الإيديولوجيا القومية العربية، تطورها ودورها وآفاقها

بحث نشر في مجلة شؤون عربية العدد /60/ – آذار / مارس، 1990

الأيديولوجيا القومية العربية
تطورها ودورها وآفاقها
مقدمة:
لن نخوض في معنى كلمة «إيديولوجيا»، تلك الكلمة التي لم تظهر في اللغات الأجنبية إلا حديثاً. وحسبنا، أمام التعريفات التي لا تعدّ، والتي امتلأت بها الصحف، ونفضتها الأقلام، أن نمضي تواً، وبشيء من التبسيط، إلى المعنى الذي يحمله لفظ «الإيديولوجيا القومية العربية»، وهو معنى يحدد في الوقت نفسه دواعيها ومبرراتها.
مهما نقلّب هذا اللفظ على وجوهه، نجد فيه في النهاية مقوِّماً أساسياً واحداً: وهو أن الإيديولوجيا القومية تعني صياغة قضية الأمة العربية في نظرية شاملة تسمح للنهضة العربية أن تقوم على أسس راسخة وتنطلق انطلاقاً سليماً ومتيناً.
ومنطلق هذا التعريف ووراءه الإيمان بأن الفكر قوة، قوة تاريخية ومستقبلية ثورية، وأن أي عمل سياسي أو اجتماعي أو ثقافي يبغي تطوير الوجود العربي يظل تائهاً ضالاً إن لم يرفده فكر واضح مكين يضيء له الطريق ويهديه سواء السبيل. كما أن أي فكر يظلّ مجرداً وعاجزاً عن التأثير إن لم يغتذ بحركة الواقع وإن لم يغتن بالتفاعل العضوي العميق مع تيار الحياة من حوله. فالعمل دون النظر، كما قيل ويقال، أعمى، والنظر دون العمل مُقْعَد عاجز.
مثل هذا الهم المزدوج، همّ البحث عن نظرية فكرية عملية تستجيب لطبيعة الأمة العربية وتلبي حاجاتها الحاضرة والمقبلة، وتكون تعبيراً صادقاً عن حقيقة كيانها وبنيانها، وعما يمور في داخلها من تطلعات وإرهاصات، هو الذي راود المنظّرين الذين تصدّوا لبناء الإيديولوجيا العربية المنشودة، وهو الذي قاد مسيرتهم عبر دروب قد لا تكون واحدة، ولكنها متلاقية متكاملة في خاتمة المطاف. ولا نغلو إذا قلنا إن الإيديولوجيا القومية العربية بناءٌ شُيّد عبر حركة فكرية متنامية انضافت فيها جهود السابقين إلى جهود اللاحقين، ولا تزال حتى اليوم تتطلع إلى مزيد من النضج والاكتمال، شأن أي فكر حي.

أولاً – تطور الإيديولوجيا القومية العربية:
وإذا نحن أردنا أن نرصد تطور هذه النظرية القومية العربية، في معركتها مع الحياة والواقع، أمكننا أن نشهد فيها مراحل متآخذة متكاملة، وإن لم تكن متشابهة. ذلك أن الأمة العربية، بعد أن تمزقت أشلاء في عصور الانحطاط، وبعد أن أخذت تعاود نهضتها الحديثة منذ حملة نابوليون على مصر بوجه خاص (وإن تكن بواكير تلك النهضة بدأت قبل ذلك)، مضت في طريق ممتدة تبحث عن ذاتها الموحدة من جديد، وأخذت تولّد عبر الأحداث نظرية قومية قوامها عنصران بارزان: تأكيد وجود أمة عربية واحدة لها هويتها وخصائصها المشتركة، والبحث في أهداف ووسائل بناء هذه الأمة العربية الواحدة.
وإذا أردنا تقديم صورة مبسطة، قد تكون مخلّة، لتطور هذه الإيديولوجيا العربية عبر مسيرتها، أمكننا أن نتريث عند المراحل الكبرى الآتية:
1- مرحلة تحديث الفكر العربي الإسلامي:
أولى هذه المراحل مرحلة تحديث الفكر العربي الإسلامي التي تمت في عصر محمد علي، ذلك العصر الذي امتد أثره فشمل، إضافة إلى مصر، بلاد الشام (سورية ولبنان وفلسطين) والعراق وسائر البلاد العربية. وفي هذه المرحلة تمّ التأكيد، كما نعلم جميعاً، على أهمية دخول البلاد العربية (والإسلامية) العصر الحديث وضرورة الاقتداء بالحضارة الأوروبية، لا سيما في مجال العلوم والصناعات وشؤون الحرب. وهذا ما عبّرت عنه بوجه خاص كتابات خير الدين التونسي (1810-1890) ورفاعة الطهطاوي (1801-1873) وأحمد فارس الشدياق (1805-1887) وإلى حد ما أفكار جمال الدين الأفغاني (1839-1897) ومحمد عبده (1849-1905).
ولم يحمل هذا التيار في ثناياه دعوة واضحة إلى القومية العربية. ولكن دعوته إلى تجديد الفكر الإسلامي هي بطبيعة الحال دعوة إلى تجديد الفكر العربي، ذلك الفكر الذي يكوّن الفكر الإسلامي أهم مقوماته.
على أن إبراهيم باشا، ولا سيما بعد الحملة المصرية على بلاد الشام، بثّ في نداءاته فكرة البعث القومي. ثم إن مصلحاً كبيراً بزغ في تلك الفترة، هو عبد الرحمن الكواكبي (1904-1954)، دعا دعوة واضحة وصريحة، ولا سيما في كتابه «أم القرى»، إلى بذل الجهود في سبيل نهوض العرب وفي سبيل تضامنهم، بل اقترح من أجل ذلك انعقاد مؤتمر موسع يضم مندوبين من الأقطار العربية المختلفة، إلى جانب آخرين من بعض الأقطار الإسلامية، يجتمع في «مكة أم القرى» للتداول في المشكلات التي تواجه المجتمعات البشرية عموماً والمجتمع العربي على وجه الخصوص.
وفوق هذا كله رأى عبد الرحمن الكواكبي أنه لابد من تعديل ميزان القوة ضمن الأمة، ومن نقلها مجدداً من أيدي الأتراك إلى أيدي العرب. فالعرب وحدهم يستطيعون حفظ الإسلام من الفساد، لمركز الجزيرة العربية في الأمة، ولمكانة اللغة العربية في التفكير الإسلامي.
تضاف إلى هذا كتابات عبد الله النديم (1844-1886) لسان حال عرابي ورفاقه في مصر، تلك الكتابات التي عبّرت للمرة الأولى عن مفهوم «الأمة»، وإن تكن الأمة التي عناها عبد الله النديم هي الأمة المصرية. على أن دعوته إلى الوحدة الوطنية التي تشمل في نظره المسلمين والأقباط، دعوة تكمن في أعماقها بذور القومية العربية التي توحّد في العروبة بين أبناء الديانات المختلفة الذين عاشوا على الأرض العربية واغتذوا بالتراث العربي المشترك.
وفي الجملة قدّمت هذه المرحلة عطاء فكرياً هاماً أسهم دون شك في تطور الفكر القومي بعد ذلك، وذلك حين دعا دعوة حارة إلى القضاء على التخلف والجمود والاستبداد وسواها، وإلى مجاراة الغرب في التنظيمات الدنيوية، منكراً وجود تعارض بين التقدم والعمران والعلم الغربي وبين منطلقات الدين الإسلامي، مؤكداً دعوة الإسلام إلى العلم والحرية وحقوق الإنسان والعمل والإنتاج وحسن استخدام الموارد الاقتصادية وسواها من مقومات التقدم.
2- التيار المناهض للهمينة العثمانية:
وقد تلت هذه المرحلة مرحلة ثانية سقت من روحها إلى حد بعيد وزادت عليها. نعني بها تلك التي اتسمت بولادة تيار قومي عربي مناهض للسلطنة العثمانية. وقد ولد هذا التيار بوجه خاص لدى المسيحيين العرب، غير أن المسلمين وسائر الطوائف ما لبثت حتى شاركت فيه مشاركة زادت اتساعاً يوماً بعد يوم. وقد كان من رواده في أواخر القرن التاسع عشر بطرس البستاني (في جريدة: الحنان) وكانت دعوته (مع أتباعه الذين ألّفوا جمعية سرية) إلى اتحاد أبناء سورية بوجه خاص وإلى الاعتراف باللغة العربية. غير أن هذا التيار ما لبث حتى لبس طابعاً عربياً شاملاً، وأخذ متبعوه يتحدثون عن كيان عربي وعن ثقافة عربية، على نحو ما نجد بوجه خاص لدى إبراهيم اليازجي وابنه ناصيف اليازجي، ثم نجيب العازوري (ولا سيما في كتابه «يقظة الأمة العربية» المنشور باللغة الفرنسية عام 1905).
وقد رفد هذا التيار وداخَله تيار ثقافي جعل من إحياء الثقافة العربية المدخل الطبيعي لتأكيد وجود الأمة العربية وهويتها. وتجلّى هذا التيار في إحياء الآداب العربية والتاريخ العربي وسواهما من قبل كتاب عديدين ظهروا في مصر وفي بلاد الشام، وكوّنوا في كثير من الأحيان جمعيات ثقافية استهدفت بعث الأمة العربية عن طريق التعريف بثقافتها وتراثها الأدبي والفكري (فعلة الجاحظ وابن قتيبة وسواهما قديماً عندما حاولا الرد على الشعوبية عن طريق بيان سبق العرب في ميادين الأدب وسواها). وقد غذّى هذا التيار في فترة متأخرة كتاب شهيرون أمثال شكيب أرسلان الذي أصدر من سويسرا مجلة اسمها «الأمة العربية» ومن أمثال صديقه رشيد رضا الذي كان ذا اتجاه إسلامي، غير أنه، كشكيب أرسلان، كان يفكر في الإسلام العربي وكان ينظر إلى المسلمين الآخرين «كتلامذة للعرب»، كما كان يؤمن بإمكان التوفيق بين القومية العربية والوحدة الإسلامية توفيقاً يستحيل في نظره في غيرها من القوميات. ولا غرابة، فكلا شكيب أرسلان ورشيد رضا كانا يقولان بأن نهضة الأمة الإسلامية هي نهضة العرب، وأن العرب حراس لغة الإسلام وحراس الأماكن المقدسة. وقد عبّر رشيد رضا عن ذلك أوضح تعبير في حديثه عن نفسه حين قال: «فإسلامي مقارن في التاريخ لعروبتي.. قلت إنني عربي مسلم، فأنا أخ في الدين لألوف الألوف من المسلمين من العرب وغير العرب، وأخ في الجنس لألوف الألوف من العرب المسلمين وغير المسلمين»(1).
وفي الجملة كان لهذه المرحلة فضل السبق إلى منح الأمة العربية هوية ذاتية مستقلة عن الدولة العثمانية، وإلى الدعوة غالباً إلى قومية عربية «علمانية»، بمعنى أنها لا تفرق بين الأديان، وتقول بوجود تراث عربي إسلامي ينتمي إليه المسلمون والمسيحيون معاً.
3- المرحلة السابقة على الحرب العالمية الأولى:
أما المرحلة الثالثة في تطور الفكر القومي فقد كانت المرحلة السابقة على الحرب العالمية الأولى، وهي مرحلة اتسمت بنشاط فكري وسياسي بارز أسهم فيه الشباب والطلاب والضباط الصغار والصحفيون والمثقفون، وكان موجهاً ضد سياسة التتريك بوجه خاص. وقد رافقها ظهور جمعيات وطنية سرية نشيطة، قام بها شبان بين العشرين والثلاثين من العمر غالباً، كجمعية «الفتاة» التي أسسها مجموعة من الشبان السوريين الذين يدرسون في باريس، والذين كانت لهم اليد الطولى في تنظيم المؤتمر العربي الأول في باريس في أواسط عام 1913، متعاونين مع زعماء حرب اللامركزية الإدارية العثماني. ومن الأعضاء القياديين لتلك الجمعية عبد الغني العريسي (الذي ولد عام 1894، والذي أعدم عام 1916 مع المجموعة الثانية التي حصدتها أعواد المشانق).
وهكذا تبدّى عطاء هذه المرحلة كما نرى في تحويل حركة القومية العربية إلى حركة سياسية تجلّت في تقديم أولى القرابين من أجلها. وقد توّجت هذا النضال في سبيل استقلال الأمة العربية وتأكيد هويتها الثورة العربية الكبرى التي قادها الحسين بن علي ضد العثمانيين أثناء الحرب العالمية الأولى، أملاً في أن يحقق الحلفاء وعودهم له بإنشاء دولة عربية مستقلة. وقد جاء نقض الحلفاء لوعودهم هذه بعد انتهاء الحرب، واتفاقهم على تجزئة الوطن العربي وتقاسمه بينهم في معاهدة «سايكس – بيكو»، منطلقاً لنضال عربي عنيد ضد الاستعمار. وظلت الثورة العربية التي قادها الحسين من أجل إنشاء دولة عربية واحدة أملاً كبيراً يطوّف في أذهان أبناء الأمة العربية، ويثوي وراء نضالهم المرير ضد الاستعمار، ويغذّي تصوّرهم للوجود العربي الموحد. ولا نغلو إذا قلنا إن صورة الدولة العربية الواحدة كما أرادها الحسين كانت ولا تزال الأفق الذي تعدو نحوه جماهير الأمة العربية. وهكذا أكّدت هذه الثورة، منذ ذلك الحين، من خلال مسيرتها ومصيرها، الارتباط الوثيق بين التحرر من الاستعمار وبين تحقيق الوجود العربي الواحد.
4- مرحلة ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية:
من هنا التصقت المرحلة الرابعة في تطور الحركة القومية والفكر القومي، نعني المرحلة التالية للحرب العالمية الأولى، بسمتين غالبتين: أولاهما تأكيد أهمية وحدة النضال ضد الاستعمار في سبيل تحقيق الوجود العربي الموحد المستقل، وثانيتهما تأكيد النظرية القومية، التي بدأت تتبلور منذ ذلك الحين، على الطابع العاطفي، طابع الحنين إلى دولة عربية لم تتحقق على يد الحسين، وكان فشلها فشلاً للجهود الممتدة التي قام بها الكثيرون ممن ناضلوا من أجل استقلال الدولة العربية عن الإمبراطورية العثمانية، والحنين إلى كيان عربي كان في أيام ازدهارها موحداً، قبل أن تحطم وحدته عصور الانحطاط وما رافقها من غلبة أخلاط المغول والتتر والترك وسواهم من العناصر الدخيلة (لا سيما بعد سقوم بغداد على يد هولاكو عام 1258 م).
وقد تجلت الدعوة إلى الوحدة وإلى القومية العربية في هذه المرحلة اللاحقة لدخول الاستعمار في تيارين يغذي أحدهما الآخر: أولهما سياسي يتجلّى في دعوة رجال السياسة إلى النضال المشترك بين الأقطار العربية من أجل مقارعة الاستعمار، انطلاقاً من شعارات لا تخلو من رومانسية، تؤكد وحدة الأمة العربية ووحدة ماضيها وآلامها وآمالها، وتُبين بوجه خاص أهمية تضامنها من أجل التخلص من كابوس الغرب المستعمر. وثانيهما فكري يدعو العرب إلى الوحدة وإلى النهوض من الرقاد، ويعبئ مشاعرهم ووجدانهم في سبيل عمل مشترك ضد العدو المستعمر. وقد جاوز هذا التيار أحياناً مجرد الدعوة إلى الوحدة وإلهاب المشاعر، وانطلق نحو بناء نظرية قومية، حاول من خلالها تحديد مفهوم القومية، وبيان العوامل القومية المشتركة بين أبناء الوطن العربي، ورسم أهداف القومية العربية. وهذا ما يتجلّى واضحاً لدى أمين الريحاني (1876-1940) في مؤلفاته العديدة. وعلى الرغم من عمق الأفكار القومية التي أتى بها الريحاني في ذلك الطور المبكر، وعلى الرغم من اتجاهه التقدمي الذي يعتبر القومية العربية مفهوماً يهدف إلى نقل الوطن العربي من مرحلة التخلف والتبعية إلى مرحلة دخول العصر والإسهام في بناء الحضارة العالمية، ظل إسهامه في هذا الميدان مقصوراً على بيان أسس القومية دون الوقوف عند محتواها ومضمونها إلا لماماً.
وعرفت الفكرة القومية في موازاة هذه المرحلة وما بعدها مداً رائعاً، وأخذت نظريتها تتضح وتنضج، مكملة ما تم في المراحل السابقة، وظهر روّاد كبار للفكر القومي كانوا من أبرز القوى الفاعلة في مسيرتها. وعلى رأس هؤلاء ساطع الحصري وقسطنطين زريق وأقطاب الفكر البعثي وعبد الناصر والحركة الناصرية.
وقد سقت هذه المرحلة الجديدة أفكارها الكبرى والمحدثة في كثير من جوانبها من كثير من المتغيرات التي طرأت على الواقع العربي: فإلى جانب الاستعمار برزت الصهيونية وقامت دولة إسرائيل. والعالم الغربي عرف قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها بزوغاً صارخاً للإيديولوجيات المتصارعة، ولا سيما الإيديولوجيا الرأسمالية والإيديولوجيا الشيوعية. والهوة بين البلدان المتقدمة والبلدان المتخلفة أخذت في التزايد، لا سيما بعد ظهور الثورة العلمية التكنولوجية. والوطن العربي لا يزال يشكو التجزئة والتخلف، ولا تزال بعض أقطاره تعاني من الاحتلال الأجنبي. والصراع بين الطبقات الحاكمة في البلاد العربية وبين الحركات الشعبية آخذ في الازدياد، والحرية فيها والعدالة الاجتماعية وجهود التحديث لا تزال بعيدة عن مطالب الجماهير.
وفي وسعنا أن نقول إن التيارات القومية الثلاثة الكبرى التي ظهرت في ذلك الحين، نعني التيار الذي يمثله ساطع الحصري والتيار الذي يحمل لواءه قسطنطين زريق، والتيار الذي ولّده البعث ثم الناصرية، تيارات متكاملة رغم تباينها، بل هي بتعبير أصح تيارات تعبّر عن مراحل متصاعدة في الفكر القومي، يجاوز اللاحق منها السابق.
(أ) فالفكر القومي الذي أتى به ساطع الحصري كان بمثابة أبجدية العمل القومي. لقد حاول من خلاله أن يؤكد وجود أمة عربية واحدة، عن طريق مفهوم الأمة ومفهوم القومية جملة وبيان عناصره، وعن طريق استنطاق التجارب العالمية، وعن طريق تحليل الوجود العربي، كيما يصل في النهاية إلى تحديد مقومات القومية العربية الأساسية (اللغة والتاريخ بوجه خاص)، وكيما يثبت وجود أمة عربية واحدة توافرت لها مقومات الوحدة على أكمل وجه. وقد ميز نتاجه بشكل خاص ذلك الجدل الذي ساقه مع عدد من دعاة القومية الإقليمية، ولا سيما بعض الكتاب المصريين الذين كانوا يدافعون في ذلك الحين عن قومية مصرية خالصة أمثال لطفي السيد وطه حسين، فضلاً عن أولئك الذين يدافعون عن قومية فينيقية في لبنان أو عن قومية سورية (أمثال أنطون سعادة).
ولم يحاول الحصري في كتاباته أن يبحث في السبل المؤدية إلى تحقيق الوحدة العربية أو في مقومات النضال اللازم لتحقيقها أو في المضمون الاجتماعي والسياسي والمؤسسي لتلك الوحدة. ويرجع ذلك إلى سبب أساسي وهو أنه كان مفكراً قبل أن يكون رجل سياسة، وإلى شعوره بالحاجة الماسة، حتى من أجل العمل السياسي فيما بعد، لتوضيح مفهوم القومية العربية وأسسها، ولتأكيد المقومات التي تجعل من الأمة العربية أمة واحدة، ولتوضيح العوامل والبواعث التي تدعو إلى إنشاء كيان عربي موحد في تلك المرحلة التي تمر بها الأمة العربية.
ومن هنا يتجنى الكثير من النقاد المحدثين على فكره حين يتهمونه بأن القومية فيه ظلّت جوهراً متعالياً، دون أن تكون هدفاً للنضال السياسي، وبأنه أهمل التحليل الطبقي الخ..(2) ذلك أن عطاءه، كما قلنا ونقول، عطاء فكري قبل أن يكون سياسياً، أراد من ورائه وضع الأسس الفكرية الراسخة التي تؤكد توافر مقومات القومية في الوجود العربي، والتي تجعل للعروبة مكان الصدارة في مواجهة الواقع العربي المجزأ. لقد أراد أولاً وآخراً أن يخلق الإيمان بالعروبة. وليس من الصحيح، كما يقول بعضهم، أنه جعل هذا الإيمان بدهياً، بل كان همه الأول في الواقع أن يبنيه على أسس منطقية عقلية، وأن يولّده من خلال استقراء تجارب الأمة بوجه عام وتاريخ الأمة العربية بوجه خاص، إضافة إلى مطالب حاضرها ونداءات مستقبلها.
ومهما يكن من أمر فإن فكر الحصري يمثل مرحلة، مرحلة هامة دون شك، ومرحلة لابد منها، من خلالها انطلق العمل القومي إلى آفاق أعمق وأشمل وأفعل.
(ب) أما قسطنطين زريق فقد تريث عند جانب جدير بالعناية، لم يتوقف عنده ساطع الحصري كثيراً، ولم تعره الدراسات القومية السابقة حظه الكامل من الاهتمام، رغم أن بذوره مبثوثة فيها جميعها، بل لعله كان منطلق معظم الأفكار القومية التي أشرنا إليها، بدءاً من عصر النهضة العربية. ونعني بذلك الجانب التأكيد على ضرورة بناء مجتمع عربي حضاري حديث، تحكمه العقلانية ويسوده الفكر العلمي، ويغذيه الإبداع، واعتبار تحديث المجتمع العربي على هذا النحو الشرط اللازم لأي عمل قومي فعّال.
ومن هنا بحث زريق، وبحث طويلاً، وبحث دوماً وأبداً، في وسائل بناء المجتمع التقدمي (في كتبه العديدة ولا سيما: «أي غد؟» و«مطالب المستقبل العربي»، و«في معركة الحضارة»، و«نحن والمستقبل»). ورأى أن الوسيلة المثلى هي «الأسلوب العلمي المنضبط والضابط»(3) أو «العقل النامي المنتظم في نفسه وفي سواه»(4). وتساءل طويلاً عن أسباب تخلف الأمم، وعن عوامل انبعاثها ونهضتها، وعن شروط قيام الحضارة وعن مقاييس التحضر، وانتهى دوماً إلى حقيقة واحدة عنده: وهي أن معركتنا القومية في حاجة إلى «صوفية قومية في قلوب القادة وفي نفوس الشعب»(5) تستند إلى «إيمان بالعقل وتوق إلى الحقيقة»(6). والثورية العقلية هي عنده «الضابطة لأي ثورة أخرى والشرط اللازم لنجاحها وثباتها»(7). وحاجات الشعوب، وحاجات الشعب العربي بالتالي في هذه المرحلة، تتلخص في حاجة واحدة هي «العقلانية».
وهكذا يفصّل قسطنطين زريق الحديث عن أهمية تحديث العقل العربي، ويمنح هذا التحديث مكان الصدارة في الفكر القومي، ويجعل من النظرة المستقبلية – قبل النظرة الماضوية (دون أن يهمل دور الماضي والتراث) – التي تحدد معالم بناء المشروع الحضاري العربي المنشود في ضوء العصر ومستلزماته، وفي ضوء المستقبل وإنجازاته الكبرى المرجوة، المنطلَق الأول للعمل القومي العربي. وهو في هذا كله ينطلق من خيط فكري رائد نجده في كتاباته أنّى قصدناها، ومن حجة منطقية عنيدة صامدة، ومن دراية واسعة عميقة بالتجربة العالمية في أبعادها المختلفة، فضلاً عن إلمامه الواسع بالتجربة التاريخية الإنسانية العربية.
ويحاول كثير من النقاد اليوم أن ينعتوا هذا الفكر بنعت «الليبرالية»، وأن يروا فيه صدى للعقلية الليبرالية بوجه عام. ويعنون بالعقلية الليبرالية أو بالمنهج الليبرالي ذلك الاتجاه القومي الذي يرى أن الدولة القومية هي عودة إلى الشيء الطبيعي، وأنها نتيجة حتمية للتطور الطبيعي ذاته(8). كما يعنون بذلك أن هذا المنهج – الذي يمثله قسطنطين زريق في رأيهم – لم يحدد، «أي استراتيجية للنضال الوحدوي، اللهم إلا الانتظام الفردي في العملية النهضوية التحديثية»(9).
ولنا وقفة عند الأفكار الحديثة الناقدة للإديولوجيات العربية السابقة. وحسبنا أن نعيد القول ههنا أيضاً أن قسطنطين زريق، شأنه شأن ساطع الحصري، لم يكن سياسياً بمقدار ما كان مفكراً (وإن انتسبت إليه حركة القوميين العرب في بدايتها الفكرية)، وأن الذي كان يعنيه هو استكمال أبعاد النظرية القومية. ولعله وقع في دور فاسد (حلقة مفرغة) حين بيّن أهمية تحديث العقل العربي من أجل بناء الأمة العربية، وحين بيّن في الوقت نفسه، انطلاقاً من مسلّماته القومية، أن تحديث الوجود العربي لا يكون دون الإيمان القومي ودون العمل القومي. وقد يسقط الدور الفاسد حين ندرك أن الصلة بين التحديث والعمل القومي صلة دائرية وليست صلة خطية (صلة علة ومعلول) وأن العمل لهما معاً ينبغي أن يقوم جنباً إلى جنب. ومهما يكن من أمر، يرجع الفضل إلى قسطنطين زريق في التأكيد على العنصر الفكري الذاتي، عنصر تكوين العقل الحديث، في بناء عوامل تغيير المجتمع وتطوير بناه. وهو في هذا يمثل الطرف المناقض للاتجاه الذي يرى أن «التخلف هو في الأساس حالة نظام ومجتمع ومؤسسات وبنى اجتماعية اقتصادية سياسية قبل أن يكون حالة عقلية»(10).
(ج) أما الفكر القومي لحزب البعث العربي الاشتراكي فقد تجاوز النظرات الجزئية إلى هذا الجانب أو ذاك من مقومات النظرية القومية العربية، وأراد أن يقدم تصوراً شاملاً متكاملاً للإيديولوجيا العربية المنشودة. وقد يسّر له هذه المهمة أنه خاض معركة العمل السياسي من خلال منطلقاته الفكرية، وأنه لم يكتف بوضع الأسس العامة لنظريته في القومية العربية، بل أراد أن يجعل من وعي هذه النظرية أداة لتكوين طليعة قادرة على تغيير المجتمع العربي وبناء وجوده القومي. بل إن نظريته نفسها لم تكن مجرد عمل فكري يحلل ويدرس ويستخلص، كما كان عليه الأمر من قبل، بل هي إلى حد كبير وليدة المعاناة، معاناة الواقع والنضال، الأمر الذي جعلها أقدر على التعبير عن حاجات الأمة العربية العميقة، ويسّر لها الإرهاص بمطالب المستقبل العربي من خلال الحياة مع الواقع العربي وضد مفاسده. ومن هنا نمت هذه النظرية عبر الطريق، وإن تكن منذ البداية قد أدركت المنطلقات الأساسية لمحتواها.
وقد ولد الفكر البعثي في فترة بزغ فيها في العالم نجم الماركسية. كما ولد الفكر البعثي وسط معركتين ملتهبتين: معركة مقارعة الاستعمار الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة في كثير من البلدان العربية، ومعركة تحرير فلسطين التي أصبحت الشعار الأول للعمل العربي قبل قيام إسرائيل وبعد قيامها عام 1948. وصاحب ذلك كله عجز معظم الفئات العربية الحاكمة في ذلك الحين عن قيادة المد الشعبي ضد الاستعمار، وعن تحقيق مطالب الجماهير المطالبة في كل مكان من الأرض العربية بالقضاء على المرض والجهل والفقر، فضلاً عن عجزها عن التغلب على حواجز التجزئة، ونزوعها إلى تثبيت الكيانات القطرية المجزأة.
وهكذا توافرت للفكر البعثي عناصر اكتماله ونضجه، وأصبح في وسعه أن يمْتاح من الواقع العربي القائم المَعين اللازم لولادة رؤاه الجديدة، فضلاً عما يقدمه له عمق اتصاله بالتجربة العالمية ودرايته بالتراث العربي وإحاطته بالفكر القومي السابق من نظرة حية إلى الوجود العربي، واعية لمطالب حاضره، مطلّة على مستقبله.
وليس ههنا مجال التفصيل في فكر البعث، فلهذا الفكر مظانّه التي غدت كثيرة. وحسبنا أن نتوقف عند فكرة واحدة تكاد توضح قسماته وهويته، وتكشف عن موطن الجدّة فيه، وهي قوله بالصلة الثلاثية المتآخذة المتكاملة بين العمل للوحدة والعمل للحرية والعمل للاشتراكية.
ولا يعني هذا، كما يتراءى لبعض الناقدين اليوم بكثير من التبسيط الساذج أن الوحدة العربية لا يمكن أن تتم إلا إذا تحققت قبل ذلك الاشتراكية في جميع الأقطار العربية أو في الأقطار العربية التي تود أن تقيم بينها وحدة جزئية. كما أنه لا يعني أن العمل للاشتراكية لا يصح إلا في إطار الوحدة العربية، وأن التجارب الاشتراكية القطرية مرفوضة (رغم أنها لابد أن تكون ناقصة وعاجزة). ولا يعني كذلك أن الحرية ينبغي أن تسبق الوحدة أو العكس. فالذي يعنيه هذا الشعار هو أن بناء الوحدة العربية عملٌ شاق، يحتاج إلى نضال دائب مستمر، وأن هذا النضال من أجل الوحدة، الذي ينبغي أن يتم في كل قطر من الأقطار العربية، ينبغي أن يسعفه نضال عربي شامل من أجل الوحدة، الذي ينبغي أن يتم في كل قطر من الأقطار العربية، تتولاه الجماهير العربية من جانب، كما ينبغي أن يسعفه من جانب آخر النضال من أجل الاشتراكية، أي من أجل تحرير الجماهير العربية من آفاق الجهل والمرض والفقر وإطلاق قوى الخلق والإبداع عندها، من أجل بناء مجتمع حضاري منتج متقدم. كما يعني هذا الشعار أن النضال من أجل الوحدة جنباً إلى جنب مع النضال من أجل التقدم الاجتماعي والاقتصادي والحضاري عن طريق الاشتراكية، ينبغي أن يتم في إطار الحرية، بمعنى التحرر من الاستعمار من جانب، وبمعنى الحرية السياسية بأبعادها المختلفة من جانب آخر، بحيث يقوم تفاعل لا تناقض بين الديمقراطية الاجتماعية التي تحققها الاشتراكية وبين الديمقراطية السياسية التي يدعو إليها مبدأ الحرية. وهذا النضال بأوجهه الثلاثة ينبغي أن يتم في إطار تحرك شعبي عربي يشمل الأقطار جميعها، ويتلاقى عطاؤه ليكون المهاد اللازم لقيام الكيان العربي الموحد المنشود.
وبتعبير موجز، يعني تكامل الشعارات الثلاثة، من جانب، تكامل النضال من أجلها مجتمعة عن طريق العمل الشعبي في الأقطار العربية جميعها، ويعني من جانب آخر، شمول النضال العربي في إطارها جملة الأقطار العربية، بحيث تتكون حركة شعبية قومية عربية قادرة بامتدادها يوماً بعد يوم على نقل الوجود العربي كله إلى المرحلة التي تتحقق فيها تلك الشعارات.
وهكذا تجاوزت الإيديولوجيا القومية التي حدد البعث منطلقاتها المآخذ التي يعاب بها الفكر القومي الذي أتينا على وصف بعض معالمه. فلم تكتف النظرية القومية البعثية بتأكيد مقومات الوجود العربي وببيان أهمية القومية العربية ودورها، بل توقفت عند المضمون الاجتماعي لهذه النظرية القومية. ولم تقتصر نظرية البعث القومي على تحليل مقومات الوجود العربي وعلى تقديم الأدلة على وحدته، بل جاوزت ذلك إلى رسم صورة المستقبل وإلى تقديم الرؤية المنشودة للوجود العربي. وفي رسم هذه الرؤية المنشودة لم تستند إلى البحث العقلي والتحليل النظري، بل جاوزت ذلك إلى بناء أفكارها من خلال معاناة الواقع العربي وتحليله وقيادة النضال فيه.
ومع ذلك ظلت هذه الصورة الكبرى والهامة التي رسمتها على طريق النظرية القومية العربية، منطلقات أقرب إلى الإيجاز منها إلى التفصيل، وأدنى إلى التعميم منها إلى التحليل الدقيق. ذلك أن العمل السياسي قد حال إلى حد كبير بينها وبين استكمال صورة منطلقاتها النظرية، وحال انشغالها بأمور الحكم والدولة دون تقديم تصور شامل كامل ومفصل لكيان الدولة. على أن هذا المبرر يظل ناقصاً. فمن الحق أن نقول إن المنطلقات الغنية والمحملة بالمعاني الكثيرة التي أطلقها الفكر البعثي، على عموميتها وتبعثرها عبر مسيرة النضال، كانت تنتظر المنظّرين والمفكرين والفلاسفة الذين يشبعونها درساً وتحليلاً وتطويراً.
ولا يعني هذا أن فكر البعث لم يشهد من عطاء هؤلاء الشيء الكثير. فلقد شهد هذا الفكر عبر مسيرته، ولا يزال يشهد، جهوداً ثمينة من أجل توضيحه وتحليله وتطويره، ولكنها جهود ظلت مبعثرة ومتباينة أحياناً، ولم يتمّ نظمها في إطار إيديولوجي متكامل.
والحق أن الجانب الإيديولوجي الذي شكا ولا يزال يشكو بعض القلق والنقص، هو الجانب المتصل بالاشتراكية التي يريدها البعث. لقد انطلق الفكر البعثي منذ بدايته من تقرير منطلقات هامة لهذه الاشتراكية: أولها أنها اشتراكية ليست مجلوبة، وإن اهتدت بالتجارب الاشتراكية العالمية، وأن ثمة طريقاً عربية للاشتراكية تتفق مع واقع العرب وتراثهم وقيمهم وحاجاتهم المستقبلية. وثانيها أن هذه الاشتراكية لابد أن ترتبط بالتالي ارتباطاً عضوياً بالتراث العربي. وبالتراث الإسلامي وبالمنطلقات الكبرى في هذا التراث. وثالثها أن الهدف الأساسي لهذه الاشتراكية ليس مجرد رسم الصورة الاقتصادية المادية للحياة العربية، بل هو فوق هذا وقبل هذا بناء حضارة عربية متكاملة في جوانبها الروحية والمادية، عن طريق تحرير طاقات الجماهير المغلولة وإطلاق إمكاناتها المبدعة، وتنظيم المجتمع تنظيماً عقلياً منتجاً فعالاً. وكان لابد من ترجمة هذه المنطقات إلى مشروع متكامل يرسم في ضوئها الصورة المرجوة لشتى جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. ومثل هذا المشروع المتكامل لم يتم بناؤه وإن توافرت الكثير من قسماته ومحتواه.
ولا تثريب على الفكر البعثي في ذلك، فالتجربة الاشتراكية في مختلف دول العالم لا تزال تشهد التجربة والخطأ والمد والجزر(1). ولا نغلو إذا قلنا إن مطلب بناء الاشتراكية العربية، ذات القسمات الخاصة وذات الجذور التراثية العريقة، من أقسى المطالب وأصعبها.
ومهما يكن من أمر فمن النصف أن نقول إن تلك الإيديولوجيا البعثية التي لم تكتمل تفصيلاتها ولم تشهد التفتح اللازم لها، لم تستطع حركة الثورة العربية أن تلحق بها وظلت مقصّرة عنها. ولا نتهم أحداً حين نقول إن الحركة الثورية العربية لم تستطع أن ترقى إلى مستوى إيديولوجيتها. كما أننا لا نتجاهل ولا نقلل من شأن من يرد قائلاً: ولكن الحركة الثورية المكتملة في حاجة إلى إيديولوجيا مكتملة. غير أننا نستدرك فنقول من جديد: أو لم يحل الانغماس في العمل السياسي في شتى مراحله وتشتت ممارساته بين البعث وبين اكتمال نظريته؟ الهام في نظرنا في هذا كله ألا ننسب إلى الإيديولوجيا البعثية تهماً تُسأل عنها الممارسة السياسية، وألا نحمّل الممارسة السياسية تقصيراً تُسأل عنه ثغرات الإيديولوجيا.
(د) ولا أدل على أصالة فكر البعث وعلى صدق تعبيره عن حاجات الأمة العربية انطلاقاً من معرفة ماضيها وواقعها وتلمس صبواتها المقبلة، من أن هذا الفكر وجد نظيراً له في الفكر الناصري(11). فالناصرية تمثل أول تطبيق عملي لفكر البعث دون أن تنتسب إلى البعث. والمنطلقات الإيديولوجية تكاد تكون واحدة لدى الحركتين. وما لم يستطع البعث تطبيقه في البداية، استطاع عبد الناصر، بشخصيته الفذة وقدرته على تحريك الجماهير وبزوغه في أكبر الأقطار العربية وأهمها، أن يترجم جانباً كبيراً منه إلى عمل. لقد استطاع أن يخلق الإيمان القومي العربي لدى الكثرة الكاثرة من أبناء الأمة العربية، واستطاع أن يعبّئ الأمة العربية من أجل مناهضة الاستعمار ومن أجل التحرر من التبعية وتحقيق الكيان الذاتي. وحقق أول تجربة اشتراكية عربية في مصر ثم في الجمهورية العربية المتحدة، وإن أعوزه هو أيضاً (كما أعوز البعث) الإطار النظري لهذه الاشتراكية. ومن هنا انتهج في تحقيقها نهج التجربة والخطأ، ولم يأخذ في تكوين بعض منطلقاتها الفكرية إلا بعد أن وضع مشروع الميثاق عام 1962، ولم تكن تلك المنطلقات مع ذلك وافية. أما الحرية فقد كانت أيضاً شعاراً من شعارات عبد الناصر، كما كانت شعاراً من شعارات البعث، غير أنه فهمها على أنها أولاً وقبل كل شيء تحرير الجماهير والطبقات المحرومة (أي حمّلها معنى الديمقراطية الاجتماعية وحدها) ولم يؤمن بأهمية التنظيم الشعبي وبضرورة قيام المؤسسات الديمقراطية المختلفة التي تشكل البنية الأساسية للحريات السياسية.
وقد كان من أهم نتائج اللقاء العفوي في البداية، الذي تمّ بين الفكر البعثي والفكر الناصري، قيام أول وحدة عربية في العصر الحديث بين مصر وسورية عام 1958. وليس المجال ههنا مجال الحديث عن هذه الوحدة الهامة، وقد ملأ الحديث عنها المجلدات والصفحات وأمواج الأثير. غير أن ما نود أن نذكره، في إطار الحديث عن الإيديولوجيا القومية العربية وتطورها، أن اللقاء بين الفكر الناصري والفكر البعثي لم يتوافر له النمو المرتقب والتفاعل الخصيب في إطار الجمهورية العربية المتحدة، لأسباب عديدة، أهمها الخلاف غير المبرر الذي قام بين البعث وعبد الناصر. ومع ذلك جرى تفاعل فكري عفوي إلى حد كبير بين أبناء الشعب في كلا الإقليمين وبين المفكرين بوجه خاص، ولّد بذوراً جديدة لا تزال آثارها باقية في كل من مصر وسورية.
يضاف إلى هذا أن الإيديولوجيا العربية واجهت للمرة الأولى، في إطار الجمهورية العربية المتحدة، العقبات النظرية والعملية التي تعترض تطبيق شعاري الاشتراكية والحرية، الأمر الذي ولّد هزة خصيبة في الفكر القومي لا تزال آثارها تحرك أقلام الكتاب وأنظار المنظرين وبلاء رجال السياسة.
أما الانفصال، تلك الكارثة الكبرى التي عطلت المدّ العربي ولا تزال تعطله حتى اليوم، فقد ولّد قلقاً إيديولوجياً، أخذ أشكالاً عديدة، بعضها سليم وبعضها ضالّ، بحيث وضعت الإيديولوجيا القومية العربية للمرة الأولى موضع البحث والتساؤل، بل والتشكيك والاتهام. وسنعود إلى هذا التحول فيما بعد.
وفي الجملة، قاد الفكر الناصري تجربة هزت الوطن العربي كله، وغيّرت معطياته، وحرّكت قوى الثورة فيه كما حرّكت القوى المعادية للثورة. وأبرز عطائها تكوّن طليعة عربية قومية في مصر نفسها، تأخذ بشعارات الوحدة والاشتراكية والحرية، وتضع المستوى الثقافي الفكري الرفيع الذي يتوافر في هذا القطر العربي الثريّ كماً ونوعاً في خدمة الإيديولوجيا القومية العربية.
يضاف إلى هذا أن الجمهورية العربية المتحدة كانت بمثابة «بوتقة تجربة» للإيديولوجيا العربية. ولئن أثار فشل تلك التجربة الشكوك لدى بعض المفكرين، فقد كان لدى النافذين إلى أعماق الأمور «برهاناً بالخُلف» كما يقول المناطقة على سلامة الإيديولوجيا العربية، وعلى ما يؤدي إليه فهمها السطحي أو التفريط ببعض منطلقاتها (ولا سيما شعار الحرية وأهمية التنظيم الشعبي) من تعثر في مسيرتها ومن نكسات عبر طريقها الطويل. يضاف إلى هذا أن الانفصال قدّم دليلاً جديداً على أن الاستعمار لا يزال رابضاً على الأرض العربية ومؤثراً فيها، وإن لبس لبوساً جديداً، وأن شعار التحرر من التبعية والعمل الذاتي في شتى ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية شعارٌ ينبغي أن يسود الإيديولوجيا العربية، لا سيما في عصر زالت فيه الحدود السياسية بين دول العالم كما زالت غيرها من الحدود. أو لم يكن شعار الفكر القومي العربي منذ بداياته أن على الأمة العربية، وفي وسعها، أن تنهض بقواها الذاتية؟ أفلا نستطيع اليوم أن نوجز مطالب الإيديولوجيا القومية العربية في مطلب واحد: هو تحقيق العطاء الذاتي للأمة العربية في شتى ميادين الحياة العربية وبناء حضارتها بأيدي أبنائها، وتحقيق الهوية الخاصة بها بالتالي؟.
5- ما بعد الانفصال وما بعد نكسة الخامس من حزيران:
ويمثل ما بعد الانفصال وما بعد نكسة الخامس من حزيران/يونيو 1967 مرحلة خامسة جديدة وهامة في تطور الإيديولوجيا القومية العربية.
لقد أشرنا منذ قليل إلى أن الانفصال أثار قلقاً إيديولوجياً إيجابياً حيناً وسليباً حيناً آخر. ثم جاءت نكسة 1967 فأحدثت زلزالاً عنيفاً في بنية الوجود العربي والفكر العربي.
ونستطيع أن نقول إن نكسة 1967 – على النقيض من كارثة الانفصال – أحدثت في البداية آثاراً فكرية إيجابية. فلقد أفرزت ظاهرة جديدة، هي ظاهرة انتصار المثقفين على رجال السياسة، انطلاقاً من فشل السياسيين في قيادة المعركة وحدهم بعد أن أسكتوا، إلى حد كبير، أصوات المثقفين وأصوات الجماهير الشعبية من خلفهم. ومن هنا عاد الفكر إلى الساحة متحدياً عنيداً بل عنيفاً. وقام في شتى أرجاء الوطن العربي نقدٌ لا يعرف الرحمة، يعرّي الوجود العربي ويكشف عن جوانب الضعف فيه، في كثير من الجرأة والصدق. وقد تمّ هذا النقد الفكري انطلاقاً من رغبة كانت لا تزال عارمة جادة في متابعة المسيرة القومية العربية بعد تصحيح ثغراتها وبعد إعادة النظر في بعض منطلقاتها. وهكذا لم تؤد نكسة 1967 إلى استسلام أو تراجع في الإيديولوجيا العربية، بل أدت، على العكس، إلى مزيد من الاستمساك بها عن طريق تفحّصها وتحليلها وتقويم بعض منطلقاتها وتصحيح مسيرتها. وقد ظهرت إلى الوجود في هذه الفترة دراسات كثيرة تهدف إلى الغوص في أعماق المجتمع العربي ودراسته دراسة علمية وتحليل أسس بنيانه، وذلك من أجل امتلاك القدرة العلمية على تغييره، عن طريق فهمه ومعرفته معرفة أوثق وأعمق.
غير أن غياب عبد الناصر عن الساحة العربية عام 1970 حرف هذه المسيرة الفكرية الإيجابية عن مسيرتها. فلقد أدى حكم السادات المتذرع بالواقعية والموضوعية والتعقل، إلى ولادة فكر ظاهرُه العقلانية وباطنُه التراجع والانكفاء والاستسلام. وتم توظيف شعارات البحث الموضوعي والدراسة العلمية في تيارات تؤدي في نهاية الأمر إلى التشكيك في الإيديولوجيا العربية بل إلى إنكارها، بدلاً من توظيف تلك الشعارات في خدمة هذه الإيديولوجيا وتطويرها. وبينما كان من الواجب دراسة الواقع العربي من أجل تغييره، جنح كثير من الباحثين إلى دراسته من أجل «تدويمه»، على حد تعبير حسن صعب(12)، تدويم تجزئته وتخلفه وعجزه.
ولم يسلم من هذا المنزلق، لسوء الحظ، بعض الباحثين من أصحاب الاتجاه القومي العربي من حيث المبدأ. ونستطيع أن نجمل التيارات التي نحت هذا النحو في التيارات الآتية:
(أ) بعض حملة الاتجاه الماركسي الذين يذهبون إلى القول بأن العمل القومي يرافقه دوماً تمويه للدوافع الطبقية، والذين يرون أن الاشتراكية في العالم الثالث تزداد ضعفاً مع ازدياد العنفوان القومي. وقد تضاءل أصحاب هذا الاتجاه، وجنح الاتجاه الماركسي في معظمه إلى تبني الفكرة القومية العربية.
(ب) بعض أنصار الاتجاه الإسلامي الذين يرون في العروبة نقيضاً للإسلام، وإن كانوا يفعلون ذلك غالباً عن حسن نية أو عن جهل بحقيقة الصلة العضوية بين العروبة والإسلام، تلك الصلة التي عبّر عنها منذ أمد أمين نخلة أجمل تعبير حين قال: «كأنما العرب جميعاً مسلمون حينما يكون الإسلام اهتداء بمحمد وتمسكاً بقوميته وكلفاً بلغته»(13). وقد عبّر عن مثل هذا مارون عبود حين كتب: «وما كنت قبل أن أولد إلا عربياً صميماً، ولكن لم تكن لي فكرة سوية عن الرسول العربي ولا قرأت حديثه حتى أتاني الله من فضله فحلقت إلى سماء تراثنا الروحي» وحين أضاف قائلاً: «ولقد شرع يقيني بتفوق أمتي يزداد رسوخاً منذ ذلك الحين، ونار حبي وحماستي تزداد زكاءً ببرد هذا اليقين»(14). كما أكّد مثل هذه الحقيقة التراث البعثي منذ بداياته، منذ «ذكرى الرسول العربي» حتى اليوم، ومثله التراث الناصري.
(ج) وثمة فريق من المفكرين أرادوا أن يصموا الإيديولوجيا القومية العربية في شتى صورها بأنها تبشيرية غيبية بل لاهوتية، رفعت فكرة الوحدة إلى مرتبة المبدأ المطلق وجعلتها غنية عن كل تحديد. ووراء هذا القول أن العاملين للوحدة لم يمنحوا الاهتمام اللازم لعوامل الانفصال وأسبابه ولواقع التجزئة التي غدت راسخة. وعندهم أن تكوين الوعي الوحدوي يتطلب إدراك العقبات الواقعية التي تحول دون الوحدة ورسم سبل التغلب عليها.
ولئن كان هذا النقد سليماً حين بوجه الأنظار إلى ضرورة دراسة الواقع العربي دراسة علمية دقيقة من أجل الكشف عن عوامل الانفصال الحالّة فيه، وهي لا شك عنيدة وعريقة، فإنه يغلو حين يدعي أن الإيديولوجيات القومية السائدة لم تعن بهذا الجانب. يضاف إلى هذا أن التأكيد على عوامل الانفصال في الوجود العربي سيف ذو حدين: فقد يؤدي إلى الوعي بعوامل التغلب عليها، وقد يؤدي إلى القول بغلبتها على عوامل الوحدة وإلى اليأس بالتالي من فكرة الوحدة نفسها. ولم ينج فريق من أصحاب هذا التيار من الوقوع في المزلق الأخير.
والحق أن هذا المنزلق الذي يقع فيه هؤلاء يعود في نهاية الأمر إلى عدم تفريقهم بين الأمة، وهي واقع قائم حي موجود بالقوة على حدّ تعبير أرسطو، تطمسه عوامل التجزئة المختلفة، وبين الحركة القومية التي تقع عليها مهمة نقل هذا الوجود بالقوة إلى وجود «بالفعل» عن طريق النضال ضد عوامل الانفصال والتجزئة. وسنعود إلى هذه الفكرة وأهميتها في خاتمة هذا البحث.
(د) وقريب من هذا النقد نقدٌ نجده لدى بعض حملة الفكر القومي أنفسهم، ينطلق من فكرة ترى أن أي «تفكير في الوحدة العربية»، اليوم أو غداً، لا ينطلق من واقع الدولة القطرية العربية الراهنة هو تفكير ينتمي إلى مرحلة مضت وانتهت(15). ومما يثير الدهشة أن نُلغي هذا التفكير لدى مفكر قومي مرموق هو محمد عابد الجابري. صحيح أن القفز فوق الدولة القطرية قفز غير جائز، وأن الدول القطرية واقعٌ لا يمكن إنكاره. ولكننا لا نرى لماذا يستهجن أن تطرح الإيديولوجيا القومية، كما يقول، الوحدة العربية كبديل لواقع التجزئة، وأن تعتبر الكيانات القطرية كيانات «مزيفة»؟ وكيف لا نقوّض أسس العمل القومي حين نقول معه: «إن الإيديولوجيا القومية هذه قد انتهت مهمتها بقيام نقيضها الذي هو الدولة القطرية بوصفها حقيقة دولية وعربية، اجتماعية واقتصادية ونفسية، ولم يعد من الممكن القفز عليها حتى على صعيد الحلم»؟
(هـ) والحق أن هذا النقد يفسّره ضرب آخر من النقد، يتهم الإيديولوجيا القومية التي ظهرت في الخمسينيات بوجه خاص بأنها تأخذ بمبدأ «كل شيء أو لا شيء» فإما وحدة شاملة اندماجية، وإما لا شيء. ومثل هذا النقد يدخلنا إلى موضوع شائك لقي رواجاً في السنوات الأخيرة، هو موضوع «الشكل المؤسسي» للوحدة العربية.
لقد قيل ويقال إن الأدبيات القومية في العقدين الخامس والسادس من هذا القرن دعت إلى شعار «الوحدة العربية الاندماجية الشاملة». وهو شعار ينتمي في نظر بعض الناقدين، ومن بينهم عابد الجابري نفسه، إلى «مرحلة الحلم، حلم الماضي، ولربما حلم المستقبل أيضاً». أما الواقع العربي الراهن، فيما يرى، فهو «لا يتحمل هذا الشعار ولا يقدر على حمله». وما هو ممكن اليوم «أشكال من الوحدة يتداخل فيها ويتكامل العمل الإقليمي والعمل القومي»(16).
وقد عبر عن مثل هذا الاتجاه عبد الله بشارة الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، حين تحدث عما سماه بمدرسة «الفكر الشامي»، تلك المدرسة التي وصفها بأنها رومانسية غير واقعية، حين دعت للوحدة الفورية القائمة على القومية والانتماء القومي الوحدوي(17)، كما حدث عند قيام الجمهورية العربية المتحدة. وقد دعا بدلاً من ذلك إلى صيغة للوحدة أكثر واقعية ومرونة وأبعد عن القوالب المتحجرة والقيود الجامدة على حد قوله، كالصيغة التي أخذ بها مجلس التعاون الخليجي، ذلك المجلس الذي وصفه بأنه «منتدى العقل والحكمة».
ومثل هذا المذهب ذهب إليه مفكر خليجي بارز هو محمد جابر الأنصاري، حين دعا إلى «التوحيد الطبيعي الجغرافي المتدرج بطبيعته، المستند إلى وشائج الجوار وتلاحم الأرض وتداخل المصالح»(18) على نحو ما نجد في التجمعات الجهوية الثلاثة القائمة، وعلى نحو ما يمكن أن يحدث لو قامت تجمعات جهوية أخرى، لتتلاقى في نهاية المطاف في وحدة شاملة.
ولا يتسع المقام لمناقشة هذه الطروحات جميعها، وهي طروحات جديرة بالاهتمام ما في ذلك شك. وحسبنا أن نقول إن الإيديولوجيات القومية العربية التي ظهرت في الخمسينيات والستينيات (لدى البعث والناصرية، ومن قبلهما الحصري وزريق وسواهما) لم تقل يوماً بأن الوحدة إما أن تكون شاملة وإما ألا تكون. ولا أدل على ذلك من ولادة الجمهورية العربية المتحدة. كما أنها لم تقل بأنها لابد أن تكون اندماجية. ولا أدل على ذلك من أن موفد الحكومة السورية قبل قيام الوحدة، صلاح الدين البيطار، كان يحمل معه قبل سفره إلى القاهرة للقاء عبد الناصر والتفاوض معه في شأن الوحدة دستور دولة اتحادية.
والحق أن مسألة شكل الوحدة في نظرنا مسألة زائفة أعطيت من الأهمية أكثر مما تستحق. فليس هنالك شكل للوحدة مفروض سلفاً، وليس هنالك شكل للوحدة مرفوض سلفاً. وشكل الوحدة أمرٌ تحدده ظروف النضال من أجل الوحدة وظروف الواقع العربي. ومن تحميل الحاضر والمستقبل ما لا يحتملان أن نقول قولاً مسبقاً قبلياً بالوحدة الجغرافية دون سواها بين البلدان المتقاربة جغرافياً، أو أن نقول بالوحدة بين البلدان المتقاربة إيديولوجياً، أو أن نقول بالوحدة بين البلدان المتشابهة في مرحلة النمو الاجتماعي أو الاقتصادي، أو غير ذلك. إن مثل هذا البحث يدخلنا في متاهة لا نهاية لها، وفي مناقشات بيزنطية ضائعة. وقد يقود إلى تعطيل مسيرة الوحدة بدلاً من التعجيل بهذه المسيرة أو تيسيرها. والهام عندنا أن يقوم النضال الموصول من أجل الوحدة، وأن يتم دفع الواقع إلى أمام. وقد يفجّر هذا النضال، حين تتوافر له شروطه السليمة، أنواعاً وأشكالاً ومستويات من الوحدة لم تكن في الحسبان.
وحسبنا في هذا المجال أن نسأل الذين يغلّبون موضوع شكل الوحدة على جوهرها: هل يعني هذا أن الوحدة بين مصر وسورية لم تكن طبيعية؟ وهل كان مكتوباً لها الزوال لا محالة بحكم الصيغة الاندماجية التي تبنتها وبحكم قيامها بين قطرين متباعدين جغرافياً؟ وهل الانفصال بالتالي ظاهرة ولدت من طبيعة الوحدة، أم أنه في حقيقة الأمر مؤامرة مرسومة اشتركت فيها القوى الأجنبية والمعادية للوحدة؟ أفلا يصح القول، على العكس من هذا، إن وحدة الجمهورية العربية المتحدة تمثل نموذجاً رفيعاً وعميقاً من الوحدة، لأنها قفزت من فوق إسرائيل وجعلتها بين فكي الكماشة، ولأنها قامت بين طرفين لهما إيديولوجية واحدة، الخ.. بل أفلا يصح القول إن ما تتصف به من شأن وعمق وما تحمله من آمال، وما تمثله من تهديد فعلي للكيان الإسرائيلي، هو الذي دفع القوى المعادية، وعلى رأسها إسرائيل، إلى العمل الجاد من أجل القضاء عليها من داخلها وخارجها؟
والحق أن هزة الانفصال، كما سبق أن قلنا، زعزعت الإيمان بالوحدة حتى لدى بعض أصحاب الفكر القومي، وولّدت كما ذكرنا فكراً ظاهرهُ موضوعي وباطنُه انهزامي، ولم يدرك الكثيرون بعدها أن قيام الانفصال لا يعني سقوط مبدأ الوحدة، بل يعني على العكس ضرورة إدراك عوامل الانفصال وكشف قوى الانفصال والتهيؤ لمقارعتها.
وههنا نستطرد فنقول إن العمل القومي الفعال الناجع هو وليد التقاء شرارتين: شرارة العقل المحض الناقد المحلل، وشرارة العاطفة والوجدان المؤمن. وكل جنوح نحو إحدى الشرارتين دون الأخرى معطل للنضال القومي. ومن هنا، لابد أن يجتمع نور العقل مع شحنة الانفعال كيما يولد العمل العربي الجاد والراسخ في آن واحد. وأخشى من نخشاه أن يغدو العقل، العقل السفسطائي الخالي من نُسغ الانفعال ونور الوجدان والإيمان، عامل تردد وخشية واستسلام. وهل في عالم النفس وجود لعقل محض كالعقل الكنتي؟ أو ليس العقل الذي لا يبلله الانفعال العميق والإيمان العنيد ثمرة جافة أو شجرة بلا نسغ؟ لابد للعقل الفعال أن يسقي قوته من البراكين الانفعالية التي تعصف في الأعماق، ولابد للانفعال العميق الذي لا يرضى أن يحترق كنار الهشيم أن يسقي عمقه وثباته من نور العقل ومتانة الفكر.
وبعد، أو ليس هذا الجمع بين النضال العقلي الناضح الواعي وبين الإيمان العازم العارم هو الذي هيأ النجاح لدعاة الاتحاد (من أمثال «هاملتون» و«ماديسون» و«جي») في الولايات المتحدة يوم كانت مجزأة إلى ثلاث عشرة ولاية، ويوم كانت خاضعة للقوى الغريبة عنها؟ أو لم يكن هو أيضاً وراء نجاح دعاة الوحدة الألمانية والوحدة الإيطالية والوحدة السلافية وسواها؟ على أن الأمثلة في تاريخ العالم لا تحصى، وأهمها عندنا وحدة الدولة العربية الإسلامية أيام ازدهارها، تلك الوحدة التي لم يكن ليقيض لها الوجود لولا تفاعل العقل العربي مع الدعوة الإسلامية والمثل الإسلامية.
(و) وثمة ضرب آخر من نقد الإيديولوجيا القومية الشائعة، يكاد يكوّن نظرية كاملة متكاملة، هو النقد الذي نجده في النتاج القيم الغزير الذي قدمه عالم الاجتماع والمفكر العربي الوحدوي الفريد نديم البيطار.
وينطلق نديم البيطار من معطيات لا جدال فيها، على رأسها أن علينا، ونحن نرسم النظرية القومية الوحدوية، أن ننطلق من الظاهرة الوحدوية عبر التاريخ، تلك الظاهرة التي لها قوانينها التي لا تحيد عنها، شأن سائر الظواهر الاجتماعية. وتحليل الظاهرة الوحدوية عبر التاريخ ينتهي لديه إلى مبادئ بارزة (أو قوانين أساسية كما يحب أن يقول): أولها أن العامل الاقتصادي ليس هو العمل الموجه لحركة الوحدة ولا هو العامل الحاكم فيها، وأن العامل المهيمن هو العامل السياسي والإيديولوجي. وثانيها أن الوحدة كيما تقوم لابد أن تتجسد في دولة قائدة، في «إقليم – قاعدة» (هي فيما يتصل بالوحدة العربية مصر أيام عبد الناصر). وثالثها ضرورة توافر سلطة «مُشخصنة» وشخصية «كاريزمية» تجسّد العمل الوحدوي وتقوده. ورابعها أهمية إدراك المخاطر الخارجية التي تحول دون الوحدة (وعلى رأسها العدو الإسرائيلي)، وجعلها حافزاً لتعبئة الإرادة القومية «الكبرياء القومية». وإضافة إلى هذه المبادئ أو القوانين البارزة أو الأساسية التي هي عنده بمثابة قوانين الجاذبية للوحدة العربية، يعدد البيطار مبادئ أو قوانين ثانوية. وهو في هذا كله يحاول أن ينتهج في أبحاثه منهجاً اجتماعياً (سوسيولوجيا) يستند إلى علم الاجتماع والتاريخ المقارن، مستبدلاً فيما يرى الفكر العلمي بالفكر الذاتي والمنهج الاجتماعي التاريخي بالفكر الميتافيزيقي.
ومن هنا ينتقد الفكر الوحدوي الذي ساد حتى ظهوره، ويرى «أن النموذج الذاتي الذي هيمن على الفكر الوحدوي حتى الآن تجاهل تماماً أو كلياً الظاهرة الوحدوية عبر التاريخ»(19) ويصفه بأنه فكر تبشيري متيافيزيقي، فكر منفصل عن الواقع الموضوعي وقوانينه، بل يرى فيه أحياناً فكر ترف وتفكهة(20). يضاف إلى هذا أن هذا الفكر الوحدوي لم يعن بالبحث في وسائل بناء الوحدة، وكان يشغل نفسه أساسياً بدولة الوحدة كهدف، بالقصد الوحدوي وضرورته. أما الوسائل التي كان يشير إليها أو يقدمها كطريق إلى هذه الدولة فإنها كانت أساساً مجموعة من «الأغاليط»(21). ولهذا، في نظره، سقطت وحدة عام 1958: «فالقفزة الوحدوية الكبيرة، عام 1958، حدثت بدون وعي علمي لطريق موضوعية إلى هذه الدولة، فكان غياب هذا الوعي أحد الأسباب الأولى التي قادت إلى فشلها»(22).
ومن هنا فإن على الفكر الوحدوي اليوم أن يتفحص ذاته وينقد نفسه. وهو عنده «يواجه الآن أولاً مشكلة الـ «ضد» وليس قضية الـ «مع» لأنه إذا لم يعمل ضد نفسه لا يستطيع أن يخدم قضية الـ «مع»(23)».
ولا يجادل أحد في قيمة المنهج العلمي الذي أراد أن يصطنعه نديم البيطار، كما لا يجادل أحد في غزارة الحقائق التي يقدمها برهاناً على نظريته، نظرية «الإقليم – القاعدة».
غير أننا نعجب من الأحكام المطلقة القاطعة التي أطلقها ضد الفكر القومي «الآخر»، الفكر القومي السائد. وكأن هذا الفكر لم يأبه للمنهج العلمي، ولم يعن بدراسة التاريخ والواقع، ولم ينهج الأسلوب المقارن في دراسته لمقومات الوحدة (كما فعل ساطع الحصري بوجه خاص). وكأن الفكر البعثي والفكر الناصري (الذي لا يستطيع نديم البيطار أن ينكر قرابته الحميمة إلى الفكر البعثي) كانا فكراً ميتافيزيقياً غيبياً. هذا إذا لم نشر إلى فكر قسطنطين زريق الذي كان جوهره التمسك بالعلم والعقلانية والذي لا نستطيع أن نتهمه بأنه نسي دروس التاريخ (ولا سيما في مثل كتابه «نحن والتاريخ» وفي كتابه «معركة الحضارة»). وهل من الصحيح القول إن مثل هذا الفكر القومي «الآخر» الذي يصفه ويصمه، كان يؤمن بأن الإرادة الصرفة أو القوة الذاتية المحضة هي التي تصنع الواقع والتاريخ، كما يقول، وأنه بذلك لم يعدُ أن يكون فكراً ميتافيزيقياً قبلياً يؤمن «بجوهر ثابت سابق» علينا أن نكتشفه ونعيد إليه الحياة من جديد؟ لا شك أن في هذا كله تبسيطاً مخلاً لجوهر الإيديولوجيات القومية العربية التي سادت، بل تصويراً لا نغلو إذا اتهمناه بأنه «كاريكاتوري».
صحيح أن العناية بالبحث التاريخي تحمل لدى نديم البيطار معنى محدداً خاصاً لا نجده عند سواه، هو دراسة الظاهرة الوحدوية للتعرف على قوانينها. وهذا قولٌ لا يشكك فيه مشكك، يصدق على أي ظاهرة اجتماعية، وقد أطنب فيه علماء الاجتماع منذ أيام «أوغست كونت». ولكن النتائج التي يصل إليها نديم البيطار عن طريق تطبيق هذا المنهج نتائج تجعلنا نقول، دون ما غلو، إنه في حقيقة الأمر يُنطق التاريخ ولا يسْتنطقه، يُنطقه ما يريد من أفكار سابقة مبيّتة.
لقد أعجب نديم البيطار بالتجربة الناصرية وبشخص عبد الناصر. وهو إعجاب طبيعي تشاركه فيه جماهير حاشدة من أبناء الأمة العربية. غير أنه سرعان ما أسقط هذا الإعجاب وأضفاه على أبحاثه التاريخية الاجتماعية التي أرادها علمية. فإذا به يتحدث عن قانون «الشخصنة» وعن «الجوع الكاريزمي لدى الجماهير وحاجتها إلى رمز حي» ومحسوس وعن الأفراد الذين يصنعون التاريخ. ويتبع ذلك بطبيعة الحال قوله، انطلاقاً من إيمانه بدور مصر والناصرية، بأن سبيل الوحدة العربية لابد أن يكون سبيل الانطلاق من «الإقليم – القاعدة»، من مصر. وفي هذا كله من عبق الإيمان بعبد الناصر والتجربة الناصرية أكثر مما فيه من دروس التاريخ.
ولا أدلّ على ذلك من أنه يرى أن المطلوب الآن مرحلياً إعداد الطليعة الثورية، في انتظار «رجوع مصر إلى دورها الطبيعي التاريخي كإقليم – قاعدة» وهنا نسأله: هل استهدفت وتستهدف سائر الحركات القومية والإيديولوجيات القومية «الأخرى» سوى ذلك؟
على أن أعجب نتائج النظرية الوحدوية التي ساقها نديم البيطار من خلال الدراسة الاجتماعية التاريخية، إنكاره لعامل اللغة في نشأة الكيان القومي. فهو يرى أن «اللغات لم تصنع التاريخ القومي، بل التاريخ القومي هو الذي صنع هذه اللغات»(24). وكأن العلاقة الدائرية بين اللغة والتاريخ القومي تبطل شأن اللغة في تكوين الأمة بدلاً من أن تؤكده؟ وكأن القول بأن اللغة مفتاح هوية الأمة وفلسفتها ونظرتها إلى الحياة، قولٌ بروح ثابتة مزعومة، وبحتمية وحدوية تستند إلى عبقرية اللغة(25)؟
وبعد، لقد أفادت الجمهورية العربية المتحدة من دروس التاريخ على نحو ما يرجو نديم البيطار دون أن تبحث فيها وتحللها، فقامت وحدة القطرين المصري والسوري، وكان قوامها «إقليم – القاعدة»، وكان زعيمها مثالاً للشخصنة «الكاريزمية». فلماذا فشلت؟ هل سبب فشلها الوعي الغائب، الوعي التاريخي، كما يرى؟ وما هي الطريق العلمية الموضوعية التي لم يتم وعيها وإدراكها في نظره عندما قامت تلك الوحدة والتي كانت سبباً في فشلها عنده؟

6- إسهامات أخرى:
وأخيراً، في معرض الحديث عن تطور الإيديولوجيا القومية العربية وتطور منطلقاتها ومضمونها وبروز التيارات الناقدة لها، كان بودنا أن نتحدث عن عطاء غير من ذكرنا من المفكرين البارزين الذين قدموا إسهاماً جديداً في بناء الإيديولوجيا العربية، وعلى رأسهم أمثال عصمت سيف الدولة في مؤلفاته ودراساته التي غدت ثرية متكاثرة. كما كان بودنا أن نتحدث عن غير من أتينا على ذكرهم ممن نقدوا الإيديولوجيات القومية الشائعة، أمثال عبد الله العروي (ولا سيما في كتابه «الإيديولوجية العربية المعاصرة»). بل كان بودنا بوجه خاص أن نقف وقفة مفصلة عند النظريات التي أتى بها عابد الجابري، لا لنقد الفكر القومي فحسب، كما رأينا، بل لوضع أسس تحديث العقل العربي عن طريق دراسة بنيته التاريخية ونقدها، وذلك من أجل أن نغير تلك البنية ونغير معها الواقع العربي المتخلف وننطلق نحو المستقبل العربي الناهض. كان بودنا أن نتريث عند هذه النظرية لخطورتها ولضرورة المناقشة الجادة لمنطلقاتها التي تثير تساؤلات كثيرة. وكان بودنا كذلك أن نتوقف عند أصحاب التيار الإسلامي المجدد، وعلى رأسهم أمثال حسن حنفي، لنرى ما تُفيده الإيديولوجيا العربية من نظراتهم العميقة والجريئة. ولكن صفحات هذا البحث لا تتسع لهذا كله. ونرجو أن يكون لنا عود إلى ذلك في مناسبات أخرى.
ثانياً – نظرة شاملة:
لم يكن عرضنا لمراحل تطور الإيديولوجيا العربية مجرد عرض تاريخي، بل كان في حقيقته وصفاً وتحليلاً لتلك الإيديولوجيا من خلال مولدها ومخاضها وترعرعها. ولعل النتيجة الأساسية التي نخلص إليها من هذا العرض هي أن الإيديولوجيا العربية نمت وتكاملت عبر الطريق، وأسهم في بنائها تاريخ بأسره، وأحداث سياسية متدافعة، ومفكرون لم تكن أفكارهم متباينة بمقدار ما كانت متكاملة متنامية يرفد بعضها بعضها الآخر، ويفيد لاحقها من عطاء ثغرات سابقها.
ولقد شكّل نمو الإيديولوجيا القومية العربية منذ قبيل الحرب العالمية الثانية وخلال الخمسينيات والستينيات بوجه خاص، على يد البعث والناصرية، منعطفاً أساسياً في تطور هذه الإيديولوجيا. لا سيما أن الصلة قد انعقدت على نحو وثيق، منذ ذلك الحين، بين الفكر القومي وبين العمل السياسي له. وكان أهم ما أتت به هذه المرحلة التأكيد على المضمون الاجتماعي الاقتصادي للقومية العربية، نعني التأكيد على ارتباط العمل للوحدة ارتباطاً عضوياً بالعمل على بناء اشتراكية عربية الوجه واللسان، تفيد من التجارب العالمية دون أن تنقلها، وتتقرّى الواقع العربي والتاريخ العربي والتراث العربي من أجل وضع معالم ذلك الطريق العربي الخاص نحو الاشتراكية.
وههنا بدأت الإيديولوجيا القومية العربية تواجه المسألة الصعبة في بناء المجتمع العربي المنشود. فللاشتراكية – وإن تكن عربية – خصومها كما أن لها أنصارها. كما أنه ليس من السهل توضيح معالم الاشتراكية العربية المنشودة التي تحمل معنى القضاء على التخلف بأشكاله المختلفة، ومعنى الحداثة، ومعنى تفتيح الطاقات المبدعة للجماهير الغفيرة المحرومة، والتي تريد بشكل خاص أن تكون وثيقة الارتباط بالتحرير وبالحرية بمعنييهما الاجتماعي والسياسي.
وهكذا بدأ الغموض ثم التشكيك يجللان أحد أعمدة الإيديولوجيا العربية، نعني الاشتراكية. وفي الوقت نفسه بدأت صورة الأعمدة الأخرى بالاهتزاز. فالانفصال ولّد قلقاً حول مبدأ الوحدة، بل شكاً في بعض الأحيان. وكارثة الخامس من حزيران بدأت تطرح تساؤلات حول مدى قدرة البلدان التي لا يقودها ولا يشارك في حمايتها شعب حر في تفكيره وتعبيره، على الصمود في وجه العدوان الإسرائيلي. وعهد السادات عزل أكبر الدول العربية وقواها عن معركة الوجود العربي حين وقع معاهدة كامب – ديفيد. وأصيب مبدأ القومية نتيجة لذلك بهزة كبيرة وأحاطت به الشكوك من جديد.
وهكذا توالت الأحداث، وكادت الأمة العربية تتمزق دولاً وشيعاً وطوائف. وكان ذلك كله تربة صالحة لولادة فكر نقدي وضع الإيديولوجيا العربية موضع التجريح. غير أن جانباً كبيراً من ذلك النقد كان كلمة حق يراد بها باطل أحياناً، وكان في معظم الأحيان وليد البنية النفسية اليائسة التي رانت على أبناء الأمة العربية. وهكذا اتُّخذت أفكار كالعقلانية والروح العلمية والموضوعية مبرراً لطرح أفكار يقود أكثرها إلى تآكل الإيديولوجيا القومية العربية وانحسارها. ولم يسلم من ذلك بعض حملة الأفكار القومية العربية الصادقة.
ومن هنا كانت الإيديولوجيا القومية العربية في حاجة إلى إعادة الإيمان بها. ولا يعني هذا الوقوف عند معطياتها السابقة، رغم سلامة تلك المعطيات في جملتها، بل يعني تجديد تلك الإيديولوجيا في ضوء حقائق كثيرة، نذكر فيما يلي أهمها على المستوى العالمي.
أولها التغيرات الكبرى في الحياة السياسية والإيديولوجيات السائدة في العالم، لا سيما بسبب الثورة العلمية التكنولوجية التي أملت وتملي تحليلاً جديداً لعلاقات العمل والإنتاج وللبنى الاجتماعية. وعلى رأس تلك التغيرات المنعطفات الكبرى التي شهدتها وتشهدها الإيديولوجيا الاشتراكية في العالم.
وثانيها تطور آفاق الإيديولوجيات في العالم، والاتجاه في بلدان العالم المتقدم أكثر فأكثر نحو إنكار الإيديولوجيات الجامدة الصارمة، ولا سيما تلك التي تبرر تسلط الدولة وتحكمها باسم «بناء مشروع مجتمع جديد» وتجعل من الإيديولوجيات «تتويجاً رائعاً للوحشية».
وثالثها سيطرة المجتمع الاستهلاكي، ولا سيما في البلدان النامية، تلك السيطرة التي تجعل مهمة التخطيط الاقتصادي والاجتماعي في تلك البلدان مهمة صعبة إن لم تكن مستحيلة، ما دام نهم الاستهلاك وإثارة نهم الاستهلاك يحركان سلوك الناس.
ورابعها الأزمة الاقتصادية العالمية، ولا سيما في بلدان العالم الثالث، التي تجعل من مطلب «الأمن الاقتصادي» بل «الأمن الغذائي» مطلباً ينبغي أن يكون له مقام الصدارة في سياسة أي دولة.
وخامسها أزمة القيم وأزمة «السلوك الفردي» فضلاً عن أزمة السلوك الجماعي والسلوك فيما بين الدول، في عالم أخذت تسيطر عليه قيم النجع والفعالية والنجاح فضلاً عن قيم المتعة الفردية والانطواء على الذات والأنانية، إن صح أن نسميها قيماً.
أما على الصعيد العربي، فالحقائق الجديدة كثيرة لا مجال إلى تعدادها. وحسبنا أن نشير بلغة برقية إلى أهمها: 1- اليأس الإيديولوجي الذي يكاد يعمّ الجماهير العربية، أمام تردي الوجود العربي في جوانبه المختلفة، 2- الشكوك الإيديولوجية التي تساور كثيراً من المثقفين والتي رأينا طرفاً منها، 3- انحسار المد القومي انحساراً متزايداً على الساحة العربية، 4- العقبات المتزايدة التي تواجه القضية الفلسطينية، وتزايد مخاطر العدوان الإسرائيلي، واحتلال إسرائيل للمرة الأولى بلداً عربياً بأكمله هو لبنان عام 1982، 5- تراجع العمل العربي المشترك في شتى الميادين والاتجاه المتزايد نحو الحلول القطرية والجهود القطرية، رغم أن الجهد القطري قد أثبت فشله في شتى ميادين الحياة العربية، 6- تفاقم مشكلة العمالة في الأقطار العربية، وتزايد البطالة، وعجز النظم الاقتصادية والتربوية عن الاستجابة لمطالب القوى العاملة. 7- الهجرة المتزايدة من شتى أقطار الوطن العربي إلى البلدان الأجنبية، وشيوع ظاهرة الاغتراب ولا سيما لدى جيل الشبان، وذيوع مشكلة التخلي عن الوطن وهجرانه، 8- البحران الفكري والسياسي الكبير الذي تعاني منه الديمقراطية والحرية، كما تعاني منه الاشتراكية،
9- التشرذم الإيديولوجي الذي يغلّب الصراع على الحوار وجوانب الاختلاف على جوانب الوفاق، 10- نمو الحركات الإسلامية والحاجة الماسة إلى الدمج العضوي بينها وبين الحركات القومية انطلاقاً من تحديث كلتيهما، وضرورة تعبئة طاقات الجماهير تعبئة موحدة من خلال الربط الوثيق بين العروبة والإسلام.
وهذه الحقائق كلها، وكثير سواها، تضع الإيديولوجيا العربية أمام مهمات شاقة عليها أن تشحذ العقول من أجلها، وعلى رأسها: توضيح المعالم الخاصة بالاشتراكية العربية المنشودة، وتحديد معالم الديمقراطية والحرية المرجوة، وحسم موضوع العلاقة بين العروبة والإسلام، ورسم سبل تحديث المجتمع العربي بقواه الذاتية.
خاتمة:
وبعد، لعل جانباً كبيراً من اضطراب الإيديولوجيا القومية العربية في العقدين الأخيرين يرجع إلى عدم الإدراك الواضح لحقيقة بدهية، هي التفريق بين الأمة والقومية، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك في موضع آخر من هذا البحث.
فوجود أمة عربية واقع حي قائم. وكل منا يولد مغموراً بتراث ليس من صنعه، وبثقافة حالّة في جلدته وكيانه، تحدد هويته وسلوكه ونظرته إلى الكون. وهذا التراث، الذي هو من صنع التاريخ الطويل، تراث مشترك بين أبناء الأمة العربية، وإن وجد إلى جانبه تراث فرعي خاص يغنيه ولا يناقضه، يعكس الألوان الخاصة بالبيئات العربية المحلية المختلفة. وبداخل هذا التراث العربي الموحد بلويناته المختلفة تراثٌ عالمي يُخصبه أحياناً ويُغنيه، ويستلبه أحياناً أخرى ويغزوه.
وهذا الوجود العربي الحي القائم تجتمع له من مقومات الوحدة ما لم يجتمع لأمة أخرى. فهنالك اللغة الواحدة، وهنالك التاريخ المشترك، وهنالك التكامل الاقتصادي والسكاني والجغرافي، وهنالك النضال المشترك، وهنالك المصير الواحد، وهنالك التراث الديني والحضاري والإسلامي وهو أيضاً تراث مشترك.
غير أن هذا الوجود العربي الذي يكوّن الأمة العربية الواحدة لا يزال وجوداً «بالقوة»، على حد تعبير أرسطو، لأسباب كثيرة، ولم ينقلب بعد إلى وجود «بالفعل». ومهمة قلبه إلى وجود فعلي هي مهمة الحركة القومية العربية.
ومعنى ذلك أن الحركة القومية العربية لا تجد أمامها طريقاً ممهداً سلفاً لتحقيق الكيان العربي الموحد، بل تجد واقعاً انفصالياً وحضارياً متردياً أفسدته عوامل كثيرة وأقامت فيه معاقل للتجزئة والفرقة والتخلف. والزمن وحده والأماني العاطفية وحدها والأحلام الرومانسية، لن تقلب هذا الوجود، مهما يطل الزمن، إلى وجود موحد متقدم، بل إن مفاسد هذا الوجود وقلاعه الانفصالية وجذور التخلف العتيق فيه سوف تزداد مع الزمن إن تركنا الزمن وشأنه.
ومن هنا كانت مهمة الحركة القومية العربية مهمة واضحة: إنها مهمة النضال بشتى الوسائل الفكرية والسياسية والاجتماعية من أجل قلب الوجود العربي الموحَّد «بالقوة» إلى وجود عربي محقق قائم «بالفعل».
هذه الحقيقة البدهية، على بساطتها، حقيقة هامة. إنها تعني أن الحركة القومية العربية ليست «أسطورة» إذا أردنا أن نستخدم تعبير الفيلسوف الألماني «روزنبرغ»، وأن وحدة الأمة العربية ليست كياناً نتخيله ونصطنعه اصطناعاً، وإنما هي واقع حي قائم طمسته وأفسدته عوامل كثيرة على رأسها عهود التخلف والانحطاط ثم الاستعمار. ولعل عدم إدراك المعنى العميق لهذه الفكرة، التي هي فكرة علمية موضوعية، هي التي أوهمت بعض ناقدي الإيديولوجيا القومية العربية بأنها إيديولوجيا ميتافيزيقية تجريدية وقَبْليّة.
ثم إنها تعني بعد ذلك أن قوى الانفصال وعوامل التجزئة وعناصر التخلف مقيمة كلها في الجسم العربي وراسخة وصامدة. ومن هنا فالمعركة معها ليست معركة سهلة أو قصيرة النفس، ولا ينتقص منها الكر والفر والفشل ولو مرات. لقد عرف التاريخ أمماً كثيرة واجهت الفشل تلو الفشل في حياتها القومية والسياسية، ولكنه عرف أيضاً أمما كثيرة أدركت عوامل الفشل وتغلبت عليها في النهاية. وشتان بين الفشل والانهزام. والفشل يدعو إلى المراجعة والنقد دوماً، ولكن لابد أن نحذّر من الفشل الذي يدعو إلى التشكيك بسلامة المبدأ، فالإصرار على المبدأ أول شرط من شروط نجاح المؤمنين بالمبادئ السليمة الصادقة.
من هنا كانت هذه الحقيقة البدهية هامة في المرحلة الحالية التي تجتازها الأمة العربية. لقد أثار واقع النزاعات العربية والانكفاء القطري العربي في العقدين الأخيرين ذعراً كبيراً لدى جماهير الأمة العربية، زاد من عنفه ظهور الصراع الطائفي في لبنان بوجه خاص. وقد قاد هذا الذعر بعض الناس وبعض المفكرين أنفسهم إلى إنكار مبدأ الوحدة العربية والقومية العربية، حين خيل إليهم أنهم وجدوا في الواقع العربي المتردّي ما يبرر ذلك. وهكذا قلبوا ظهر المجنّ، حين لم يدركوا أن تردّي الواقع العربي وانقلابه إلى دول قد تصطرع وتتخاصم، وإلى طوائف قد تحترب، وإلى أحزاب ومنازع فكرية قد تتوالد توالداً سرطانياً، أمورٌ هي كلها نتيجة وليست سبباً لغياب المد الوحدوي وانحسار الإيمان بالعمل العربي الموحد وضعف النضال من أجل الكيان القومي العربي، ذلك النضال القادر وحده على أن يذيب في حميّاه جميع آفات التفتت المرضيّة. أما المستنقع الآسن، مستنقع الخمود والجمود واليأس القومي، فهو قمين بأن يولّد شتى الآفات وبأن ييسّر غلبة البنية المريضة على البنية السليمة.
تلك هي إذن مهمة الحركة القومية العربية والإيديولوجيا العربية. إنها مهمة واضحة ولكنها شاقة. وهي مهمة تتطلب توافر عناصر أساسية:
1- أولها: وضوح الإيديولوجيا القومية بأبعادها المختلفة وضوحاً قادراً على أن يجعل منها «أفكاراً – قوى» تحرك الجماهير. وأهم مطالب هذا الوضوح كما سبق أن ذكرنا التحديد الدقيق والواضح لمعالم الطريق العربية إلى الاشتراكية ولأهدافها ومضمونها، وبيان السمات المميزة للديمقراطية والحرية في الوطن العربي والطريق إليهما في إطار واقعه، وتحديد أساليب العمل لتحديث الوجود العربي ودخوله العصر بقواه الذاتية، وتوضيح الصلة العضوية بين العروبة والإسلام توضيحاً يعفينا من إعادة اجترار هذه المسألة اجتراراً طال أمده دون أن نحقق فيه خطوات حاسمة.
2- وثانيها: رسم السبل المؤدية إلى بلوغ الأهداف التي تحددها الإيديولوجيا القومية العربية رسماً واضحاً، يستند إلى تحليل علمي رفيع المستوى للواقع العربي والواقع العالمي وإلى إرهاص «علمي» أيضاً بمستقبل الأمة العربية.
3- وثالثها: تقديم رؤية واضحة، مستندة إلى بحث مستقبلي علمي دقيق، لما يرجى أن تكون عليه صورة الأمة العربية في حال تحقيقها لأهدافها القومية الوحدوية، في شتى مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والعسكرية وسواها(26). ويتبع ذلك القيام بتوعية علمية حديثة تهدف إلى تعريف أبناء الأمة العربية بما يرجى أن يقدمه الكيان القومي العربي المنشود من علاج لمشكلاتها، ومن بناء رفيع لحضارتها، ومن إثراء كبير لإمكاناتها المادية والبشرية.
4- ورابعها: وليس أقلها النضال المستمر والعنيد، بالفكر والعمل، من أجل تحقيق أهداف الإيديولوجيا المنشودة ومن أجل تطويرها دوماً وأبداً عبر النضال وعبر الأحداث.
5- وخامسها: توجيه عناية خاصة إلى الجيل الجديد، عن طريق نظم التربية ووسائل الإعلام وسواها، ذلك الجيل المعروض للبحران أو لاقتناص الأفكار الغريبة أو الضالة.
وبعد فالحديث ذو شجون، والأمر جد، ولابد من التوقف. حسبنا أن نقول في خاتمة المطاف إن بناء الإيديولوجيا العربية وتحقيقها في حاجة أولاً وقبل كل شيء إلى الإيمان، الإيمان الذي تسقيه الطليعة العربية من معاناتها للواقع العربي، ومن معرفتها العلمية الموضوعية به، ومن إدراكها لأهمية بناء الكيان العربي الموحد في خضم صراعات العصر وتحدياته وقواه الكبرى. ونحن نعتقد أن هذه الطليعة قادرة على أن تتفق على كلمة سواء بينها، وأن مرد ما قد نجد من تباين في بعض منطلقاتها الفكرية أو من خطأ في بعض تحليلها ونقدها هو ضعف الحوار بينها.
والحوار، الحوار الصريح البريء، ومن ورائه الحرية الفكرية، شرطان لازمان لأي عمل فكري قومي سليم، ودرعان يقيان الفكر العربي من البحران والضلال، ويقيان الوجود العربي كله بالتالي من مثل ذلك الضياع.