“الإيديولوجيا القومية العربية بين التجديد والترشيد والردّة”

1- لا نغلو إذا قلنا أن القضية القومية كانت وما تزال القضيةَ المحورية في الفكر العربي وفي الحياة العربية. لقد ولّدت هذه القضية الأم منذ قرن من الزمان ونيف حتى اليوم فكراً خصيباً نما وتكامل يوماً بعد يوم، وأطلقت حركات سياسيةً تترى، كانت الشغل الشاغل لأبناء الأمة العربية جيلاً بعد جيل. هذه الحقيقة التاريخية الصارخة تكاد تكفي وحدها للدلالة على الجذور العميقة للفكر القومي وعلى أصالته وعلى الصلة العضوية بينه وبين مستلزمات النهضة العربية، منذ أن بزغ فجرها في القرن التاسع عشر حتى اليوم. أجل إن هذه الحقيقة التاريخية أعمق برهان وأصدقه على واقعية الفكرة القومية، وعلى كونها مستمدة من وجود عربي متكامل المقومات، ومن روابط متينة حية وحارة، ماضية وحاضرة ومستقبلية، تربط بين أبناء أمة عربية واحدة.
ولا حاجة بنا، من أجل جلاء تلك الحقيقة التاريخية، إلى أن نذكر بولادة الحركة القومية في العصر الحديث وبأهم مراحلها وأشهر أعلامها وأبرز آثارها السياسية. وحسبنا أن نستعرض بذاكرتنا وخيالنا ذلك الشريط الغنيَ المترعَ بالأفكار والأحداث، الشريطَ الممتد من البوادر الأولى للقومية العربية التي تجلت لدى بعض التنظيمات والحركات العربية في أواخر القرن التاسع عشر، ثم في المؤتمر العربي الأول بباريس عام 1913، مارّين بعبد الرحمن الكواكبي (1848-1902)، ونجيب عازوري، إلى أن نصل إلى تبلور الفكر القومي وتوضيح مقوماته ومبادئه لدى أمثال ساطع الحصري وقسطنطين زريق وعبد الله العلايلي، وإلى تكامله وارتباطه العملي بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والعمل السياسي لدى حركة القوميين العرب وحزب البعث والناصرية.
ما يقال عن الفكر القومي يقال عن الأثر السياسي للحركة القومية. فقد ترك الفكر القومي آثاراً سياسيةً بارزة منذ ولادته أيضاً. وشريط الحياة السياسية، كما صاغها هذا الفكر، وما عرفته هذه الحياة من مد وجزر وما واجهت من عقبات، وما عزمت عليه من محاولات دائبة لنقل الفكر القومي إلى الواقع السياسي، تدل مرة أخرى، على عناد ذلك الفكر النابع من واقعيته وأصالته، وعلى اتخاذه النضال الطويلَ الدؤوب سلّماً لتحقيق صبواته العميقة.
ولعل في هذا كله خير ردّ على من يزعم أن الإيديولوجيا القومية العربية إيديولوجيا مصنوعة، أو مقلّدة، أو رومانسيةٌ حالمةٌ أو طوباوية. فدروس التاريخ تعلمنا أن جذور المشاعر القومية العربية ترجع إلى الأيام الأولى للحضارة العربية الإسلامية وإلى الصلة العضوية العميقة التي انعقدت بين العروبة والإسلام (وأن الصراع بين العروبة والشعوبية قد اشتد أواره في عصور تلك الحضارة، على نحو ما تكشف عنه بوجه خاص كتابات أمثال الجاحظ وابن قتيبة وسواهما). وبعد معاودة الحضارة العربية الإسلامية مسيرتها بعد قرون ركود طويلة، كان منطلق الدعوة إلى النهضة والتقدم الدعوةَ القومية العربية. وقد تجلت هذه الدعوة عملاً ونضالاً في ثورة الشريف حسين العربية الكبرى التي كشفت منذ ذلك الحين عن عمق العداء بين الوحدة العربية والقوى الاستعمارية العالمية. وفي العصور الحديثة، ولا سيما في مواجهة الاستعمار وما ولده من تجزئة لأوصال الوطن العربي، وفي مواجهة الصهيونية وإسرائيل، لم تجد الأمة العربية درعاً متيناً قادراً على مقارعة هذه الأخطار سوى تعميق الحركة العربية من أجل خلق كيان عربي منيع قادر. وعندما شُغلت الأقطار العربية، في العقود الأخيرة، بالتنمية، وجدت أن التنمية القطرية متعذرة وأنها توصل إلى طريق مسدود، وأن التنمية في الدول العربية إما أن تكون قومية المنطلق متكاملةَ البنيان والأهداف، وإما ألا تكون.
2- هذه الصورة التاريخية المشرقة تبين إذن فيما تبين أن الإيديولوجيا القومية العربية اليوم هي نتاج حياة الأمة العربية عبر تاريخ طويل وأنها، وإن لبست لكل حال لبوسها، تمتح أصولها من فكر قومي عريق، وتستمد قوتها وعمقها من الوجود الفعلي الواقعي لأمة عربية تليدة صاغ الإسلام رسالتها الإنسانية الكبرى، وأسهم في خلق حضارتها أبناؤها جميعُهم على اختلاف مللهم ونحلهم.
ولكن استقراء التاريخ، ولا سيما تاريخُ العرب الحديث، يكشف عن وجه آخر قد يبدو مبايناً لما ذكرنا. إنه يبين أن نقل الفكرة القومية من عالم الأنظار إلى عالم الواقع، مهمة تعثرت طويلاً وما تزال تتعثر حتى اليوم، بل لعلها تزداد عِثاراً مع تقدم الزمن.
لقد فشِلت دعوة الشريف حسين، بل مُزِّق العرب، بعد معاهدة سايكس بيكو، شرّ ممزّق. وفشِلت محاولاتٌ تقترب من العشرين لإقامة شكل من أشكال التنسيق أو الاتحاد الفدرالي أو غير الفدرالي بين عدد من الدول العربية. وفشِلت فوق هذا كلِه الوحدةُ الواعدة بين مصر وسورية. بل شهد النظام العربي، عوضاً عن ذلك، في كثير من مراحل التاريخ الحديث، مزيداً من الفرقة والنزاع والخصومة. وحسبنا أن نذكر الجو الأغبر بل العاصفَ أحياناً الذي ران على العلاقات العربية بعد كارثة الانفصال بين مصر وسورية قبل مؤتمر القمة الأول عام 1963، ثم بعد نكسة الخامس من حزيران، وأخيراً بعد دخول إسرائيل إلى لبنان، وبعد قيام الحرب العراقية الإيرانية حتى اليوم.
3- هذه الصورة الثانيةُ القاتمة التي تشهد بعجز الوطن العربي عن تحقيق أي خُطوة سياسيةٍ جادة في طريق بناء الكيان العربي الموحّد، انضافت إليها ومن خلالها مشاعر العجز أمام العدو الصهيوني، ومشاعرُ القنوط من حل مسألة العرب الأولى، المسألةِ الفلسطينية، فوُلِد من ذلك كله مُناخٌ مريض، تسوده مشاعر اليأس والاستسلام والفتورِ القومي. بل إن هذا الفراق بين الفكر القومي ودعواته وبين ما استطاع أن يحققه هذا الفكر على أرض الواقع، دفع الكثير من المفكرين في السنوات الأخيرة، ومن بينهم مفكرون قوميون، إلى التشكيك الصريح أو المضمر في الإيديولوجيا القومية نفسها، وإلى اتهام هذه الإيديولوجيا ظلماً، وتحمِيلها جرائر عجز الواقع عن اللحاق بها.
ولا ننكر على الفكر العربي أن تهزه النَكَسات وأن يثيره الفشل، وأن يلجأ إلى تشريح الواقع العربي بأبعاده كلها، والفكرِ العربي باتجاهاته جميعها، ليكشف عن مكامن الداء ومواطن العلة. بل لعل في هذا التساؤلِ المشكك وفي هذه التعريةِ الجريئة للواقع وللفكر القومي وسواه، مظهراً من مظاهر الصحة. إنه في أعماقه تعبير عن رفض ما آلت إليه الأمور، وتجريح للذات وللآخرين بحثاً عن منطلق جديدة أكثرَ فعالية ونجاعة. غير أن بين الشك المنهجي – الشكِ الديكارتي كما يقال – وبين الريبة والردة، بوناً في الطبيعة لا في الدرجة. وأخشى ما نخشاه، ونحن على مفترق طرق جديد، أن تقود مشاعر اليأس والقنوط إلى ولادة فكر يائس مستسلم للواقع، بل إلى ولادة فكر مهمته أن يضع للفرقة والقطريةِ والأنانيةِ السائدةِ في الحياة العربية فلسفةً تبرّرها، وأن ينسى أو يتناسى أن مهمة الفكر القومي الصادق هي مغالبة التيار، عن طريق فهمه وإدراك عوامل التغلب عليه، وليست مهمةَ الانقياد للتيار. وسنرى تفصيل ذلك كلِه بعد حين.
4- وحسبنا الآن قبل أن نمضي في الحديث عن بعض النزعات القومية التي تبدو لنا حاملة في داخلها – عن علم من قبل أصحابها أو غير علم – بذور انقلابها على الفكر القومي ومنطلقاته الأساسية، أن نشير إلى الحقيقة الهامة التالية التي تيسّر أمامنا سبيل البحث والنقد:
ونعني بذلك أن جانباً كبيراً من القلق والارتباك الذي يساور بعض المفكرين، حول مصير الفكرة القومية نفسِها، مردُه إلى عدم إدراك الفارق الأساسي بين وجود الأمة الموحدِ والحي من جانب، وبين تحقيق هذا الوجود في الواقع في إطار كيان متكامل موحّد. ونعني بذلك بتعبير آخر عدم تفريق الكثرة الكاثرة من الباحثين بين «وجود الأمة» «بالقوة» (أو بالإمكان) على حد تعبير أرسطو، وبين وجودها «بالفعل».
فالأمة العربية، كما يدل تاريخها وحاضرها وكما تدل حاجات مستقبلها، موجودة حية، موجودة في مشاعر أبناء الأمة العربية وفي إرثهم الثقافي الذي يرتضعون أفاويقه منذ الولادة، وموجودة في الواقع العربي الذي يجأر كل شيء فيه بوحدة مشكلاته، وموجودة في حاجات المستقبل العربي الذي تشير الدراسات العلمية الموضوعية إلى أنها لن تتحقق ولن تمرع ولن تبني حضارة إلا من خلال الجهد العربي الموحّد. الأمة العربية واقع حي موجود قبلنا وقبل أفكارنا وأنظارنا وسيظل موجوداً بعدنا، وهو الوقود الذي يغذي أي توق عربي أوي صبوة إلى خلق كيان عربي موحّد.
والحركة القومية (وأهم ما فيها الإيديولوجيا القومية) مهمتها أن تحيل هذا الوجود الذي يتوق إلى التجسّد، جسداً عربياً واحداً. مهمتها أن تناضل وتناضل، كرة بعد كرة، لكي تقضي على العوامل التي تحول دون لقاء أعضاء الجسم العربي الواحد، مدركة دوماً وأبداً أن مثل هذا المطلب مطلب لازب، ولكنه شاق، وأنه لا يأتي عفو الخاطر، بل لا بد لتوليده من عرق وصبر وعناد، يغذيها جميعَها الإيمانُ بأن المطلب مطلب حياة أو موت للأمة العربية، وأنه من غير الجائز بالتالي التساؤلُ عن كونه ممكناً أو غير ممكن، فليس أمام الموت أو الحياة خيار.
5- ومن هنا نستخلص من هذه الحقيقة البدهية التي ذكرناها، نعني أن ثمة أمة عربية موجودة «بالقوة» على الحركة القومية أن تتولى أمر وجودها «بالفعل»، إن مثل هذه المهمة الشاقة الملقاة على عاتق الحركة القومية العربية تلزم عنها نتائج هامة أساسية:
آ- منها أن طريق تحقيق الكيان العربي الواحد ليس طريقاً فكرياً خالصاً – على أهمية الفكر في هذا المجال – بل هي طريق النضال، نضالِ الأمة العربية ولا سيما الجماهيرِ الشعبية، وتضامنِ قواها من أجل التغلب على معوقات الوحدة. وكما يقول محررو كتاب «تحليل مضمون الفكر القومي العربي»(1) «لا يكفي أن تكون الإيديولوجيا القومية مقنعةً ومتكاملةً نظرياً حتى تتحقق الوحدة تلقائياً، وإنما يتوجب النضال المستمر مع ظروف الواقع الموضوعية في المنطقة العربية للوصول إلى الشكل الملائم والصالح للوحدة». ومن هنا نقول مع هؤلاء المحررين أيضاً: «إن فشل التجارب الوحدوية ليس دليلاً على انتكاسة الإيديولوجيا القومية، بل هو نتيجة للظروف السياسية للواقع العربي الذي تمت فيه هذه التجارب، كما أنه يعود إلى الافتقار إلى الخطوات الغنّية والإجرائية الملائمة، والتي لا تقل أهمية عن تكوين بناء نظري قوي للوحدة».
ب- ومن هذه النتائج التي تلزم عن مقولتنا البدهية حول الوجود بالقوة والوجود بالفعل، أن طريق النضال من أجل بناء الكيان العربي الموحد يستلزم بناء جيل قادر على الانفصال عن الواقع السيئ، بحيث تقوى الأمة العربية في نهاية الأمر على مغالبة نفسها. وأخطر ما يمكن أن يصيب الفكرَ الوحدوي أن يقوده تعثر التجارب الوحدوية إلى ضرب من الواقعية السياسية المزعومة التي تخفي بين طياتها خطرَ القبول بالمنطق القطري، منطقِ التجزئة.
وههنا لا بد من وقفة سريعة عند مصطلحات ذاعت وشاعت في الفكر العربي، لا سيما بعد وفاة عبد الناصر، بل قبل ذلك، بعد نكبة الانفصال، تنادي بالعقلانية والموضوعية والواقعية والخطوات المدروسة وسوى ذلك. ولئن كانت هذه الشعارات شعاراتٍ علميةً سليمةً لا يجادل في أهميتها أحد، فإن ذيوعها أيام انحسار المد القومي وفي فترات العجز العربي وفي أجواء اليأس، جعل منها في كثير من الأحيان كلماتِ حقٍ يراد بها باطل. وسوف نعود إلى هذا فيما بعد. وحسبنا أن نقول الآن، في معرض الحديث عن الواقعية، إن المعنى الصحيح لهذه الكلمة هو تحقيق الفكرة ضمن الواقع وفي إطاره، وليس معناها الاستغراقَ في الواقع وابتلاعَ الواقع للفكر النضالي الخلاق. كما أن من الخُلف أن يكون معناها الاسترسالَ في الخيال والحلم. والواقع العربي هو واقع التجزئة القطرية، أما المستقبل العربي فهو في الوحدة العربية. وكل جنوح فعال نحو أحد هذين الطرفين مصحوبٍ بنسيان الآخر يبعد عن الصيغة السليمة الفعالة.
جـ- ومن هنا نستخلص من مقولتنا نتيجة ثالثة تلزم عنها. وهي أن الانفعال السلبي أمام الأحداث المأساوية العديدة التي طغت على الوطن العربي، وما رافقه من بحران وضياع لدى بعض المفكرين، ومن تشكيك وريبة لدى آخرين، كاد يحيل الحركة القومية أحياناً، ولا سيما في العقدين الأخيرين، ضرباً من المعرفة الذهنية والبحث الكلامي المتأنق الخالي من شحنة الإيمان. ولا نغلو إذا قلنا، أيضاً مع محرري كتاب «تحليل مضمون الفكر القومي العربي»، إنه قد أصبح في المكتبة العربية تراث جديد خاصٌ بأعمال من تمكن تسميتهم بالنخبة العربية المتخصصة – إلى جانب أعمال الرواد و«الحرس القديم» في فكرنا القومي(2). ويضم هؤلاء عدداً لا بأس به من المتخصصين في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية المختلفة.
ومن أمائر الخِصب والعطاء، دون شك، أن تتوالد هذه الدراسات النظرية وتتكاثر، وأن تُشبع الحركةَ القوميةَ والفكرَ القوميَّ درساً وتحليلاً وتمحيصاً. غير أن في هذا السعي المشكور مزالقَ كثيرة. ولا سيما عندما لا توجه الدراسةَ التي تبدو علمية موضوعية نظرةٌ شاملة تدرك الوجود العربي في جملته، وتدرك من خلاله عصبه المحرك، نعني الواقع القومي. يضاف إلى هذا كله أن أي بحث في الفكر القومي يضل الطريق إن لم ينطلق من معاناةٍ فعلية لواقع الوجود العربي ومن نضال مشخص من أجل بنائه بناءً جديداً. وفي رأينا أن الدراسات القومية لا يمكن أن تكون باردة حيادية، ولا بد أن تغذيها شحنة الإيمان بالوجود القومي وبأهمية الكيان القومي الموحّد. والموضوعية والواقعية في مثل هذه الدراسات هي ههنا، هي في إدراكها منذ البداية أن الفكرة القومية العربية هي الفكرةُ الواقعيةُ الحقة، وأن الكيان القومي الموحد هو الكيان الموضوعي الواجب. وقد يلخص هذا كله أن نقول، مع الدكتور حسن صعب، «نحن ندرس واقعنا العربي دراسة علمية لنغيّره لا لندوّمه»(3).
أولاً – التيارات الجديدة النافذة للفكر القومي:
ما قلناه حتى الآن مقدمة هدفها أن تيسّر لنا الحديث عن التيارات الجديدة التي ظهرت منذ بداية عقد الثمانينيات بوجه خاص، والتي تصدت لنقد ما سمته بالفكر القومي التقليدي الذي سطع خلال الخمسينيات والستينيات بوجه خاص، ودعت إلى تأسيس فكر قومي جديد.
وقبل أن نمضي في الحديث عن هذه التيارات نود أن نذْكر أن الفكر القومي، الذي يوصف أو يوصم بأنه تقليدي، لا يرفض ولم يرفض في يوم من الأيام دعوة التجديد، بل بيّن أهميتها وشأنها. إنه يؤكد دون ما لبس أن لا استمرارية دون تجديد، ولا تجديدَ لا ينبع من روح الاستمرارية. ثم إن هذا الفكر القومي أدرك دوماً أهمية السير نحو الهدف القومي الكبير على مراحل وخطوات متدرجة، ولم ينكر أهمية أي خطوة وحدوية جادة تقوم بين قطرين أو أكثر، ولم يأخذ يوماً من الأيام، كما يظن بعضهم، بمنطق «كل شيء أو لا شيء».
ومن هنا نجد في كثير من الانتقادات التي وجهها بعض المفكرين الجدد إلى ما سموه بالفكر القومي التقليدي، نقصاً في الاطلاع على آثار ذلك الفكر وحقيقة أفكاره، الأمر الذي جعلهم ينسبون إليه ما ليس فيه.
ومن العسير إحصاء جميع الأفكار الناقدةِ هذه، فضلاً عن تحليلها ونقدها. وحسبنا أن نتريث عند أمهاتها، مصطنعين لغةً أشبه بلغة البرقيات.
ونخف إلى القول أن مصدر كثير من هذه الأفكار الناقدة انتكاسةُ الوحدة السورية المصرية ووقوعُ كارثة الانفصال. فقد أعقب هذا الحدث الأليم تركيز قويّ على أخطاء الوحدة، استهدف منه بعضهم تكوين قناعة فكرية بأن أخطاء الوحدة نابعة من صميم العقيدة القومية القائمة إذ ذاك، وأنه لا يمكن إزالة هذه الأخطاء إلا بالعودة عن تلك العقيدة أو تعديلها في جوهرها أو الخروج منها. وقد نسي هؤلاء أن فشل الوحدة المصرية السورية يرجع إلى عوامل عديدة خارجة عن نطاق العقيدة، منها فقدان الديمقراطية، ومنها التقصير في تعهّد الوحدة وفي معالجة مشكلاتها بروح وحدوية، ومنها، قبل هذا وفوق هذا، مؤامرات الاستعمار والصهيونية. وأياً كانت الحال فأخطاء الوحدة ليست هي التي أدت إلى الانفصال وإن تكن قد هيأت التربة الملائمة له. والانفصال أولاً وقبل كل شيء مؤامرة استعماريةً رجعيةً مدبرة ركبت موجة الاستياء التي نجمت عن أخطاء الوحدة.
وأياً كان الأمر فالتاريخ عرف شعوباً كثيرة أصابها الفشل في سعيها القومي، ولكنه عرف أيضاً شعوباً كثيرة لم يقدها الفشل إلى اليأس، بل قادها إلى مزيد من العزيمة والإرادة.
ولنمض الآن إلى استعراض بعض الأفكار القومية الناقدة للفكر القومي التقليدي:
أ- هنالك نقد مجاني لهذا الفكر لا نتوقف عنده ونكتفي بالإشارة إليه، لأنه ينبئ عن جهل بحقيقة الفكر الذي ينقده. من ذلك القولُ بأن ذلك الفكر القومي كان ناقلاً للفكر الغربي ولمفاهيم القومية الأوروبية خلال القرن الثامن عشر، ولا سيما الفكرُ الألماني(4) ولم يكن نابعاً من صميم حاجات الوجود العربي. ومن ذلك القول بأن الفكر القومي تأثر بأندريه جيد وبرغسون، وانطلق من مقولات هيجل والمثاليين الفرنسيين بوجه خاص(5). ومن ذلك القول بأن الفكر القومي كان رومانسياً، حين لم يدرك أن «حاجة الفرد إلى التنمية أكبر بكثير من حاجته إلى القومية»(6).
ب- وهنالك ضرب آخر من النقد ذاع في السنوات الأخيرة، يصف الفكر القومي التقليدي أو ما يسميه «بالفكر الشامي»، بأنه «صاحب الدعوة القومية للوحدة الفوريةِ القائمةِ على القومية والانتماء القومي الوحدوي»(7)، ويتهمه بالتالي بأنه رومانسيٌ وغير واقعي. وتتكرر هذه التهمة لدى عدد من الكتاب(8)، وكأنها غدت بدهية لا جدال فيها، في حين أننا لا نجد لها أي أساس موضوعي في الفكر القومي الذي يدعونه تقليدياً. ولقد سبق أن قلنا أن هذا الفكر القومي قد أكد دون أي لبس وفي أكثر من مناسبة مبدأ تحقيق الوحدة على مراحل ومن خلال خطوات متدرجة ومتمهلة وعلى أشكال مختلفة، نظراً لشدة المصاعب التي ولدتها عوامل التجزئة المتراكمة عبر العديد من السنين.
جـ- ومثل هذا النقد ذلك الذي شاع وذاع أيضاً في السنوات الأخيرة دون ما حجة يستند إليها، والذي يأخذ على الفكر القومي التقليدي قولَه بالوحدة الاندماجية. ولسنا في حاجة إلى تفنيد هذا الزعم لذي ينبئ أيضاً عن جهل بمواقف الفكر القومي الذي ينقده. وحسبنا أن نقول أن مندوب الحكومة السورية للتفاوض مع عبد الناصر من أجل إتمام الوحدة، وهو صلاح الدين البيطار، عرض عليه مشروع «اتحاد فدرالي» أقره البرلمان السوري وآثَره الحزب، ولم يعرض عليه مشروع وحدة اندماجية. أما الوحدة الاندماجية التي تمت فكانت بناء على طلب عدد من الضباط السوريين، وهو طلب آثرعبد الناصر أن يوافق عليه. وقد عكست مناقشات مباحثات الوحدة بين مصر وسورية والعراق عام 1963 الميل الواضح إلى تبني صورة الاتحاد الفدرالي بدلاً من الوحدة الاندماجية.
على أننا نخف إلى القول، اجتناباً لمزالق طالما وقع فيه الكثيرون، إن الذي أدى إلى فشل الوحدة المصرية السورية لم يكن شكلَها الاندماجي، بل العواملَ الأخرى العديدة، وعلى رأسها العواملُ الخارجية، التي سبق أن أشرنا إليها. وقد كان من الممكن بل الواجب أن يكون اندماج القطرين فرصة ثمينة لبناء كيان متوازن بين القطرين ولإقامة مؤسسات وحدوية مشتركة قابلة للحياة والنمو. ولكن الروح القطرية واللاديمقراطية التي سادت الوحدة حالت دون ذلك. ومما يدعو إلى الدهشة أننا نجد لدى بعض الكتاب القوميين المرموقين والبارزين، مثلِ الدكتور محمد عابد الجابري، تفسيراً غريباً لفشل تجربة الوحدة بين مصر وسورية يصدر عن عدم الإحاطة بظروف ولادة الوحدة ومسيرتها. فهذا الفشل عنده «يرجع أولاً وقبل كل شيء إلى أنها لم تقم على القوة فتحافظَ عليها القوة،
ولا على العقل فيحافظَ عليها العقل، بل كانت عملاً ارتجالياً دفعت إليه ظروف معينة، فكان لا بد أن تخضع لتقلبات الظروف»(9). ولا عجب فهو يتبنى ذلك التفسير المكرور والخاطئ لولادة الوحدة حين يضيف بأن عبد الناصر والمصريين ليسوا هم الذين استعجلوا الوحدة.
د- ومن الأفكار الناقدة التي نجد لها أصداء عند بعض الكتاب القولُ بأن الخطاب الوحدوي التقليدي كان «يتغنى بالوحدة»(10) وأن أدبياته كانت «أدبيات رومانسية» تساهم في إغناء الوجود العربي، وتُوسّع دائرة الحلم العربي لكنها لا تصنع التاريخ(11)، وأن مفاهيمه كانت ذات نزعة ميتافيزيقية.
وواضح أن مثل التهم مغرية وسهلة، لا سيما أن أصحابها يحمّلونها معاني غامضة، بل ميتافيزيقية، ولا يقدمون بديلاً عنها إلا ما يدْعونه «وضعية وتاريخية» لا يبينون معالمهما ومقاصدهما. وحين توجد تلك المقاصد نجدها مقاصد غريبة عن الفكر القومي الحقيقي، كالقول بأن الكتابات الوحدوية الجديدة تعطي الأولوية في التفكير الوحدوي الجديد للجانب المصلحي والنفعي المباشر(12)، الأمر الذي لم يفعله الفكر القومي التقليدي في زعمها.
والحق أن وراء اتهام الفكر القومي بالرومانسية والميتافيزيقية وسواهما موقفاً يعبر عن منزلق ينزلق إليه الفكر الوحدوي الذي يدعى جديداً. هو المنزلق الذي يمضي من العقلانية والموضوعية والواقعية إلى الدعوة إلى الإصلاح بدلاً من التغيير العميق، وإلى مهادنة الواقع بدلاً من السعي إلى تغييره، وبقول موجز إلى الاستسلام وترك الأمر للزمن بدلاً من اختصار الزمن عن طريق النضال الدؤوب ضد الواقع الفاسد ومن أجل الهدف الكبير المنشود. وماذا تعني الحركة القومية المؤمنة إن لم تعن الحيلولة دون سيطرة الزمن على مقدرات الأمة، وإن لم تعن الحركةَ التي تعجّل سير الزمن؟ وما الذي يوقظ الأمة العربية بعد غفوتها الطويلة واسترخائها واستسلامها للحياة السهلةِ اللينة غيرُ تعبئتها من أجل هدف كبير، هدفِ بناء كيان عربي قادر على مواجهة مشكلاتها المختلفة، وقادر على أن يخلق منها قوة فعالةً في معترك اصطراع القوى العالمية الكبرى؟ وما دور الطليعة إن لم يكن دورَ النضال من أجل الأفكار الكبيرة، وإيقاظَ البذور الخيرة الخلاقة لدى كل عربي عن طريق هذا النضال؟
إن توافر مقومات الوحدة العميقة في الأمة العربية، وعمقَ المشاعر القومية التي تَمدها الثقافة المشتركة والتراثُ المشترك واللغةُ المشتركة، والتكاملُ الطبيعي بين أجزاء الوطن العربي جغرافياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وعسكرياً، ووحدةُ المشكلات التي يعاني منها الوجود العربي وحتميةُ حلّها عن طريق واحد لا ثاني له هو الكيان العربي الموحد المتكامل إنتاجاً وعطاء، هذه كلها وكثير سواها أمور تجعل الهدف الواقعي الحق هو الوصولَ بأسرع وقت ممكن إلى الوحدة العربية، والنضالَ الحار والشامل من أجل تحقيق ذلك. ومهمة العمل العقلاني الحقة أن ييسر هذه المهمة، وأن يرسم لها سبل الوصول، وأن يغذيها بالدعوات الفكرية الحارة والحية لتعبئة الجماهير من أجلها. ولا شك أن من مهمات هذا العمل العقلاني أيضاً تجديدَ الفكر القومي عن طريق الإمعان المستمر والمتطور في فهم معطيات الوجود العربي بكل متغيراته وثوابته، وإنجازِ دراسات علمية حول آفاق التعاون والتكامل الاقتصادي العربي، وبقول واحد تحليلِ المجتمع العربي تحليلاً علمياً يكشف عن بُناه وعلاقاته واتجاهاته ومشكلاته. غير أن هذا كله ينبغي ألا يناقض حلْم الوحدة، وينبغي أن يكون هدفه كما سبق أن قلنا دراسة الواقع من أجل تغييره لا من أجل تدويمه.
ولنقلها صريحة، إن كثيراً من الدراسات القومية الجديدة التي تنقد ما تدعيه من رومانسية الفكر القومي التقليدي، تقع، عن علم منها أو غير علم، في آفات ثلاثة(13):
أولها سيطرة السوداوية عليها والتشاؤم بدلاً من التفاؤل، وغلبةُ التفكير السلبي في مجال لا يحتمل مثل هذه الغلبة، هو مجال الوحدة العربية.
وثانيها تحول الدعوة إلى التفكير الواقعي في موضوع الوحدة العربية إلى تبريرٍ ومهادنةٍ للدول القطرية القائمة، بدلاً من أن يكون عامل ضغط عليها من أجل دفعها إلى مزيد من الخطوات الوحدوية.
وثالثها الاكتفاء غالباً بتوليد نموذج نظري مغلق غيرِ قادر على محاورة الواقع العربي، واللجوءُ في كثير من الأحيان إلى صياغة بيانات عقائدية مقفلة، دون السعي لصياغة برنامج عملي، أو لتحديد سبل النضال من أجل الوصول إلى الكيان العربي المنشود.

ثانياً – الإيديولوجية القومية العربية والدولة القطرية:
على أن أهم تجديد للفكر القومي يدعيه أصحابه، هو ذلك الذي يرى في الدولة القطرية «حقيقة واقعية لا يمكن القفز عليها»، ويرى بالتالي أن أي مشروع وحدوي لا يأخذ بعين الاعتبار هذا الوجود الواقعي الصلب العنيد، مشروع حالم.
ومن أبرز من يمثل هذا التيار المفكر العربي المرموق الدكتور محمد عابد الجابري. وهو يرى فيما يرى، أن «كل الأدبيات الوحدوية وكل النضالات والتضحيات التي بُذلت من أجل الوحدة خلال المائة سنة الماضية، قد انتهت لا إلى تحقيق الوحدة العربية، بل إلى تحقيق الشرط الموضوعي لإمكانية قيام وحدة عربية ما. هذا الشرط الموضوعي هو وجود دول قطرية مستقلة على الأرض العربية»(14). ومن هنا «فعلى كل من يفكر في الوحدة، أي نوع من الوحدة، أن يعي ويفهم أ ن الوحدة أصبحت تعني اليوم شيئاً واحداً، وهو نزع لبنة أو لبنات من صرح الدولة القطرية وجعلها أساساً لبناء الوحدة»(15). وعبارة «تحقيق الوحدة» يجب أن تترك مكانها لعبارة بناء الوحدة» في نظره.
ومن الحق علينا أن نقول أن الدكتور محمد عابد الجابري ينطلق في هذا كله من منطلق قومي لا ريب فيه. فهو يؤكد في أكثر من موضع أن التقدم على صعيد العلم والتكنولوجيا والاقتصاد وسوى ذلك مشروط، في الوطن العربي، بقيام نوع من الوحدة بين الدول
العربية(16). بل يؤكد أنه لا يمكن تحقيق الوحدة الاقتصادية، أو حتى مجرد الشروع فيها، دون الشروع في تحقيق الوحدة على صعيد.
الفكر والإيديولوجيا والشعور والوجدان، وبالتالي على صعيد الاجتماع السياسي. ولا ينكر تلك الحقيقة التي هي منطلق كل فكر قومي صادق، وهي «أن الوحدة في الوطن العربي قائمة فعلاً، وأن بصورة ما، على مستوى الثقافة، مستوى اللغة والتراث والفكر والأدب وسوى ذلك»(17). ويضيف «أن الوحدة الثقافية القائمة في الوطن العربي – وليس المصلحة الاقتصادية – هي العنصر الموحد بين العرب، في الوقت الراهن على الأقل، العنصر الذي يحرك الطموح إلى وضع تكون الوحدة الاقتصادية من مقوماته الأساسية»(18).
بل إن الجابري، حين يؤكد أن الدولة القطرية حقيقة قائمة، لا ينسى أن يبين في الوقت نفسه أن «هذه الدولة القطرية العربية ذاتها هي الآن عبء على نفسها»(19)، وأن الوحدة بالتالي ليست الآن شرطاً للتنمية والتقدم وحسب، بل هي «المتنفس الوحيد والسليم للدولة القطرية العربية المختنقة». ومن هنا فإن تخليص الدولة القطرية من أعبائها التي تتهددها في كيانها ووجودها يستوجب قيام نوع من الوحدة بين العرب(20).
ولكن كيف نتجاوز هذا التعارض بين حقيقة الدولة القطرية وبين ضرورة تطويرها والسيرِ بها سيراً تدريجياً نحو الوحدة؟ يجيب الدكتور الجابري على ذلك بالالتجاء إلى حقيقة هي من خصوصيات الواقع العربي، ويعني بها «حقيقة الوحدة العربية المتجذرة التي تحدّت في الماضي وتتحدى في الحاضر الحدود والحواجز التي تقيمها الدولة القطرية(21)، والتي تتجلى في اللغة والدين والتراث والتاريخ والمصير الواحد». بل إن ثقافة الدولة العربية القطرية نفسَها، كما يقول «ثقافة لا قطرية أساساً، تتعارض مع القطرية ولا تعترف بها ولا تخضع لمنطقها»(22).
ومن هنا يخلص إلى هذه النتيجة الهامة وهي أن «التعارض بين كون الدولة القطرية العربية حقيقة واقعة لا يمكن القفز عليها، وبين ضرورة قيام نوع جدي من الوحدة لمواجهة متطلبات التقدم، تعارض يمكن تجاوزه لصالح هذا الأخير بتعميق الوظيفة التاريخية للثقافة العربية بالصورة التي تمكّن العرب من الانخراط الجماعي الفاعل في عصرنا، عصر العلم والتكنولوجيا»(23).
وعندما يقرأ المرء هذه الأفكار وأمثالها مما نجده مبثوثاً في نتاج الدكتور الجابري الغزير، يخيل إليه أنه لم يأت بجديد، إذا قرنت أفكاره هذه بأفكار الفكر القومي الذي يوصم بأنه تقليدي والذي يعتقد الجابري أنه عاش الوحدة «على صعيد الشعارات»(24) وحدها.
فالفكر القومي في الخمسينيات والستينيات، الذي نعجب حين ينعت الجابري إيديولوجيته بالطوباوية والحالمة، لم ينكر يوماً من الأيام صلابة التجزئة وضراوتها، ولم يغفل هذا الواقع الموضوعي، واقعَ وجود كياناتٍ قطريةٍ شديدة الأركان. بل إنه اعتبر النضال ضد هذا الواقع المجزأ، الواقعِ القطري، المهمةَ الأولى من مهمات النضال القومي، وأهمَّ ما يميز الموقفَ القوميَ الأصيل المنكرَ للواقع المنحرف، العاملَ على تغييره، عن طريق تكوين ظروف جديدة وإعادة تشكيل بنية الوجود العربي المريضة، بفضل النضال الفكري والسياسي الموحّد.
لا سيما أنه أدرك «أن الشعب العربي نفسه، لا الحكومات العربية فقط (في ذلك الحين)، فقد تأقلم في نطاق «القطر – الدولة» وواءم ظروف حياته السياسية والاقتصادية والعسكرية مع حالة التجزئة»(25).
يضاف إلى هذا أن الفكر القومي في الخمسينيات والستينيات أدرك أعمق الإدراك «أن التحقيق النهائي للوحدة يتطلب وقتاً ومشقات» وأن «بين الأقطار العربية تفاوتاً في الأوضاع والظروف الخارجية والداخلية» وأن «الوحدة تتحقق على مراحل»(26). وفوق هذا وذاك قال ذلك الفكر القومي بالوحدة الاتحادية، وبالوحدة المتدرجة، وبالوحدة الجزئية بين قطرين أو أكثر. وقد عبر عن ذلك قادة ذلك الفكر في مناسبات عديدة وعبر عنه «ميثاق العمل الوطني» في الجمهورية العربية المتحدة تعبيراً واضحاً حين قال: «إن أي وحدة جزئية في الوطن العربي تمثل إرادة شعبين أو أكثر من شعوب الأمة العربية هي خطوة وحدوية متقدمة، تقرّب من يوم الوحدة الشاملة، تمهد لها، وتمد جذورها في أعماق الأرض العربية.. وليست الوحدة صورة دستورية واحدة لا مناص من تطبيقها، ولكن الوحدة العربية طريق طويل، قد تتعدد عليه الأشكال والمراحل وصولاً إلى الهدف الأخير».
هذا كله، كما نرى، يدل على الوفاق بين الفكر القومي الذي يدعى تقليدياً، وبين الفكر القومي الذي يسم نفسه بالتجديد، ولا سيما فيما يتصل بالدولة القطرية التي كانت وما تزال من أهم أطروحات هذا الفكر الجديد بوجه عام وفكر الدكتور الجابري بوجه خاص.
ومع ذلك فتأكيد القطرية، من قبل الفكر القومي الجديد، محمّل بمخاطر وانجرافات لا بد من التنبيه إليها. أو بتعبير آخر، ينبغي أن تصاحب تأكيدَ القطرية جملةٌ من المقولات والشروط إن أهملت جنح الفكر المنطلق من حقيقة الكيان القطري، إلى أن يغدو هو نفسه فكراً يحمي القطرية ويبررها، رغم أنه لم يقصد إلى مثل هذا.
1- وأول هذه الشروط أن يقترن نضال كل قطر في سبيل مشكلاته الخاصة، السياسيةِ والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بفكرة الوحدة والنضال من أجلها. وأن ينطلق دعاة الوحدة العربية بالتالي من حقيقة أساسية وهي أن التقدم في أي قطر عربي، اقتصادياً كان أو اجتماعياً أو سياسياً، لا يمكن أن يكتمل إلا في إطار الوطن العربي، لا سيما إذا أردنا هذا التقدم ذاتياً ومستقلاً وغير تابع لشبكات الاستغلال العالمية.
نقول هذا لأن على المفكرين القوميين أن يواجهوا واقعاً خطيراً بدأ يتسلل سريعاً إلى الجسم العربي ويمس جوهر العمل القومي، وهو «تصاعد منطق الدولة ضد منطق الأمة العربية أو العروبة»، أي «أن الأقطار العربية باتت تفكر في كونها أقطاراً يسري عليها من الأوضاع والسياسات ما يسري على أية دولة في العالم المعاصر» بدلاً من التفكير في أنها «تكوينٌ على طريق الدولة العربية الواحدة أو لبنةٌ من لبنات الأمة العربية»(27). بل إن هذه النظرة التي يسمونها واقعية وما يرافقها من تأكيد على أهمية «الكيان القطري» ومن القول بالتدرج في مسيرة الوحدة، غدت «تخفي بين طياتها خطر القبول بمنطق الدولة في العمل العربي المشترك»(28) نفسه.
ومن الواضح اليوم، بعد انحسار المد القومي في البلاد العربية، أن مبدأ وحدة الهدف ذاته، قد تراجع، وحل محله مبدأ التضامن، وأن وحدة الصف أصبحت بعد الهزائم المختلفة وبعد تردّي الواقع العربي مطلباً مرحلياً، تتراجع أمامه آفاق الدعوة الوحدوية.
وأستميحكم عذراً إن استطردت هنا بعض الشيء، فالأمر جلل:
كثيراً ما يدور على الألسن قول بدا للكثيرين وكأنه حقيقة، ونعني به الاستشهادَ بالفرقة القائمة بين الأقطار العربية وبالتشتت والتفتت اللذين ذرّ قرنهما، من أجل البرهان على بطلان الفكرة القومية أصلاً. أما نحن فمما نحرص على قوله دوماً في هذا المجال أن ما نشهد من فرقة وتشتت وضياع، هو على العكس مما يتبدى للنظرة السطحية، أقوى دليلٍ على أهمية الوحدة العربية، بل هو برهان «بالخُلُف» كما يقول المناطقة على شأن الوحدة. إن ما نشهد من فرقة وتشتت سرطاني نتيجةٌ طبيعية لِغياب روح الوحدة التي توفر السلامة للجسم العربي كله وتذوب فيها النزعات الإقليميةُ والطائفية والقطرية، بينما تربو هذه النزعات والآفات الجرثومية في المستنقع الآسن، مستنقعِ الفكر القطري الانعزالي الذي لا يقوى حتى على الحفاظ على الوحدة الوطنية في القطر العربي الواحد. ولا أدل على ذلك من أن انحسار الموجة الوحدوية في الأقطار العربية منذ السبعينِيات لم يكن بديله الوحدةَ الوطنيةَ داخل كل قطر من هذه الأقطار، بل كان بديلُه الشتاتَ والفرقة داخل القطر العربي الواحد.
ومن الأفكار التي تستحق التأمل الطويل في هذا المجال، ما نجده في ذلك الكتاب القيم الذي يحدثنا عن «الدولة الاتحادية» في الولايات المتحدة، والذي نقله إلى اللغة العربية منذ عام 1959 جمال محمد أحمد. والكتاب جملة من المقالات كتبها حوالي عام 1787 أصحاب الدعوة إلى اتحاد الولايات الأميركية يوم كانت ثلاثة عشرة ولاية منفصلة. وأشهرهم «هاملتون» و«ماديسون» و«جي». وسنعود إليه بعد حين. أما الآن فنود أن نطرح للتأمل والدراسة ما جاء في المقال السادس(27) حول الدول المتجاورة. لقد ورد فيه ما يأتي: «أن الذي يتوقع الألفة والانسجام بين دول متجاورة مستقلة، لكل منها سيادتها التي لا تحيد عنها، يغفل حوادث التاريخ، ويتجاهل الخبرة التي كسبها الإنسان على مر العصور». وجاء فيه أيضاً: «لقد صار من المعطيات في السياسة أن التجاور بين الدول لا يقود إلى الوئام قدر ما يقود إلى الخصام»(28). وقد قال كاتب ذكي «الأمم المتجاورة أعداء فيما بينهم بالطبيعة، ولا يحميهم من إيقاع الأذى بعضِهم ببعض إلا إحساسُهم بالضعف وجمعُهم أنفسَهم في جمهورية مؤتلفة. إن دستور هذه الأمة هو أمانهم ضد الخلافات التي يثيرها الحوار بين الدول، وهو وحده الذي يطفئ تلك الجذوة التي تتقد في نفس كل دولة للتوسع على حساب الجوار»(29). ومما نقرؤه في المقال التاسع: «إن الاتحاد القوي الوثيق بين الولايات هو أمننا من الحروب وهو سياج حريتنا، وليس خافياً على أحد المخاطرُ التي تعرضت لها جمهوريات الإغريق والرومان الصغيرة»(30).
من خلال هذا كله تستبين لنا أهمية هذا الشرط الأول الذي نرى أن على المؤكدين لحقيقة الدولة القطرية الانتباهَ إليه، درءاً للانزلاق نحو تبرير الوجود القطري أو المهادنةِ المستسلمةِ الكسولة له. إن رفض الدولة القطرية لا بد أن يظل شعارَ الحركة القومية العربية، دون أن يعني ذلك رفض تدرج السير نحو الوحدة العربية، ولكن دون أن يعني ذلك التدرجُ أيضاً تركَ الزمن وشأنه. فالزمن سار ويسير في اتجاه تعميق الكيانات القطرية. ومهمة الحركة القومية أن تجعل منه أداة لدفع هذه الكيانات نحو القضاء على مؤسسات الانفصال وحصونه وأصحاب المصلحة فيه، وإقامةِ بُنى وحدوية جادة وعميقة تحمل في ثناياها بذور المخاض الوحدوي.
من هنا، لئن كنا نتفق مع الدكتور الجابري حين يقول «إن الوحدة الضرورية اليوم هي الوحدة الممكنة»، فإننا لا بد أن نضيف بعض التحفظات على الوحدة التي يراها ممكنة اليوم، حين يرى أنها «تلك التي تنطلق أولاً من التعايش السلمي بين الدول العربية، والمتجاورةِ منها خاصة، في إطار من الثقة المتبادلة والعمل المشترك في الميادين الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والثقافية»(33) ومنطلق تحفظاتنا أن التعايش والثقة وسواها من مظاهر التفاهم العربي، تأتي فيما نرى نتيجة لإيمان وحدوي أشمل وأعم، ولعملٍ وحدوي كامل لا يتجزأ في شتى الميادين، تغذيه روح الإيمان بالكيان العربي الواحد، وتقيه وتحميه وتعززه الإرادةُ الوحدوية للجماهير العربية، ويقوده أولاً وآخراً نضال رسمي وشعبي متآخذ يحول دون بزوغ النزعات الإقليمية، ودون مؤامرات أعداء الوحدة، ولا سيما أعداؤها في الخارج وعلى رأسهم إسرائيل والقوى الاستعمارية والشبكات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي تقود العالم. وفوق هذا وقبل هذا أين الحدود بين الممكن وغيرِ الممكن؟ أفلا يخلق الجو القومي الحار إمكاناتٍ جديدةً متعاظمة، بينما يطمس اليأس والقنوط بذور أي إمكان، ويقضي عليها في تربة العجز والقعود؟ وهل كانت الروح الجبارة المتحدية التي ولّدها الإسلام وولّد معها الحضارة العربية الإسلامية المبدعة، نبتاً من إمكانات الجاهلية ومعطياتها الموضوعية؟ أفلا يحدثنا المؤرخ «توينبي» عن عوامل نهضة الشعوب فيردُّها في خاتمة المطاف إلى قدرتها على الرد على التحديات؟ وهل الحضارة أنى كانت إلا نتاجُ التصارع بين طبيعة الإنسان العضوية الغرزية اللاصقة بحمأة الطين وبين صبواته الإنسانية الرفيعة والمبدعة؟
2- والحق – وههنا نصل إلى الشرط الثاني الذي ينبغي أن يعنى به المنطلقون من واقعية الكيان القطري وصلابته – إن من أهم ضمانات السير السليم نحو الوحدة، انطلاقاً من الكيانات القطرية القائمة، رسمَ سبل الوصول وأداةِ الوصول، أو بتعبير موجز تكوينُ الأداة القومية للنضال القومي الشعبي والسياسي.
وههنا نجد أن الأداة التي يطرحها بعض القائلين بواقعية الدولة القطرية العربية، لا تشتمل على المواقد والمحركات الأساسية القادرةِ على دفع الوجود العربي القطري نحو مزيد من الوحدة، وأنها أحياناً توصل إلى «دور فاسد» كما يقول المناطقة العرب (أو حلقة مفرغة كما نقول اليوم خطأً). فنقطة البدء على صعيد الحركة، عند الدكتور الجابري «أن نسعى لمزيد من الديمقراطية في كل قطر عربي على حدة، وأن نشجع تجارب التكامل الإقليمي، وأن نعيد الروح إلى الجامعة العربية كمؤسسة للتضامن العربي». وكل ذلك عنده «سوف يساوي نفياً تدريجياً للدولة القطرية وتقليصاً لها»(24). ولسنا ممن يقلل من شأن هذه الخطوات، ولا سيما خطوةُ السعي لمزيد من الديمقراطية. ولكن أفلا يعني هذا إلى حد كبير أن ندع الواقع العربي وشأنه وأن نذرّ فيه بعض بذور التكامل والتضامن. بل أفلا يعني هذا قبول الواقع العربي المتردي وقبولَ علله وأمراضه والرضا من الغنيمة بالإياب؟
إننا نعيذ أصحاب الفكر القومي الذي يدعو نفسه جديداً من أن تعني الواقعية عنده، كما سبق أن بينا، مجرد قبول الواقع. ولا نعتقد أن أربابه، وعلى رأسهم المفكر القومي المتميز الدكتور الجابري، يقبلون هذا الموقف، ويفهمون التدرج نحو الوحدة العربية على هذه الشاكلة. وفي كتاباتهم وكتابات الدكتور الجابري الأخرى ما يمكن أن يفصح عن غير ذلك. غير أن أخشى ما نخشاه أن يتلقف أفكارَهم من يحمّلها غيرَ ما تحتمل، وأن يولَد من هذا كله جيلٌ يصدق عليه الوصف الذي ذاع في أدبيات الستينيات، نعني وصفهم بأنهم «وحدويو التجزئة»، أولئك الذي يعتبرون الوحدة أمراً آلياً يتم عن طريق التوحيد السياسي عندما تتهيأ الظروف وتسنح الفرص.
والمزلق الذي يتعرض له القوميون الجدد أو الذي قد يعرّضون له سواهم هو في نظرنا عدم الإفصاح عن حقيقة لا بد أن يكونوا من المؤمنين بها، وهي أن سبيل الوصول إلى الوحدة أولاً وآخراً هو سبيل الانفصال عن الواقع الفاسد، سبيلُ وحدة النضال العربي، سبيل تعبئة الجهود العربية الرسمية والشعبية، من أجل الخروج من هذا الطريق الذي يوصلهم جميعهم إلى درب مسدود، طريقِِ العمل القطري المتقوقعِ على نفسه. ووسائل ذلك النضال عديدة، منها الوسائل الثقافية والفكرية التي أجاد الدكتور الجابري في بيان أهميتها.
غير أن هذه الوسائل، إن كانت شرطاً لازماً لتعميق حركة الوحدة، فهي ليست شرطاً كافياً. ولا بد أن تنضاف إليها وسائل العمل السياسي بأشكاله المختلفة. ورائد هذا كله الاعتماد على الشعب العربي في كثرته الكاثرة واعتبارهُ القوة الوحيدة الفعالة، وبالتالي توجيهُ العناية إلى تحريره من عقاله وإلى تجويد أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية ليتمكن من القيام بمهمته الكبرى. ولقد سبق أن ذكرنا أنه لا يكفي أن تكون الإيديولوجيا القومية مقنعة ومتكاملة نظرياً حتى تتحقق الوحدة تلقائياً، بل لا بد من النضال المستمر ضد ظروف الواقع الموضوعية في الوطن العربي من أجل الوصول إلى الشكل الملائم والصالح للوحدة.
على أن من النُصف أن نذكر أن التصور الذي يقدمه الدكتور الجابري للوحدة ليس تصوراً ساكناً أو مستسلماً، وإن لم يحدد الأداة الفعلية لبلوغ تلك الوحدة ولم يمنح النضال في سبيلها الدور الرائد الذي يستحقه. فالهدف النهائي عنده يظل دوماً وأبداً توليد الكيان العربي الموحد. هكذا نجده يقول: «إن مشروع اتحاد المغرب العربي ومشروع مجلس التعاون العربي أو أي مشروع وحدوي آخر يظهر غداً لن يكون عملياً ولا واقعياً ولا ذا مستقبل، إذا لم يكن يعني الدخول في عملية عدّ عكسي طويل الأمد سيصل إلى الصفر عندما يتم النزول بالدولة القطرية العربية إلى مستوى «الولاية» في «اتحاد ولايات عربية جهوية أو شاملة للوطن العربي ككل، تحمل هذا الاسم أو ذاك، ولكنها لن تختلف بنيتها عن بنية «الولايات المتحدة الأمريكية» أو «جمهوريات الاتحاد السوفياتي» أو «مجموعة السوق الأوروبية المشتركة، وما أشبه ذلك»(33). سوى أنه، كما نرى، يترك زمناً للزمن كما يقولون ولا يتريث عند وسائل منح الحياة والحيوية والطاقة للزمن العربي، من أجل أن يسير في اتجاه المدّ الوحدوي المتعاظم بدلاً من السير المتراجع.
إن علينا ألا يغيب عن بالنا أن أمة مهددة بالزوال، بحكم الوجود الصهيوني، تواجه كل يوم عاراً جديداً وذلاً جديداً في معركتها مع العدو الصهيوني ومن وراءه، مدعوة إلى النضال اليومي من أجل حماية وجودها، ولا يقدم لها الزمن إلا ما تضعه فيه من جهد ونَصَب وأهداف. إن ماضينا يرمقنا شزراً، ولا نستطيع أن نخلص لروحه الأصيلة وأن نتصل به لنستمد منه العزيمة والكبرياء إلا إذا صعدنا إليه صعوداً «شاقاً دامياً» وإلا إذا استطعنا أن نستحقه بفضل النضال «استحقاقاً كريماً لائقاً»(34). وإن المستقبل يستصرخنا، وعلينا أن نخطّ تاريخه المشرق منذ اليوم.
3- يبقى شرط ثالث من الشروط التي ينبغي أن ينتبه إليها الفكر القومي المنطلق من واقعية الكيان القطري، هو الشرط المرتبط بالمعنى والأهمية اللذين يُمنحان لشكل الوحدة:
لقد غلا الفكر القومي الذي سمى نفسه جديداً، في أهمية شكل الوحدة واعتبر ذلك من مقومات نجاحها إن لم يكن المقومَ الأول لذلك النجاح. وقد برز ذلك بشكل خاص بعد كارثة الانفصال بين مصر وسورية، حين اعتبر السبب الأساسي لفشل الوحدة أنها كانت وحدة اندماجية، وقد سبق أن تحدثنا عن ذلك وأشرنا إلى خطل هذا الظن.
ولئن كنا نرى أن «الوحدة الاتحادية» هي الشكلَ المفضلَ للوحدة، فإننا في الوقت نفسه نود أن نلفِت الأنظار إلى أن الشكل وحده، مهما يكن صالحاً، ليس هو الذي يقيم الوحدة على أسس راسخة متينة، بل الذي يوطد أسسها ويرسّخ أقدامها هو ما نضعه في هذا الشكل من جهد لتعميق الوحدة وصيانتها وتنميتها. بل نذهب إلى أبعدَ من هذا فنقول إن أفضل أشكال الوحدة هو الذي يولد من خلال النضال في سبيلها. ومن هنا لا نستبعد أي شكل من أشكال الوحدة، وإن بدا مقصراً، إذا كان وليد الإرادة الشعبية ووليد النضال الجاد، وإذا كان محَمّلاً، بفضل دوافعه وما سبقه من سعي جاد، بوعود النماء والاغتناء والعطاء المتجدد والمستمر. وليس ثمة في نظرنا شكل للوحدة مرفوضٌ سلفاً أو مفروضٌ سلفاً. والأمر أمر ما نضعه في الشكل من جوهر.
ولكي ندرك أن المسألة ليست مسألة الشكل وإنما هي مسألة المضمون والجوهر يكفي أن نستعرض بذاكرتنا ذلك العدد المخيف من أشكال الوحدة التي قامت بين بعض الدول العربية في مراحل مختلفة، والتي باءت جميعُها بالفشل، لافتقار أكثرها إلى الدوافع الإيجابية الصادقة وانطلاق معظمها من ردود الفعل الآتية(35). لقد قدم ناظم القدسي عام 1951 إلى الجامعة العربية مشروعاً لتحقيق الوحدة العربية. وقدم فاضل الجمالي رئيس وزراء العراق مشروعاً اتحادياً عربياً أمام مجلس الجامعة عام 1954. وأدت المفاوضات بين خالد العظم وصلاح سالم، عام 1955، إلى وضع ميثاق يسير بالدول العربية نحو تحقيق الوحدة في الشؤون السياسية والاقتصادية والعسكرية. وأعلن سعيد الغزي رئيس وزراء سورية، عام 1955، عن خطوات وحدوية لإنشاء حلف ثلاثي مع مصر والسعودية. وكان الرد العربي على مشروع أيزنهاور، عام 1957، اتفاقيةَ التضامن العربي بين مصر وسورية والأردن والسعودية عام 1957. وبعد الوحدة السورية المصرية، أعلنت المملكة الأردنية الهاشمية والمملكة العراقية الاتحاد العربي بين الدولتين (في شباط/ فبراير 1958) وفُتحت العضوية فيه أمام الدول الراغبة في الانضمام إليه. وبعد الانفصال جرى التوقيع في 17 نيسان 1963 على ميثاق الوحدة الاتحادية بين سورية والعراق ومصر، دون أن يجد ذلك الميثاق سبيله إلى التنفيذ. وفي أيار 1964 تم، أيام عبد السلام عارف، توقيعُ اتفاقية التنسيق السياسي بين العراق والجمهورية العربية المتحدة. وفي أواخر كانون الأول 1969 تم إعلان ميثاق طرابلس بين الجمهورية المتحدة والسودان وليبيا، وفي أواخر تشرين الثاني 1970 انضمت سورية إلى ذلك الميثاق.
وفي 17 نيسان 1971 اتفق رؤساء مصر وليبيا وسورية على إقامة اتحاد للجمهوريات العربية يكون نواة وحدة عربية شاملة. وصدر في دمشق مشروعُ دستور دولة اتحاد الجمهوريات العربية في 30 آب 1971. وأُعلن في آب 1972 بيان الوحدة بين مصر وسورية وليبيا انطلاقاً من الأهداف التي نصّ عليها قيام اتحاد الجمهوريات العربية. وبعد أقل من شهر أُعلنت دولة الوحدة بين مصر وليبيا على أساس مبادئ ثورةِ 23 تموز 1952 وثورةِ الفاتح من أيلول 1969. وفي تشرين الأول 1978 اجتمعت القيادتان في سورية والعراق ووقعتا ميثاق العمل القومي المشترك في جميع الميادين السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والإعلامية.
ونقف عند هذا الحد، وندع جانباً ما جرى من محاولات الوحدة في الجنوب الغربي للجزيرة العربية وفي الجناح الغربي للوطن العربي. كما ندع جانباً بعض المحاولات الوحدوية التي ظهرت منذ طور مبكر لدى الملك فيصل الأول عام 1919 ولدى شكيب أرسلان عام 1937 الذي قدم مشروع اتحاد بين العراق وسورية وفلسطين وشرق الأردن، ولدى الملك عبد الله الذي وضع مشروع «سورية الكبرى» عام 1941، ولدى نوري السعيد الذي حاول عام 1942 إقامة ما أسماه «مشروع الهلال الخصيب».
ونحن نتذكر هذا كلَّه، لنضع إصبعنا على جوهر المسألة، ولندرك أن شكل الوحدة ليس العصا السحرية التي تخلقها. بل لندرك أن الخُطُوات الوحدويةَ المتدرجةَ والواقعية ليست دوماً أفضل الخطوات، وأن قيمتها تُستمد من جِدّيتها، ومن قومية البواعث الثاوية وراءها، ومن النضال المستمر قبلها وبعدها في سبيل تعميقها وتوسيعها وإغنائها. ولعلنا ندرك من خلال استعراضنا السريع لبعض الجهود الوحدوية التي تمت على الساحة العربية أن بعضها لا يعدو أن يكون شكلاً آخر من أشكال «القطرية» و«الانفصال» وذلك حين يكون وليد ردود فعل سياسية، رائدها التكتل ضد أقطار أخرى. على أن أهم ما يهدينا إليه هذا الاستعراضُ للمحاولات الوحدوية بين الأقطار العربية أن المحاولة الوحيدة التي نجحت كانت تجربةَ الوحدة المصرية السورية، رغم أنها تبدو لمن جعلوا من شكل الوحدة نظرية ومبدءاً وحدة فشِلت بسبب صيغتها الاندماجية. وواضح بعد ما قلناه في أكثر من موضع من هذه المحاضرة أن الوحدة المصرية السورية كان مقدرّاً لها النجاح، بل كان مقدراً لها أن تغدو نموذجاً مغرياً لسائر الأقطار العربية. وشكلها الاندماجي كان مقدراً له أيضاً أن يكون عامل قوة إذا تم تعهد الوحدة بالرعاية، ووُلّد من خلالها نظامٌ متوازنٌ بين القطرين، بين الدولة الكبيرة والدولة الصغيرة. ولم يقض على الوحدة على أية حال شكلُها الاندماجي، بل الذي مهد للقضاء عليها هو المناخ القطري الذي تسلل إليها، وغِيابُ الديمقراطيةِ الحاميةِ للوحدة. أما الذي قضى على الوحدة فعلاً، مستفيداً من هذا المناخ، فهو كما قلنا ونقول القوى الخارجيةُ المعاديةُ للوحدة، التي استطاعت أن تتسلل إلى صفوفها، وعلى رأسها إسرائيل. لقد كانت الظرف مهيأة أفضل تهيئة لقيام الوحدة بين مصر وسورية ولبقائها ونمائها. غير أن القيمين عليها لم يقْدروا حق قدرها أهميةَ رعاية الوحدة وتعهدِها والنضالِ الشعبيِ في داخلها من أجل مقاومة كيد الكائدين لها. ومع ذلك، ورغم وقوع كارثة الانفصال، خلّفت هذه الوحدة في الجسم العربي بذوراً إيجابية كثيرة، لم تخلّفها أي محاولة من المحاولات الوحدوية المتناثرة التي استعرضنا بعضها. وأهم نتائجها الإيجابية وأبرزُها انتشارُ الفكر القومي في أعظم قطر عربي هو مصر، واستمرارُ ذلك الفكر في صعوده وصموده ونضاله حتى اليوم، رغم ما أصاب المد القومي في بلاد الكنانة من انحسار بعد وفاة عبد الناصر. لقد قال بيغن أن إسرائيل لم توقع اتفاقية «كامب ديفيد» لمجرد إخراج أكبر دولة عربية من ساحة المعركة، بل للتدليل على أن دعاوى القومية العربية باطلة. غير أن الحركة القومية العربية ظلت تقارع وتقاوم في مصر، على الرغم من «كامب ديفيد»، وتفتّحت فكراً وإيماناً ونضالاً، وغذّت الحركةَ القومية العربية في سائر بقاع الوطن العربي بزاد ثمين من الفكر القومي والأبحاث والدراسات التي تصب في مجرى الحركة القومية.
ومن هنا نختلف مع الذين يتناسون العوامل الأساسية التي أدت إلى وقوع الانفصال، وعلى رأسها الأخطاء التي وقعت فيها القيادة السياسية، ويبرزون في مقابل ذلك – وقد يكون هذا من باب التبرئة، تبرئة القيادة – وهنَ الأسس التي قامت عليها الوحدة منذ بدايتها. هكذا يكرر محمد حسنين هيكل، في كتابه «ما الذي جرى في سوريا؟» ذلك الوصف الذي طالما اتُّهمت به الحركة الوحدوية التي قادت وحدة عام 1958، نعني وصفها بالرومانسية، ويقول: إن الوحدة التي تمت في شباط 1958 كانت عملاً سهلاً خدعتنا سهولته وصوّرته للأمة العربية على نحو هيّن ويسير.. لقد كان يجب أن يكون هناك أساس فكري عميق لإقامة الوحدة، وكان يجب أن يكون هناك أساس اقتصادي قوي لإقامة الوحدة.. وأساس اجتماعي.. ذلك كله لم يكن قائماً.. إنما كانت هنالك مرحلة خطر وكانت هناك فورة عاطفية. ولن نفنّد مثل هذه الأقوال، ففي ما ذكرناه في أكثر من موضع من هذه المحاضرة ما يكفي لوضع الحقائق في نصابها. ونكتفي بتساؤل واحد: ما الذي كان يحول دون وضع هذه الأسس التي يتحدث عنها هيكل داخل الوحدة وبعد قيامها؟ أو لم يكن في وسع قيادتها أن تفعل ذلك؟
خاتمة:
وبعد، لعلنا نستخلص من التحليل الذي قدمناه لما دعي بالفكر القومي الجديد، أن هذا الفكر لا يباين في منطلقاته الأساسية الفكرَ القومي الذي ينقذه. وكثير مما اعتبره هذا الفكر إسهاماً جديداً أو تأسيساً لنظرية قومية جديدة لم يغفل عنه فكر الخمسينيات والستينيات بل أكده: مثلُ القول بالتدرج المرحلي في بناء الوحدة، وإقامةِ أي عمل وحدوي على أسس متينة، وعدمِ الانسياق مع الاستعجال، والنظرةِ إلى الزمن نظرة عميقة، ومنحِ العمل الفكري والدراسةِ الموضوعية للواقع العربي منزلتَهما الرفيعة؛ ومثلِ إدراك قسوة الانفصال وجذوره التي غدت عميقة في الوجود العربي وتقديرِ خطورة النزعات الإقليمية واعتبارِها رأس عقبات الوحدة؛ ومثلِ ترجيح الصيغة الاتحادية للوحدة مع توفير جميع الشروط والضوابط والقوانين التي تقيم التوازن اللازم بين الدول المتحدة ولا سيما بين الدول الصغيرة والكبيرة.
ولعلنا ندرك من وراء ذلك أن التباين بين الفكر القومي في الخمسينيات والستينيات وبين الفكر القومي الذي يدعو نفسه جديداً والذي اشتد عوده بدءاً من الثمانينيات، هو في الروح التي تثوي وراء هذه المبادئ لا في المبادئ نفسها.
فالفكر القومي في الخمسينيات والستينيات كان فكراً متحدياً للواقع العربي الفاسد، أدرك إدراكاً واقعياً موضوعياً أن مهمة الطليعة الأولى قيادة الجماهير العربية والنضال معها من أجل القضاء على المعوقات المختلفة التي تحول دون وحدة الوجود العربي وتؤدي بالتالي إلى ضياعه وتخلفه وتبعيته، بل تنذر بزواله. وهذا النضال في نظر ذلك الفكر ينبغي أن يكون يومياً ومستمراً لا يعرف الراحة، بل يشتد زخمه يوماً بعد يوم. ومن هنا نادى بأن تسود النظرة الوحدوية كل شيء، وأن تكون حاضرة دوماً أمام الدول القطرية، من خلالها ومن أجلها تعالج أوضاعها المحلية وتحقق ما تحقق من تنمية وتقدم، وتقتلع مرتكزات التجزئة الانفصالية داخل أقطارها. ومن خلال هذه النظرة الوحدوية أيضاً تتم توعية الجماهير العربية وتعبئتها.
أما الفكر القومي الذي ينسب إلى نفسه الجدة فقد وُلد في رحم الهزائم العربية. وبدلاً من أن تزيد الهزائم في عزائمه، كادت تشده إلى خلف، باسم الواقعية والعقلانية والموضوعية. وفي رأينا أنه ما يزال حتى الآن في منزلة بين المنزلتين، حائراً بين الموقف القومي الأصيل الذي يحمله، أمام تردي الوضع العربي، إلى زيادة جرعة الدواء، وبين الموقف القومي الذي يفتقر إلى «قوة العصب وحرارة العاطفة»(38)، والذي يفهم الواقعية استسلاماً للواقع، والعقلانيةَ بحثاً نظرياً كلامياً لا يدخل الآذان بله القلوب، والموضوعيةَ إهمالاً للعوامل الذاتية الإيمانية التي تحملها النفس العربية، وواقعَ التجذر القطري مهادنةً للتجزئة وخوفاً منها.
ونحن إذ نقول ما نقول، لا نستهدف التجريح، بل نستهدف التحوط والتنبيه إلى ما تحمله بعض الأفكار القومية التي تدعى جديدة، والتي قد يتلقفها من يستخرج منها إحدى الراحتين، نعني اليأس والقنوط.
إن معركة القومية العربية معركة عربية واحدة. وتطور الفكر القومي حق، لا سيما عندما نعيش في عالم يخلق كل حين ظروفاً جديدةً ومعطيات جديدة. والمهمة الأولى للمفكرين هي البحث المشترك عن أسس متينة للإيديولوجيا العربية. ومما يوحي بالتفاؤل العميق والاستبشار أن نشهد هذه اليقظة الكبرى في الفكر القومي خلال العِقدين الماضيين، وأن تمتلئ صفحات الكتب والمجلات وتعج قاعات الندوات والمحاضرات بالحديث عن آفاق القومية العربية ومرتجياتها. غير أن ما نخشاه هو أن تصبح القومية مجرد نظرية من النظريات، بل موضوعاً من موضوعات البحث المجرد، وباباً من أبواب الصحف والمجلات. فالحديث عن الفكر القومي لا بد أن يكون حديثاً جاداً ومسؤولاً، وحديثاً واقعياً حياً يستطيع بواقعيته أن يخترق نفوس الجماهير العربية فيعبئَها من أجل تحقيق الكيان العربي الموحد.
وبتعبير موجز، رائد النهضة في نظرنا، كما تدل على ذلك دروس التاريخ وتجارب الأمم، التحامُ العمل العقلي بالوثبة الانفعالية. والنظرية القومية، أنّى كانت، تعني التوفيق بين الوثبة العاطفية والتحليل العقلي، بين الوجدان والديالكتيك، كما يقال. والقومية العربية، كما سبق أن ذكرنا، ذات جذور حية، يَمدها نسْغ عاطفي روحي دافق، لأنها تستند إلى وجود قومي «بالقوة» قائمٍ في مشاعر الناس ووجدانهم وثقافتهم وأنماط سلوكهم. ومهمة الإيديولوجيا القومية أن تعبئ ذلك النسغ العاطفي وتغنيَه وترسمَ له الطريق، عن طريق تحليل الواقع العربي وبيان حاجته الحيوية إلى الوحدة، وعن طريق توضيح السبل والوسائل المؤدية للوحدة.
بل لا نغلو إذا قلنا أن البحث العقلاني في أسس القومية العربية هو المهمة الأسهل. إذ ليس الباحثون في حاجة إلى جهد كبير لبيان التكامل القائم بين الأقطار العربية، وللتدليل على أن طريق الوحدة العربية هو الطريق الذي يخرج الدول القطرية من مآزقها الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية وسواها. وقد كُتبت في هذا السبيل دراسات تكاد تند عن الحصر.
العقبة الأصعب إذن هي إعادة الثقة إلى جماهير الأمة العربية بإمكانية الوحدة، وبالتالي القضاءُ على ذلك التأزم المخيف الذي يخلقه في نفوسهم الصراع بين شعورهم العفوي بأهمية الوحدة وواقعيتها وبين ما يجدونه في الواقع القائم من ابتعاد عن هذه الوحدة.
ومنطلقنا في هذا أن النظرة الوحدوية المتفائلة والمؤمنة والعازمة على النضال المستمر من أجل بناء الكيان العربي الموحد، عندما تتوافر مشرقةً مضيئةً لدى الطليعة العربية، تستطيع أن تجمع الجماهير العربية حولها كما يجتمع الفراش حول النور. منطلقنا أن الفكر المؤثر الفعال القادر على اجتياح نفوس الجماهير وتوعيتها وتعبئتها هو الفكر الذي لا يقبل أي ضعف في النظرة الوحدوية، والذي يأبى أن تداعبه النظرة القطرية أو تخيفَه فتفُلَّ من عزائمه وتبطل أثره وتأثيره.
ومما يدعو إلى الألم ويشهد على تردي النظرية القومية الوحدوية في العقدين الأخيرين، أن نضطر في هذا المجال إلى أن نطلب الشواهد والعون من التجربة الاتحادية لأمريكا التي سبقت الإشارة إليها:
لقد كان في الولايات الأميركية الثلاث عشرة في أواخر القرن الثامن عشر كما نعلم، حماة أشداء للانفصال كما كان فيها دعاة للاتحاد. ورغم شراسة النزعات الانفصالية، لم ييأس أصحاب الدعوة الوحدوية وناضلوا فكراً وعملاً، حتى قُيض لهم النجاح، فقامت بفضلهم دولة كبرى في العالم ما كان لها أن تكون شيئاً لو ظلت قابعة في سجن الانفصال، خاضعة للقوى الاستعمارية التي كانت تتحكم فيها في ذلك الحين.
ومما نقرؤه لأبرز دعاة الاتحاد في تلك الفترة، وهم، كما سبق أن ذكرنا، «هاملتون» و«ماديسون» و«جي» عباراتٌ لا بد أن تثير في أذهاننا عند سماعها شجون الأمة العربية وشؤونها:
هكذا نقرأ في المقال الحادي عشر الذي كتبه هؤلاء:
«تعالوا أيها الأمريكيون، فقد مضى الوقت الذي كنتم فيه أدواتٍ تسخرها أوروبا لعظمتها. تعالوا إلى اتحاد واثق بين الولايات الثلاث عشرة لا انفصام له، لتبنوا معاً نظاماً أمريكياً يقهَر العناصر التي تغلبت علينا من عبر المحيطات، ويملي عليها بعد اليوم شروط الاتصال بين العالم القديم والجديد»(39).
ونقرأ في المقال الثاني:
«أيهما أقدر على صيانة منافعنا وأكثر أمناً لنا؟ حكومة اتحادية عامة تنْظِم الولايات أجمع، تعيش في ظلها أمة واحدة، أم حكومة ائتلافية تتشقق فيها ولايات تتمتع بالسلطان عليها رؤوس عديدة، تتشابه وظائفها وتتماثل؟ حكومة قومية واحدة أم حكومات وطنية عدة؟»(40).
ونقرأ في المقال الثالث:
«والشعب الأمريكي شعب حصيف عارف، استقر منذ تكوّن أمة على أن تكون له حكومة اتحادية تعبر عن قوميته، لأنه كان يدرك منذ البدء أن هذا النوع من الحكومة وحده يحقق له مصالحه ويحقق له غاياته في النمو والتقدم… وقد انتهى بعد التفكير الراجح إلى أن الأمن الأمريكي والسلامةَ الوطنية لا يمكن لهما أن يكونا إلا تحت حكومة قومية واحدة، وهداه رشده إلى أن الحكومة المؤتلفة من ثلاثة أو أربعة ائتلافات متفرقة عاجزةٌ عن أن تصون سلامة البلاد عجز حكومات الولايات المستقلة ذاتِ السيادة في الثلاثَ عشرةَ ولاية»(41).
ونقرأ في المقال الرابع هذه العبارة الجامعة:
«لا معدى عن التوحيد إن أردنا السلامة والهيبة».
واليوم نقول، رغم تغير الظروف بل بسبب تغير الظروف، لا معدى عن التوحيد إن أردنا الأمن والكرامة والتنمية والتقدم.
لقد كدنا نصل إلى الطريق المسدود في كل شيء: في الاقتصاد والتربية والثقافة، بل في الشؤون السياسية والعسكرية. وإذا كان، في تحقيق الوحدة بعضُ المشقات والصعوبات، فالوجود القطري كلُّه شتات وصعوبات أدهى وأمر. وقد تكالبت علينا الأمم، كما تداعى الأكلة على قصعتها «كما جاء في الحديث الشريف»، وقام في القلب وجود إسرائيلي تَمده شبكة عالمية واسعة، لا يهدد أمننا فحسب بل يهدد وجودنا كله.
وأمام هذا الواقع المكفهرِ المخيف، لا بد أن تعي الكيانات القطرية أنها إن لم تمض بخطوات واثقةٍ وحثيثة شطر الكيان العربي الموحّد، فإنها مهددة بالزوال بأيدي أعدائها وأعداء الأمة العربية. وفي عصر الكتل الكبرى، حيث تُبتَلع الأسماك الصغيرة، لا مجال لمنح الكيانات القطرية مبررات البقاء والاستمرار. صحيح أن هذا كله ينبغي أن يتم في جو عربي متضامن متعاون، وأن الاقتناع بالوحدة العربية ينبع من حقائق واقعية يعيها الحكام والمحكومون ومن مخاطر تهدد هؤلاء وأولئك، وأن من مهمات الطلائع الفكرية مدَّ الجسور، ما أمكن ذلك، بين الحكومات والشعوب في سبيل أهدافهم المشتركة، وأن العمل من أجل القضاء على عوامل الانفصال وجذوره عمل لا بد منه ولا بد أن تشارك فيه الحكومات والشعوب، وأن تكون الجماهير الواعيةُ المؤمنة رأسَ الحربة فيه وأداة للضغط والديناميكية. غير أن هذا شيء، والغلو في التأبي القطري ضد الوحدة شيء آخر.
وبعد هذا كله نقول: الفكر الوحدوي لا بد أن يكون فكراً جاداً، والعمل الوحدوي لا بد أن يكون عملاً جاداً. فالأمر جد، والخطب جلل، والتاريخ العربي يرمقنا ومستقبل الأجيال العربية يستصرخنا، وإسرائيل هناك تدبّر وتكيد، وتدرك أعمق الإدراك أن أمنها الحقيقي هو تشتت الوجود العربي من حولها وانقلابُه دولاً قطريةً تصطرع ومذاهبَ تقتتل وطوائفَ تحترب. من قلب هذا كله لا بد أن نستيقظ ولا بد أن تجتمع الأمة العربية على كلمة سواء.
دمشق في 30/4/1990

الهوامش
1- تحليل مضمون الفكر القومي العربي. دراسة استطلاعية قام بها عدد من الباحثين وأشرف عليها السيد يسين. مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت، الطبعة الثانية، أيلول/ سبتمبر 1982. ص162.
2- المرجع السابق، ص 157.
3- الدكتور حسن صعب: مجلة المستقبل العربي الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية. العدد 121. ص 137.
4- د. حامد ربيع: تأملات حول مفهوم الوحدة العربية. مجلة الوحدة. العدد التجريبي.
ص 17.
5- صفوت حاتم: مجلة الوحدة، العدد 7. نيسان/ إبريل 1985 (ندوة الوحدة حول نقد الفكر القومي). ص 72.
6- د. تغاريد بيضون: قراءات في بعض نصوص الفكر القومي المثالي عند نديم بيطار. مجلة الفكر العربي. العدد 56. آذار/ مارس 1989. ص 76.
7- عبد الله بشارة: مجلة المنتدى، العدد 33. ص 7. ويحسن الرجوع أيضاً إلى مقال الأستاذ عبد الله بشارة «التعاون الإقليمي خطوة على طريق الوحدة العربية» المنشور في كتاب «الدولة القطرية وإمكانية قيام دولة الوحدة العربية» تحرير فهد الفانك. من منشورات منتدى الفكر العربي بعمان، 1989. ص 86-93.
8- د. محمد عابد الجابري: الوحدة أشكال ومستويات. جريدة اليوم السابع. 24 تشرين الأول/ أكتوبر 1988.
9- د. محمد عابد الجابري: حوار المشرق والمغرب. جريدة اليوم السابع. نيسان/ إبريل 1989.
10- كمال عبد اللطيف: في أوليات الخطاب الوحدوي. مجلة الوحدة، العدد 65. شباط/ فبراير 1990 – ص 8.
11- المرجع السابق، ص 9.
12- المرجع السابق، ص 10.
13- انظر المرجع السابق، ص 12.
14- د. محمد عابد الجابري: الشرط الموضوعي للوحدة. جريدة اليوم السابع 27 حزيران 1988.
15- د. محمد عابد الجابري: حوار المشرق والمغرب. اليوم السابع 17 نيسان 1989.
16- د. محمد عابد الجابري: الوحدة العربية والتقدم الحضاري. ضمن كتاب «الدولة القطرية وإمكانيات قيام دولة الوحدة العربية». تحرير وتقديم فهد الفانك. منشورات منتدى الفكر العربي، عمان 1989. ص 66.
17- المرجع السابق، ص 67.
18- المرجع السابق، ص 67.
19- المرجع السابق، ص 68.
20- المرجع السابق، ص 68. وانظر أيضاً كتابه «إشكاليات الفكر العربي المعاصر» مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1989، ص 79-81.
21- المرجع السابق، ص 68.
22- المرجع السابق، ص 68.
23- المرجع السابق، ص 69.
24- د. محمد عابد الجابري: حوار المشرق والمغرب. جريدة اليوم السابع 17 نيسان/ إبريل 1989.
25- صلاح الدين البيطار: الثورة والثورة العربية. دار الفكر العربي، بيروت 1967،
ص29.
26- في سبيل البعث. دار الطليعة، طبعة ثانية، 1963، ص 23.
27- تحليل مضمون الفكر القومي العربي. المرجع المشار إليه سابقاً. ص 189.
28- المرجع السابق، ص 196.
29- «هاملتون» و«مادسن» و«جي»: الدولة الاتحادية أسسها ودستورها. ترجمه وقدم له جمال محمد أحمد. منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1959 – ص 81.
30- المرجع السابق، ص 86.
31- المرجع السابق، ص 86.
32- المرجع السابق، ص 119.
33- د. محمد عابد الجابري. في كتاب الدولة القطرية وإمكانيات قيام دولة الوحدة العربية. المرجع المذكور سابقاً. ص 72.
34- د. محمد عابد الجابري. مجلة المنابر. عدد تشرين ثاني/ أكتوبر – كانون أول/ ديسمبر 1989.
35- د. محمد عابد الجابري. جريدة اليوم السابع عدد 17 نيسان/ إبريل 1989.
36- في سبيل البعث. المرجع المذكور سابقاً. ص 161.
37- انظر في هذا المجال: الدكتور أحمد طربين: المشاريع الوحدوية في النظام العربي المعاصر. مجلة المستقبل العربي. العدد 125. تموز/ يوليو 1989، ص 56-87.
38- في سبيل البعث. المرجع المذكور سابقاً. ص 45.
39- الدولة الاتحادية. المرجع المذكور سابقاً. ص 127.
40- الدولة الاتحادية. المرجع المذكور سابقاً. ص 57.
41- الدولة الاتحادية. المرجع المذكور سابقاً. ص 63.