رسالة باريس

الثقافة العالمية – العدد /52/ – مايو 1990
رسالة باريس
/1/
الشتاء هنا أشهر معدودات تتسابق فيها دور الأوبرا والمسارح والمعارض إلى تقديم نشاطاتها المتكاثرة قبل أنت ويتوزع القوم داخل فرنسا وخارجها عند تباشير الصيف. والشتاء قبل هذا وفوق هذا استمرار لموسم النشر الكبير الذي يبدأ في الخريف ويشتد ويغزر في أشهر الشتاء، ومن هنا كان من العسير أن يتحدث المرء حتى عن قليل القليل مما يقذف به موسم النشر هذا من نتاج في شتى ميادين المعرفة. وفي موسم الشتاء في هذا العام بوجه خاص هطلت شآبيب من العطاء الفكري والأدبي وسواهما وسوف نتريث عند نماذج قليلة منه.
أولاً: أحداث ثقافية عامة وهامة:
1- معرض للفن الإسلامي في متحف اللوفر:
بين السادس عشر من تشرين الأول أكتوبر 1989 والخامس عشر من كانون الثاني / يناير 1990 أقيم في متحف «اللوفر» بباريس معرض حوى المجموعة الفرنسية من الفن الإسلامي، وكان موضوع ذلك المعرض: «فن الزخرف العربي (الأرابيسك) وحدائق الجنة».
لقد كان من الشائع في الغرب اعتبار الفن الإسلامي فناً مجرداً، قوامه الهندسة. غير أن هذه الفكرة ما لبثت حتى تلاشت في السنوات الأخيرة، من خلال العديد من المعارض والدراسات والمنشورات. واستبان نتيجة لهذا كله أن الفن الإسلامي في معظمه فن «مصوِّر» للأشياء بمجالاتها العديدة.
والمعرض الذي نحن بصدده يضم قطعاً فنية مأخوذة من المجموعات الفرنسية الرسمية. والتصور الذي يحكم العرض فيه هو الانتقال من الإشارة البسيطة التي مصدرها الطبيعة حتى بلوغ أكثر المظاهر رمزية، نعني ما سمي باسم «حدائق الجنة». وهذا التدرج يتحلق حول أجزاء أربعة أو رؤى للطبيعة أربع متباينة هي قوام الفن الإسلامي على نحو ما يظهره المعرض:
الرؤية الأولى هي رؤية الطبيعة من خلال الأشكال التزيينية المختلفة التي يوحي بها عالَم النبات وعالَم الحيوان. والرؤية الثانية هي رؤية الطبيعة من خلال الطابع العلمي لصور النباتات والحيوانات. والرؤية الثالثة تعالج الطبيعة من خلال الواقع اليومي المعاش. وهذه الرؤية تضم الحياة الرسمية (من استقبالات وأعياد وصيد) والحياة الفردية الخاصة. أما الرؤية الرابعة فهي المعنية بالمعنى العميق للطبيعة، وبانعكاساتها الرمزية والصوفية. وينتهي المعرض بتصور الحديقة أو الجنة.
2- كنوز السلطان سليمان القانوني:
في الرابع عشر من شهر شباط / فبراير 1990، افتتح في «القصر الكبير» بباريس معرض فخم يقدم صورة عن حكم السلطان العثماني الشهير، سليمان «الرائع» كما يسميه الغربيون، وذلك من خلال ثلاثمائة قطعة فنية وأدبية نادرة (مخطوطات – سيراميك – مجوهرات)، ويستمر المعرض حتى 14 أيار / مايو 1990.
وما كان لمثل هذا المعرض الضخم أن يرى النور لولا القرار السياسي الذي اتخذته حكومة أنقرة عام 1987، وسمحت من خلاله بخروج بعض قطع من التراث الثقافي الفني الإسلامي من تركيا إلى بعض البلدان في المناسبات الكبرى الاستثنائية.
ولقد أقيم معرض مماثل عن السلطان سليمان وعصره في واشنطن وشيكاغو ونيويورك عام 1987 – 1988، غير أنه على غناه، لم يكن يضم أكثر من مائتي قطعة، بينما يضم معرض باريس (321) قطعة، وذلك بفضل الرفد الذي قدمته بوجه خاص المجموعات الفرنسية والأوروبية. وكان بين قطع هذه المجموعات قطع هامة تعرض للمرة الأولى وتستحق وحدها أن تُشَد الرحال لزيارة هذا المعرض. من بين هذه القطع «مشاهد حياة البلاط والحياة اليومية التركية» (1573 – 1582) التي رسمها رسامون ألمان أقاموا على ضفاف البوسفور.
ولا شك أن عهد السلطان سليمان اشتهر بالآثار المعمارية الرائعة، ولا سيما الزينة الداخلية للجوامع والقصور، عن طريق اللجوء إلى مربعات الفخار المعروفة التي تجدد فن السيراميك. ومن المعروف أن السلطان سليمان وجد في المعماري الفذ «سنان» بناء عبقرياً ومنتجاً يرجع إليه الفضل في أجمل ما نجده من جوامع اسطنبول والجوامع السليمية في أدرنة وسواها. وقد أصاب فن البناء الرائع الذي ابتكره «سنان» حظاً من النجاح جعله يذيع في أنحاء السلطنة العثمانية كلها، من البوسنة حتى الجزائر ماراً بالبحر الأبيض المتوسط.
تقديم أنموذج جامع السليمانية إلى السلطان سليمان قبل بنائه
ولقد كان «سنان» رئيساً لعدد كبير من الورشات (تبلغ حوالي 1550 ورشة) تستجيب لرغبات السلاطين وطموحهم إلى أن يصنعوا أشياء كبيرة تتجاوز ما صنعته الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية البيزنطية، وتنافس أوروبا. وقد عمّر زهاء مائة سنة، مما أتاح له أن يبني نيفاً وثمانين جامعاً، أي جامعاً كل عام تقريباً.
ولا شك أن من أشهر ما بني «جامع السليمانية».
ويحدثنا المعرض عن هذا كله وسواه. ونجد فيه قطعاً متنوعة رائعة روعة ما يجده زائر «توبكابي سراي» في اسطنبول.
3- مركز ثقافي جديد يقام في قلب الريف سر في باريس:
قام وزير الثقافة الفرنسي بالنيابة عن الرئيس ميتران، في الخامس عشر من شباط / فبراير 1990، بتدشين مركز ثقافي يعدّ المركز الثقافي الثاني من حيث السعة والشأن، بعد «دار الفنون» في ضاحية «كريتيي Creteil» يقام في شرقي باريس خلال السنوات العشر الأخيرة. وقد فتح هذا المركز المعني بالرقص والموسيقى بوجه خاص، أبوابه للجمهور في الثامن عشر من شباط / فبراير 1990. وقد أنشئ المركز وسط الريف في المكان الذي كان مزرعة نموذجية من قبل. وفي مسرحه الذي صممه المعماري الشهير «برنار أوي Bernard Huet» (وهو الذي أعاد تنظيم ساحة ستالينغراد بباريس)، نلقي فنان الرقص الإيقاعي «دانييل لاريو Larrieu»، الذي تم التعاقد معه لثلاث سنوات، يعد منذ الآن نشاطاته الكثيرة.
وقرب المسرح مشغل عملي يتسع لمائتي شخص، هدفه أن يطلع الشباب على الأعمال المسرحية وعلى ما وراء العمل المسرحي من نشاط وإبداع. ويقدم المركز خدماته لحوالي أربعمائة ألف ساكن. ويوجه عناية خاصة إلى الشبيبة وإلى بعض السكان الذين ينتسبون إلى جنسيات غير فرنسية.
4 – مشروع هام لمنظمة اليونسكو يقتفي آثار «ماركو بولو»:
وأخيراً أخذ سبيله نحو التحقيق مشروع اليونسكو الذي عرف باسم «طريق الحرير طريق الحوار»، بعد أن مكث يراوح في مكانه نيفاً وخمس سنوات، ولا يقتصر المشروع على السير في خطى الطريق التي تمضي من البندقية حتى بكين مارة بآسيا الوسطى، وهي الطريق التي سلكها عام 1271 «ماركو بولو» وأبوه وعمه، بل تتجاوز ذلك إلى البحث عن الطرقات الفرعية الكثيرة، سواء كانت برية أو بحرية، التي نمت من خلالها، منذ القرن الأول للميلاد، مختلف ضروب تبادل البضائع الثمينة والمبدعات الفنية والتقنيات والأفكار والمعتقدات بين الشرق والغرب.
وهكذا سوف يتم اجتياز (21) بلداً من إيطاليا إلى كوريا الجنوبية، ومن تركيا إلى اليابان، قبلت جميعها المشاركة في هذا المشروع على شاكلة أو أخرى. ولقد بدأت الفرق العلمية التي ستقوم بالرحلة بجمع مئات الباحثين والاختصاصيين من أنحاء العالم جميعها، بينهم المؤرخون والجغرافيون وعلماء الآثار وسواهم.. وقد تم اختراق الطريق الصحراوية منذ شهر نيسان / أبريل الماضي، كما سيتم اختراق السهوب الروسية عام 1991. وفيما يتصل بالرحلة البحرية أعار سلطان عُمان مركبه الشخصي الذي سيغادر البندقية في تشرين الأول / أكتوبر القادم بحيث يبلغ «أوساكا» بعد خمسة شهور، بعد أن يكون قد توقف بوجه خاص في مصر والإمارات العربية المتحدة والهند وسيلان وأندونيسيا. غير أن هذه البعوث العلمية لن تكون مجدية إذا لم تترك على الأرض أي أثر يدل على مرورها. ولهذا سوف تضاف إليها عبر المسيرة كلها، مهرجانات وأعياد ومعارض وندوات، فضلاً عن برنامج هام لإصلاح الأوابد الأثرية المنسية. هكذا، وعلى سبيل المثال، سوف يقوم نادي «بين Pen Clube» بجمع عدد من المختصين في أدب الرحلات القديم، ولا سيما العربية والأوروبية. وفي مسقط ستقام الندوات والمناظرات الأساسية. وفي باريس، عام 1993، سوف يقوم مهرجان كبير يعرض فيما يعرض القطع الفنية النادرة التي تضمها متاحف أوروبا وروسيا.
وطبيعي أن يكون ثمة برنامج حافل لنشر كتب أساسية في الفن. وقد عبئت لهذه الغاية منذ الآن أشهر المجلات العالمية. هذا بالإضافة إلى إصدار دورية خاصة عن «الشرق والغرب» بدأ بإعدادها «أندريه بيرينو Perinaud».
على أن الوسائل السمعية البصرية لم يغفلها المشروع، بل جند لها إمكانات كبيرة. وسوف يقوم التلفزيون الياباني بتصوير الرحلة بكاملها بلا انقطاع. وقد تولت محطات تلفزيونية أخرى في فرنسة وسواها تقديم برامج حول هذه الرحلة الهامة، وتصوير الكثير من وقائعها. هكذا، ومن قبيل المثال، سوف يقوم «جان – كلود كاريير Carriere» بتصوير فيلم طويل عن الفارسي «ماني» (216 – 277) مؤسس الديانة المانوية. ومن المأمول أن يشارك في هذه الرحلة العلمية عبر العصور، والأمصار رسامون ومسرحيون وسواهم من رجال الفن. بل إن خبير الرقص الإيقاعي الفرنسي الشهير «دانييل لاريو Larrieu» قد بدأ خلال الأشهر الأخيرة بتقديم شطرين من ثلاثيته التي أطلق عليها اسم «طريق الحرير»، وإن كانت لا تمت إلى المشروع الذي نتحدث عنه بصلة وثيقة.
ثانياً: أحداث فنية
1- هل الأساتذة حقاً خطرون؟
في مطلع عام 1990 ظهر فيلم فريد في موضوعه وإنتاجه، عنوانه، «حلقة الذين قضوا من الشعراء»، من إخراج «بيتر فير Peter Wier». وفيه يتحدث عن مدرسة ثانوية في «فيرمون» هادئة مطمئنة، يأتيها القلق والشك والهذيان من خلال درس الأدب. وكأن قولة «ناتانائيل» الشهيرة (بلسان أندريه جيد) تصدق ههنا: «سوف أعلمك اللوعة والجوى».
وتقدم لنا الصور الأولى من الفيلم مشاهد مألوفة تنقل إلينا جو الثانويات القديمة التقليدي: برودة الأبنية القوطية وفخامتها، حفلات افتتاح العام الدراسي وجلالها، الخطبة الصارمة لمدير المدرسة، باحة المدرسة وأشجارها الملتهبة وسط حرارة الشمس، الخ.. وكأن كل شيء بحسبان، وكأن الهدوء يخيم في الأرجاء. غير أن ظننا ما يلبث حتى يخيب. لقد أصاب الخرق هذا العالم المحكم، وقدم الطيش من خلال الأدب.
ذلك أن قادماً جديداً من خارج المدرسة أخذ ببث الاضطراب في أرجائها. إنه أحد تلاميذ المدرسة القدامى، قدم المدرسة أستاذاً يحل محل أستاذ شيخ. وهو يعرف المدرسة بالتالي ويعرف أساليبها. أما أساليبه هو فشأن آخر.
في اليوم الأول يبدأ كل شيء. الأستاذ يدعو الطلاب إلى الممر ليتأملوا صور الطلاب القدامى الذين يشبهونهم، وقد غدا بعضهم الآن في عداد الأموات. إن صوتهم – كما يقول الأستاذ – يصلنا من وراء القبور. وهذا كله يمنح طعماً خاصاً ومعنى خاصاً للقصيدة التي كان يقرؤها أحد الطلاب منذ قليل والتي تتحدث عن الوردة.
وبعد ذلك، تتلاحق يوماً بعد يوم المواقف التعليمية الغريبة، وهدفها جميعها أن ينضو الطلاب عن أجسادهم ونفوسهم والعادات والمواقف والاتجاهات التي تعلموها، وأن يخلعوا ثوب الرياء. فتلك القوقعة التي فرضتها علينا الأسرة وفرضها المعلمون ينبغي أن تتمزق كي تفسح المجال للنظرات الذاتية الحرة المستقلة، ينمي خلالها كل طالب معرفته عن طريق قراءة النصوص وفهمها فهماً جديداً. ذلك أن الشعراء هم مفتاح نفوسنا. وهكذا يدخل الطلاب جو الشعر بأجوائه المختلفة، ويجتمعون كل ليلة في كهف من كهوف الحديقة، ويستمتعون بأنفسهم وبالشعراء، ويتلون الأشعار بالتناوب. ويجيد الفيلم أيما إجادة في عرض وجوه المراهقين وقد امتلكتهم النشوة، وفيه تصوير للمشاهد الرقيقة التي كثيراً ما تبللها الدموع.
وقد أثار الفيلم الكثير من التعليقات. بل إن مجلة «الأوبسرفاتور الجديدة» قد عقدت حول هذا الفيلم مناظرة في ثانوية «فينيلون» شارك فيها حوالي عشرين طالباً. واستبان من المناظرة أن الفيلم يحظى بإعجاب الطلاب جميعهم.
مشهد لندوة في ثانوية «فينيلون» بباريس تناقش الفيلم
2- «سيرك» من الحديد:
لقد انقضى عهد الخيول والأسود والدببة في «سيرك» «آركاووس Archaos» في باريس، وحلّت محلها السيارات والدراجات النارية وسيارات الشحن.
لقد بدأ صاحبه «بيير بييو Pillot» صدفة بداية متواضعة بل فقيرة، فجمع ما تقذف به مصانع الحديد والتوتياء وسواها من «العوادم» وأضاف إليها بعض الحيوانات وبوجه خاص بعض الخيول، وصنع من هذا كله «سيركاً» متواضعاً ينظر إليه الناس شزراً، عرف باسم «سيرك الصفائح».
غير أن هذه البداية ما لبثت حتى تطورت، وحلّت محل الخيول المطهمة في ذلك السيرك الحقير الشاحنات والسيارات والدراجات النارية. ولا يعني هذا أننا نجد أنفسنا في هذا «السيرك» وكأننا في أمسية مزدحمة بالسيارات وبمشكلات السير. فهذا «السيرك» الذي نتحدث عنه يقدم لنا صورة معاكسة لهذه الصورة. وأصحابه، شأنهم شأن الغالين من السرياليين، ينطلقون من بعض جوانب الحياة الحديثة من أجل أن يسخروا منها. فرافعة الأثقال مثلاً لا تحمل الحاويات بل تغدو جبلاً يتسلق عليه اللاعبون، ومكاناً لألعاب التوازن، بل زرافة لها عنق طويل من الفولاذ. أما الدراجة النارية فتغدو، على يد سائقها البطل، ضرباً من السباق السماوي العامر بالقوة والأحلام البعيدة، إنها تعبر الدروب الضيقة، وتتسلق السلالم، وترتمي في الفراغ، وتقف أمام المشاهدين، وتتقن الكر والفر، لا يلجم جماحها سوى سائقها «دوبون Depont» الشاب في العشرين من العمر وأحد الأبطال السابقين في فن «السوْق». على أن هذا «السيرك» المحدث لا ينسى السيرك التقليدي تماماً. ففيه نجد طائفة من الألعاب المألوفة في «السيرك» ولا سيما الألعاب البهلوانية. وهذا السيرك، الذي بدأ فقيراً، يشق فيما يبدو طريقه نحو الثراء، فهو الآن في قلب الريف، وسوف ينتقل عما قريب إلى باريس، ومنها يطوف أوروبا طول العام كله، من لندن إلى موسكو، ثم يشد رحاله إلى أوستراليا والولايات المتحدة. وهو يتلقى دعوات من كل حدب وصوب لا يقوى على تلبيتها جميعها. ومن هنا يفكر أصحابه في قسمته إلى فريقين: فريق يقيم في فرنسا دوماً (في منطقة «الغار Le Gard»)، وفريق يجول في أرجاء العالم وبعد هذا كله، من قال إن «السيرك» قد مات؟
3- الصالون الدولي للمتاحف والمعارض:
بين العشرين والثامن والعشرين من شهر كانون
الثاني/يناير الماضي أقام «الصالون الدولي للمتاحف والمعارض» معرضه الثاني في «القصر الكبير» بباريس. ويجد الزائر على يمينه عدداً كبيراً من «الواجهات» فيها يقدم حوالي مائة متحف وصفاً كاملاً للمجموعات الفنية التي تملكها أو لبعض مشروعاتها. وعلى الشمال يجد الزائر الوجه المناقض: يجد المهن والحرف التي يتزايد عددها والتي تتحلق حول هذه المؤسسات، نعني المتاحف التي هي إحدى السمات البارزة المميزة للقرن العشرين.
والحق إننا نعيش عصر المتاحف. والصالون الذي نتحدث عنه أكبر شاهد على ذلك. وأقدم هذه المتاحف وأعرقها وأكثرها جلالاً مخصصة بالدرجة الأولى للأعمال الفنية منذ عصر ما قبل التاريخ حتى الفن المعاصر. على أن التاريخ، التاريخ القومي والتاريخ الطبيعي، يحتل مكاناً بارزاً في هذه العروض.
وبعض المتاحف المشاركة في المعرض تقدم قطعاً نادرة من ممتلكاتها، وبعضها الآخر يقدم نماذج تقلدها، وبعضها كذلك لا يعدو أن يعلن عن ولادة متحف جديد. ومن هنا كانت المعلومات التي يشيعها المعرض معلومات تهم الجمهور العريض كما تهم المحترفين المتخصصين.
وقد شارك الأوروبيون في هذا المعرض على نطاق واسع، ولإسبانيا مكان بارز فيه. والنماذج التي تقدمها تبرز برنامجها الطموح من أجل تجديد المعارض أو بنائها في مدريد وسائر المقاطعات. ومعروضات «بون» و«برلين» (الغربية) تبرز أيضاً المشروعات الكبرى في ألمانيا وعلى رأسها متحفان للتاريخ. وإسهام فرنسة في المعرض هو الأوسع والأهم (70% من جملة المعروضات). وهكذا تتوالى في هذا المعرض أجنحة الدول المختلفة، كل منها يقدم صورة عن نشاطاته في عالم المتاحف.
4 – النحت أمام صدمة «التبعيض»:
أجل، لقد أقيم في «متحف أورسي» بباريس معرض مدهش عن «تبعيض جسم الإنسان» في النحت، محوره النحات الكبير «رودان Rodin».
لقد كان من المألوف دوماً القيام بجراحة تجميلية تتناول التماثيل المنحوتة. وبعض هذا التجميل والتطعيم الذي يأخذ شكل زرع أعضاء جديدة أو نقلها من تمثال إلى تمثال، يثير الابتسام أحياناً. هذا هو مثلاً شأن تمثال لويس الثاني عشر في قصر «غايون Gaillon» الذي نحته «لورنزو موغيانو Lorenzo Mugiano» عام 1508. لقد شُوّه هذا التمثال أيام الثورة الفرنسية ومُثّل به واجتُثت بعض أجزائه، فلم يبق منه إلا صدره وقد علاه درع منمّق. وهذا التمثال المشوه أُصلح وأُكمل مرتين: الأولى على يد «بوفاليه Beauvallet» الماهر الذي وضع له رأساً من المرمر وصنع يده التي كانت تعوزه. وأكمل مرة ثانية بإزميل «لانج Lange» الذي صنع له ساقين، لأنه لم يكن من اللائق أن يعرض في قصر فرساي تمثال ملِك لا يعدو أن يكون جذع إنسان!
وتمثال لويس الثاني عشر هذا، الذي أعيد ترميمه في القرن العشرين، ومعه الأجزاء الجديدة التي أضيفت إليه على شكل قطع تبديل يمكن نزعها كما تنزع «وجبة» الأسنان، هو بين ما يعرضه علينا هذا المعرض الذي نحن بصدد الحديث عنه. وإلى جانبه يعرض عدداً من أمهات التماثيل الشهيرة التي رممت وأضيفت إليها أجزاء من مواد مختلفة. كما يعرض علينا مجموعة من الأجزاء والقطع التي خلفها النحاتون ولم يكملوها واعتبروها أعمالاً كاملة. وهذه الأجزاء تمثل قطعاً تشريحية من جسم الإنسان في معظم الأحيان.
وفي هذا، كما نرى، انقلاب في النظرة إلى النحت، بل انقلاب في تذوقه، ومعالجة جديدة طبية تشريحية لجسم الإنسان، تضعنا في قلب مرحلة متفجرة وحاسمة في تاريخ النحت. وبطل هذه المرحلة دون شك هو النحات الكبير «رودان». فعن طريقه دخلت الفضيحة، إن كانت ثمة فضيحة. فلقد هجر كما نعلم المثل العليا الأكاديمية ومارس، بدلاً من فن التركيب، علم الصياغة. وهكذا استثمر حتى النهاية وبشكل منهجي منظم ما في «الجزء» من قدرة تعبيرية، وما يحتويه من قوة مركزة يستطيع النحات من خلالها أن يفجر ما في الجسد من حياة ومتعة. وفي حانوته في مدينة «مودون Meudon»، المليء بالأدراج والرفوف العامرة بالأرجل والأيد والأذرع المختلفة الحجم، كان «رودان» بعد عام 1900، يعنى بلصق الأجزاء بعضها ببعض، ويجمع الفتات والبقايا. لقد كان «رودان» يجمع: لقد كان يجمع مثلاً وجه «كامي كلوديل Claudel» ويد «بييرويسانت Pierre Wissant» أحد بورجوازيي مدينة «كاليه». وحصاد الجمع يأخذ بالقلوب والأنظار. حصاده جمال أخاذ.
على هذه الشاكلة يقدم لنا هذا المعرض الفريد، قصة النحت المنطلق من الأجزاء. أَوَ ليس النحت الحديث إلى حد كبير وليد محبة هذا النحت القديم الذي وصل إلينا محطماً مهشماً.
ثالثاً: أحداث ثقافية اجتماعية هامة:
1- الأدب في بلاد التفرقة العنصرية:
وسط الأحداث التي رافقت إطلاق سراح الزعيم الأفريقي نلسون «مانديلا» وفي أجواء الحملات على التفرقة العنصرية، عنيت الصحافة الفرنسية وعني بعض الكتاب بموضوع قلما توقفت عنده الأقلام، نعني موضوع الأدب في بلاد «الأبار تايْد».
وقد سلطت الأضواء بوجه خاص على كتاب أفارقة أربعة عرفوا بأدبهم المناهض للتفرقة: أولهم الروائية الشهيرة «نادين غورديمر Nadine Gordimer»، وثانيهم الروائي «أحمد إيسوب Essop»، والثالث هو الشاعر «سيفو سيباملا Supho Sipamala» ورابعهم أستاذ الأدب الأفريقي «إسحق مفاليلي Maphalele».
أما «نادين غورديمر» فقد ولدت في «جوهانسبرغ» عام 1942، في مدينة صغيرة يعمل سكانها في المناجم، من أب مهاجر من روسيا ومن أم إنجليزية. وقد دخلت منذ أمد طويل في صفوف المواطنين السود المناضلين داخل حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» وهي من أعند المناضلات، في حياتها وأدبها، ضد التفرقة العنصرية. وقد كتبت في الآونة الأخيرة، رواية عنوانها «نزوة الطبيعة» ترجمت إلى اللغة الفرنسية مؤخراً ونشرتها دار «ألبان ميشيل». وفيها تطرح مشكلة «الرواية» ذاتها ومشكلة الأدب بوجه عام. وتتحدث بوجه خاص عن تلك المشكلة التي كانت ذائعة في أوروبا خلال الأربعينات ثم تجاوزها الزمن هناك، غير أنها ما تزال مطروحة في بعض البلدان، نعني مشكلة الالتزام في الأدب.
وأما «أحمد إيسوب»، وهو مسلم هندي، فقد كان أستاذاً خلال فترة طويلة ثم تفرغ للكتابة. ويشيد إشادة واضحة صريحة في أدبه بمعتقداته الدينية وثقافته الأصيلة. وقد ولد في الهند عام 1931 وانتقل إلى أفريقيا الجنوبية عام 1934. وقد اغتذى بقراءة الكتاب السود من جنوبي أفريقيا، كما اغتذى بقراءة الكتاب الأفارقة بوجه عام والكتاب الهنود والكتاب العرب. وكثير من كتاباته تدور حول الجماعة الهندية في جنوبي أفريقيا. وقد ترجمت بعض قصصه القصيرة إلى اللغة الفرنسية.
وفي بيت ذي أربع حجرات شبيه بسائر البيوت التي تبنى لسكنى السود، وفي ضاحية من ضواحي «جوهانسبرغ» اسمها «بينوني» تكتظ شوارعها الضيقة بالصبية، يقيم كاتبنا الثالث «سيفو سيباملا»، وهو من السود، ويدير مركز «اتحاد الفنانين السود». وقد اشتهر بوجه خاص بقصائده المكتوبة باللغة الهجينة لسكان المدن، تلك اللغة التي هي خليط من الإنجليزية و«الزولو» والـ «سيزوتو». وقد ولد شاعرنا عام 1932 في منجم الذهب. وكان أبوه أستاذاً قديماً ترك التدريس وأصبح مستخدماً في مكتب للمناجم. وقد اشتهرت له مسرحية كتبها عام 1964 ولم تسمح الأوضاع السياسية بتمثيلها. ومنذ عام 1968 بدأ بكتابة قصائده الشعرية الأولى. ومعظم كتاباته تهكمية هجائية، لأن رجل الشارع كما يقول ساخر وهجّاء بطبعه، وهو أكثر صدقاً وأصالة من الرجل المتعلم.
إحدى المظاهرات في مدينة الكاب ابتهاجاً بإطلاق سراح نيلسون مانديلا
وفي مكتب باهت، ولكنه مليء بالكتب، في جامعة، «ويتس Wits»، يجلس الكاتب «إسحق مفاليلي» الذي عاد إلى قسم الأدب الأفريقي، وهو القسم الذي أنشأه عام 1983 قبل أن يبلغ سن التقاعد عام 1987، وقد ولد الكاتب عام 1919 في بلدة «ماراباستاد Marabastad»، تلك الضاحية الأفريقية (التي غدت هندية) في «بريتوريا». ويحدثنا عن طفولته وحياته قبل أن يغادر بلدته إلى نيجيريا (عام 1957) في كتاب هو بمثابة سيرته الذاتية، عنوانه «هبوطاً نحو الشارع الثاني» ترجم إلى اللغة الفرنسية. وفي نيجيريا، حيث غدا أستاذاً، أدرك أن عليه أن يتعلم الأدب الأفريقي وأن يغتذي بالثقافة الأفريقية التي ما تزال صلبة العود، رغم غزوات الثقافة الأجنبية. وفي ذلك العام (عام 1957) كان الأدب النيجيري في أوج تفتحه، وبدأ كبار الكتاب بنشر مؤلفاتهم الأولى. ومن هنا أنشأ وإياهم نوادي للكتاب والفنانين. بل تعلم الفرنسية ليقرأ نتاج الكتاب الأفريقيين الذين يكتبون بالفرنسية. إن دور الكاتب، كما يقول، هو أن ينقل الأحداث والمشاعر من خلال الخيال أو الشعر أو المسرح أو المقالة. وفي أفريقيا الجنوبية للكاتب دور إضافي هو، على حد قوله، أن يصف آلام المضطهدين؛ وأن ييسر للشعب فهم معنى اضطهاده، وأن يوحي إليه بالوسائل التي تجعله ينزع نير هذا الاضطهاد عنه. وقد منعت كتبه عام 1966 وأخضعت للرقابة.
2- المهاجرون في فرنسة و«فلسفة الدمج»:
كلنا يذكر تلك الأجواء المحمومة التي اجتاحت فرنسة في أواخر العام الماضي، والتي كان محورها «مشكلة الحجاب» وإطارها مشكلة «المهاجرين» في فرنسة وما رافق ذلك من دعوات «لتنظيم» الجماعات الإسلامية في فرنسة!
وقد استمرت هذه المشكلة حية، بأشكال مختلفة. لا سيما بعد أن طُرحت مسألة مشاركة المهاجرين في التصويت في الانتخابات المحلية.
غير أن من الهام أن نتحدث عن مذهب الدولة في ميدان الهجرة هذا، لا سيما أن هذا المذهب الذي بدأ يتبلور شيئاً بعد شيء في الآونة الأخيرة يحمل معاني ثقافية ينبغي أن تناقش. وتنطلق نظرية الدولة هذه من مبدأ قوامه أن معظم المهاجرين سوف يبقون في فرنسة ويقيمون فيها إقامة دائمة. ومن هنا فالمسألة عند الدولة ليست «مسألة تعايش بين جماعات لا يرتد أحدها إلى الآخر». وإنما هي مسألة إتاحة الفرصة «لكل أسرة» (أو جماعة) من أصل أجنبي لأن «تكتسب المواطنة الكاملة»، انطلاقاً من المبادئ الفرنسية الأساسية، مبادئ العلمانية والتسامح والتضامن. ومن هنا ينبغي أن تعامل هذه الجماعات معاملة سواها، انطلاقاً من مبادئ الحق العام، وينبغي ألا تكون هنالك نظم خاصة أو مؤسسات لها طابعها النوعي المميز.
وواضح أن هذه الفلسفة التي تبدو في ظاهرها فلسفة منطلقها المساواة بين المواطنين الفرنسيين جميعهم، مهاجرين كانوا أم أصليين، تناقض سائر الاتجاهات الحديثة التي ينادي بها المفكرون وتدعمها المنظمات العالمية والمنظمات التابعة لهيئة الأمم المتحدة بوجه خاص، تلك الاتجاهات التي تؤكد حق كل جماعة في المحافظة على هويتها الثقافية وأصالتها الذاتية. ولئن كان في المذهب الذي تجنح الحكومة الفرنسية إلى الأخذ به جوانب إيجابية تتصل بحقوق المهاجرين وبضرورة تحسين أوضاعهم الحياتية والاجتماعية وبلوغهم شأن سواهم من المواطنين، فإن هذا المذهب يمضي بعيداً في عملية «الدمج» ويبسّط المشكلة حين ظن أن من السهل (فضلاً عن أنه من غير الجائز) إذابَة الثقافة العربية الإسلامية لدى المهاجرين العرب والمسلمين في فرنسة في بوتقة ثقافية فرنسية جامعة. بل لعل هذه «الإذابة» وذلك «الدمج» ليسا من مصلحة تلك الثقافة الفرنسية التي تغتني دون شك عن طريق حوارها مع الثقافات الأخرى لا عن طريق طمسها لها، والشعار الواجب والممكن هو عندنا شعار «بناء مجتمع متنوع الثقافات»، وليس الشعار السليم والممكن هو بناء مجتمع وحيد الثقافة أو مسطّح الثقافة كما يقال.
وفي هذا الإطار نقع على مقالين هامين نشرا متقابلين في صحيفة «الموند» بتاريخ
8 شباط / فبراير 1990، الأول للأستاذ المغربي «جمال الدين بن شيخ»، أستاذ الأب العربي في العصر الوسيط في جامعة باريس الثامنة. والثاني بقلم المستعرب الشهير «أندريه ميكل Andri Miquel» الأستاذ بالكوليج دي فرانس. وكلا المقالين يتحدثان بأسلوب رائع عن زيف المشكلة، مشكلة المهاجرين العرب إلى فرنسة. فالأستاذ «بن شيخ» يحدثنا عن «تعايش» الثقافة العربية والثقافة الفرنسية لديه، وعن اغتذائه بكلتيهما، وعن انعدام التعارض بينهما في أعماق فكره ونفسه. والأستاذ «ميكل» يحدثنا عن امتزاج الثقافة العربية لديه بالثقافة الفرنسية، حتى أنه يقرض الشعر باللغة العربية. وينادي بدولة فرنسية «لا تستبعد أحداً»، ولا تنكر أي ثقافة. ولا يرى أي حرج في أن تكون فرنسة «بلد الإسلام» (بل هي اليوم كذلك) ما دام كل من الطرفين يحترم الآخر. وليس الهام في نظره أن يختار المسلمون الذي يعيشون في فرنسة سبيل الاندماج بالثقافة الفرنسية أو سبيل التعلق بحضارتهم وثقافتهم الأصلية، بل الهام أن يكونوا أحراراً في اختياراتهم، سواء منها الاقتصادية أو التشريعية أو الثقافية. ويشير من خلال تجربته الشخصية، إلى اغتناء كل من الثقافة العربية والثقافة الفرنسية بعضهما ببعض، ويقول في هذا: «من ذلك الكنز الهائل من الأدب العربي خلال أربعة عشر قرناً، حفظتُ بعض النصوص التي أرتبطُ بها اليوم ارتباطاً جوهرياً لا يقل عن ارتباطي بأفضل ما أحب من كنوز أوروبا وكنوز فرنسة الأدبية».
رابعاً: كتب جديدة هامة:
كما ذكرنا في مطالع هذه الرسالة، تغص أسواق باريس في هذا الفصل بالنتاج الغزير المتدفق. ومعظم هذا النتاج قمين بأن نتريث عنده. ولكن لابد مما ليس منه بد. لابد من الاقتصار على القليل من كثير الكثير.
1- رسائل «سيمون دوبوفوار» إلى «سارتر»:
عنيت الصحافة عناية فذة برسائل «سيمون دوبوفوار» إلى «سارتر»، تلك الرسائل التي نشرتها دار «غاليمار» مؤخراً في مجلدين كبيرين: أولهما يخص الفترة الواقعة بين 1930 – 1939 (في 406 صفحات)، وثانيهما يخص الفترة الواقعة بين 1940 – 1963 (في 450 صفحة).
ومعظم هذه الرسائل التي نشرت حديثاً، نعني رسائل دوبوفوار إلى سارتر، كانت بفضل انفصالهما أحدهما عن الآخر في بعض الفترات. وأكثرها تم تبادله عندما كان «سارتر» يشارك في الحرب العالمية الثانية، جندياً ثم سجيناً، بينما كانت هي رابضة بالنيابة عنه بباريس عند ساحة «فافان» الشهيرة بمقاهيها، تستقبل الأصدقاء والصديقات والرائح والغادي. وكان عمر سارتر في ذلك الحين ثلاثاً وأربعين سنة، وعمر دوبوفوار إحدى وثلاثين سنة.
لقد كان يغلب على الظن حتى حين، أن تلك الرسائل التي تكمل رسائل سارتر إلى سيمون دوبوفوار – التي نشرت عام 1983 تحت عنوان «رسائل إلى كاستور» (وكاستور هو الاسم الذي أطلقه سارتر على «سيمون») – قد فقدت. فإذا بها تظهر صدفة بعد وفاة «سيمون دوبوفوار» عن طريق ابنتها بالتبني. وقد نشرت هذه الرسائل كما هي، دون أي رقابة عليها، بخلاف ما كان عليه الأمر عندما نشرت رسائل سارتر إلى «كاستور»، باعترافها هي نفسها. وتحتفظ المكتبة الوطنية بجميع المراسلات بين سارتر وبفوار كاملة تقريباً. ومن هنا ينتظر الناس صدور مؤلف كامل يتيح الكشف عن «قصة حياة» الكاتبين كاملة غير منقوصة.
في هذه الفترة كانت «سيمون» تكتب إلى سارتر كل يوم تقريباً (وكان هو أيضاً يفعل مثل ذلك)، وقد عزما على أن يبوح كل منهما للآخر بكل شيء. وهكذا حكت له في رسائلها قصة حياتها اليومية بدقائقها، من خلال روح مضحكة وحرية في التعبير يصعب تخيل مثلها. لقد كانت شرسة في الملخصات التي كانت تقدمها لما تقرأ من كتب. وكانت لاذعة في تصويرها للناس، وفي وصفها لأنماط السلوك التي تبدو لها كريهة. وكانت رقيقة مع الأشخاص الذين تجد لديهم الكرم والجمال، بينما لا تعرف الرحمة مع الأشخاص الجفاة الأدعياء..
ولم تغفل في هذه الرسائل الحديث عن نزهاتها ووصف مشاهد الطبيعة التي تمر بها، رغم أن «سارتر» كما هو معروف، لم يكن يشاطرها تذوقها للطبيعة. وطبيعي أن تتحدث في هذه الرسائل عن حياتهم الخاصة المشتركة وعن أسرارهما وعن دخائل أجوائهما العاطفية، وأن تتحدث كذلك عن مشكلاتها المالية. ولكن عبر هذا كله، يقع القارئ على تأملات عميقة في الحياة ومعانيها، وعلى الأسلوب الفريد في التفكير الذي لا يفقد صاحبه مع ذلك الرغبة في أن يحيا حياة مليئة عامرة، وعلى تلك الإرادة الخارقة التي ترفض الرضوخ والاستسلام.
2- كتاب عن «الاشتراكية – الديمقراطية»:
في حميا التغيرات السريعة التي تمت في بلدان شرقي أوروبا، خطر لكثير من الكتاب، وهم يبحثون عن بديل للنظام الشيوعي الذي اهتزت أركانه، أن يعودوا من جديد إلى نظرية «الاشتراكية – الديمقراطية» التي نادى بها كما نعلم، منذ مطلع الثورة الشيوعية، «كاوتسكي Kautsky» و«باور Otto Bauer» وسواهما.
ومن أبرز من أغراه هذا العود إلى «الاشتراكية – الديمقراطية» كاتبان فرنسيان هما «آلان بيرغونيو Alain Bergouniousc» و«برنار مانان Bernard Manin» في كتاب ظهر لهما مؤخراً عنوانه «النظام الاشتراكي – الديمقراطي»، نشرته «دور النشر الجامعية PUF» (في 190 صفحة).
على أن قصة هذين الكاتبين مع الاشتراكية الديمقراطية ليست حديثة، ولا تنبع من أحداث أوروبا الشرقية وحدها. ففي عام 1979 نشرت «دور النشر الجامعية» أيضاً لهما كتاباً عنوانه «الاشتراكية الديمقراطية أو الحل الموفِّق». وفيه يتحدثان عن مراحل نشأة هذه النظرية وعن جذورها في فرنسة وسواها، وعن «كاوتسكي» بوصفه نداً لـ «لينين» وضداً له. وعن مرحلة فضح هذه النظرية ثم عن أنواعها.
أما كتابهما الجديد فيعاودان فيه الكرة مسلحين بمعطيات جديدة وبحقيقة هامة عندهما، وهي أن الدول التي تأخذ بنظام الاشتراكية الديمقراطية الآن (وهي ألمانيا والسويد والنروج والنمسا) استطاعت أن تجتاز الأزمة الاقتصادية الأخيرة بنجاح أكبر من سواها.
ذلك أن مزايا هذا النظام، في نظرهما، أنه يرتبط في جذوره العميقة بالحركة العمالية وأنه يحمل على الديمقراطية البرلمانية حين لا تقوى على تمثيل هذه الحركة، وحين تمثل على العكس من ذلك سيطرة البورجوازية. وهذا التمثيل البرلماني الخاضع للبورجوازية ما يزال هو السائد في معظم الدول الرأسمالية، على عكس ما هي عليه الحال في الدول التي تبنت الاشتراكية الديمقراطية مثل ألمانيا والنمسا والسويد. ففي هذه البلدان يتم تنظيم المصالح العمالية قبل إقامة نظام التصويت العام أو جنباً إلى جنب معه. والتساوي في الحقوق السياسية وتخفيف الفروق الطبقية وتحقيق العدالة الاجتماعية أمور تسير في هذه البلدان في موازاة الحريات السياسية والديمقراطية.
يا عمال العالم اتحدوا، رسم بريشة «ستينلن Steinlen» في خاتمة القرن التاسع عشر
لقد عارض الاشتراكيون – الديمقراطيون حوالي عام 1920، بزعامة «كاوتسكي» أتباع لينين. ورفضوا خلافاً لهم، اللجوء إلى العنف ومبدأ الوصول إلى السلطة عن طريق سيطرة أكثرية برلمانية. ومع ذلك كانوا مثلهم حريصين على إحداث انقلاب فعلي وثورة فعلية في حياة المجتمع عن طريق امتلاك المجتمع لوسائل الإنتاج.
على أن التطور الحاسم لديهم اكتمل ونضج عام 1960. فإلى جانب المنافسة الانتخابية بين العديد من الأحزاب السياسية، بدا لهم أن التعددية تعني أيضاً أن ثمة وجوداً مشروعاً في أي مجتمع للعديد من المصالح المتنافسة والمتصارعة. وهكذا فعلى حزب الأكثرية، بدلاً من ممارسة سلطة مطلقة، أن يخفف من سلطانه ويقيده بأن يأخذ بعين الاعتبار إرادة الأقلية ومصالحها، بحيث يقيم معها في نهاية الأمر ضرباً من الوفاق.
ماذا يستطيع أن يقدم نظام «الاشتراكية – الديمقراطية» من حلول للمعادلة الصعبة، معادلة التوفيق بين الديمقراطية السياسية (بمعنى الحريات السياسية الفردية) وبين الديمقراطية الاجتماعية (بمعنى التحرر من قيود التخلف والفقر والمرض والجهل)؟ سؤال ليس من أغراض هذه الرسالة الإجابة على مثله، فضلاً عن أنه يلتهم الصفحات بل المجلدات. غير أن الاطلاع على هذه النظرية، فيما نرى، اطلاعاً دقيقاً وعميقاً، خطوة لابد منها في معركة البحث عن نظام اجتماعي جديد بإنسان القرن الحادي والعشرين.
3- «بول كينيدي» يكتب عن القوة والثروة:
من الكتب الهامة التي ترجمت إلى الفرنسية ولقيت رواجاً واسعاً كتاب المؤرخ البريطاني «بول كينيدي Paul Kennedy» بعنوان «بزوغ القوى العظمى وأفولها»، وقد نشرته دار «بايو Payot» (في 730 صفحة)، والكتاب تحليل عميق وشامل، منذ عصر النهضة الأوروبية حتى اليوم، للتطور المتلاحم للقوى العسكرية والموارد المالية للدول العظمى.
وقد ظهر الكتاب باللغة الإنجليزية عام 1988، ولقي في الولايات المتحدة رواجاً خاصاً لا يرجع إلى هذه النظرة الخلفية إلى القرون الخمسة الماضية، بمقدار ما يرجع إلى النظرات والإرهاصات المستقبلية التي نجدها في الفصل الأخير حول المستقبل الممكن للخمسة الكبار اليوم، وبوجه أخص إلى الرؤى المتشائمة نسبياً التي توحي إليه بها حال الولايات المتحدة. ذلك أن الكاتب يرى أن الوضع المتحرك والمتغير لعلاقات القوى في العالم يوحي بأن الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي يفقدان بعض سرعتهما، بينما تصعد دول كاليابان والصين، وبينما المجموعة الأوروبية تحمل مفاجآت يصعب التنبؤ بها.
هذه النبوءات يقدم الكاتب بين يديها حججاً مكينة، ولكنها ترتد في نهاية التحليل إلى المتغير الأساسي الذي اصطنعه الكاتب مقياساً لتحديد مسيرة المجتمعات، نعني العلاقة بين القوة الحربية والإمكانات الاقتصادية. وهي علاقة ذات معنى ملتبس مزدوج: ففي مرحلة أولى يكون النمو الاقتصادي شرطاً للقوة الحربية، وفي مرحلة ثانية تغدو النفقات الحربية عبئاً على الاقتصاد وعلى نمو الإنتاج، وقد يكون كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قد أدرك هذه المرحلة التالية، الأمر الذي يجعل كثيراً من المسؤولين الأمريكيين ينبهون إلى مخاطر هذا المصير. وعلى العكس من ذلك يرى «كينيدي» أن الصين واليابان قد عرفتا أن تبقيا نفقاتهما العسكرية ضمن الحدود المعقولة، مما ييسّر لاقتصادهما الانطلاق حاضراً ومستقبلاً.
4 – ترجمة رواية شهيرة للكاتب الأفريقي «أحمده كوروما Ahmadou Kourouma»:
تمت في الآونة الأخيرة ترجمة رواية للكاتب الأفريقي الشهير «أحمده كوروما» وعنوانها «موني، إهانات وتحديات»، وقد نشرتها دار «سوي» بباريس. ولقد كان جديراً بهذه الرواية أن تسمى «قصة سنوات الرمل والدم والجيفة»، بدلاً من ذلك الاسم الرمزي (موني Monne)، الذي يعني في آن واحد الإهانة والازدراء والتحدي والإذلال والغضب المستطير.
وصاحب الرواية كاتب أفريقي عملاق، من ساحل العاج، له من العمر ثلاثاً وخمسين سنة، وقد عاش دوماً على دورب النفي والاضطهاد، فلقد طرد من «باماكو» وهو بعد مراهق، لمشاركته في إضراب للطلاب، وبعد سنوات نفي إلى الهند الصينية بعد أن رفض الإسهام في قمع «التجمع الديمقراطي الأفريقي»، وفي عام 1953 اتهم بالمشاركة في مؤامرة، وفقد على أثر ذلك عمله ولجأ إلى الخارج، إلى فرنسا ثم الجزائر. وهكذا تتوالى في حياته المحن ويعرف دروب الشوك صبياً ويافعاً وكهلاً.
الكاتب أحمدوه كوروما
وفي عام 1960 يمسك بالقلم ويخط روايته الأولى «شموس الاستقلال»، وتنشر الرواية أولاً في كندا ثم تنشرها بعد عشرين عاماً دار نشر «سوي» في فرنسا. وتثير الرواية فضائح كثيرة.
ويكتب بعد تلك الرواية الأولى مسرحية عنوانها «قوّال الحق».
ويكتب ويكتب، وأخيراً يكتب روايته التي نحن بصددها والتي هي جديرة بأن نعدها إحدى الحجارة الأساسية للرواية الأفريقية المعاصرة. وفيها يقدم وصفاً لا يعرف الرحمة لمغامرة القارة الأفريقية.