد من أفضل الفرق في المناطق – متحف جميل أعيد تجديده حديثاً – مهرجانان ذوا شهرة عالمية – تظاهرات سينمائية هامة. وعما قريب دار ثانية للأوبرا باسم، «قاعة بيرليوز» أقيمت في قلب قصر المؤتمرات الجديد، وهي دار سوف تكون صنواً لأوبرا الباستيل، يمثلان معاً أحدث قاعات الأوبرا في فرنسا.
وتتوافد على المدينة منذ عشر سنوات وفود من مختلف أنحاء العالم، وفرق من أشهر فرق الأوبرا في أمريكا وفرانكفورت والبرازيل والهند وأوستراليا وسواها كثير.

ساحة (سان جاك) في أثناء المهرجان العالمي للرقص والموسيقى

3- رسام روماني طريف في مركز «بوبور» (بومبيدو):
الرسام الروماني الأصل، «دانييل سبوري Spoerri» يعرض في مركز «بومبيدو» منذ شهر آذار / مارس الماضي، لوحات – أفخاخاً، كما يسميها، قوامها أدوات وأشياء غريبة أو صور مقلوبة:
فبعد أن يسود الصمت، وينصرف المدعوون إلى مائدة طعام، مخلفين وراءهم غطاء قذراً وصحوناً مبعثرة ملوثة بالحساء، أو مزقاً من الخبز، أو ملاعق لم تلعق جيداً، أو أعقاب سجاير مطحونة، بعد ذلك كله يأتي رسامنا «دانييل سبوري» ومعه إناء من الصمغ فيضع على المنضدة ما كان مبعثراً ويثبته نهائياً فوقها، ويعلق ذلك كله على الجدار معلناً أنه لوحة، أو «لوحة مفخخة».
وكلنا يعلم أن اللصق بالصمغ ابتكره «بيكاسو» و«براك Braque»، كما استخدمه السورياليون على نطاق واسع واستخرجوا بوساطته مركّبات نابية. ولقد اختار الرسام «شويتررز Schwitters» البقايا والنفايات والأشياء المهجورة، ولكنه نظمها تنظيماً جمالياً، أما «سبوري» فلم يكن قصده هذا. إنه يحترم الصدفة وترك الأشياء في مواضعها، ولا يريد أن يغير من نظامها وأن يتدخل في شؤونها. بل هو لا يتدخل إلا ليحول دون فناء هذه الأشياء. وهكذا أصبحت اللوحة عنده «مكاناً للتحقيق».
فالفنان لا يكتفي بأن يرى، بل يلعب دور الشرطي فيكشف بدقة عن كل دليل. إنه يحقق ليكشف عن جريمة ولكن أي جريمة؟ إنها جريمة الحياة التي تغيب وتمحى، جريمة الدقائق التي تنطفئ سراعاً.
ولد الفنان في رومانيا عام 1930. ثم انتقل إلى سويسرا، وأقام منذ عام 1959 في باريس. وهو أحد مؤسسي مذهب «الواقعية الجديدة»، ذلك التيار الذي يقوده «بيير ريستاني Restany». وبالإضافة إلى بقايا الموائد، يجمع «سبوري» ريش الرسامين. والمناضد التي يعملون عليها، والأشياء التي توجد في غرفته، والأشياء التي يختارها من «سوق البراغيث Marcheause Puces» أو من المطاعم. ومن هذا كله يصنع لوحاته الواقعية.
4 – فيلم سينمائي عن «منابع النيل»:
الحادي عشر من نيسان / أبريل يُعرض على شاشات السينما في باريس فيلم عنوانه «نحو منابع النيل» أخرجه «بوب رافلسن Bob Rafelson».
ويستند الفيلم إلى تلك الملحمة المذهلة التي كتبها عام 1956 جغرافيان بريطانيان رحلا لاكتشاف منابع النيل، أحدهما هو القائد المدهش «بيرتون – Burton»، ذلك الإيرلندي الذي يذكرنا بالرحالة «ماركو بولو» والذي عاش في أيام الملكلة «فكتوريا». وقد كان مستشرقاً ودارساً للشعوب ومهتماً بالسيمياء وعالم طبيعة، كما كان يتكلم عدداً مخيفاً من اللغات
(29 لغة). وهو فوق هذا وذاك معني بالدراسات الجنسية، ومترجم لكتاب «ألف ليلة وليلة»، وزائر متخفٍّ لمكة المكرمة.. هذا الإنسان العجيب الذي يبدو «لورنس T.E.Laurence» أمامه متواضعاً جداً ومحافظاً، رحل في يوم من أيام عام 1856 من أجل اكتشاف منابع النيل، يرافقه ملازم باهت يمثل كرم جلالة الملكة، هو «جون هايننغ سبيك – John Hanning Speke». وقد كان المكتشفون العديدون الذي حاولوا الوصول إلى منابع النيل يدركون صعوبة مهمتهم، بل يتأسون بقول أحدهم: «يبحث القوم عن منابع النيل، ولكنهم لن يجدوها أبداً. وأنا أعتقد، كما يعتقد العرب، أنه ينزل مباشرة من الجنة».
ولكن «بيرتون» ومساعده «سبيك» مضيا في مهمتهما غير وجلين، وبلغا زنجبار وكينيا وجبال «كليمانجارو». وقد ظنا أن الماء لابد أن يجري من هذه المرتفعات الأسطورية متجهاً شطر مستودع مكون من عدة بحيرات يشق من خلالها النيل الأبيض طريقه، مجتازاً بحر الغزال، ماضياً نحو البحر الأبيض المتوسط بعد ستة آلاف كيلومتر شمالاً.

القائد (بيرتون)، تمثيل (باتريك بيرجن Bergin) في فيلم نحو منابع النيل
وقد سار المكتشفان شهوراً عشرين عبر القبائل والشلالات، وسط النخّاسين والحيوانات المفترسة، في قلب الغابات والصحاري، قاصدين «جبال القمر» تلك وما يفترض حولها من بحيرات، يقطعان معاً «تانغانيقا»، بينما يصل أحدهما (وهو «سبيك») وحده حتى بحيرة «نيانزا» التي يطلق عليها اسم بحيرة «فيكتوريا»، ظاناً أنه بلغ منبع النهر بالرغم من إنكار «بيرتون» ذلك.
وقد تطلب الأمر نصف قرن من الزمان، قبل أن يكتشف الباحث الألماني «فالديكر Waldeeker» عام 1937 منابع النيل الحقيقية، يوم وضع لوحة من البرونز حفرت عليها كلمتان (Caput Nili) (أي رأس النيل) على تلة صخرية في «بوروندي» بين بحيرتي «تانغانيقا» و«فيكتوريا»، تتفجر منها ساقية، وعلى مسافة مائة كيلومتر شرقاً، تصب ساقية الماء هذه في بحيرة «فيكتوريا» وتجتازها وتغدو بعدها نهر النيل (أو بحر النيل كما سار على ألسن عامة الناس).
أما فيلم «رافلسون» فيستمسك برواية «سبيك» كما نقلها «بيرتون» معتبراً مصدر النيل «عقداً من البحيرات» المتتالية. وأياً كان الأمر فالذي يغري هذا المخرج ما هو منابع النيل، بل ذلك القائد البركاني المتفجر «بيرتون» وعبقريته ومخاوفه وحبه وصراعه مع طواحين الهواء. ذلك البطل الذي لو لم يقضِ أيامه في البراري والصحاري والغابات وبين العقارب والأسود، لكان شاعراً جريئاً فاضحاً يذكرنا بشارل بولدير وأوسكار وايلد.
5- «حياة غاليليه» على خشبة المسرح:
بين الرابع والعشرين من آذار / مارس والتاسع والعشرين من تموز / يوليو، تقدم فرقة «الكوميديا الفرنسية» الشهيرة مسرحية «حياة غاليليه» من تأليف «بريخت Brecht». وقد أعدها للمسرح، منذ عام 1973 كاتب المسرحية الألماني «أنطوان فيتيز Vitez».
وقد بدأ «بريخت» في الدانمارك، منذ عام 1938، بإعداد الصيغة الأولى للمسرحية بعنوان: «الأرض تدور». وأخذ يراجع هذه الصيغة ويعدّل فيها منذ عام 1939. وعاود كتابة المسرحية في أواخر عام 1944، وكان يقيم آنذاك في كاليفورنيا ويطمح إلى أن تمثل مسرحيته في نيويورك. ولهذا أعاد صياغتها إعادة كاملة، بالتعااون مع الممثل «شارل لوغتون Charles Laughton». غير أن حدثاً تاريخياً كبيراً يقع في ذلك الحين. وهو بداية عصر الذرة، يوم ألقيت قنبلة هيروشيما. الأمر الذي يفرض قراءة جديدة لتاريخ حياة مؤسسي الفيزياء الحديثة (تعني غاليليه). وهكذا يعاود «بريخت» صياغة مسرحيته عام 1953، سنة وفاة ستالين، جامعاً بين الصيغتين السابقيتن، وفي نهاية عام 1955، يبدأ التدريب على الصيغة الأخيرة هذه، وقد سميت «حياة غاليلية». وأعياه التعب، فليم يبلغ جهده نهايته. وفي العاشر من آب / أغسطس 1956 ، يحضر للمرة الأخيرة تدريباً على المسرحية. ويموت بعد أيام أربعة.
وهكذا نرى أن السنوات العشرين المتقطعة التي قضاها «بريخت» في إعداد هذه المسرحية، تجعل منها مسرحية فريدة بين سائر مسرحياته. ولا نغلو إذا قلنا إن مسرحية «حياة غاليليه» تمثل تساؤلاً عريضاً عن الأزمان الآتية. وفيها تحولت المأساة التاريخية لذلك البطل (الذي لاحقته الكنسية واضطرته وهو في السبعين من عمره إلى الركوع والاعتراف بهرطقته المزعومة) مأساة عامة حول الصراع بين القديم والحديث. حتى ليصح القول إن «غاليليه هو فاوست بريخت». لقد ظل «غاليليه» كما نعلم تحت رقابة محاكم التفتيش ومات أعمى عام 1642 (ولد عام 1564).
6- كاتدرائيات القرن الحادي والعشرين:
هل يغدو القرن المقبل قرن العود إلى الشؤون الروحية؟ أياً كانت الحال، يبدو أن الكنيسة تود أن تعود إلى تقاليدها العريقة التي كوّنت تاريخها، وأن تستأنف بناء الكاتدرائيات.
هكذا شاهد الجمهور للمرة الأولى في كانون الأول / ديسمبر 1988، نموذجاً (ماكيت) يمثل الكاتدرائية التي سوف تنشأ في مدينة «إيفري – Evrey» والتي سوف تشغل، مع دار البلدية الجديدة، أرضاً شاسعة تمتد بين المحطة والبطريركية. ويرى المهندس المعماري الذي يتولى أمرها، وهو «ماريو بوتا Mario Botta» أنها ستكون مكاناً للحياة الروحية، مندمجاً بحكم بنائه وتكوينه بنسيج المدينة من حوله. إنها مكان للعبادة، فيه «ركن مغلق» هو بمثابة صيغة حديثة لصومعة الأمس. وسوف يضم هذا المكان مكاتب وبيوتاً سكنية ودكاكين. وعلى الرغم من أن استطلاعاً للرأي العام جرى في كانون الأول / ديسمبر 1989 بيّن أن 53% من الفرنسيين يؤيدون هذا المشروع، فإنه يتقدم تقدماً بطيئاً لأسباب مالية.. لا سيما أن الدولة لا تستطيع أن تقدم أي معونة بهذا الشأن. ذلك أن اتفاق عام 1801 ينص على أن «الدولة لا تعترف ولا تدفع أجوراً ولا تقدم معونات لأي ديانة من الديانات». ولهذا فكر أصحاب المشروع أن يضمّنوه متحفاً للفن المقدس. وللمتحف الحق عند ذلك في أن يتلقى تمويلاً من قبل الدولة. وهذا المتحف الذي سيقام على ألف متر مربع، سوف يضم تراث الكنائس الصغيرة في المنطقة وأعمال فنانين معاصرين. وقد وعد وزير الثقافة الفرنسي بتقديم معونة لهذا المتحف قدرها خمسة ملايين فرنك، وتصل نفقات المشروع كاملة إلى ستين مليون فرنك، يمكن تأمين جانب كبير منها من المؤسسات العامة ومن تبرعات المحسنين ومن الأبرشيات وسائر المنظمات الكاثوليكية. وهكذا من المتوقع أن يوضع حجر الأساس لهذا المشروع في شهر تشرين الثاني / نوفمبر القادم.

(ثالثاً) كتب جديدة:
1- سقراط عام 1990:
صدرت عن دار «غراسيه Grasset» رواية فلسفية عن سقراط في القرن العشرين، عنوانها «الكلام المختلس»، وهي بقلم «أندريه برانكور Andre Brincourt». واسم سقراط في الرواية «تيراكوس»، وهو، كنظيره اليوناني، لا يعرف الراحة، ويحقر الثروة، والجاه والصدارة ويحرص على أصالته، ويؤثر الإيحاء على الإقناع، ويلذ له أن يحدث المارة في الشوارع والساحات، ويقدس الجمال. والذي يشغل حياته هو أن يتجاوز حدود العقل وأن يمضي محلقاً في أسرار الوجود وفي طوايا الكائنات، يحررها من الرياء والمظهر كيما تحافظ على الصدق والجوهر.. وكما أعجب سقراط بتلك الحكمة المنقوشة على معبد «دلف»: «إعرف نفسك بنفسك»، يعجب بطل الرواية بها ويجعل منها شعاراً له.
و«تيراكوس»، شأنه شأن سقراط، لا يكتب، بل يتحدث. إنه يملك فن تشجيع من حوله على أن يشربوا نخب الحقيقة، وعلى أن يخلصوا لوجدانهم، وعلى أن يجددوا ذواتهم دوماً وأبداً.
وتدور أولى أحداث الرواية في «نيس» في أثناء الحرب العالمية الثانية، تلك المدينة التي انتقل إليها صرح الفكر الفرنسي الملتزم. ويحدثنا الكاتب عن حركة المقاومة وعن العنف. وههنا يصبح محور اهتمام «تيراكوس» رجل اسمه «أوليفييه بونتال» ومن خلاله يعرض الكاتب أفكاره السقراطية.
2 – في قمم اليأس:
ظهرت مؤخراً ترجمة فرنسية لكتاب الكاتب الروماني (نسبة إلى رومانيا) «كيوران Ciroan»، نشرتها دار «ليرن L’Herne»، وعنوانها «في قمم اليأس».
والكاتب شهير بسوداويته. وفي مدخل كل كتاب من كتبه نكاد نقع على «أبي هول» يسأل المسافرين الإجابة على أبيات بودلير الشهيرة: «هل تحب المحرومين؟ قل لي، هل تعرف من
لا يستحق الغفران؟». وتبعاً للجواب الذي يقدمه قراء الكاتب على هذا السؤال، يرشحهم «أبو الهول» ليكونوا في إحدى طائفتين: طائفة الذين يحبون قراءة الكتب البريئة غير المؤذية، وطائفة الذين يرغبون في أن يدرَّبوا على اجتراع فضائل ذلك السم الجديد: سم «الكيورانور» (نسبة إلى «كيوران» مؤلف الكتاب).
وهذا السم، حين يقطَّر في دماغ الإنسان، يغدو دواء مضاداً شافياً من كل الأوهام وعلاجاً ضد كل امتعاض. إنه يكسب شاربه المناعة ضد الآمال الخائبة، ويبقي على مطامحه المجهضة. إنه ينقد ضحيته، ولكن عن طريق تعليمه الرؤية الواضحة. ذلك أن وضوح الرؤية، عند «كيوران» هي شكل من أشكال العذاب. إنها تفرض على الإنسان أن ينظر إلى الحياة نظرته إلى عملية ابتلاع واستبطان لضروب الجحيم التي يعاني منها في داخله.
يشهد على هذه الفلسفة اليائسة، الكتاب الأول الذي كتبه «كيوران»، نعني كتاب «في قمم اليأس» الذي نتحدث عنه. وقد كتبه باللغة الرومانية وعمره اثنان وعشرون عاماً، واستقى عنوانه من الصيغ التي تمتلئ بها الصحف حين تتحدث عن فلان أو فلان الذي انتحر وهو في قمم اليأس.
3- كتاب عن حياة «لافونتين» الحقيقية:
صدر عن دار «فايار Fayard» كتاب عن شاعر الحكايات الشهير «لافونتين» بقلم «روجيه دوشين Duchene». ويكاد يكون هذا الكتاب الجديد عن حياة هذا الشاعر بمثابة دعوى تحاكم الشاعر وتبين، خلافاً لكثير مما كتب عنه من قبل، كيف كان منتحلاً ناقلاً عن سواه ومداهناً وداعية إلى أخلاق لم يفعل مثلها. على أن أهم ما تكشف عنه سيرة لافونتين هذه أنه لم يكن يحب ما يصنع من حكايات، وكان يشعر بالخجل والعار لأنه كاتب حكايات على ألسنة الحيوان. فهذه الحكايات لم ينظر إليها يوماً ما، سواء في عصره أو بعد عصره، نظرة إكبار، وكانت تعد نوعاً «أدنى» من الأدب، لا يعني سوى الطلاب الصغار في المدارس.
4 – تشريح دماغ «كازانوفا»:
«جان ديدييه فانسان Vincent» أستاذ الفيزيولوجيا العصبية في جامعة «بوردو» الثانية. ولقد أوحت إلي أبحاثه عن العوامل الكيميائية التي تسبب الانفعالات إلى كتابة كتاب عن «بيولوجيا الأهواء» ظهر عام 1986 (نشرته دار «أوديل جاكوب»). وهو بحث لامع لقي رواجاً كبيراً لدى المختصين أو عامة المثقفين.

الكرنفال في مدينة البندقية بريشة (تيبيلو Tiepolo)
وكلنا يعلم أن «جان كازانوفا Casanova» كان ماجناً عاش في البندقية (1725 – 1798) وكانت لشخصيته أوجه متعددة يخفيها حيناً ويظهرها حيناً آخر ويحاول دوماً ألاّ يفضح أمرها. وعندما بلغ الأربعين من عمره بدأت ملكاته بالأفول وبدأت الخطوة التي كانت له لدى الناس ولدى النساء بوجه خاص تؤذن بالزوال. وهكذا، بعد أن أنهكه العمر وهدمه المجون، لجأ إلى مكتبة هادئة في قصر أحد الأمراء وغدا مديراً لها. وفيها كتب «مذكراته» باللغة الفرنسية، بعفوية وحرية تامة.
ولكن ما الذي قاد عالماً مختصاً بهرمونات الدماغ، هو «فانسان» إلى «تشريح» مثل هذا الإنسان الغريب؟ يبدو أن العالم كان معنياً بنظرية حول أثر اللذة في هرمونات الدماغ. وقد بنى نظريته انطلاقاً من ملاحظة الجرذان. وقد قدمت له «مذكرات» كازانوفا مختبراً صالحاً وضحية تمتاز بضخامة غدة «ما فوق التلاموس» (وهي الغدة المرتبطة باللذة).
وتستوقفه بوجه خاص إصابات «كازانوفا» بالجدري. ويمضي في تشريح حياة هذا الماجن، وكأنه أمام جثة حية، يدرس عليها انعكاسات أفراحه وأتراحه وتقلبات دهره. كما يدرس بوجه خاص العلاقة بين اللذة وبين بنية الدماغ. وقد نشرت الكتاب دار «أوديل جاكوب» وعنوانه «كازانوفا، أو عدوى اللذة». وقد لا نغلو إذا جعلنا للكتاب عنواناً آخر: «كم عصبونة neurons في اللذة»؟