“التربية في البلاد العربية ودورها في تقوية/ إضعاف مسيرة النهضة”

مدخل
1- عندما يقتحم المرء مهمة الإجابة على المسألة التي هي موضوع حديثنا هذا المساء، يجد نفسه أمام درب طويل يقوده إلى مسالك وشعاب شائكة، وتزدحم المعاني والأفكار والأسئلة المتوالدة في صدره، ويحار أيها يختار.
ولا عجب، فالأمر أمر النهضة العربية، ضالتنا جميعاً، ولا سيما في زحمة التقدم العالمي السريع والمخيف، وفي أجواء البحث عن بناء مشروع حضاري عربي جدير بالأمة العربية، قادر على توفير المستقبل الأفضل لها. والأمر بعد ذلك أمر التربية التي تحمّل دوماً من الأعباء ما تحتمل وما لا تحتمل، والتي يرجى منها أن تكون القائدة والرائدة في مسيرة النهضة، على الرغم من قدرتها المحدودة، وعلى الرغم من القيود التي تفرضها عليها أترابها، نعني العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وسواها.
وهكذا يطرح موضوع حديثنا منذ النظرة الأولى أسئلة متكاثرة ومترابطة يأخذ بعضها بأعناق بعض، تكشف منذ البداية عن عسر المزار ومشقة المطلب. وإليكم بعضها:
– هل التربية، أي تربية، قادرة على تغيير المجتمع وتطويره أم أنها له تابعة؟ وما هي وعود التربية وحدودها بالتالي؟
– ما هي النهضة جملة، وما هي النهضة العربية المرجوة بوجه خاص، بل ما هي فوق هذا وقبل هذا، عوامل قيام النهضة وبواعث انطلاقها؟ ولماذا تخلف المجتمع العربي بعد ازدهار، وما هي القوى الجديدة الحية القادرة على بعث الحياة فيه وإطلاق مسيرة النهضة في ربوعه مبدعة خلاقة؟
– ما هو دور التربية بالتالي في تفجير تلك القوى الحية المتحركة المشرئبة إلى العطاء الحضاري في شتى جنباته، وما هي شروط اضطلاع التربية بهذا الدور وفلاحها فيه، وما هي حدودها والقيود التي تملى عليها ووسائلها في مغالبة تلك الحدود والقيود؟
– ما هو واقع التربية العربية، وما هي فضائله وثغراته ونقائصه، وهل نلفي في ذلك الواقع ما يسعف مسيرة النهضة، وما هي الجهود الجديدة التي يتوجب على التربية أن تبذلها إن هي أرادت أن يكون لها في صنع الحضارة العربية المرجوة شأن ونصيب، وما هي مقومات مثل هذه التربية القادرة على الاضطلاع بهذا الدور؟
أسئلة هامة لا نزعم أن في وسعنا أن نقدم لها أجوبة وافية شافية، وسوف تظل الأجوبة عليها ناقصة مقصّرة عن الشأو المطلوب، ما دامت تمس أعمق أعماق الوجود العربي، نعني مسيرة نهضته، ومسيرة النهضة العربية عمل جماعي مشترك، لا تجدي فيه قدرة الفرد الواحد أو الأفراد القلائل، وجهد دائب موصول لا يعرف التوقف.
ومع ذلك لعلكم أدركتم بين سطور الأسئلة على نحو ما طرحناها طرفاً من الأجوبة التي سوف نقدمها. وكثيراً ما تكون إجادة طرح السؤال، كما يقول المثل اللاتيني، نصف الجواب. ولا نريد أن نستبق منذ الآن الإجابة على تلك الأسئلة، وحسبنا أن نحدد بإيجاز، لا بد أن يكون مخلاً، جوهر منطلقنا في معالجة هذه المسألة:
نحن ننطلق من فكرة تكاد تكون بدهية، بل تكاد تكون من باب تحصيل الحاصل وتفسير الماء بالماء. ولكن أشكل المشكلات كما يقول المناطقة إثبات البديهيات. وقوام منطلقنا البدهي هذا أن التربية العربية، شأنها شأن أي تربية، يمكن أن تكون عامل إضعاف لمسيرة النهضة كما يمكن أن تكون عاملاً يشد من أزر تلك النهضة. ويتوقف ذلك على ما نرسم لها في الأصل من بنى وهياكل، وما نضع من محتوى ومضمون، وما نصوغ من أهداف وغايات وفلسفة. فنحن
لا نستخرج من الأشياء إلا ما نضعه فيها. والتربية التي نضع مسبقاً في هياكلها ومناهجها وأهدافها ما يستجيب لحاجات النهضة لا بدّ أن تسهم إسهاماً فعالاً وواسعاً في بناء تلك النهضة، والعكس صحيح.
غير أن للتربية حدودها، وهي لا تستطيع أن تجوّد نظامها بمقوماته المختلفة، وأن تضع ذلك النظام موضع التنفيذ، إذا كانت العوامل الأخرى الفعالة في حياة المجتمع، نعني سائر العوامل الاقتصادية والاجتماعية، تسير في عكس اتجاه مسيرتها، وتغالب ما رسمته لنفسها من بنى وأهداف.
ومن هنا كان لا بد، للخروج من هذا المأزق بل من هذا الدور الفاسد، أن يقوم تفاعل خلاّق بين التربية وبنيانها وأهدافها وبين المجتمع وبنيته، وغاياته ومستلزمات مستقبله. لا بد في خاتمة المطاف من خطة متكاملة منسقة يتم فيها لقاء عميق وتأثر وتأثير متبادلان بين غايات المجتمع وغايات التربية، بين فلسفة المجتمع وفلسفة التربية.
غير أن هذا كله هو مما يسهل قوله ويصعب فعله. ودون هذه المهمة، مهمة الربط العضوي بين التربية والمجتمع من أجل تحقيق مسيرة التقدم والنهضة، أهوال وأهوال.
ما هي أشواك الدرب، وما هي سبل الخلاص؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه وسترون أن هذه الإجابة تجوب بنا وسط العديد من الميادين، وتنقلنا إلى أجواء قد تبدو متباينة، ولكنها في خاتمة المطاف متآخذة متعانقة.
أولاً – هل التربية قادرة على تغيير المجتمع؟
1- وأول مشكلة علينا أن نجلوها وننضو عنها ما يحيط بها من غموض ولبس هي مدى قدرة التربية أصلاً على تغيير المجتمع، وبالتالي على بناء نهضته. لا سيما أن الرأي الذي سار على الألسن وشاع وذاع خلال سنوات طويلة لا سيما في البلدان النامية، يمنح التربية دوراً يكاد يكون معجزاً، ويرى فيها عصاً سحرية تغيّر البلاد والعباد.
وكلنا يذكر أن بلادنا العربية عرفت حيناً من الدهر خيّل إليها فيه أن مجرد فتح أبواب التعليم على مصراعيها سوف ينقلها من حال التخلف إلى حال التقدم، وسوف يجعلها قادرة على اللحاق بالركب العالمي المغذّ في سيره. ولا شك أن نشر التعليم، في بداية نهضة أي شعب، شرط لازم للتقدم، فضلاً عن أنه حق من حقوق كل إنسان ومطلب ديمقراطي
لا مساومة فيه. غير أن مجرد إشاعة التعليم هذه، أيّ تعليم، ليست شرطاً كافياً للنهضة والتقدم.
وهكذا ما لبثت البلدان العربية وسواها حتى أدركت هذه الحقيقة البسيطة البدهية: وهي أن التربية التي تؤدي إلى التقدم والتنمية ليست أي نوع من التربية، بل لا بد أن تكون لها مواصفاتها المحددة المرسومة التي تحمل في ثناياها بذور انقلابها إلى بواعث ومحركات للنهضة.
2- على أن القوم، فيما يتصل بمدى قدرة التربية على تغيير المجتمع وتحقيق النهضة، حتى ولو صلح أمر هذه التربية، شيع ومذاهب. ولا يتسع المجال للحديث عن موقف المذاهب التربوية المختلفة من هذه المسألة. وحسبنا أن نقول بإيجاز مخلّ، أن ثمة اتجاهات ثلاثة كبرى في هذا المجال:
2-1- فهنالك المكبرون من شأن التربية، الذين يرون أن التربية قادرة على تغيير المجتمع، بل القادرة وحدها على ذلك عند طائفة منهم. ويرى هؤلاء أن إعادة بناء المجتمع لا بدّ أن تسبقها بالضرورة إعادة بناء التربية.
ومن أوائل المنادين بهذا الرأي المربي السويسري الشهير «جان جاك روسو» (1812-1867) والفيلسوف الألماني الكبير «كنت»، وسائر من ينتسبون إلى ما عرف باسم التربية الحديثة في النصف الأول من القرن العشرين. على أن هذا الاتجاه لقي انبعاثاً على صورة جديدة في ستينيات وسبعينيات هذا القرن، على يد أصحاب التربية التي تدعى «بالتربية المؤسسية» أمثال «روجرز Rogers» ومدرسته في الولايات المتحدة و«لوبرو Lobrot» ومدرسته في فرنسة. وحسبنا، لإدراك موقف هؤلاء من دور المدرسة في تغيير المجتمع، أن نورد ذلك الحكم القاطع الذي أصدره «لوبرو» حين قال: «إن مجتمع الغد إما أن تصنعه المدرسة وإما ألا يكون». فالفرد عنده، كما يقول «نتاج تربيته» وبيداغوجيا الثورة ينبغي عنده أن تمر بثورة البيداغوجيا، أي بثورة طرائق التعليم وأساليبه.
2-2- وهنالك، في الطرف المقابل، موقف عنيف مناقض لهذا الموقف الأول، يرى في القول بانبعاث المجتمع عن طريق تربية الجيل الجديد ضرباً من الأسطورة والوهم، ويؤكد على العكس من هذا أن المجتمع هو الذي يصنع التربية ويصوغها على شاكلته، وليس العكس.
ومن المنادين بهذا الاتجاه بعض علماء الاجتماع، وعلى رأسهم عالم الاجتماع الفرنسي «دوكهايم»، الذي يرى أن «الإنسان الذي يتوجب على التربية أن تحققه فيناً، ليس الإنسان على غرار ما خلقته الطبيعة، بل الإنسان على نحو ما يريده المجتمع، وهو يريده على الشاكلة التي يستلزمها تدبير أموره (أمور المجتمع) الداخلية».
وإلى جانب دور كهايم ثمة مربون آخرون عديدون ينكرون دور التربية في بناء المجتمع وتطويره. على أن أبرزهم وأشدهم غلواً أولئك الذين عنوا في العقود الأخيرة من هذا القرن بدراسة المنشأ الاجتماعي للطلاب، وعلى رأسهم المربيان الفرنسيان الشهيران «بورديو Bourdieu» و«باسرون Passeron»، وهما صاحبا كتاب شهير في هذا المجال ظهر عام 1971 عنوانه «إعادة التوليد». وهو كتاب يحاول أن يبيّن أن نظام التربية القائم في فرنسة لا يعدو أن يعيد توليد عين النظام الاجتماعي الطبقي الذي ولّده. ويذود عن أفكار هذين الكاتبين ويكملها كاتبان فرنسيان آخران شهيران، هما «بودلو Baudelot» و«ايستابليه Establet» في كتاب لهما لقي رواجاً نادراً عنوانه:
«المدرسة الرأسمالية في فرنسة» وقد ظهر عام 1971 أيضاً.
2-3- وإلى جانب الاتجاه الذي يرفع من شأن التربية ويرى أنها هي التي تبني المجتمع، وإلى جانب الاتجاه الذي يزري بدورها ويرى أنها لا تصوغ المجتمع بل المجتمع هو الذي يصوغها على شاكلته، ثمة موقف توفيقي، هو الذي نجده ذائعاً لدى الجمهرة الكبرى من المربين والفلاسفة والمفكرين، يرى أن الصلة بين التربية والمجتمع صلة أخذ وعطاء، أو بتعبير أدق صلة دائرية لا صلة علة ومعلول. فكلاهما علة وكلاهما معلول. والتربية وحدها عاجزة عن تغيير المجتمع، ولا بد أن تسعفها جهود سائر مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وسواها. وما هي في نهاية الأمر إلا «نظام فرعي» من نظام كلي، هو النظام الاجتماعي الشامل بمقوماته المختلفة.
على أن دور التربية، عند هؤلاء الموفِّقين، يظل دوراً أساسياً، بل يكاد يحتل مقام الصدارة، ما دام قوامه الانطلاق من الإنسان، صانع التغيير.
3- وموقفنا نحن قريب من هذا الموقف التوفيقي دون أن يرتد إليه. فالتربية عندنا قادرة على تغيير المجتمع إذا هي انطلقت من تحليل عميق ودقيق لواقع ذلك المجتمع ولما يوميء إليه من حاجات وما يستلزمه من تغيير. والتربية العربية، كما سنرى، تستطيع أن تسهم إلى حد كبير في نهضة المجتمع العربي إذا هي وعت هذا الواقع ماضياً وحاضراً وأدركت مطالبه، وإذا هي وعت الواقع العالمي من ورائه وأفادت من حصاد تجربته، وإذا هي أرهصت بالمستقبل العربي المرتجى واستخلصت النتائج التربوية التي تلزم عما توحي به اتجاهاته.
وبقول موجز، تستطيع التربية العربية أن تلعب دوراً كبيراً في تغيير المجتمع العربي وتطوير بنيته وتحقيق نهضته إذا هي عرفت أولاً هذا المجتمع حق معرفته، وكانت لها معرفتها العميقة به مصدر قوة وتأثير. فمن خلال المعرفة العميقة بالمجتمع العربي، وما وراءه من تراث حضاري وما يحيط به من حضارة عالمية عصرية، وما تفرضه النظرة المستقبلية عليه من اتجاهات، يتوجب على التربية أن تضع فلسفتها وغاياتها وأن ترسم مناهجها وأن تعدّ خططها وأن تصوغ سائر مقوماتها. وعند ذلك، في وسعها أن تصبح قوة مؤثرة، تدفع خطوات النهضة إلى أمام، عن طريق ما تحدثه من تغيير فعلي في مجتمع عرفته ووعته وتفاعلت معه، فكان لها شأن في قيادته وريادته. وسنعود إلى ذلك كله بعد حين.
ثانياً – كيف تغيّر التربية العربية المجتمع العربي وتدفعه في طريق النهضة؟
1- إسهام التربية إذن في تغيير المجتمع العربي ودفعه في طريق النهضة جهد ممكن وواجب، ينبغي أن تضطلع به. وهو إسهام يزيد وينقص بمقدار ما تقوى التربية العربية على أن تضع في صلبها وبنيانها أهداف النهضة وآفاقها. وهو كما ذكرنا منذ حين يستلزم الانطلاق من تحليل الواقع العربي للكشف عن حاجاته ومعرفة دلالاته ومستلزماته.
وجوهر الأمر في نظرنا أن يهدي هذا التحليل للواقع العربي وما حوله منطلقٌ أساسي، قوامه التساؤل عن العوامل التي أدت إلى تخلف المجتمع العربي والعوامل القادرة على إدخاله حلبة التقدم والنهضة.
2- والإجابة على مثل هذا التساؤل إجابة شاقة وصعبة. لا سيما أننا لا نجد في الأدب الأجنبي أو العربي أي نظرية قادرة على تفسير أسباب تخلف الشعوب وبيان عوامل نهضتها. ورغم الكتابات الكثيرة التي تناولت تاريخ الحضارات ونشأتها وأفولها، يكاد الباحثون يجمعون على القول أن «علم الحضارة» لم ينشأ بعد.
3- وعندما يقدم بعض المؤرخين والكتاب على تفسير أسباب تخلف الواقع العربي، يذهبون في هذا مذاهب شتى، ويقدّمون تفسيرات مغلوطة أو مغرضة حيناً وتفسيرات ناقصة في معظم الأحيان عاجزة عن تقديم تعليل مقنع للأسباب التي أدت إلى انحطاط الحضارة العربية الإسلامية، وكثيراً ما يقدمون تعليلات هي أقرب إلى وصف أعراض المرض منها إلى تفسير ولادة المرض نفسه. وفي وسعنا أن نشير في هذا المجال إشارات سريعة خاطفة إلى طائفتين من هؤلاء الباحثين في أسباب تخلف الحضارة العربية الإسلامية، وبالتالي في عوامل تقدمها: طائفة الكتاب الأجانب، وطائفة الكتاب العرب.
3-1- أما الكتاب الأجانب فيقدمون غالباً تفسيرات مغرضة أو في أفضل الأحوال خاطئة تصدر عن جهل ببنية تلك الحضارة. ومن هؤلاء أصحاب الدراسات التي شاعت وذاعت منذ القرن الثامن عشر في البلاد الأجنبية حول الحضارة العربية، والتي يقول بعضها بانتساب المجتمع العربي القديم إلى ما عرف باسم «نمط الإنتاج الآسيوي» أو «الاستبداد الشرقي أو الجمود الآسيوي». وقد تلقف هذه الأفكار «انجلز» ورفيقه «ماركس» منذ منتصف القرن التاسع عشر وذهبا بها إلى أبعد مداها. ثم تلقفها من جديد عالم الاجتماع الأميركي الشهير «ماكس فيبر Max Weber» فحاول أن يثبت نظرية قوامها القول بعدم إمكان قيام رأسمالية عقلانية خارج أوروبا، وبأن الإسلام لم يولّد تصنيعاً رأسمالياً بسبب هيمنة البيروقراطية الاستبدادية البطريركية للجند المماليك، وسيطرة ما سماه «بالدولة السلطانية» التي امتدت من حكم السلاجقة والمماليك حتى مجيء الدولة العثمانية.
ومن بين الدراسات الأجنبية المفرضة حول أسباب تخلف الحضارة العربية تلك التي حاولت اتهام الجذور والينابيع الأساسية التي يسقي منها هذا الوجود قيمه وبناه الاجتماعية، وعلى رأسها الدين والتراث الإسلامي والتاريخ العربي الإسلامي، بل العقل العربي. ولا حاجة إلى القول أن مثل هذا المنهج في البحث يصدر عن أفكار ونيّات مسبقة مبيّتة، ولا ينتسب إلى البحث الموضوعي العلمي. ومن القائلين بمثل هذه الأفكار المستشرق «غوستاف فون غرونبوم»، وعالم الأنثروبولوجيا الصهيوني «رافائيل بطي» في كتابه العقل العربي.
3-2- ومما يجلب النظر أن بعض الدراسات العربية تأثرت، عن حسن نية غالباً، ببعض الدراسات الأجنبية بهذا الصدد أو نحت منحاها: وهكذا نجد طائفة من الباحثين العرب يعزون التخلف العربي إلى الشخصية العربية، فهي عند بعضهم شخصية
لا تملك الإحساس بالزمن وبالمستقبل، كما يرى الدكتور حسين مؤنس في كتابه حول «مستقبل العرب» (وقد ردّ عليه ساطع الحصري في كتابه «دفاع عن العروبة»). وهي عند بعضهم الآخر شخصية تشكو فرط الأنانية والإغراق في التركز على الذات. وهي عند آخرين شخصية متبعة لا مبدعة، كما نرى عند أدونيس في كتابه «الثابت والمتحول».
وهنالك فريق من الكتاب العرب، على رأسهم عابد الجابري، يعزو التخلف العربي إلى التكوين الثقافي للعقل العربي عبر التاريخ، ذلك العقل الذي تكون من خلال «المبادئ والقواعد التي تقدمها الثقافة العربية الإسلامية للمنتسبين إليها كأساس لاكتساب المعرفة». وعنده أن ثمة أنظمة ثلاثة تحكم تاريخ الفكر العربي الإسلامي ابتداء مما قبل عصر التدوين ووصولاً إلى عصر الانحطاط. وهذه الأنظمة هي: البيان (الذي يرتد إلى «المعقول الديني») والبرهان (ويرتد إلى «المعقول العقلي») والعرفان (ويرتد إلى «اللامعقول العقلي»).
4- ويطول بنا المقام إن نحن حاولنا تقديم الأمثلة، وهي كثيرة، على الأفكار العربية والأجنبية التي تدعي تفسير التخلف العربي. كما لا يتسع المجال لتنفيذ هذه الأفكار والرد عليها. وكل ما قصدنا إليه هو أن نبين أن ثمة محاولات عديدة قام بها كتاب أجانب وعرب من أجل تفسير التخلف العربي، دون أن تكلل جهودهم بالنجاح. وجل ما أتوا به أفكار مغرضة أو مغلوطة، أو فرضيات ناقصة ترد هذه الظاهرة المعقدة، ظاهرة التخلف، إلى علة واحدة أو وحيدة غالباً، وتقع بالتالي في أخطاء التفسير الأحادي للأمور.
والحق أن أي تفسير للتخلف يحاول رده إلى علة وحيدة، وبوجه خاص إلى علة قائمة في شخصية الأمة أو عقلها البديء تفسير لا يقبله العلم. وليس في الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية أو الاثنية ما يحمل على القول بتقدم أمة على أخرى في الشخصية الفطرية أو العقل البديء. يضاف إلى هذا أن بعض ما توصم به الشخصية العربية وبعض ما يؤخذ على الثقافة العربية الإسلامية بعد انحطاطها، من سيطرة اللفظ على المعنى، والتعامل مع ما في الأذهان بدلاً من التعاون مع ما في الأعيان، وسوى ذلك، مظاهر عرفتها سائر الشعوب أيام تخلفها، وهي لا تعدو بالتالي أن تكون «مصادرة على المطلوب الأول» كما يقول المناطقة. ذلك أن المطلوب هو تفسير هذا التردي الذي حلّ بالثقافة العربية الإسلامية أيام انحطاطها فهو نتيجة للتخلف لا سبب له.
5- وإلى جانب هذه الدراسات التي ترد التخلف إلى علة حالّة في الشخصية العربية أو الثقافة العريبة، ثمة دراسات من طراز آخر تحاول البحث في مقاييس التخلف وشروط التقدم، وأن تطبقها على الوجود العربي. وعلى رأس تلك الدراسات تلك التي نجدها عند قسطنطين زريق في كتبه العديدة، ولا سيما كتابه «في معركة الحضارة» وكتابه عن «مطالب المستقبل العربي» وكتابه «نحن والمستقبل» وكتابه «أي غد».
ولن نستطيع التريث عند هذه الدراسات وأمثالها. وحسبنا أن نقول أن قسطنطين زريق يقدم ثبتاً بمقاييس التحضر ويردها أحياناً إلى مقاييس ثمانية، ويرد هذه بدورها إلى ثلاثة: مقدار الإبداع – وتنوع أشكاله ومدى انتشاره – ونوع الأشخاص الذين يتمثل بهم. كما أنه يتحدث عن مظاهر تخلف الأمة العربية وأسبابه، فيرد هذا التخلف إلى ضآلة سيادتنا للطبيعة، وضعفنا في استغلال مواردها وإلى هزال تنظيمنا الاقتصادي والاجتماعي، ويرى أن منشأ ذلك «ركود العقل فينا وفقداننا الفضائل الفردية والاجتماعية التي تكونت في تراثنا الخاص، وعزوفنا عن نشدان الفضائل في مصادرها الأخرى». وهو في هذا كله يعتبر الثورة العقلية رأس الثورات، دون أن ينسى «الثورة القيمية» وثورة العلم والتكنولوجيا.
ولا شك أن قسطنطين زريق يقدم تحليلاً شاملاً وعريضاً لأسباب التخلف وشروط التقدم، ويضع في هذا لائحة من الأسباب لا يخالفه فيها أحد، وتكاد تجمع كل ما يمكن أن يضمه التخلف، وكل ما يمكن أن يرافق التقدم. غير أنه في واقع الأمر لا يعدو أن يصف أعراض التخلف ويعددها، وأن يستعرض المظاهر التي ترافق التقدم ويحصيها، دون أن يمضي إلى أبعد من هذا، نعني إلى العوامل التي تولّد أعراض التخلف، وإلى أمهات الشروط التي ينبغي أن تتوافر كيما ينطلق التقدم. صحيح أنه يؤكد أهمية بعض الشروط في تحقيق التقدم: كتكوين القدرة الذاتية بوجهيها العلمي التكنولوجي من جانب، والأدبي الخلقي من جانب آخر، وكالاتجاه القومي، والاتجاه العالمي وسوى ذلك. ولكن هذه الشروط التي يؤكد على أهمية تكوينها في حاجة بدورها إلى توافر شروط أخرى محركة، هي ضالّة البحث عن سبل نهضة الأمة العربية.
6- وقد كان بودنا الحديث ولو بإيجاز عن كتاب آخرين أدلوا بدلوهم في مجال تفسير التخلف العربي وبيان مقومات النهضة العربية، وهم كثيرون. غير أن مثل هذا الحديث يستغرق الصفحات الطوال بل الكتب والأسفار. والإيجاز وحده هو الذي جعلنا نطوي الحديث عن مؤلفات هامة في هذا المجال، من أبرزها دراسات زكي نجيب محفوظ ولا سيما في كتابه «تجديد الفكر العربي» وفي كتابه «هموم المثقفين»، ودراسة معن زيادة في كتابه القيّم «معالم على طريق تحديث الفكر العربي»، ودراسات فؤاد زكريا ومن بينها «آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة» والدراسات الهامة والقيمة التي قام بها بعض أصحاب الاتجاه الإسلامي المجدد، من أمثال حسن حنفي ومحمد عمارة وسواهما. هذا إذا لم نذهب إلى أبعد من الزمن الحاضر، إلى دراسات كبار المجددين، من أمثال خير الدين التونسي وعبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده ورشيد رضا والشيخ البشير الإبراهيمي والشيخ عبد الحميد بن باديس وعبد الكريم الخطابي وطاهر عاشور وسواهم.
7- وأياً كانت الحال فليس قصدنا المعالجة المباشرة والكاملة لهذا الموضوع الواسع، موضوع التخلف العربي والتقدم العربي وأسبابهما وعواملهما. وجلّ ما استهدفناه هو أن ندرك جانباً من الصعوبات التي تواجهها التربية عندما تحاول أن يكون لها في مسيرة النهضة العربية نصيب ذو بال. ولعلنا أدركنا من خلال الدراسات المختلفة التي أتينا على ذكرها أن الأفكار الهادية لطريق النهضة العربية ما تزال مقصّرة، إن لم تكن في كثير من الأحيان قلقة أو مضطربة أو ضالة. والغايات التي ترسم للنهضة العربية والأساليب التي توضع لبلوغها ما تزال بالتالي حائزة غير مطمئنة، ولا تجد فيها التربية ما يسعفها في بناء نظامها على نحو ييسر سبيل تلك النهضة.
وبتعبير آخر، الفلسفة التربوية، وبالتالي الخطط التربوية والبنى والمضامين التربوية، القادرة على الإسهام في مسيرة النهضة، تفتقر إلى فلسفة اجتماعية شاملة تدلّها على أغراض تلك النهضة وغاياتها وسبل تحقيقها. ومثل هذه الفلسفة الاجتماعية الشاملة ما تزال مضمرة، إن لم تكن حائرة تتلمس أغراضها تلمساً عشوائياً.
8- ولا نزعم أن في وسعنا في مثل هذه الأمسية أن نرسم معالم تلك الفلسفة الاجتماعية التي تسقي منها التربية فلسفتها وأهدافها وخططها وبناها. غير أننا نطمح أن نخطو بعض الخطوات التي قادنا إليها تنقيبنا الطويل في هذا المجال:
8-1- وأول ما نود أن نقرره بهذا الشأن، هو ما سبق أن أشرنا إليه في أكثر من موضع من محاضرة هذا المساء، نعني أهمية انطلاق الفلسفة الاجتماعية التي تتخذها البلاد العربية سبيلاً للنهضة والتي تسقي التربية منها فلسفتها ومقوماتها، من تحليل دقيق وعميق ومتكامل لميادين أربعة هامة هي عمد الثقافة العربية المنشودة وقواعد نهضتها، ونعني بها: التراث العربي الإسلامي، والواقع العربي القائم، والواقع العالمي، والمستقبل العربي المأمول.
وقد قادنا تحليلنا لهذه الميادين الأربعة، ولا سيما في كتابنا الذي دفعناه للنشر مؤخراً في سلسلة عالم المعرفة وعنوانه «نحو فلسفة تربوية عربية»، إلى الكشف عن غايات وأهداف كبرى يمكن أن نعتبرها بمثابة القوى القادرة على تحريك الوجود العربي وبث الحياة والدينامية فيه، واندفاعه اندفاعاً ذاتياً في طريق التقدم والنهضة. وسوف نشير إلى تلك الغايات والأهداف إشارات خاطفة، بلغة أشبه بلغة البرقيات. وقبل ذلك لا بد أن نقول أننا قد نجد بعض هذه الغايات والأهداف مبذولة في العديد من الكتب، أو في دساتير الدول العربية وقوانينها، أو في الأهداف التي ترسمها للتربية. وما أتينا به من جديد هو أننا تخيّرنا، من خلال تحليل الواقع بأوجهه المختلفة، الأهداف الأساسية التي يمكن أن نعتبرها رأس الحربة أو رأس الرمح في مسيرتنا نحو التقدم، والتي تبدو لنا قادرة على توليد وثبة حيوية ذاتية تقضي على رواسب التخلف من خلال المواقف الحارة والمبدعة والمؤمنة، وتبدع النهضة والتقدم بعد أن أطلقت قوى الشعب العربي من عقالها، بفضل ما تملكه من قوة دفع وتوثب.
8-2- ولننتقل الآن إلى الحديث عن تلك الغايات والأهداف كما استخلصناها من تحليل الواقع العالمي والواقع العربي في حاضره وفي جذوره وأصوله الماضية وآفاقه المستقبلية.
لقد كشف لنا هذا التحليل عن أهم مصادر العقم في حياتنا يمكن ردها إلى علل أساسية يرتد إليها سواها. على رأسها علل كالآتية:
تخلف الإبداع وجموده – سيطرة روح المحافظة ورفض التغيير – ذيوع روح العصبية والتعصب وضعف الفكر النقدي – ضعف النظرة المستقبلية – ضعف القدرة التنظيمية – ضعف النخبة – انغلاق المجتمع العربي على ذاته وضعف انفتاحه على التجربة العالمية – سيطرة سلطان الماضي – إهمال كثير من القيم التراثية الإيجابية الهامة، سواء كانت فردية أو اجتماعية – إغفال العديد من آداب السلوك الاجتماعي التي يحفل بها تراثنا – الخ…
هذه العلل الأساسية يزداد ادراكنا لخطرها أن نحن قرنّاها بأمرين:
أولهما مناقضتها للقيم العربية الإسلامية الحية الأصيلة التي نجدها في مبادئ الدين الإسلامي وفي مسيرة الحضارة العربية الإسلامية أيام ازدهارها وخصبها وحيويتها. وعلى رأس تلك المبادئ:
احترام الإنسان وتأكيد حقوقه والإيمان بطاقاته وقدراته المبدعة وبعقله الخلاق – التأكيد على العلم وشأنه والإيمان بقدراته المبتكرة – التأكيد على أهمية العمل والإنتاج والعطاء للمجتمع – التراحم والتواصل والتناصح والرفق والتسامح الفكري والاجتماعي ونبذ التعصب وإنكار عصبية الجاهلية – صون كرامة الإنسان أياً كان وأنى كان – الإيثار والغيرية – العمل للغد وللمستقبل – رفض التقليد ومجرد السير على سنن الآباء والأجداد – اجتناب الهدر والإسراف والتبذير، والعمل على تنمية الثروة وحسن استخدامها – وسوى ذلك مما نجده مبثوثاً في ثنايا تراثنا العربي الإسلامي.
والأمر الثاني الذي يجعلنا ندرك خطر مظاهر التخلف والجمود في حياتنا (على نحو ما أوجزناها) أنها تسير في عكس مسيرة الحضارة العالمية في وجهها المبدع المعطاء (وللحضارة العالمية دون شك وجهها الآخر المظلم ومشكلاتها الإنسانية العميقة). والسمات الإيجابية الحية والمبدعة لتلك الحضارة العالمية كثيرة، من أبرزها، كما انتهى إليه تحليلنا لها ما يأتي: ذيوع روح المبادرة والخلق والإبداع – نمو مشاعر الحرية والديمقراطية – روح المغامرة والتجديد والتغيير – احترام الإنسان – النظرة إلى المرأة ودورها (في جوانبها الإيجابية دون السلبية) – نمو النشاطات الثقافية وسائر النشاطات اللصيق بطبيعة الإنسان وحاجاته.
وانطلاقاً من هذا التحليل للواقع العربي ماضياً وحاضراً في جوانبه السلبية والإيجابية، وللواقع العالمي في محاسنه ومثالبه، ومن تلمسنا لرؤى المستقبل العربي الممكن والمرتجى، استبان لنا أن ثمة معالم أساسية للفلسفة التربوية العربية القادرة على إيقاظ الوجود العربي من سباته وعلى دفع عجلة التقدم فيه شيئاً بعد شيء. وعلى رأس تلك المعالم: تكوين روح الخلق والإبداع لدى الناشئة – تكوين القدرة على التغيير والتغير وما يرتبط بها من تجاوز للذات وللمجتمع – تكوين الفكر الناقد – تكوين روح التسامح والتآلف وما يلحق بها من نبذ العصبية والتعصب – تكوين روح السيطرة على المستقبل وقيادته – تكوين روح التنظيم وما يتبعها من حسن الإدارة والتسيير – تكوين الروح العلمية بما تشتمل عليه من أصول منهجية ومن نظام عقلي – تكوين روح الحماسة للعمل، وما يرافقها من روح التحدي، تحدي الذات وتحدي الطبيعة – تكوين روح التعاون والتضامن والعمل الجماعي المشترك – العناية بذوي المواهب وبتكوين النخبة – تكوين الروح الديمقراطية – تعهّد القيم الخلقية الإيجابية وأنماط السلوك الرفيعة.
على أن تحليلنا الأعمق قادنا إلى ما هو أبعد من هذا كله. ذلك أن الغايات التي أتينا على ذكرها والتي نستطيع أن نقول إنها إلى حد بعيد غايات محمّلة بالطاقة والحيوية، لأنها تستجيب لحاجات المجتمع العربي وتنطلق من تراثه ومن حاضره ومن رؤى مستقبله، كما تأخذ بعين الاعتبار حصاد التجربة العالمية، نقول أن هذه الغايات التي أتينا على ذكرها تحتاج إلى تربة تفجر فيها الحياة وإلى إيمان يحملها ويمضي بها ويفتق طاقاتها. وهذه التربة، كما تدل على ذلك تجارب الشعوب وتجربة الأمة العربية، هي «الإيمان القومي» الذي يعني أول ما يعني أن يجد الإنسان ذاته وهويته في تراثه القومي، وأن يعمل جاهداً لإغناء هذا التراث بحيث يفجّر منه حضارة جديدة لها سماتها الخاصة، فضلاً عن إسهامها في مسيرة الحضارة العالمية. وتجارب العديد من الأمم ماضياً وحاضراً، وتجربة اليابان بوجه خاص منذ عصر «ميئجي» (عام 1862) تشهد على ذلك. بل أن التجربة العربية الإسلامية أبلغ حديثاً وأفصح قيلاً. فالأمة العربية حين وعت ذاتها ورسالتها بفضل الإسلام وحين حمّلها الإسلام رسالة إلى العالم، استطاعت أن تنطلق انطلاقاً ذاتياً وبقواها الذاتية في طريق بناء حضارة شامخة متطورة ومتجددة.
وهكذا نستطيع أن نقول في خاتمة المطاف أن للنهضة العربية المرجوة شروطها التي لا بد أن تعيها التربية وتتخذها غايات وأهدافاً لها. وقد أشرنا إلى أهم تلك الشروط والغايات. غير أن هذه الغايات جميعها التي يتوجب على التربية تكوينها لدى الناشئة إن أرادت أن تسهم إسهاماً فعالاً في مسيرة النهضة العربية، تتفتح وتزكو بل تتفجر قوة وعطاء عن طريق الإيمان، الإيمان بالأمة العربية ومستقبلها وقدرتها على بناء حضارتها من جديد. والشحنة الانفعالية التي يولدها مثل هذا الإيمان تجعل العمل التربوي وسواه من أجل الغايات الكبرى للمجتمع وللتربية عملاً محمّلاً بالحرارة والزخم وبالقدرة على الرد على التحديات، تلك القدرة التي يرى فيها المؤرخ الكبير «توينبي» أهم عوامل النهضة والتقدم لدى الأمم.
وجملة القول إن التربية تستطيع أن تسهم إسهالاً فعالاً في مسيرة النهضة إذا توافرت في غاياتها وفي وسائل تطبيق تلك الغايات أمور ثلاثة: أولها العناية بتكوين جملة من القيم والاتجاهات، عددنا بعضها، هي تلك التي أكدها تراثنا وأكدها تحليل التجربة العالمية والواقع العربي. وثانيها العناية بتكوين القدرة العلمية التكنولوجية الذاتية، وتوفير المهاد اللازم لانطلاقهما. وثالثهما تعبئة القوى والطاقات عن طريق الإيمان القومي، الإيمان بقدرة الأمة العربية على النهوض بقواها الذاتية، وعلى بناء حضارة تليدة جديدة تقف شامخة أمام الحضارات العالمية الأخرى، وتحفظ للفرد العربي وللمجتمع العربي هويتهما وكيانهما وكرامتهما بالتالي.
ثالثاً – واقع التربية العربية ومدى إسهامها في مسيرة النهضة
1- لقد تحدثنا حتى الآن عما ينبغي أن تكون عليه التربية، ولا سيما فلسفتها، إذا هي أرادت أن تسهم إسهاماً بارزاً في مسيرة النهضة العربية.
ومن حقكم أن تطرحوا سؤالين ناقدين لما قمنا به حتى الآن.
أولهما هل التربية في نهاية الأمر هي فلسفة التربية؟ وهل إسهام التربية في مسيرة النهضة يتأتى عن طريق تجويد غاياتها وأهدافها الكبرى وحدها؟
والسؤال الثاني: لقد حدّثتنا عما ينبغي أن تكون عليه التربية إن هي عزمت أمرها على الإسهام في مسيرة النهضة. ولكن أين هذا كله من واقع التربية العربية؟ وما هي صورة هذا الواقع بالتالي، وما مدى قدرة مثل هذا الواقع التربوي على دفع عجلة النهضة العربية؟
2- والسؤالان في نظرنا متكاملان، فلئن كان من الصحيح أن فلسفة التربية ليست كل شيء في النظام التربوي، فإن من الصحيح كذلك أن سائر مقومات النظام التربوي تضل طريقها إن لم تهدها فلسفة تربوية واضحة تنعكس بعد ذلك في السياسة التربوية والخطط التربوية والممارسة التربوية. وهذا المبدأ، نعني افتقاد الفلسفة التربوية الهادية للنظام التربوي، هو رأس ما يشكو منه النظام التربوي في البلاد العربية، ومصدر سائر العلل فيه إلى حد كبير.
ولا يعني هذا أننا لا نجد أهدافاً مرسومة للتربية في بلداننا العربية. ولكنه يعني أن ما نجده، على شأنه وقيمته، لا يصدر عن تحليل كامل متكامل للواقع العربي وما حوله، ولا يشتمل بالتالي على أهداف إجرائية تسقي قيمتها وقوتها من تجذرها في الواقع، وتستطيع بالتالي أن تنقلب إلى سياسات وخطط تربوية ومناهج وطرائق وبنى وسوى تلك من مقومات العملية التربوية.
3- ومن هنا كان اهتمامنا الخاص بالحديث عن معالم الفلسفة التربوية العربية القادرة على الإسهام في مسيرة النهضة العربية، ومن هنا كان تريثنا الطويل عندها. لا سيما أن موضوعنا لصيق بطبيعته بمثل هذه الفلسفة التربوية، ما دام يدور حول النهضة العربية، تلك النهضة التي تحتاج إلى قوى فكرية ناظمة تحركها أكثر من حاجتها إلى شتات من العمل التربوي المتناثر أو المهدور أو الضائع، لافتقاده الخيط الرائد الذي يحكم الربط بين مقوماته المختلفة.
4- ولا أدل على هذه الحقيقة من تحليلنا لواقع التربية العربية، ذلك التحليل الذي يكشف لنا، كما سنرى، عن تخبط كبير فيه، يرجع أولاً وقبل كل شيء إلى انعدام النظرة الكلية الشاملة والنظرة الفلسفية الجامعة. وهذا لا يعني أن التربية في البلاد العربية لم تحقق تقدماً كمياً ونوعياً كبيراً، ولا يقلل من شأن الجهود الطيبة التي بذلتها الدول العربية في سبيل نشر التربية وتجويدها وتجديدها. وكل ما في الأمر أن تلك الجهود الثمينة كان في وسعها أن تقود إلى عطاء حضاري أكبر وأعمق، لو توافرت لها النظرة المحللة المدققة التي تعرف كيف تولّد النظام التربوي من قلب حاجات المجتمع ومطالب بناء حضارته. ولا تثريب عليها في ذلك، فمثل هذه النظرة التي تتقرى حاجات المجتمع، وتكشف عن عوامل التغيير فيه، وترهص بمستلزمات مستقبله، عمل دائب وطويل، وجهد جماعي مشترك، لا بد أن تعبأ له طاقات الأمة العربية مجتمعة.
ولن نقوى، في مثل هذه الأمسية، على الحديث حديثاً شافياً عن مواطن القوة والضعف في التربية العربية. ولهذا الموضوع مظانه الكثيرة الموفورة. وحسبنا أن نشير إلى بعض السمات البارزة التي تسم هذه التربية، والتي تكشف عن عجزها عن الاضطلاع بكامل دورها في مسيرة النهضة العربية.
4-1- إذا نحن بدأنا بالجانب الكمي، وجدنا أن البلاد العربية عرفت في العقد الأخير تطوراً كبيراً في أعداد الملتحقين في كل من التعليم الثانوي والعالي، وذلك بعد أن كاد التعليم الابتدائي يستوعب جميع الأطفال الذين هم في سن التعليم، في معظم الدول العربية، مع فوارق كبيرة بين دولة وأخرى في هذا المجال. وهذا لا يعني أن البلاد العربية كلها سوف تصل إلى تعميم التعليم الابتدائي في نهاية هذا القرن. وسيظل هنالك حوالي 12 مليون طفل عربي خارج التعليم في جملة الوطن العربي. ولن تتجاوز نسبة الملتحقين بالتعليم الابتدائي إلى فئة العمر المقابلة 81.6% في جملة الوطن العربي حسب إحصاءات منظمة اليونسكو.
على أن الذي يعنينا هنا ليس تعميم التعليم الابتدائي، بل الزيادة الكبيرة والسريعة في أعداد الملتحقين بالتعليم الثانوي والعالي. ومن المتوقع أن تصل نسبة الملتحقين بالتعليم الثانوي إلى فئة العمر المقابلة عام 2000 إلى حوالي 60% في جملة دول المنطقة، وأن تتضاعف بالتالي أعداد الطلاب في التعليم الثانوي ثلاث مرات (ما بين عام 1984 وعام 2000 كما تدل الإسقاطات).
هذا التكاثر السريع في عدد طلاب التعليم الثانوي يملي على البلدان العربية أن تقوم بتغييرات جذرية في بنية التعليم الثانوي، وفي توزع طلابه بين التعليم الثانوي العام والتعليم الثانوي الفني والمهني والتقني. وقد قامت جهود كبيرة بهذا الشأن في معظم الدول العربية. غير أن ثمة عقبات كبرى تقوم في وجه التوزيع السليم لطلاب التعليم الثانوي على فروع هذا التعليم المختلفة، على رأسها عدم توافر تخطيط دقيق يربط بين حاجات التنمية وحاجات القوى العاملة من جانب، وتوزيع الطلاب على فروع التعليم الثانوي وأقسامه من جانب آخر. يضاف إلى هذا أن مناهج التعليم الثانوي جملة، ومناهج التعليم الفني والمهني والتقني بوجه خاص، في حاجة إلى مراجعة كاملة، كما أن الاختصاصات المختلفة في حاجة إلى إعادة نظر شاملة في ضوء تطور سوق العمل وظهور مهن جديدة وانقراض مهن أخرى. وفي الجملة يحتاج التعليم الثانوي في البلاد العربية إلى تبني صيغ مرنة تتلون بلون الحاجة، تهدف إلى توجيه عناية خاصة إلى «الشبان الراشدين» كما يقال، أي الذين يرتادون التعليم الثانوي وما بعده، نعني فئة العمر التي تتراوح بين 16-25 سنة. ويستلزم ذلك التفكير في صيغ ونماذج تعليمية جديدة ومتنوعة، انطلاقاً من حاجات العمالة وحاجات التنمية الشاملة.
وما يصدق على التعليم الثانوي يصدق على التعليم العالي، بل يصدق بتعبير أدق، كما سبق أن ذكرنا، على جميع المرحلة الممتدة من نهاية التعليم المتوسط (الذي يكاد يغدو إلزامياً في كثير من البلدان العربية) حتى أعلى مراتب التعليم العالي. وإذا نحن نظرنا إلى التعليم العالي بالمعنى المألوف، وجدنا أن إسهامه في التقدم العلمي التكنولوجي وفي التنمية بوجه عام، وبالتالي في النهضة والتقدم، ما يزال مقصراً عن شأوه في البلاد العربية. هذا فضلاً عن تقصيره الواضح في مهمة هي على رأس مهماته نعني تعزيز الذاتية الثقافية. وفيه أيضاً نجد الارتباط بين أعداد المنتسبين إلى فروعه واختصاصاته المختلفة وبين حاجات القوى العاملة ارتباط ضعيف وعشوائي غالباً. ومن الأدلة على ذلك أن نسبة الطلاب الملتحقين بالعلوم الطبيعية والهندسة والطب والزراعة لا تصل إلى 50% من مجموع الطلاب في التعليم العالي إلا في بعض البلدان العربية. بل لا أدل على ذلك من أن خريجي هذه الفروع العلمية أنفسهم لا يجدون فرصاً كافية للعمل. الأمر الذي يشير إلى التباعد المتزايد الذي يقوم بين ما يعدّه النظام التربوي وبين ما تحتاجه سوق العمل وتحتاجه خطط التنمية. ولا نغلو إذا قلنا أن الدراسة الجامعية قد غدت لدى كثير من الملتحقين بها مجرد إرجاء للبطالة بضع سنوات. وفي هذا ما ينذر بأخطار اقتصادية واجتماعية وقومية كبيرة. ومن هنا كان لا بد من إعادة نظر جذرية في سياسات القبول في التعليم العالي، وفي فروع الاختصاصات السائدة فيه، وفي مضمون الأعداد الذي يقوم به. بل لا بد من ربط وثيق بين مؤسسات التعليم العالي والمؤسسات الصناعية والزراعية والإدارية القائمة في كل بلد. لا بد من ربط التعليم العالي بمؤسسات الإنتاج، بل من الربط بين التربية والعمل المنتج.
ويطول بنا الحديث إن نحن مضينا في تحليل واقع التعليم في البلاد العربية،
ولا سيما التعليم الثانوي والعالي. ونلتهم الصفحات الطوال إن نحن أردنا الإشارة إلى أبرز الجهود التي ينبغي أن تبذل في سبيل تصحيح مسيرته. على أن ما لا بد من الإشارة إليه، عابرين، فيما يتصل بالجوانب الكمية، الارتفاع الذي ما يزال كبيراً في عدد الأميين، إذ بلغت نسبتهم إلى مجموع السكان 56.5% لدى فئة العمر من
15 سنة فما فوق، وذلك عام 1985. ومن المقدر أن تهبط هذه النسبة إلى 40% في نهاية هذا القرن، أي نحو اثنين من الأميين بين كل خمسة أفراد. وكلنا يعلم أن الأمية سهم قاتل للتنمية وللتقدم والنهضة. كذلك لا بد من الإشارة إلى النسبة الضئيلة جداً من الأطفال الذي يلتحقون بالمدرسة السابقة على المرحلة الابتدائية في البلاد العربية. وكلنا يعلم أهمية هذه المرحلة من العمر ودورها الحاسم في تكوين شخصية الطفل بل في النجاح في المراحل الدراسية التالية.
4-2- أما إذا نحن انتقلنا إلى الجوانب النوعية للتربية العربية، وقد لمسنا بالضرورة جانباً منها أثناء حديثنا عن الجوانب الكمية، وجدنا أنفسنا أمام مشكلات ضخمة وواسعة، يحتاج الحديث عنها إلى مؤلفات برأسها. وقد قامت في البلاد العربية جهود كبيرة في العقدين الأخيرين بوجه خاص لتطوير هذه الجوانب النوعية. ومع ذلك فالشوط ما يزال بعيداً. وحسبنا أن نشير إلى عناوين تلك المشكلات النوعية دون توقف عند محتواها:
4-2-1- أول ما يفجأنا في معظم النظم التربوية في البلاد العربية ضعف المواقد المحركة لتطوير التربية، إن صح التعبير. ونعني بها أولاً الافتقار إلى فلسفة تربوية هادية، كما سبق أن ذكرنا، مستمدة من تحليل دقيق لحاجات المجتمع العربي. ثم الافتقار إلى سياسات تربوية واضحة والهوة القائمة في هذا المجال بين أصحاب القرار وبين المنفذين للسياسة التربوية. ويلي ذلك عدم توافر استراتيجية تربوية في معظم الأحيان. وفوق هذا، وأهم من هذا، ضعف أجهزة التخطيط التربوي وضعف الخطط التربوية الموضوعة والهوة بينها وبين تنفيذها لأسباب لا مجال لتعدادها. وأخيراً وليس آخراً ضعف الإدارة التربوية (ومعها الإدارة المدرسية)، وجنوحها إلى المحافظة وتأبيها على الجديد، والاستمرار في استخدام الأساليب الإدارية القديمة التقليدية في معظم الأحيان، رغم ظهور تقنيات إدارية متطورة في عصر الثورة الإدارية، عصر الحاسوب الالكتروني. وفي الجملة تتصف البنية الإدارية التربوية القائمة في معظم البلدان العربية، والتي تضم فيما تضم التخطيط التربوي، بأنها إدارة «تسيير» قبل أن تكون إدارة «تطوير»، وبأنها إدارة تعمل يوماً بيوم كفافاً وقلماً ترقى إلى مستوى الإدارة المستقبلية التي تعالج مشكلات اليوم من خلال آفاق الغد، وتكتب منذ اليوم «تاريخ الغد» كما يقال.
4-2-2- وإذا نحن تركنا هذه الأطر العامة للتربية، نعني الفلسفة التربوية والسياسة التربوية والخطط التربوية والإدارة التربوية، وانتقلنا إلى محتوى التربية، أي إلى مناهجها (التي تضم طرائقها بطبيعة الحال) وإلى نشاطاتها اللاصفية، وإلى إعداد المعلم فيها، وإلى وسائل التقويم والامتحانات فيها، وإلى سلمها التعليمي وما يشتمل عليه من مراحل وفروع وأقسام، وسوى ذلك كثير، نقول إذا انتقلنا إلى محتوى التربية بكل ما فيه مما ذكرنا ولم نذكر، وجدنا أن نتائج العلوم التربوية الحديثة في هذه المجالات جميعها، ولا سيما فيما يتصل بقدرات الأطفال والارتقاء بها، لم تجد بعد سبيلها إلى معظم النظم التربوية العربية. ووجدنا بشكل خاص، في إطار الموضوع الذي يعنينا، أن العناية بالموهبة والموهوبين وبتنمية روح الخلق والإبداع منذ نعومة الأظفار، ما تزال مفقودة أو خجولة تمشي على استحياء. ومثل هذا يصدق على تكوين الروح العلمية، وإشاعة المهارة العملية والتقنية والتكنولوجية منذ طور مبكر، والتعرف على ما في اليد من ابتكار، وبث روح التعاون والتضامن، وممارسة الديمقراطية والنقد، وتكوين القدرة الذاتية على الحكم والمحاكمة، وسوى ذلك كثير.
4-3- ومما يزيد في خطورة الأمر، أن هذا النظام التربوي العربي المقصّر عن مداه كماً ونوعاً، يحمّل الدول العربية أعباء مالية تنوء بحملها. فالإنفاق العام على التربية في جملة البلاد العربية يتحلق حول 5% من ناتجها القومي الإجمالي، مع تباين كبير بين بلد وآخر. ففي عام 1980 كانت نسبة هذا الإنفاق في الإمارات العربية المتحدة 1.5% بينما ارتفعت إلى 8.3% في الجزائر وفي بلدان أخرى. أما الإنفاق العام على التربية بالقياس إلى مجموع الإنفاق الحكومي فيتراوح تبعاً للبلدان بين 8% (كما في الإمارات العربية المتحدة) و25% كما في الجزائر، ويفوق في ثلثي الدول العربية تقريباً 12% من مجموع الإنفاق الحكومي. هذه الأرقام تدل على أن معظم الدول العربية تنفق على التربية ما يفوق طاقتها في كثير من الأحيان. ومع ذلك فهذا الإنفاق ما يزال عاجزاً في معظم الأحوال عن أن يولّد نظاماً تربوياً قادراً على أن يستوعب جميع من هم في سن التعليم الابتدائي، وعلى أن يستقبل أعداداً أكبر في التعليم المتوسط والثانوي بوجه عام وفي التعليم الفني والمهني والتقني بوجه خاص، وعلى أن يفتح أبواب التعليم العالي للراغبين فيه، لا من خريجي التعليم الثانوي فحسب، بل ممن يدعون اليوم «بالزبائن الجدد» في التعليم العالي، نعين الكبار الذين يعودون إليه لإكمال تدريبهم، أو العاملين الراغبين في الحصول على دورات تدريبية ملائمة، أو الراغبين في تجديد معارفهم بعد انقطاع، وسواهم. كذلك ما تزال هذه التربية المكلّفة عاجزة عن محو الأمية، مقصّرة في التعليم السابق على المرحلة الابتدائية. متخلفة في تعليم المعوقين والموهوبين، فضلاً عن تخلفها النوعي في مناهجها وكتبها وتقنياتها، والخدمات الاجتماعية التي نقدمها للطلاب، ونشاطاتها اللاصفية، ومستوى إعداد معلميها، وسوى ذلك. هذا إذا لم نشر إلى جانب يكتسب أهمية يوماً بعد يوم، ولا بد منه لمعالجة مسألة التقريب بين ما يخرجه النظام التربوي وما تحتاجه سوق العمل المتطورة والمهن والأعمال والتقنيات الجديدة فيها، ونعني بذلك الجانب «التعليم غير النظامي» وسائر أشكال التربية المستمرة.
5- هذا الواقع التربوي العربي الذي أشرنا إشارات خاطفة إلى بعض ثغراته، يزيد في أهمية الخروج من أزمته ما يشكو منه الواقع العربي جملة من مشكلات بعضها صارخ، وما يسري إلى هذا الواقع العربي من مشكلات عالمية تزيد في أزمته. الأمر الذي يجعل علاج المشكلات التربوية أشد إلحاحاً، بل شرطاً لا بد منه للخروج بالوجود العربي من أزمته والدخول به في طريق النهضة، ضالتنا جميعاً.
فتحليل الواقع العربي، من جوانبه الاقتصادية على أقل تقدير، يكشف لنا عن مشكلات تتفاقم لا بد من علاجها:
5-1- منها غلبة القطاع الأولي (قطاع الزراعة والصناعات الاستراتيجية) في هيكل الإنتاج. وبالتالي ضعف نصيب الصناعات التحويلية في إجمالي الناتج القومي. أما القطاع الثالثي، قطاع الإدارة، فهو ينمو نمواً مرضياً، لا سيما في البلدان الغنية، إذ يغدو في كثير من الأحيان مستودعاً للعمالة الفائضة.
5-2- ومنها مشكلات القوى العاملة، تلك القوى التي لا تمثل في البلاد العربية أكثر من 26% من مجموع السكان، وذلك بسبب فتوة السكان وضآلة معدلات القوى العاملة النسوية. بالإضافة إلى توزع القوى العاملة توزعاً غير سليم بين قطاعات النشاط الاقتصادي (إذ يستوعب قطاع الزراعة وحده 50% من القوى العاملة)، وداخل الهيكل المهني بين المهن والأعمال المختلفة. وبالإضافة إلى مشكلات انتقال العمالة وهجرتها، ولا سيما هجرة الأدمغة المتزايدة بشكل مخيف.
5-3- ومنها المشكلات السكانية التي تتجلى في التزايد السكاني السريع الذي يتوقع أن يبلغ 4.7% في السنة في نهاية هذا القرن، والذي يجاوز اليوم 4% بل يجاوز في بعض البلدان العربية، كالصومال، 7.9%.
وطبيعي أن يؤدي التزايد السكاني الكبير إلى تزايد عدد من هم في سن التعليم، ومن المقدر أن تبلغ هذه النسبة حوالي 38.2% عام 2000.
يضاف إلى هذا ارتفاع درجة التحول الحضري أي الانتقال من الريف إلى المدينة، ومن المقدر أن تبلغ نسبة هذا التحول 65% من مجموع السكان عام 2000.
5-4- ولا شك أن أخطر هذه المشكلات مشكلة القوى العاملة وبنيتها في البلاد العربية. وتشير الإحصاءات إلى أن من هم في سن العمل عام 1988 في مجموع البلاد العربية (157) مليون فرد. (أما الحجم الفعلي للقوة العاملة العربية الفعلية فيقدر عام 1988 بحوالي ستين مليون نسمة). وتدل بعض الإسقاطات على أن هذا العدد سوف يستمر في الزيادة بمعدلات تتراوح بين 3 – 3.5% خلال الربع الأخير من هذا القرن، وقد تستمر حتى منتصف القرن القادم. الأمر الذي يشكل تحدياً كبيراً للمجتمع العربي، ويستلزم تدابير جذرية في مجال التخطيط الاقتصادي والاجتماعي الشامل وفي مجال التخطيط التربوي والتطوير التربوي.

رابعاً – خاتمة
1- وبعد، مائة سؤال وسؤال يثيرها ذلك الموضوع الضخم والخطير، موضوع دور التربية في مسيرة النهضة العربية.
ولا نزعم أننا أجبنا على هذه الأسئلة جميعها، بل حتى على طرف منها. بل لعل ما طرحناه من الأسئلة أكثر من الذين أجبنا عليه. وقد يغفر لنا هذا كله أو بعضه أننا لم نلجأ إلى معالجة هذا الموضوع معالجة تحليلية عرضانية، بل آثرنا النظرة الكلية التركيبية التي تحاول أن تنفذ إلى جوهر المسألة. وجوهر المسألة عندنا أن البلاد العربية بذلت جهوداً كبيرة وجبارة في سبيل نشر التربية وتطويرها. بل لم تبخل بالمؤتمرات والندوات والحلقات تترى، تطرح فيها همومها التربوية وتبحث عن وسائل تجويد صنيعها التربوي. وقد أبلت منظماتها التربوية في هذا المجال بلاءً حسناً، وعلى رأسها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ومكتب التربية العربي لدول الخليج. بل إنها اغتذت بحصاد التجارب العالمية والمنظمات الدولية وعلى رأسها منظمة اليونسكو.
2- ومع ذلك فالتجديد التربوي ما يزال وئيد الخطى. ومخرجات النظام التربوي، على كثرتها، لم تستطع أن تسدّ الثغرات الكبرى في بنية القوى العاملة ومشروعات التنمية والحاجات الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن عجزها عن أن تطور بنية المجتمع العربي وبنية مؤسساته ومواقف أبنائه وقيمهم. بل أن هذا النظام التربوي الذي فتح أبوابه واسعة لأبناء المجتمع، كاد صنيعه هذا ينقلب أزمة ومشكلة، بدأت بوادرها تظهر قوية في بطالة المتعلمين والخريجين.
وفوق هذا وذاك، لم يقو هذا النظام التربوي على توليد تقدم علمي تكنولوجي ذاتي، بل أدى في كثير من الأحيان إلى تزايد نزعات الاستهلاك وتضخمها. ولم يقو كذلك على تكوين شعب موحّد، ومواطن مؤمن، ومجتمع متضامن متكامل.
وقد لا يُسأل عن هذا كله النظامُ التربوي وحده، فهو نظام فرعي من نظام اقتصادي واجتماعي شامل، كما سبق أن ذكرنا. ومع ذلك فقد رأينا منذ البداية أن أمام التربية هامشاً واسعاً تستطيع أن تعمل فيه، وأنها تستطيع أن تزيد في قدرتها على تغيير المجتمع بمقدار ما تزيد في قدرتها على تغيير نفسها. إنها لن تستطيع أن تعطي شيئاً لا تملكه، ولكنها تستطيع أن تعطي الكثير إن امتلكت ذاتها، وجوّدت قوامها ومقوماتها، ووضعت في صلبها ما تريد أن تصل إليه من نتاج.
3- هذا العجز الذي يشكو منه النظام التربوي لا يرجع بالدرجة الأولى إلى عجز في استيعابه للطلاب، أو إلى تقصير في الجهود الكبيرة المبذولة من أجل تجويد محتوى التربية وتقنياتها وبناها وإداراتها والتخطيط لها، وسائر جوانبها. وإنما يرجع، فوق هذا وقبل هذا، إلى نقص في تكامل الجهود التي تبذل، وإلى افتقار إلى النظرة الكلية الشاملة للأمور. والنظرة الكلية الشاملة، لا سيما حين يكون هدفها تيسير مسيرة النهضة، تعني الانطلاق من فلسفة اجتماعية نابعة من تحليل الواقع العربي وما حوله، بحيث يتم توليد فلسفة تربوية تضع الإصبع على الجرح، وتصيب جوف الفرا، أي تستخرج، من ذلك التحليل للواقع العربي ومن تلك الفلسفة الاجتماعية الشاملة، الغايات والأهداف الكبرى التي تحتل مقام الصدارة، والتي يكشف الواقع عن أنها هي القادرة على تحريك الوجود العربي وملئه بالحيوية والنشاط والتوثب.
وبتعبير آخر، لئن كنا نجهل الأسباب الدقيقة التي تؤدي إلى نهضة الشعب، بل لئن لم يكن ثمة أسباب عامة شاملة تنطبق على كل زمان ومكان، فإن الذي نستطيع أن نفعله، كي نقترب من ملامسة فتيل النهضة وإطلاق شرارته، هو أن نتقرى الواقع، الواقع العربي في ماضيه وحاضره، ونتقرى الواقع العالمي بنقائصه وفضائله، ونمد بصرنا إلى حاجات المستقبل العربي، لنستخرج من ذلك كله أمهات الغايات التي إذا أحكمنا بثها، هان علينا إطلاق سائر الغايات.
4- ولم يتح الوقت لنا أن نبين أهمية الغايات التي اخترناها والتي قادنا إليها التحليل. ولم يتح لنا هذا الوقت بوجه خاص أن نبين وسائل بث هذه الغايات في العمل التربوي اليومي، وأساليب نقلها إلى واقع الحياة المدرسية. غير أن العقل التربوي المجرب يسهل عليه أن يدرك ما تقدمه لنا التربية الحديثة من وسائل رائعة من أجل أن ننقل إلى حيز التطبيق غايات كتكوين الإبداع، أو القدرة على العمل الجماعي المشترك، أو إتقان التنظيم، أو امتلاك الروح العلمية، أو تكوين الفكر النقدي، أو سوى تلك من الغايات التي سبق أن عددناها بإيجاز شديد.
5- هذا هو الأمر عندنا. إنه تكوين الإنسان العربي، من خلال التربية وسواها، تكويناً خلاقاً حياً متكاملاً، بحيث يكون «من هو» على حد تعبير «نيتشه»، وبحيث يمتلك وحدته النفسية ويمتلك ذاتاً قادرة على أن تتجاوز ذاتها ومجتمعها، من أجل تجديدها معاً. جوهر الأمر، أن نلامس جوهر الإبداع لدى الفرد وأن نطلقه، حين نُحكم تكوينه.
وتأتي بعد ذلك سائر مقومات النظام التربوي. فتمتاح قوتها وعطاءها وهداها من هذه النظرة الكلية الشاملة، وتغذي بها خططها ومناهجها وسائر جوانبها.
6- على أن تكوين الفرد جزء من تكوين المجتمع. وعلى الرغم من كون الغايات التربوية التي أشرنا إلى أهميتها غايات فردية واجتماعية في آن واحد، فلا بد أن يقوم جهد تربوي كبير من أجل الربط الوثيق بين نظام التربية وبين حاجات المجتمع، ولا سيما حاجاته الاقتصادية والاجتماعية. ومن هنا كان تجويد العملية التعليمية وتجديدها جزءاً لا يتجزأ من العمل التربوي الذي يهدف إلى تيسير مسيرة النهضة، لا سيما أن أي فلسفة تربوية تتضمن بالضرورة الربط بين التربية وبين التنمية الشاملة. وهكذا تنعقد الصلة وثيقة بين الغايات التربوية والفلسفة التربوية من جانب وبين العمل التربوي الفني الذي يفيد من حصاد العلوم التربوية ومن حصاد التجربة العالمية في سبيل الاستخدام الأمثل للموارد المالية والبشرية والفكرية المتاحة للتربية، بحيث نستطيع أن نحكم الربط بين التربية أعداداً ومضموناً وبين حاجات المجتمع، ولا سيما حاجات القوى العاملة والحاجات الثقافية.
وهذا كله يحتاج، كما قلنا ونقول، إلى فلسفة تربوية إجرائية قابلة للتطبيق، معبّرة عن حاجات فعلية، ويحتاج فوق هذا وقبل هذا إلى إيمان بالفلسفة التربوية وإيمان برسالة التربية وإيمان بالنهضة العربية المرجوة. ومثل هذا الإيمان هو دوماً وأبداً وليد «الإيمان القومي» القادر وحده على شحذ الهمم وتعبئة الطاقات، وإخراج الإنسان العربي من مستنقع الضياع وآفاته المتكاثرة إلى واحة العمل الخصيب الشامخ الذي يلم الجهد العربي، ويوظفه في خدمة النهضة العربية التي غدت مسألة وجود أو لا وجود للأمة العربية في هذا العالم المتصارع، وفي قلب القوى الكبرى التي تبتلع الأسماك الصغيرة، وفي حميا معركتنا مع إسرائيل، معركة الحياة أو الموت.
أجل، التربية العربية تستطيع أن تسعف مسيرة النهضة العربية عندما تغدو رسالة، وهي تغدو كذلك عندما تعرف كيف تضع هذه الرسالة في فلسفتها وبناها ومحتواها وسائر جوانب سعيها.
دمشق في 22/1/1990