رسالة باريس

الثقافة العالمية – العدد /50/ – يناير 1990

رسالة باريس
/1/
جعبة حافلة وغذاء دسم ونتاج يخطف الأبصار في تسارعه. تلك هي صفحة النشاط الثقافي في فرنسة خلال هذا الخريف.
والخريف في فرنسة عود إلى النشاط في كل شيء بعد أشهر الصيف الحافلة بمتع الأسفار: المدارس تفتح أبوابها وتعاود مسيرتها. والحياة السياسية تستأنف حمياها. والنقابات العمالية تكشر أيضاً عن أنيابها وينطلق موسم الإضرابات في كثير من مرافق الحياة.
أما المسارح وردهات الموسيقى وقاعات المعارض ودور السينما وسواها من مرابع الفن فالحديث عن فورتها وغليانها عسير كالحديث عن خلية النحل. ومثلها النشاطات الفكرية وما تقذف به المطابع من منشورات وما يثور من هرج ومرج حول الجوائز الأدبية، ولا سيما جائزة «غونكور Goncourt» الشهيرة.
الفرد هنا متخم حقاً، يتلقى كل يوم من أخبار الثقافة ومن بعض نتاجها ما لا يقوى في النهاية على استيعابه. لقد كاد تكاثر الثقافة – وهو دوماً محمود – يغدو عبئاً ومشكلة، لا سيما إذا أضفنا إلى تلك الثقافة ما يتحلق حولها من إعلام صارخ، وما وراء ذلك الإعلام في كثير من الأحيان من مآرب ومن رائحة المال.
وهكذا فالفرد الذي أرادته الثقافة الحديثة حراً غدا مطوقاً، والفرد الذي أرادته تلك الثقافة سيداً بفضلها نامياً عن طريقها، متجاوزاً لها، غدا عاجزاً عن هضمها بله نقدها، تغتاله البضاعة الثقافية المزجاة في كثير من الأحيان وتصنعه وتصوغه على شاكلتها.
ومالنا ولمثل هذا الحديث الذي هو جدير ببحث قائم برأسه. ولنعد أدراجنا إلى ذلك الفيض الثقافي، سواء كان صانعنا أو كنا صانعيه (ولعل كلا الأمرين صحيح، ولعل الصلة دائرية بين صنع الثقافة للفرد وصنع الفرد للثقافة). في هذا الخضم الثقافي الذي نخوض غماره في فرنسة، تجأر دوماً أحداث فذة بارزة نود أن نتوقف عندها بادئ ذي بداءة. وبعد ذلك نمضي، كعادتنا، إلى الحديث عن عالم الفن، ونختم رسالتنا بالإشارة إلى أهم الكتب التي صدرت في الآونة الأخيرة.

(أولاً) أحداث ثقافية هامة:
1- ذكرى مرور خمسين عاماً على وفاة «فرويد»:
طبيعي أن تخصص معظم الصحف والمجلات الفرنسية صفحات كثيرة للحديث عن عالم النفس النمسوي الشهير «فرويد Freud» شيخ التحليل النفسي، وواحد من القلائل الذين أحدثوا انقلاباً في الفكر والحياة، فكانت الأشياء بعده غيرها قبله (ولعل هذا أفضل تعريف للعبقري).
والحديث عن سيرة «فرويد» وتاريخ حياته هو في الوقت نفسه حديث عن سيرة فكره وعن ولادة التحليل النفسي العسيرة. ولا يتسع المقام لهذا كله. وحسبنا قليل جداً من كثير جداً:
ولد «سيغموند فرويد» في «مورافيا» عام 1856، وعاش في «فيينا» وشهد فيها حربين عالميتين، وتركتا فيه جراحاً لم تندمل. وقد غدت هذه المدينة الكبيرة التي كانت عاصمة لإمبراطورية هامة مجرد مقاطعة ثانوية بعد عام 1918، غير أنها ظلت التربة الخصبة لولادة العباقرة، من أمثال فرويد، وشونبرغ Schonberg» وشنيتزلر Schnitzler» وكليمت Klimet»..
غير أن «فرويد» كره «فيينا» دوماً وكرهته هذه المدينة بدورها، فلم يتم تحويل منزله الذي شهد ولادة علم «اللاوعي» إلى متحف إلا عام 1971. وفي ذلك البيت (الذي يقع في شارع «برغ غاسي Berg gase» رقم 19)، عاش فرويد وعائلته، وشقّ طريقه، وحيداً إلى حد كبير، خلال سبع وأربعين سنة. ومع ذلك، بعد أن تجاهلت فيينا «فرويد» فترة طويلة من الزمن، وبعد أن طردته منها عام 1939، عادت فتبنته اليوم، وأحصته في عداد عباقرتها الكبار.
وكما يقصد السواح اليوم بيت «فرويد» في فيينا يقصدون بيته في لندن التي التجأ إليها. وهو بيت من القرميد الأحمر يقع في «هامبستيد Hampstead» وهي منطقة سكنية هامة في شمالي لندن. وبعد وفاته في الثالث والعشرين من أيلول / سبتمبر 1939، عن عمر ناهز الثالثة والثمانين حملت الشعلة ابنته الصغرى والمفضلة «أنّا Anna» حتى توفيت بدورها عام 1982، وبعدها غدا منزله الأخير هذا متحفاً أيضاً (تم افتتاحه عام 1986). وفيه نجد «الديوان» (ديوان التحليل النفسي الشهير) الذي قدمته لفرويد في أواخر القرن الماضي إحدى مريضاته وقد جلبه معه من «فيينا».

أما الحديث عن أفكاره ونظريته وعن مريديه وعن المدارس التي لا تحصى التي تنتسب إليه أو تعارضه أو تعدل أفكاره، فقد ملأ مئات الكتب، ولا يتسع المجال حتى للمرور العابر على ذلك العطاء الغني، فضلاً عن تقويمه ونقده. ولحسن الطالع أن العديد من كتبه قد ترجم إلى اللغة العربية، كما ترجمت إليها كتب كثيرة تتحدث عن نتاجه، عرضاً وتقويماً ونقداً.
2- عيد الكِتاب: «عشق القراءة»
بعد «عيد الموسيقى» و«عيد السينما»، أعلن وزير الثقافة الفرنسي «جاك لانج Jack Lang» عن تخصيص عيد للكتاب أُطلق عليه اسم «عشق القراءة»، وذلك في الحادي والعشرين والثاني والعشرين من شهر تشرين الأول / أكتوبر.
وقد أدى الإعلان عن هذا العيد إلى تعبئة ضخمة لجهود العاملين في ميدان الكتاب في فرنسة كلها. فلقد نظم هؤلاء تظاهرات عديدة احتفالاً بهذا العيد، يصعب إحصاؤها، كان أهمها القيام بحفلات وافتتاح معارض للكتاب في عدد من المدن الفرنسية (يتناول كل منها موضوعاً خاصاً: كتب الأطفال، أو أدب الرحلات، أو الشعر، أو الآداب الأوروبية، أو الروايات البوليسية، أو كتب التاريخ، أو فن الكاريكاتور، الخ..). وفي باريس افتتحت العديد من المكتبات أبوابها طوال الليل والنهار، وتم تنظيم سوق للكتاب في «المكتبة الوطنية»، وعرض «اتحاد المتاحف الوطنية» منشوراته من الكتب الفنية بأسعار رخيصة نسبياً، في متحف اللوفر ومتحف «أورسي» و«القصر الكبير». وفي مسرح «شايو Chaillot» عقدت جلسة للتدرب على الشعر من البحر الطويل، الخ..
ومن بين نشاطات عيد الكتاب «ليلة المؤلفين» التي عقدت في دير «كوردولييه»، و«بستان القراءة» الذي نظم في القصر الملكي القديم (Palais Regal) قرب متحف اللوفر، والمعرض الذي نظمه «معهد مذكرات دور المنشورات الحديثة» (الذي افتتح أبوابه حديثاً).
وما دمنا قد تحدثنا عن عيد الكتاب، من الهام أن نذكر أن «ليلة للشعر» قد تم تنظيمها في 21 تشرين الأول / أكتوبر الماضي، وأن الرئيس «ميتران» وجه رسالة إلى منظميها جاء فيها:
«لا أتصور، كما لا تتصورون، عالماً بلا شعر وبلا شعراء. ذلك أن البرهان على الشعر هو الشعراء أنفسهم أولاً وقبل كل شيء..
إن الشعر، عندما يكون صحيحاً، يبلغ ما هو أساسي. والقوة التي يجمعها القصيد تمضي تواً إلى قلب الوجود. إنها توحي، بوجيز العبارة، بكل ما يمكن أن يكون. ولهذا كان الشعر رسول أمل وحرية، يذيع وينتشر وتنقله الركبان، ويصغي إليه الناس مهطعين في المراحل والأماكن التي يخرس فيها سواه من الكلم.. ».
3- فيمَ العلمُ والفلسفة؟
بين الثاني والرابع من تشرين الثاني / نوفمبر عقد حوالي عشرين عالماً وفيلسوفاً، في مدينة «مان Mans» ندوة موضوعها: «فيمَ العلم والفلسفة؟» وقد نظّمت الندوة صحيفة «الموند» الفرنسية وبلدية مدينة «مان» وجامعة «مين Maine» و«رابطة القراءة والحياة».
ورغم جفاف الموضوعات التي تمت معالجتها، حضر الندوة جمهور واسع، وألقيت فيها محاضرات أعقبتها مناقشات كما تخللتها حلقات مستديرة.
وقد تحلقت المحاضرات والحلقات والمناظرات حول موضوعات هامة لا تعني المختصين وحدهم، منها: أزمات التقدم – وتطور العلوم التقنية – وسلطان الطب وعلوم الحياة.
ومنطلق هذه الندوة أن العلم والفلسفة، بعد أن اتحدا خلال نيف وألفي سنة، انفصلا منذ القرن الثامن عشر، وأصبح لكل منهما ميدان عمله وتفكيره الخاص به. فالعلم بعد أن تحرر من وصاية الفلسفة، يختص بالسيطرة على الواقع والإمساك بزمامه، لا سيما بعد أن اتسعت امتداداته التقنية. والفلسفة، بعد أن عُزلت دون هوادة من الميدان العلمي، تختص بما سوى ذلك، بدءاً من الأخلاق وانتهاء بالسياسة.
وهكذا حُسم منذ وقت بعيد أمر الدور الذي يقوم به العلم والدور الذي تقوم به الفلسفة. وغدا من السهل أن نجيب على التساؤل موضوع الندوة إذا نحن فصمناه شقين: فيمَ العلم؟ وفيمَ الفلسفة؟
غير أن الجدة فيما طرحته الندوة هو الإجابة على السؤال بشقيه في آن واحد. وبتعبير آخر: ماذا يستطيع العلم والفلسفة أن يعملا معاً؟ وما هي طبيعة التعاون بينهما؟ وهل كل منهما في حاجة إلى الآخر، وإذا كان الجواب بالإيجاب فمن أجل أي شيء؟
ومما يدفع إلى إثارة مثل هذا التساؤل هو ما يجري من إنكار لذلك الفصل القاطع بين ميداني كل من العلم والفلسفة. ويقول أصحاب هذا الرأي إن الفلسفة، إن أرادت أن تظل نشاطاً عقلياً يهدف إلى «البحث عن السعادة في الحقيقة»، لا يمكنها أن تهمل الاهتمام بالعمل العلمي. والعكس صحيح، أي أن العالِم نفسه، الذي يواجه تعقد الأشياء تعقداً متزايداً، ليس في وسعه أن يستغني عن الفلسفة التي تقدم له وسائل التفكير في بعض المفاهيم التي يستلزمها البحث العلمي. ولابد بالتالي من نظرة فلسفية خبيرة وناقدة ومستقلة.
إن الفلسفة على هذا النحو، سواء كانت قريبة من العلم (كما في الإبستمولوجيا أي نقد المعرفة العلمية) أو كانت عن قصد بعيدة عنه، كما في الأخلاق، تضطلع برسالة قوامها إدخال مطالب أخرى وأبعاد أخرى إلى الواقع. إنها تدفع العلم إلى أن يعيد النظر في ذاته وإلى أن يتساءل عن حدود معرفته. وهي بهذا المعنى مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالديمقراطية.
ومن الصعب أن نلخص ما تضمنته الندوة من أفكار غنية وتساؤلات حادة، أو أن نتحدث عن وجهات النظر المتباينة أحياناً حول العلاقة بين العلم والفلسفة، أو أن نشير إلى الميادين الواسعة التي تطرقت لها من «أزمة العقلانية» حتى الدفاع عن حقوق الإنسان. وحسبنا أن نشير إشارة عابرة إلى أهم الاتجاهات التي برزت فيها:
الاتجاه الأول هو «نقد فلسفة العلوم» على نحو ما تجري في الواقع، منذ أيام «أوغست كونت Augustc Conte» حتى اليوم. وفي رأي أصحاب هذا الاتجاه أن الفلسفة ينبغي ألا تخضع لتطور العلم، وأنها ينبغي أن تحتفظ لنفسها ببعض البعد عن هذا التطور. إن عليها، في رأي بعضهم، أن ترفض أن تكون تابعة مستعبدة لتطور العلم.
والاتجاه الثاني يتمثل في القول بضرورة مراقبة العلم من قبل الجمهور. ويلحق بذلك أن يتم نشر الثقافة العلمية لدى عامة الناس.
والاتجاه الثالث هو الذي يتوقف عند ما ولده التقدم العلمي من مخاطر وخيبات أمل وتناقضات. وقد رأى بعض الذين تحدثوا في هذا المجال أن دور الفلسفة الأساسي هو «تبيّن طريق العبور من مفهوم إجرائي إلى إيديولوجية للتقدم». ودعا بعض هؤلاء إلى التفكير ملياً في الإنسان، ذلك الكائن البديع. ومن أجل إدراك أعماق هذا الإنسان «لسنا في حاجة إلى مرآة بل إلى نظرة الآخرين».
4 – التاريخ على الشاشة:
تساءل المدعوون المائة والثلاثون الذين يمثلون بلدان أوروبا جميعها، عندما حضروا الندوة الدولية الرابعة حول «التاريخ والمعلوماتية»، التي عقدت في جامعة «بوردو» الثالثة: هل نحن أمام زواج قوامه الحب أم أمام زواج قوامه العقل؟
وأياً كان الجواب، كان الحفل ناجحاً، وكان مناسبة فذة يلتقي فيها المؤرخون ليتبادلوا تجاربهم الشخصية حول استخدام «الحاسب الإلكتروني» (الحاسوب) في ميدان البحث التاريخي.
وتكاد حكاية أحد الباحثين في جامعة «بوردو»، وهو «جان بيير ديديو Jean Pierre Dedieu» تلخص حكاية الكثير من المؤرخين مع الحاسب الآلي. يقول الباحث:
«لقد دخلت عالم الحاسب الإلكتروني من قبيل الصدفة. فقد كنت أبحث في دعاوي محاكم التفتيش الإسبانية. وسرعان ما وجدت نفسي أمام ثمانية آلاف دعوى وثلاثة آلاف «فيش» حافلة بالمعلومات.. ولولا أن لجأت إلى الحاسب الإلكتروني لهجرت بحثي دون شك».
وكالعادة، كان موقف الباحثين في التاريخ عند بدايات ظهور «علم المعلوماتية» موقفاً
لا يخلو من تريث وحذر. ولم ينتشر استخدامهم للحاسبات الإلكترونية، كأداة للعمل، إلا في السنوات الأخيرة. بل عام 1986 عندما قرر مؤرخ بريطاني هو «بيتر دانلي Peter Denley» أن يجمع بعض زملائه ليناقشوا هذه المسألة. وكان يتوقع حضور حوالي أربعين مشاركاً في أفضل الأحوال، غير أنه فوجئ عندما بلغ عدد المشاركين نيفاً وأربعمائة. بينهم عدد كبير من الباحثين الأجانب. ومن خلال هذا اللقاء الأول ولدت «الرابطة الدولية للتاريخ والمعلوماتية» التي تضم اليوم ثمانمائة عضو. وقد أخذت هذه الرابطة تمتد في بلدان أوروبا جميعها وتكوّن فروعاً هناك.
ولا حاجة إلى التدليل على أهمية هذا الزواج الحديث السعيد بين التاريخ والمعلوماتية.
لا حاجة إلى التذكير ببنوك المعلومات التاريخية التي تولد نتيجة لذلك (والتي تغني عن «الفيش» وسواها من نتاج العمل اليدوي البطيء)، وعن المعلومات «السكانية» الديمغرافية الضخمة التي تقدمها، وعن المعلومات الكاملة المتصلة بالخرائط الجغرافية، وعما تيسره من تسجيل المخطوطات، أو تسجيل المعلومات المتصلة ببعض الحروب، الخ..
ولعل وراء هذا كله وفوق هذا كله ما هو أهم وأبقى: وهو أن اللفظ شيء والصورة شيء آخر، سواء كان ذلك في الشعر أو في العلم. والذي يتوقعه الباحثون بعد بضع سنوات أن تكون هنالك قاعدة من المعلومات تلجأ إلى وسائل متعددة في آن واحد: كالصوت والصورة والخطوط البيانية والمخطوطات المكتوبة. وهكذا يستطيع المؤرخ أن يختار عدة صور، وأن يجمع بينها ويرصف بعضها إلى جانب بعض، وأن يسجل ذلك في بنك للمعلومات شخصي، تبعاً للموضوع الذي يعنى به.
على أن للمعلوماتية، إلى جانب مزاياها الرائعة، حدودها التي ترجع إلى طبيعة البحث التاريخي. فذلك البحث يستلزم من البرامج المعلوماتية مرونة لا تتوافر غالباً في النظم التي تباع في الأسواق. ذلك أن الباحثين في ميدان التاريخ يتعاملون مع معطيات لا تتكرر أبداً، ناقصة في جوهرها وعصيّة على التنبؤ، يلعب البعد الزمني دوراً أساسياً فيها.
وقد تعرض المؤتمرون لمثل هذه الصعوبات التي يلقاها البحث التاريخي عن طريق المعلوماتية واقترحوا لها بعض الحلول. والدرب على أية حال ما تزال في بدايتها، ولكنها درب لابد أن تؤدي إلى ديار عامرة بالخصب والعطاء العلمي.
5- لقاء مفكري الغرب والشرق:
على هامش لقاء وزراء الثقافة الاثني عشر لدول السوق الأوروبية المشتركة (في الرابع من تشرين الثاني / نوفمبر الماضي) نظم وزير الثقافة الفرنسي «جاك لانج Jack Lang» في مدينة «بلوا Blois» (وهو عمدتها) حلقة ضمّت مفكرين وفنانين وعلماء من غربي أوروبا وشرقيها. وقد دعا إليها، كما نرى، نجوماً زاهرة من رجالات الأدب والفن والسينما في بلدان أوروبا الشرقية، من ألمانيا الشرقية ويوغوسلافيا والمجر وبولونيا والاتحاد السوفياتي (ولم يكن بينهم أحد من تشيكوسلوفاكيا). وكان الهدف من اللقاء: وضع الحجارة الأساسية لأوروبا الثقافة وتكوين تجمّع للثقافات الأوروبية.
وقد لخص البرتغالي «مورا Vasco graca Maura» أزمة الثقافة الأوروبية حين قال في افتتاحه للحلقة:
«نحن إخوة يجهل بعضهم بعضاً رغم أنهم يعلمون أنهم موجودون. ونحن جيران تقوم بيننا صلات، رغم أننا نعلم أن ثمة ثقوباً سوداء في تلك الصلات. ونحن كتّاب نحاول قطع الصلة مع ماضٍ أقام بيننا حواجز تلو الحواجز، رغم أننا نعلم أن ما حدث من كوارث لابد أن تدوم آثاره طويلاً».
وطبيعي أن تحفل مثل هذه الندوة بأحاديث سياسية ذات صلة بالفكر، لا سيما أنها عقدت في فترة تشهد فيها أوروبا الشرقية تحولات جذرية هامة. وطبيعي أن يتساءل المؤتمرون عن معنى ما يجري هناك: هل يعني نهاية الدولة المجموعية؟ هل هو مرحلة جديدة من مراحل السير نحو الاشتراكية؟ هل هو تفجر في الشرق لا يمكن ضبطه؟ هل هي قوة الروح القومية ويقظتها الجديدة؟ هل هو مدى اقتصادي وسياسي جديد يشق طريقه؟ تساؤلات عديدة وكبيرة، وراءها حيرة في الجواب عليها أكبر.
وقد صدرت عن هذه الندوة العالمية مقترحات عديدة منها: إنشاء أكاديمية أوروبية، وإحداث جائزة أدبية أوروبية، وتشكيل لجان للدفاع عن التراث الثقافي، وإقامة معارض ومتاحف مشتركة، وإصدار مجلات مشتركة.
6- استقبال «جاكلين دو رومييي» في المجمع الفرنسي:
في آخر شهر تشرين الأول / أكتوبر الماضي استقبل المجمع الفرنسي السيدة «جاكلين دو رومييي Jacqueline de Romilly» الأستاذة الرفيعة المستوى في الدراسات اللغوية والأدبية اليونانية، فضلاً عن كونها كاتبة مرموقة. وقد اختارها المجمع خلفاً لأندريه روسان
(Andre Roussin) الكاتب المسرحي الذي اشتهر بالمسرحيات الهزلية الخفيفة. ولم تجد أستاذة الدراسات اليونانية هذه، صاحبة الأبحاث الجادة العسيرة، أي مشقة في الحديث عن سلفٍ ليس من جلدتها أو من جبلتها. بل وجدت أن من المشكلات الزائفة أن نقيم تعارضاً بين التفقه العلمي وبين الغواية الأدبية. أَوَلم يكن سلفها، كما قالت، يألف هوميروس واليونان ويتأسى «أرسطوفان Aristophane» و«مينا ندر Menandre» وسواهما من أصحاب المسرحيات الهازلة أو الجادة؟ أفلا نجد مشابهاً بين بعض أبطال رواياته (ولا سيما «الكاذبون») وبين بعض أبطال روايات هوميروس وسواه (كالبطل «أوليس Ulysse»)؟ حتى لكأن مرفّه الجماهير ومسليهم (تعني روسان) يلتقي مع صاحب (أو صاحبة) الدراسات اليونانية!
وتشير الباحثية، في خطابها، إشارة سريعة خاطفة إلى من شغلوا كرسيها قبل «روسان» وعلى رأسهم الفيلسوف «هنري برغسون H. Bergson». ومن العسير تلخيص خطابها الرائع الذي يملأ أربع صفحات كاملة من صفحات صحيفة الموند الكبيرة. وحسبنا إشارات برقية:
بعد حديثها عن التشابه بين «روسان» وبين بعض الكتاب اليونانيين، تتحدث الأستاذة «رومييي» عن ولادة موهبته، من خلال الكتاب الرائع الذي كتبه عن طفولته: «علبة الألوان» وتبين من خلال ذلك كيف ولدت محبة المسرح عنده مبكرة، وكيف أنه عرف دوماً وأراد دوماً أن يكون ممثلاً. لقد كانت لذته الكبرى، في أطوار حياته جميعها، أن يراقب ويتفحص. ففي الرابعة عشرة من عمره مثلاً، عندما تشاجر والداه، لم يأسَ ولم يبتئس، بل مضى تواً ليجعل من هذا الحدث مشهداً مسرحياً مضحكاً قصيراً. وهكذا انطلق في حياته كلها من أحداث عابرة صنع منها مسرحيات هازلة.
ثم تتحدث الباحثة عن صفة هامة من صفات المسرح الهزلي لدى «روسان»، بل من صفات المسرح الهزلي بوجه عام، نعني «الكذب». وتبين أن المهزلة تحب الكذب. فالخادع الذي ينجح يثير الضحك دوماً، والخادع المخدوع يبهج أيضاً ويضحك. ونجد عنصر الكذب والخداع المضحك هذا في كثير من مسرحيات «روسان»، ولا سيما مسرحيته «الحقير». ذلك أن الإنسان يكذب لأن الحياة معقدة ولأن فن السعادة صعب. ويشهد على ذلك أبطال تلك المسرحية الهزلية التي كتبها «روسان» والتي لقيت رواجاً هائلاً في الخمسينات، نعني مسرحية «الكوخ
La Hutte». وتفيض الباحثة في الحديث عن الكذب في المسرح وعن أشكاله.
ثم تتحدث عن اختياره عضواً في المجمع الفرنسي في الثاني من أيار / مايو 1974. وعن استمراره في العمل المسرحي بعد ذلك، وعن تسميته رئيساً «لجمعية الكتاب والمؤلفين المسرحيين». بل تبين كيف أضاف إلى نشاطاته المسرحية والتأليفية نشاطاً جديداً وهو الرسم.
وتعاود في نهاية خطابها اللحن الذي بدأته في بدايته، فتبين كيف التقى عنده، في أواخر حياته بوجه خاص، كاتب المسرحيات الهزلية مع الأديب الرقيق، وكيف اتّحدت واختلطت مياههما كما تختلط مياه نهرين. ويتجلى ذلك في المسرحية الأخيرة التي كتبها عام 1987، وهي مسرحيةهزلية صاغتها ريشة أديب، نعني «الهرة الصغيرة ماتت».
7- بكالوريا علمية واحدة: التعليم الثانوي بين الوحدة والتنوع
يعكف وزير التربية الوطنية «ليونيل جوسبان Lionel Jospin» على إجراء إصلاح واسع في النظام التعليمي الفرنسي ولا سيما في مرحلة التعليم الثانوي، وقد ألف لهذه الغاية ثماني لجان، كادت تنجز أعمالها. وتبحث هذه اللجان في محتوى التعليم، كما تستهدف إجراء مراجعة كاملة لطرائق التعليم ولأساليب إعداد أساتذة التعليم الثانوي، وإلى القيام بإصلاح شامل للتعليم الثانوي وراء هذا كله.
واللجان الثمان التي تم تشكيلها هي الآتية: لجنة الرياضيات – لجنة العلوم الفيزيائية – لجنة علم الحياة (البيولوجيا) – لجنة الكيمياء – لجنة علوم الأرض والعالم – لجنة الفلسفة – لجنة اللغة الفرنسية والأدب واللغات الحية والقديمة – لجنة التاريخ والجغرافيا والعلوم الاجتماعية. وقد سبق أن شكلت لجنة لدراسة «الاقتصاد» ولم ينشر تقريرها بعد.
واتفق الجميع على هجران التعليم الموسوعي، وإن كان «تخفيف» مواد المنهاج لم يتم على نحو متكافئ في اللجان جميعها. ولقد كانت لجنة الفيزياء من أكبر أنصاره، بينما كانت لجنة التاريخ من بين أعدائه. وقد جرى، كالعادة، شدّ وجذب بين اللجان، وتجلت نزعة «التضخيم» كما هو مألوف (نزعة كل صاحب اختصاص إلى تضخيم شأن اختصاصه).
ولعل معظم الخبراء المجتمعين يتفقون فيما يبدو على منطلق أساسي: وهو أن الصعوبات التي يجدها الطلاب في المناهج لا ترجع إلى محتوى هذه المناهج بقدر ما ترجع إلى طرائق التعليم وإلى البنى القائمة.
ومن أجل توفير النجاح لأكبر عدد ممكن من الطلاب، يتجه الخبراء المجتمعون نحو تحديد «حد أدنى لا غنى عنه» تكملة مواد اختيارية بعضها إجباري وبعضها طوعي.
وترجمة مثل هذا المشروع في المدارس الثانوية تعني الإقلال من عدد الفروع القائمة حالياً (وهي سبعة). وهكذا، فالطلاب الذين يتابعون الدراسات العلمية يدرس جميعهم مواداً واحدة أو «جذعاً مشتركاً» كما يقال، تكملها «أجزاء اختيارية». ومثل هذا يقال عمن يرغبون في متابعة الدراسات الأدبية والاقتصادية.
وهكذا يدعو اقتراح لجنتي الرياضيات والعلوم إلى إيجاد «فرع علمي وحيد يمنح شهادة واحدة تتيح الدخول إلى شتى فروع التعليم العالي». وبرنامج هذا الفرع يتحلق عندئذ حول جذع مشترك يضم حوالي عشرين ساعة أسبوعية، ثلثاها من المواد العلمية. وفيه تكون عدد ساعات الرياضيات، كما نرى، أقل مما هي عليه الآن. ولكن الطلاب المهتمين بالرياضيات في وسعهم أن يعوضوا عن ذلك عن طريق المواد الاختيارية. والطلاب جميعهم، كما ذكرنا، يمكنهم أن يختاروا ضمن طائفة واسعة من «الأجزاء الاختيارية» الفصلية، أي التي لا يستمر الواحد منها أكثر من نصف عام دراسي.
وتفرق لجنة الفيزياء بين الأجزاء الاختيارية المقصودة «للتقوية» والتي يختارها الأساتذة للطلاب، وبين الأجزاء الاختيارية المتصلة «بالثقافة العامة»، وبين تلك المقصودة من أجل المزيد من «التعمق». وهذه الأجزاء الاختيارية، بأشكالها المختلفة، هي، في نظر اللجان، التربة المختارة والممتازة لأنماط التعليم الجديدة ولأشكال عمل الطلاب (تكامل المواد – العمل في فرائق من أجل مشروع معين – الخ.. ) وفي هذا يقول رئيس لجنة الرياضيات:
«إن نظام» «الأجزاء الاختيارية» هو وحده الذي يتيح بزوغ تعليم هو من الغنى والتنوع بحيث يفتّق المواهب المطموسة غالباً في الوضع الراهن، وبحيث ييسّر توجيه التعليم تبعاً لأذواق الطلاب وليس تبعاً لفشلهم.
وطبيعي أن ينعكس هذا البنيان الجديد للدراسات على تقويم الطلاب. وههنا يريد أعضاء لجنة الرياضيات أن يقوم تمييز بين التقويم الذي يستهدف «مساعدة الطالب على التعليم» وبين التقويم الذي يستهدف الحكم عليه «ومثل هذا التقويم ينبغي أن يقتصر على امتحانين في كل فصل دراسي».
وجملة القول، إن الإصلاح على نمو ما استبانت خطوطه الأولى، يكاد يكون إيذاناً بموت البكالوريا في شكلها التقليدي. إنه يستلزم تغييراً تدريجياً، ولكنه جذري، في شكلها وروحها. بل لعله، كما يقول رئيس لجنة الفيزياء، يؤدي إلى «هجران الامتحان النهائي الوحيد والاستعاضة عنه بتقويم مستمر موزع على العام الدراسي كله، يضم فيما يضم اختبارات عملية».
وتتفق لجان عدة على ضرورة الاهتمام بتعليم الطلاب أساليب وطرائق العمل. ويرى معظمها، ولا سيما لجنة اللغات، أن من الهام أن نعلّم الطالب كيف يتعلم (تعليم المتعلم أصول التعلم كما قال «الزرنوجي»).
(ثانياً) عالم الفن:
1- معرض للتصوير الفوتوغرافي:
بين السادس عشر من شهر تشرين الثاني / نوفمبر الماضي والحادي والثلاثين من كانون الأول / ديسمبر 89، يقوم في «متحف أورسي» معرض فريد من نوعه، أطلق عليه اسم «ابتكار نظرة» وذلك بمناسبة مرور مائة وخمسين عاماً على ولادة فن التصوير الفوتوغرافي (1839 – 1989).
إنه عود إلى وراء، يرينا تطور فن جديد خلال حوالي قرن من الزمان (1839 – 1918)، ومن خلال (280) صورة فوتوغرافية تم جمعها من فرنسا وسواها.

في التاسع عشر من آب / أغسطس 1839، أعلن «فرانسوا أراغو Francois Arago»، أمام مجمعي العلوم والفنون الجميلة، اكتشاف التصوير الفوتوغرافي. ولم تمنح للمكتشف أي براءة، واعتبرت الدولة نفسها صاحبة ذلك الاكتشاف. وثار لغط بعد ذلك حول ولادة هذا الفن وأبوته.
ومن العسير تقديم لمحة ولو موجزة عن أهم محتويات هذا المعرض. وحسبنا أن نقول في الجملة إنه معرض يحدثنا عن معجزات فنٍ ما يزال يبحث عن استقلاله وهَوِيَّته. وقد قال عنه بعض النقاد بحق، إنه من أهم المعارض الفوتوغرافية خلال السنوات العشر الأخيرة.
2- «الإخوة كارامازوف» على المسرح:
في الثالث من تشرين الأول / أكتوبر 1989، بدأت «دار الثقافة» في بلدة «لا روشيل La Rochelle» (ومن بعدها المسرح الوطني في «ستراسبورغ» وسواها) بتقديم كتاب «دوستويفسكي» الشهير «الإخوة كارامازوف» على شكل مسرحية.
وقد احتاج هذا العمل إلى أربع سنوات من الجهد المستمر قامت به المخرجة «أنيتا بيتشياريني Anita Piechiarini» واستطاعت من خلاله أن تكيف الرواية مع متطلبات العمل المسرحي في براعة نادرة، بحيث لم تضّح بذوقها المسرحي، كما كانت في الوقت نفسه أمينة للرواية، فلقد احترمت، بشكل حَرْفيّ تقريباً، مسيرة أحداث الرواية، منذ المرحلة الأولى شبه الصوفية، مرحلة اللقاء بين «أليو شاه Aliocha» وبين «زوسيم Zosime»، حتى قتل «فيودور Fiodor». ولم تشذ عن هذا المبدأ إلا مرة واحدة: فلقد رأت بحق أن الصفحات الأخيرة من الرواية ينبغي أن تكون بداية للرواية التالية بدلاً من أن تكون آخر صفحات الإخوة كارامازوف.
3- ذكرى مرور مائة عام على ولادة «جان كوكتو»:
السينما والمسرح والكتاب يحتفلون بواحد من أشهر أبنائهم، نعني «جان كوكتو Jean Cocteau» الشاعر والمؤلف والممثل المسرحي والمخرج والممثل السينمائي. وبمناسبة مرور مائة عام على ولادته (عام 1889)، قامت نشاطات كثيرة، ومن بينها ذلك البرنامج الاستثنائي الذي خصت به سينما «سان جرمان دي بري ST-Germain- des- Pres» النتاج السينمائي للكاتب والفنان الكبير.
ولم يخرج «جان كوكتو» في حياته سوى خمسة أفلام. ولكن السينما وأحداثها عايشت حياته كلها، بل كانت قدره ومصيره.
وأول فيلم أخرجه كان «دم الشاعر» وذلك عام 1930 حين طلب إليه «شارل نواي Charles Noailles» فيلماً على شكل صورة متحركة. وكان له من العمر إذ ذاك إحدى وأربعون سنة.
وفي عام 1948، أخرج مسرحيته الشهيرة «الآباء المرعبون» على شكل فيلم سينمائي.
وفي عام 1959، قبل وفاته بأربع سنوات، حاول إخراج فيلم بعنوان «وصية أورفي Le Testament d’Orphee» وأراد أن يكون هذا الفيلم وصيته بعد وفاته. ولم يجد من يموّل له هذا الفيلم، وتدخل «أندريه مالرو A. Malraux» ليوفر له تمويلاً شخصياً من أحد الأغنياء. وهكذا ظهر آخر أفلامه.
وبين «دم الشاعر» و«وصية أورفي» أنتج «كوكتو» أربعة أفلام هي: «الحسناء والبهيمة» (عام 1946) و«النسر ذو الرأسين» (عام 1948) و«الآباء المرعبون» (عام 1948).
لقد كان يردد بحق أن السينما «أداة شعرية لا تضاهى». ولكنه أدرك في الوقت نفسه أن الشاعر إذا أراد أن ينتج، عليه أن يهرب من الشعر هربه من الطاعون. «فالمرء حين يعزم على أن يكون شاعراً، يفقد صفة الشاعر، ويهرب الشعر منه».
نقول هذا لأن معظم الأفلام السينمائية التي أخرجها «كوكتو» تمثل بحق أداة مثلى لنقل الروح الشعرية. إن فيها من الرؤى الخيالية ما يجعلها وثيقة الصة والرحم بكل ما هو «شعري» أو «فني» أو «فكري». وهكذا نجد لديه، على شكل صور سينمائية، الروح التي نجدها في قصائده الشعرية المكتوبة. ذلك أن أفلام «كوكتو» هي من بين الأفلام الفرنسية القليلة التي لا تعنى بأن تنقل إلينا على الشاشة مجرد قصة «يذهب فيها الناس ويرجعون ويتحدثون».

4 – صورة شهيرة بريشة بيكاسو تغادر الأرض الفرنسية:
بعد أخذ وعطاء، وبعد مساومات طويلة، وافق وزير الثقافة الفرنسية «جاك لانج» على مغادرة أحد رسوم بيكاسو الشهيرة الأرض الفرنسية، ولكن في مقابل رسم آخر. هذا ما أعلنه الوزير في مؤتمر صحفي عقده في الثامن من تشرين الثاني / نوفمبر 1989.
صورة بيكاسو التي خرجت هي «أعراس بييريت» (1905). والصورة البديلة التي قدمها الثري السويدي صاحب الصورة الأولى «فريديريك روس Fredeick Ross»، هي صورة أخرى شهيرة لبيكاسو أيضاً: «الراهبة La Calestine» (الراهبة المنتسبة إلى طائفة «سيليست» وقد رسمها عام 1905). وقد قدمها صاحبها «هدية» إلى المتاحف الفرنسية.
على أن الصفقة لم تكن مجرد مبادلة مجانية، بل كان إلى جانبها صفقة تجارية كان الرابح فيها هو الثري السويدي: فالرسم الذي قدمه السويدي، رسم «الراهبة»، دفع ثمنه مائة مليون فرنك فقط أي حوالي 20% من ثمن اللوحة التي سوف يخرجها من الأراضي الفرنسية (لوحة «أعراس بييريت»)، التي اشتريت منذ عام ونصف بخمسة وعشرين مليون فرنك، والتي يقدر ثمنها اليوم بين 300 و400 مليون فرنك! وهي الآن معروضة للمزاد العلني، ومن المتوقع أن يتم بيعها بأكثر من أربعمائة مليون فرنك.
5 – مائتا عام من الرسم اللبناني:
يشهد «معهد العالم العربي» بباريس معرضاً للرسم في لبنان منذ أواخر القرن الثامن عشر حتى اليوم يحمل العنوان المزدوج الآتي: «لبنان في عيون الرسامين: مائتا سنة من الفن التشكيلي في لبنان»، ويضم المعرض مائة وخمسين عملاً فنياً لسبعين فناناً لبنانياً، تسجل الأحداث اليومية السعيدة أو الدامية في بلدهم. ويصنف المعرض هؤلاء الفنانين أجيالاً (وهو تصنيف لا يخلو من تبسيط): فهنالك «جيل القدماء» (ما قبل 1850)، ثم «جيل الرواد» (1850 – 1900)، ثم «جيل كبار المعلمين» (1900 – 1950)، ثم «جيل الطليعيين» (1950 – 1960)، وأخيراً «جيل المعاصرين» (1975 – 1989) الذي دعي أيضاً باسم جيل الحرب.
وقد استعيرت الأعمال المعروضة من متحف نقولا سرسق، ومن الجامعة الأمريكية ببيروت، ومن المكتبة الوطنية اللبنانية، ومن مكتبات عدد من الكنائس، ومن مجموعات خاصة عديدة في لبنان وفرنسا والولايات المتحدة وإنكلترا، ومن مجموعة قصر «المختارة».
ويلتقي في هذا المعرض التاريخ، تاريخ لبنان، مع الفن. فهنالك اللوحات التي رسمها الأديب الكبير جبران خليل جبران. وهنالك أول رسم لبناني معروف (عام 1787) وهو رسم يمثل بطريركاً رومانياً. وهنالك الصور الشخصية لأسرة جنبلاط. وهنالك بعد ذلك لوحات لأمثال جورج قرم (1896 – 1971) الذي كان بدوره ابناً للرسام «داود قرم»، ولوحات لمصطفى فروخ (1901 – 1957) ولعمر أنسي (1901 – 1969)، ولوحات لأجيال تالية، من أمثال شفيق عبود (المولود عام 1926) و«أمين الباشا» (المولود عام 1932) و«أسادور» (المولود عام 1943).
وهنالك بوجه خاص لوحات (قليلة مع ذلك) تمثل مآسي الحرب اللبنانية. وهي لوحات لا تخلو من جرأة كما لا تخلو من تأثر واضح بالتجربة العالمية في ميدان الرسم.
6 – ألفا أسطوانة على أصابع اليد: جهاز جديد لاختيار الأسطوانات:
في متجر الـ «فناك FNAC» الشهير، الذي يعنى بالكتاب وبالوسائل السمعية والبصرية المختلفة (الأسطوانات – آلات التسجيل – الآلات الفوتوغرافية – الخ..)، نشهد جهازاً جديداً، من شأنه أن يمنح الهاتف دوراً ثقافياً هاماً. إنه يسمح لقاصده أن يختار الأسطوانة التي يريدها، وأن يسمعها، وأن يحصل على خصائصها الأساسية (اسم المغني، مدة الأغنية، الخ..). وبهذا تقدم تلك الآلة عوناً كبيراً لأولئك الذين لا يملكون فكرة سابقة دقيقة عما يريدون من الأغاني، والذين يتمنون أن يستطيعوا الاستماع إلى أسطوانة أو أكثر قبل شرائها. وهذا أمرٌ ما كان بوسعهم القيام به من قبل.
فحتى أوائل الثمانينات كان من الممكن اختيار أسطوانة من رف الأسطوانات وطلب الاستماع إليها. ولكن هذا الأمر لم يكن يرضي أحداً، فلم يكن يرضي الزبائن الذين كان عليهم أن ينتظروا طويلاً للاستماع إلى الأسطوانة التي يرغبون في شرائها، ولم يكن يرضي إدارة المتجر التي كانت تشعر بأن من اللازم توفير مكان أوسع فأوسع لمثل هذا الشأن، بسبب تكاثر أنواع الأسطوانات.
أما الآن، وبعد ظهور هذه الآلة الجديدة، لم تعد هنالك حاجة للتنقل بين أرجاء الرفوف من أجل اختيار أسطوانة معينة. ويكفي أن يقف المرء أمام واحد من «الصّوى» الثمان التي تشتمل عليها الآلة والموزعة في أنحاء المتجر. وعند ذلك يظهر على الشاشة سهم يطلب إلى الباحث أن يختار طائفة الأسطوانات التي يود الاستماع إلى إحداها: هل هي من طائفة المنوعات الفرنسية أو من طائفة المنوعات الأجنبية، وهل هي من الموسيقى الكلاسيكية أو من موسيقى الأوبرا، الخ.. وهكذا خطوة خطوة، وبعد اختيارات متتابعة، يتم تحديد خصائص الأسطوانة المطلوبة. ومن أجل سماعها، يكفي أن يضع المرء السماعة على أذنيه.

وقد تطلّب تحقيق هذا الأسلوب أو هذه الشبكة التي أطلق عليها اسم «نوميريس Numeris» جهداً طويلاً وبراعة فنية. ولقد قررت شركة «فناك» أن تزود مراكزها العديدة بباريس بالحاسبات الإلكترونية المرتبطة بهذا الجهاز.
وجدير بالذكر أن رئيس هذا المشروع مهندس متخرج من مدرسة «المناجم Mines» لا يزيد عمره على خمسة وعشرين عاماً.
وهكذا، عن طريق مثل هذه المشروعات (الاقتصادية في جوهرها)، تلتقي الأهداف الثقافية بالأهداف الاقتصادية، ويتحقق يوماً بعد يوم حلم الإنسان منذ بدايات الثورة الصناعية، ومن بعدها الثورة العلمية التكنولوجية، ذلك الحلم الذي جعله يطمح دوماً إلى تقدم علمي وتكنولوجي مجعول أولاً وقبل كل شيء لخدمة ما هو ألصق بطبيعة الإنسان كإنسان، كالشأن الثقافي بأشكاله المختلفة، وكرعاية البيئة، وكالنشاطات الترويحية والترفيهية، وسوى ذلك.
(ثالثاً) عالم الكتب الجديدة:
1- رواية «ليبرا Libra» من تأليف «دون دوليلو Don Delillo» أو الثواني السبع التي غيّرت وجه أمريكا:
منذ خمس وعشرين عاماً تحيا أمريكا هاجساً ممضّاً، هو مقتل الرئيس الأمريكي «جون كنيدي». ومما ولده هذا الحدث تلك المجلدات الستة والثلاثون التي يتألف منها التقرير الشهير باسم تقرير «فارن Warren». غير أن الجميع كانوا في انتظار رواية ضخمة تعرف أن تجمع بين الخيال وبين التاريخ. وقد ظهرت هذه الرواية فعلاً: إنها رواية «ليبرا» للكاتب «دون ديليلو». وقد ترجمت إلى اللغة الفرنسية حديثاً ونشرتها دار «ستوك Stock».
لقد انطلق الكاتب في روايته من الشخصية التي تؤرق اللاوعي الأمريكي، شخصية القاتل، شخصية مطلق النار، شخصية المخدوع، «لي هارفي أوزفالد Lee Harvey Osuald» الذي دخل اسمه التاريخ بعد أن قدم للرئيس قبلة مسمومة. لقد كان القاتل شاباً من «أورليان الجديدة» ومن «برونكس Bronx»، مخلوقاً بزغ من قلب المترو، مدفوعاً «بقوة داخلية تصعد إلى رأسه وكأنها صيحة». لقد كان يعمل في «البحرية» وكان ماركسياً، وعمل عامل مصنع في «مينسك Minsk»، وكان ثورياً يكاد لا يعرف القراءة والكتابة. لقد كان بحق كل ما يحلم به كاتب رواية. وعنه يحدثنا ويحدثنا «دون دوليلو»، ويكشف لنا عن تلك «المادة الخيالية الأسطورية» التي تكوّن لحمة حياته وموته.
وفي قلب الرواية قصة حب عاشها القاتل المنحرف الذي يحب زوجته الروسية «مارينا» ولكنه يضربها ضرباً مبرحاً.

في سجن (دالاس) مقتل (أوزفلد) قاتل كنيدي على يد (جاك روبي Jack Ruby)
وكان «أوزفالد» هذا محاطاً بأناس يتلاعبون به ويوجهونه تبعاً لأهوائهم. لقد كان «الإمّعة الأمثل». ومع هذا الإنسان الشبح تآمرت جماعات من قلب المخابرات الأمريكية، ساءتها قضية «خليج الخنازير»، فأرادت أن تسقط «كاسترو» وتزعج الرئيس «كنيدي». وما كانت تريد قتل «كنيدي» حقاً، بل كانت تود فقط أن تسمع طلقات الرصاص في الشارع. لقد كانت تريد محاولة اغتيال فاشلة، تمت برمجتها كما تتم برمجة عملية جراحية. غير أنها، في أعماقها وفي «لا وعيها» كانت تريد موت الرئيس.
ويمضي الكاتب إلى آخر قصة هؤلاء مع «المخدّر» الذي اختاروه (نعني القاتل)، حتى يصل بنا إلى مقتل «كنيدي». وتكمن عبقرية مؤلف الرواية في أنه لا يدرس «أوزفالد» أبداً وكأنه «حال» منفردة، بل يجعله يقيم في أعماق رأسنا وكأنه جرح حزين مرعب، نشعر بألمه وقلقه، ونتبعه في الدروب المتعرجة التي قادته إلى مستودع الكتب المدرسية في مدينة «دالاس» في ذلك اليوم المشؤوم، يوم قرر مصير أمريكا ببندقية عسكرية إيطالية.
والحق إن رواية «ليبرا» تحدثنا عن أمريكا والأمريكيين وما آلو إليه. إنها تحدثنا عن «الواقع» اليوم، عن زمن المخدرات العنيفة، وعصر الضياع النفسي الدائم، حيث يغزو تيارُ الصور الواقع، ويكاد يحل محله.
2 – الكتّاب الذين هجروا ثقافتهم وتطلعوا إلى سواها:
إنه كتاب طريف مثير للتأمل، ذلك الذي كتبه النائب في الجمعية الوطنية الفرنسية ورئيس «لجنة الشؤون الثقافية والعائلية والاجتماعية» فيها، نعني النائب الاشتراكي «جان – ميشيل بيلورجيه Jean-Michel Belorgey» والذي جعل عنوانه: «الحياة الحقة هناك».
وحديثه فيه يتحلق حول عدد من الكتاب الشهيرين «الفارين»، أي الذين هجروا ثقافتهم الأوروبية وأولعوا بثقافات أخرى شرقية أو أفريقية أو سوى ذلك. هؤلاء الذين استجابوا لنداء يأتيهم من بعيد، لم يكونوا مجرد باحثين أو مكتشفين عابرين، بل كانوا «فارين» أَبَقُوا من ثقافتهم إلى سواها، وحرقوا السفن، وأصبحوا غرباء حتى عن أنفسهم. من هؤلاء، وهم كثيرون، «بيرتون Burton» و«بونقال Bonneval»، و«دولاني Delany» و«مايرينا Mayrena»، و«السيدة ستانهوب M-Stanhope»، و«إيزابيل إيبرهارت Jsathur Rinband» و«ألكسندرا دافيد – نيل Alexandra David-Neel»، و«أرثور رامبو Arthur Rinband».
لقد غامر هؤلاء وسواهم وشدوا رحال السفن إلى «العالم الجديد» (أمريكا) والشرق وأفريقيا قادمين من الغرب، من فرنسا وإنكلترا والبرتغال بوجه خاص. ولم يكونوا جميعهم متطوعين، بل خُطف بعضهم صغيراً وأُسر بعضهم الآخر. ولكنهم جميعاً تحولوا وانقلبوا على أعقابهم عندما اتصلوا بعالم بدا لهم أجمل وأجدر بأن يحب. فأمريكا المتوحشة أيام الفتوح الأولى، وكندا الصافية الساطعة، وأفريقيا الهائجة، والشرق العامر بالرؤى الصوفية والملذات النقية، كانت جميعها موطن جذب وإغراء لهم. وحيثما ذهبوا كانوا يكتشفون تنوع النفس البشرية، وكان يسحرهم اللقاء مع «الآخر»، مع ما يختلف عنهم اختلافاً جذرياً. ولقد عاشوا خلال تلك المغامرات صنوف الحياة: جابوا الغابات، وحاربوا مع المحاربين، ودخلوا البلاط، وأصبحوا «مثقفين» في بلاط الصين، وعبيداً في عالم الحريم.
ويدرك المرء من خلال هذا الكتاب الطريف أن أبناء الغرب كانوا، من الوجهة التاريخية، أوائل الذين شعروا بتلك الرغبة في الذوبان في ثقافة أخرى. وكأن الثقافة الأوروبية وحدها هي ثقافة «الحنين» إلى سواها. وكأن الأوروبيين يتملكهم أحياناً ذلك الاندفاع نحو الحياة كما يحيا الآخرون، وتلك الرغبة في صياغة مصير غير المصير الذي هيأه لهم التاريخ. وحتى اليوم، لم ينطفئ ذلك الحلم. وكأن في زاوية من رأس الأوروبي صوراً ساطعة عن حياة متحررة من التاريخ.
3- تاريخ اللباس:
هل المرء بكلامه أم بزيّه وهندامه؟ هذا ما يجيبنا عليه المؤرخ «دانييل روش Daniel Roche» في كتابه الذي ظهر حديثاً عن دار «فايار Fayard» في 550 صفحة، وعنوانه «ثقافة المظهر: تاريخ اللباس في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر»، وفيه يعنى باللباس بوصفه ظاهرة ثقافية.
والكتاب في حقيقته كتابان: أولهما موجه للمؤرخين من أمثاله، والثاني موجه إلى جمهور أوسع. والكتاب الأول هو ضرب من التاريخ الثقافي المطبّق، موجه إلى المؤرخين الذين يرغبون في ارتياد هذا الموضوع الذي ما يزال بكراً إلى حد ما. ومن أجل هذا يبين «دانييل روش» لنفسه ولزملائه المزالق التي يتعرض لها الباحث في هذا الميدان (كأن يلجأ إلى الوصف الخالص أو إلى التفسيرات النفسية أو الميتافيزيقية المحضة، وهي أمور لا تخضع للتحقيق التاريخي). ومن خلال ذلك يضع فرضيات جريئة ويفتح آفاقاً جديدة. وهكذا، بعد بحث علمي صارم جاف، يضع «روش» بين أيدينا الخيوط المتشابكة للحضارة المادية والحسّية والعقلية والروحية والرمزية لعصر تاريخي يتمزق وينشق قبل أن يتحول تحولاً جذرياً (العصر الذي يمتد بين بدايات حكم لويس الثالث عشر وبداية عصر نابوليون). ذلك أن «نُظُم» اللباس، في رأي «روش» تعمل كما تعمل النظم اللغوية: أي أن لها قوانين انسجامها الداخلي الخاصة بها، ولكنها في الوقت نفسه تصوغ خطاباً يعبّر عن حال المجتمع. وهكذا يبيّن مثلاً أن لباس «النظام القديم Ancien Regime» ترجمة لقواعد اجتماعية صارمة، وأن الأشكال والألوان والأقمشة المستخدمة تعبّر تعبيراً دقيقاً عن مجتمع «ترابتي» مكوّن من طبقات بعضها فوق بعض، فيه يعبّر المظهر تعبيراً واضحاً جداً عن المكانة الاجتماعية لمن يلبسه.
وعلى هذا النحو يمضي المؤرخ في تحليل اللباس في مراحل التاريخ الفرنسي الأخرى.
4- الأرقام والعصبونات (Neurones):
في شهر تشرين الثاني / نوفمبر الماضي، صدر عن دار «أوديل جاكوب Odile Jacob» (في 270 صفحة) كتاب هام لقطبين بارزين هما «جان – بيير شانجو Jean Pierre Changeux» و«آلان كون Alain Connes»، واسم الكتاب «مادة للفكر». وفيه يناقش العالمان الشهيران آراءهما حول العالم وحول العلم وحول الرياضيات.
والمؤلف الأول غداً علماً معروفاً في عالم «بيولوجيا الأعصاب» ولا سيما بعد أن صدر له منذ حوالي سبع سنوات كتاب شهير لقي رواجاً نادراً، هو «الإنسان ذو الأعصاب L’Homme neurologique». وأما المؤلِّف الثاني فقد يكون أقل شهرة ولكنه ليس أقل شأناً. إنه عالم رياضيات حصل على مدالية «فيلدز Fields» (وهي معادلة لجائزة نوبل) ولمّا يجاوز الخامسة والثلاثين من العمر.
وكلا الكاتبين أستاذ في قدس أقداس العلم في فرنسا، نعني «الكوليج دو فراس». والكتاب حوار بينهما، يحاول فيه كل منهما أن يقنعنا بوجهة نظره.
وهكذا نجد في الكتاب أطروحتين: أطروحة «آلان كون» التي تقول بأن لموضوعات الرياضيات وجوداً مستقلاً عن الإنسان الذي يفكر فيها. فتتابع الأعداد الأولية مثلاً حقيقة أكثر ثباتاً من حقيقة العالم الذي يحيط بنا. وعالم الرياضيات إذن يمضي لملاقاة تلك الموضوعات ويكشف عنها.

أما «شانجو» صاحب النزعة المادية فيتساءل: ولكنّ أين ذلك العالم الذي توجد فيه الموضوعات الرياضية وجوداً مستقلاً؟ وإذا كانت هذه الموضوعات موجودة في هذا العالم، فأين هي مكتوبة فيه؟ وأين عساها توجد إن لم توجد في دماغ الإنسان الذي يفكر؟
وهكذا يمضي الباحثان في مناقشة مشكلة فلسفية قديمة، غير أنهما يناقشانها في ضوء المعارف العلمية الجديدة. والمشكلة كانت وما تزال: هل توجد موضوعات الرياضيات خارج العقل الإنساني أم أنها لا تعدو أن تكون من مبتكرات ذلك العقل ومن نتاج فكر الذين يفكرون فيها فيولدونها؟ وكأننا من جديد أمام أفلاطون، نشحذ أفكاره من خلال معطيات البحث العلمي الحديث، متسائلين: ما هو العالم الطبيعي الفيزيائي، وما هي العمليات الفكرية التي تتيح فهمه، وماذا يعني الاكتشاف العلمي..؟
5 – «بيت روسيا»، بقلم «جون لوكاري»:
ما كاد الكتاب الأخير للكاتب «جون لو كاري John Le Carre» يصدر في إنكلترا (نشرته دار «الكاتب Anthor’s Workshop» أواخر عام 1989) حتى صدرت ترجمته الفرنسية عن دار «روبير لافون Robert Laffont» في فرنسا في تشرين الثاني / نوفمبر من العام نفسه. ويلقى الكتاب رواجاً في معظم بلدان العالم، قد لا يقل عن رواج كتابه السابق «جاسوس قادم من الصقيع» الذي نشر عام 1963، والذي بيعت منه عشرات الملايين من النسخ.
والكاتب – الذي كان ضيف الشرف لبرنامج «أبوستروف» مساء الجمعة في 24 تشرين ثاني / نوفمبر الماضي – شغل وظائف عديدة: أستاذ في «إيتون Eton»، ودبلوماسي في بون أيام إشادة حاجز برلين، وعضو في شعبة المخابرات التابعة للاستخبارات الإنكليزية..
وليس نتاج «لوكاري» من طراز النتاج الذي أصدره بعض الجواسيس بعد الحرب العالمية الثانية. إنه نتاج فذ في إغرائه للقارئ، لأنه يحكي للقارئ ببراعة نادرة، قصصاً تبدو حقيقية، يضع فيها تصوراته من خلال أبطال يتيهون في عالم القلق والخوف والشك والألم.
وكتابه الذي نتحدث عنه رواية يحدثنا فيها الكاتب عن الاتحاد السوفياتي في عصر «الغلاسنوست Glasnost» و«البيريسترويكا» وقد كتبه بعد رحلته الأخيرة والحديثة إلى الاتحاد السوفياتي.
وتبدأ الرواية، وهي رواية جاسوسية، شأن سائر روايات «لوكاري»، في «معرض الكتاب» بموسكو، حيث نشهد سيدة جميلة ترتعد من الخوف، تحمل معها مخطوطاً لكتاب غريب وخطر، تسلمه لممثل أحد دور النشر البريطانية، ليتولى متابعة الأمور المتعلقة بنشره.
ولا يتسع المجال للحديث عن مضمون هذه الرواية الممتعة والهامة. وأهم ما فيها أنها تتحدث عن العهد الجديد في الاتحاد السوفياتي وعن الاتحاد السوفياتي بوجه عام وشعبه ورئيسه حديثاً فيه الكثير من التعاطف والأمل. وقد اتهمه بعض الكتاب الأمريكيين بأنه مفرط في تفاؤله حول مستقبل الاتحاد السوفياتي. ولكنه أجاب قائلاً «إن غورباتشوف يجبر الغرب على أن يبحث في ذاته عن هوية أخرى» وعلى أن يتساءل: «من نحن؟ من نحن أعضاء الحلف الغربي، وماذا ستكون عليه أمريكا يوم تعجز عن أن توحدنا ضد الشيطان الأكبر، ضد الشيوعية؟».
وهكذا فالكتاب ليس كتاباً عن الاتحاد السوفياتي فحسب، بل هو أيضاً كتاب عن اضطراب البورقراطيين الغربيين وحيرتهم أمام هذه الظاهرة الجديدة التي يصعب تصنيفها. ذلك أن هؤلاء الرجال الذين بنوا حياتهم في عالم تسوده قوانين الحرب الباردة، ما يزال يحركهم، فيما يبدو، حنين إلى العالم القديم المشطور شطرين متعاديين، وهم عاجزون بالتالي عن أن يحيوا من دون الوجود المطَمْئِن للشيطان السوفياتي، وكأنهم في ذلك كله يبحثون عن عدو به يؤكدون ذاتهم.
ويرى «لوكاري» أن من الممكن أن نستغني عن تلك الكراهية. «فنحن نحيا لحظة فريدة في التاريخ – ولعلها ليست أطول من بريق النجم – فيها يتوجب علينا، كيما نكون واقعيين، أن نكون أيضاً مثاليين. لحظة يأتي فيها كل يوم ما هو محتمل وممكن، ولا يأتي فيها المستحيل إلاّ كل أسبوع. لحظة يستطيع فيها خيال الإنسان وطاقته المبدعة، من ورائهما الزمن الذي يضاعف شأنهما، أن يحملانا فوق هذوة اليأس السحيقة التي حكم علينا أن نعيش فيها زمناً طال أمده».
وبعد، الكتب الجديدة تند عن الحصر. وقد كان بودنا أن نتحدث عن باقة أخرى جميلة منها. ولعل لنا إلى ذلك عوداً. ونكتفي ههنا بإشارات خاطفة إلى بعض عناوين تلك الكتب:
– كتاب للكاتب الشهير «مارسيل إيميه Marcel Ayme» نشر بعد وفاته، وهو كتاب «من جانب ماريان»، وقد نشرته «دار غاليمار» (في 360 صفحة).
– كتاب من تأليف «كلود روا Claude Roy» حامل جائزة «نوبل» في الأدب، هو الجزء الأخير من «دفاتره» وعنوانه «القلب الخفي للساعة». والكاتب الآن في الرابعة والثمانين من عمره.
– «موسوعة أونيفر سالس Universalis» التي صدرت، بعد خمس سنوات من العمل الجاد، في حلة جديدة مباينة تماماً لصورتها الأصلية. وتضم، على شاكلة الموسوعة البريطانية: «جسداً» (Coryus) من 23 مجلداً، وفهرستاً في أربعة مجلدات، و«ندوة» تضم مناقشة واسعة لكبريات مشكلات المعرفة في خاتمة هذا القرن، و«أطلساً» إحصائياً دولياً يضم أكثر من مائة ألف معلومة رقمية.
– كتابان عن «ويليام فولكنر» أحدهما من تأليف «ماركس سابورتا Marc Saporta» ومن منشورات دار «سيغر Saghers» (في 416 صفحة)، وثانيهما بقلم «ستيفن أوتس Stephen B. Otas» وقد ترجم إلى الفرنسية، ونشرته دار «هاشيت» (في 432 صفحة).
– كتاب بقلم «ماري كاترين بيتسون Marie Catherine Batson» تتحدث فيه عن والديها: عن أمها عالمة الأنثروبولوجيا الشهيرة مارغريت ميد «M.Mead» وعن أبيها، «غريغوري بيتسون Gregory Batson» عالم الطبيعة الشهير. واسم الكتاب، كما هو متوقع، «نظرة إلى والديّ». وقد ترجم إلى اللغة الفرنسية حديثاً ونشرته دار «سوي Seuil» (في 304 صفحات).
6- كتاب عن حياة الكاتب «غوستاف فلوبير Justave Flaubert»:
وهذا تاريخ آخر لحياة كاتب آخر، لا يقل شأناً عن «فوكو» ولكن في ميدان الأدب. إنه الكتاب الذي وضعه الكاتب الإنكليزي «إيربيرلوتمان Herbert Lottman» عن حياة كاتب من أبرز وأشهر كتاب القرن التاسع عشر، نعني «غوستاف فلوبير»، صاحب الأسلوب الأدبي الفريد، الذي ذاع له بوجه خاص كتابان ما يزالان متعة للقراء المولعين بالتحليل النفسي العميق، نعني «مدام بوفاري M. Bovary» (وقد أقيمت عليه دعوى شهيرة عند نشره و«التربية العاطفية L’education sentimentale» بالإضافة إلى «رسائله». وقد ترجم الكتاب من الإنكليزية إلى الفرنسية، وقدم له «جان برونو Jean Bruneau» ونشرته دار «فايار Fayard» في (580) صفحة.
وقد امتلأت المكتبات بالحديث عن «فلوبير» وعن مصيره ومأساته. ومع ذلك لم يظهر حتى اليوم كتاب مثل كتاب «لوتمان»، هو أولاً وقبل كل شيء تاريخ محض لحياة الكاتب، وإن تكن فيه إشارات إلى ولادة مؤلفاته ومخاضها. وتاريخ الحياة الذي وضعه «لوتمان» هذا، ليس كسواه من الكتب التي اضطلعت بمثل هذه المهمة. فهو ليس مثلها مجرد حديث شعري عن بعض جوانب حياته المثيرة للاهتمام، ولا مجرد افتراضات مجانية حول تلك الحياة. بل هو جهد علمي موضوعي دقيق، بحث وجمع وتقصّي كل شيء حول حياة «فلوبير» يوماً يوماً بل لحظة لحظة، بحيث يؤلف ما يشبه «خارطة» دقيقة عن حياة الكاتب. وهكذا يبدأ بالحديث عن طفولته وما يقال عن كونه طفلاً متخلفاً لم يستطع تعلم الكتابة إلا بعد لأي وبعد عسر، حوالي التاسعة من عمره. كما يحدثنا عن الزيارة التي قام بها وهو في السابعة من عمره، بصحبة عمه، لمستشفى المجانين، ذلك المستشفى الذي كان يزار في ذلك الحين كما تزار حديقة الحيوانات. ويحدثنا عن بداية عطائه الأدبي منذ السابعة عشرة من عمره، وكيف نذر نفسه للكتابة، وكيف أدرك أن الكتابة مصيره ومآله. وقد أحب في ذلك الحين الكاتب الفرنسي «رابليه Rabelais» والشاعر الإنكليزي «بايرون Bayron» «الكاتبين الوحيدين اللذين كتبا من أجل الانتقاص من شأن الجنس البشري ومن أجل الضحك عليه جهاراً»، على حد قوله.
ويتابع الحديث عنه وقد بلغ العشرين، وعرف الحب وكتب عنه، واعتبر الصداقة أمثل أشكاله. ويحدثنا بعد ذلك عن مؤلفاته الأولى ومسرحياته وعن العون الذي قدمته له قراءة «تورجنيف Turgenev» «إميل زولا» و«جورج سان» و«تين» وكيف جعله هؤلاء يحرص على متابعة الكتابة، بعد أن ساوره الشك في كل ما كتب ويكتب، وبعد أن فشل الكثير مما كتب ولم يلق التجاوب اللازم.
ويحدثنا الكاتب فيما يحدثنا عن اهتمام «فلوبير» بجسده، وكيف أنه «كائن جسدي» قبل كل شيء، يغريه أن ينظر إلى جسده وإلى آلية هذا الجسد نظرة الطفل، ويهمه أن يرقب من خلال النوافذ الجثث التي كان يشرّحها أبوه في مدرج مستشفى «أوتيل ديو Hotel Dieu»، ويشعر بالألم الجسدي عندما يكتب.
ويحدثنا بعد ذلك عن ولعه بالنثر الجميل، النثر الفني، وكيف كان يرى أن الشعر قد استنفد أشكاله ووجوهه، بينما النثر لم يولد إلا بالأمس، وكيف كان يتوق إلى كتابة كتاب «يقوم بنفسه، من خلال القوة الباطنية للأسلوب.. كما تقوم الأرض في الفضاء دون عماد يمسك بها».
ويحدثنا حديثاً رائعاً عن «رسائل» فلوبير، تلك الرسائل التي صبّ فيها عبقريته، بينما صبّ في كتبه الأخرى موهبته. وهي من أجمل الرسائل التي عرفها العالم، وفيها يبدو شامخاً كبيراً، لأنه يخاطب فيها شخصاً ما، على خلاف الأمر في رواياته. أوليس السر الأكبر في أي أدب كبير أنه يخاطب حقاً شخصاً ما؟
7- مدرسة السلطة، تأليف «بيير بورديو Pierre Bourdieu»:
«بيير بورديو» الأستاذ في الكوليج دي فرانس، اسم لمع بوجه خاص خلال الستينات وبداية السبعينات من خلال مؤلفاته الشهيرة «بالاشتراك مع سواه أحياناً» حول الصلة بين التربية والنظام الاجتماعي في فرنسة، وقد تبنى آنذاك موقفاً حدياً، قوامه القول بأن المدرسة في فرنسة (وسواها) لا تعدو أن تولّد من جديد المجتمع الذي ولّدها والإيديولوجية التي تسود ذلك المجتمع. ثم عرفت أفكاره بعض التحرك. وكتب في السنوات الأخيرة، بتكليف من الدولة، تقريراً هاماً عن التعليم العالي في فرنسة، وكتب كتاباً شهيراً بعنوان «التمايز La Distinction». وهو يتابع أبحاثه في هذا الكتاب الذي جعل عنوانه «نبل الدولة. المدارس الكبرى وروح الجماعة». وقد نشرته دار «مينوي Minuit» في (574) صفحة. والكتاب كما يدل عليه اسمه، يتحلق حول «المدارس الكبرى Grandes Ecoles» الشهيرة في فرنسة التي تكوّن أسمى وأقسى ما في التعليم العالي الفرنسي. ولا شك أن كتابه هذا واحد من أرفع الكتب التي ظهرت في السنوات العشر الأخيرة.
وينطلق الكتاب من تحليل دقيق للمدارس الكبرى، ليصل من خلاله إلى الكشف عن الآليات المحركة للمجتمعات المعاصرة، وكأنه في هذا التحليل عالم بيولوجي يحاول أن يعزل بنية
الـ «ADN» (الجوهر المقوّم للخلية وللحياة بالتالي، وهو ضالّة العلماء وقد عجزوا عن معرفته وإنتاجه).
وبعد كتابه الهام الذي أشرنا إليه، نعني كتاب «التمايز» الذي بحث فيه بحثاً نظرياً حول الطريقة التي يحيا بها مجتمع من المجتمعات ويستمر ويتحول ويتكاثر وذلك عن طريق الممارسات الفنية والثقافية والرياضية والسياسية التي يمارسها مختلف الفاعلين في حياته، عاد «بورديو» فوضع «إنبيقه» على النار مرة أخرى. فصبّ في ذلك «الإنبيق» جداوله الإحصائية التقليدية وخطوطه البيانية وأرقامه. وأغنى ذلك كله عن طريق شواهد استقاها من الأبحاث الإنثولوجية التي ساقها في عديد من البيئات: كأرباب العمل، ورجال الدين، وأساتذة التعليم الثانوي، وطلاب «المدرسة الوطنية للإدارة ENA» وسواها. وكيما يغلي هذه المواد المستقاة من الواقع المشخص، سقاها من نسخ التقاليد السوسيولوجية ومن عطاء روادها الكبار الذين يطوّفون عبر صفحات كتابه: من أمثال «دوركهايم Durk heim» ودراسته للنظام المدرسي، و«ماكس فيبر Max Weber» وتحليله لعقلانية الدولة، و«مارسيل موس Marcel Mauss» ودراساته الإنثولوجية للتوالد السحري للسلطة في المجتمعات البدائية، الخ..
على أننا إن أردنا أن نشير إلى مصادر الوحي الكبرى التي سقى منها «بورديو» نظريته في السلطة كما سقى معظم بنية كتابه، فلزام علينا أن نبين كيف يلتقي «بورديو» بأعمال «سارتر» و«فيفي – ستروس» وكأنه يحك زناده بحجر من الصوان ليولد منه الشرر. فلقد استهدف في برنامجه الفكري الفلسفي أن يتجاوز التناقض بين «الذاتية» و«الموضوعية» وأن يوفق، بتعبير آخر، بين ما أطلق عليه كل من «سارتر» و«ليفي – ستروس» اسم «الأنثروبولوجيا»، وذلك عن طريق إعطاء هذا المفهوم معاني مباينة تماماً لما عندهما.

(بيير بو رديو)
ولا يتسع المجال للخوض في أعماق فلسفة «بورديو» ومنهجه الذي اصطنعه في هذا الكتاب. وحسبنا أن نقول إنه يبين بقوة، بعد تحليل طويل وعميق، أن البنى الاجتماعية تحيا من حياتها الخاصة بها، وتعرف كيف تبتكر جميع حيل التاريخ اللازمة لجعل هذه البنى تستمر وتبقى ويتواصل حبلها، إنه يبرهن، عن طريق ألف حجة وحجة، أن البنى العقلية للأفراد تصنعها وتبنيها أعمق الطبقات الجيئولوجية للمجتمع. بحيث يتساءل المرء في خاتمة المطاف فيما إذا كان لفكرة الحرية أي معنى في هذا السياق. على أنه يعود فيقدم في هذا الصدد نظرة متفائلة نابعة من دراسته الاجتماعية هذه: فمعرفة الآليات الاجتماعية في نظره خير وسيلة لبلوغ القدر الممكن من الاستقلال الذاتي والحرية. ذلك أنه يعرّف الحرية، مستشهداً بكتاب «دولوز Deleuze» عن «ليبنتز Leibniz» بأنها «تزايد الوعي». وأمام قوانين التوالد الاجتماعي (المجتمع الذي يولد نفسه) ثمة دوماً «ذات» مستعدة للتفتح واليقظة.
8 – «الأكاسيا» بقلم «كلود سيمون Claude Simon»:
من روائع ما ظهر في الشهر الأخير، رواية بعنوان «الأكاسيا L’Acacia» بقلم الكاتب الشهير «كلود سيمون» حامل جائزة «نوبل» للآداب. وقد كتبها وله من العمر (75) سنة. ونشرتها دار «مينوي Minuit» في (380) صفحة.
وروايته هذه من الروايات القليلة التي تتحدث عن الحرب وفظائعها. وقد خصّ هذه الحرب في الواقع بعدد من الكتب آخرها هذه الرواية. والشخصية الأولى في روايته الأخيرة هذه هي الحرب، التي تبدو لنا وكأنها قوة خالدة خارجة عن الزمان، والتي تتبدى وكأنها الطبقة العميقة من زمننا التاريخي، يحدّد نبضاتها ودوراتها إيقاعُ حياة الناس على الأرض. وإذا شئنا أن نبحث عن شخصية ثانية في الرواية، شخصية تتحد حركات تنفسها مع الشخصية الأولى لتكوّن الخطوط الكبرى للحياة، كانت تلك الشخصية الثانية هي «الطبيعة»: الطبيعة التي تدفع الرجال والنساء إلى التزاوج، كما في عالم الحيوان، وإلى إنتاج أولاد قد يعرفون هم أيضاً محنة النار والحرب والسلاح. الطبيعة التي تكاد لا تصلح إلا لتغذية ذلك الملتهم الأكبر للناس وللجثث، نعني التاريخ.
ويسوق الكاتب الكبير أحداث الرواية من خلال حياة عائلتين تصطرعان عبر صفحات الكتاب كلها، تنتسبان إلى بيئتين يفصل بينهما كل شيء لكنهما ما تلبثان حتى تتحدا. وهو في هذا يذكّرنا بكثير من كتابات «بالزاك» أو «بورديو» الذي أتينا على الحديث عنه منذ حين.
عائلتان: إحداهما غنية وتقليدية تسيطر عليها صورة الأب الراحل، الذي كان ضابطاً ذا رتبة رفيعة. ويحدثنا «سيمون» حديثاً مفصلاً عن حياة هذه العائلة التي تضم ابنة تافهة تبحث عن الزواج وأماً تخشى أكثر ما تخشى الزواج الذي تكاد تقدم عليه الابنة، نعني زواجها من ضابط أيضاً ولكنه ينتمي إلى العائلة الثانية الفقيرة. ويتم الزواج مع ذلك. والصفحات التي يصف بها «سيمون» أجواء كل من هاتين العائلتين المتباينتين، صفحات رائعة يصعب إبراز جمالها وعمقها في هذه العجالة. ويغادر الزوجان بلدهما ويتنقلان بين مختلف الوظائف العسكرية التي يشغلها الزوج في العديد من البلدان، ولا سيما في «مدغشقر» حيث يولد لهما ابن. غير أن هذا كله سوف يؤول إلى المصير الوحيد الذي ينتظر البشر: يعني الحرب.. إذ بعد زواجه بقليل، وبعد ولادة ابنه، يجد الأب نفسه في معترك الحرب العالمية الأولى عام 1914، وما تلبث المدافع حتى تحصده.
ورواية «سيمون» تبدأ بهذا المشهد: ثلاثة نساء (الأختان والأرملة) وطفل يبحثون عن قبر هذا الجندي الذي ابتلعته رحى الحرب. ثم تعاود حياة الأسرة مجراها، ويشب الطفل ويسعد بفترة الدراسة ويسافر. حتى يأتي يوم يستدعيه فيه القدر من جديد، فيمضي إلى الحرب كأبيه وكأجداده.
ومن خلال هذا العرض كله، نلقي دوماً الأفكار الثابتة التي تراود «كلود سيمون» في معظم كتبه، أفكاره عن الحرب ومصير الإنسان.
عرض سريع لمنشورات هامة:
ونقف عند هذا الحد، وتلجئنا حدود هذه الرسالة إلى الاكتفاء بعرض خاطف سريع لأهم ما ظهر من كتب خلال هذا الخريف:
– رواية هامة للكاتب الصقلبي المبدع «غيزوالدو بوفالينو Gesualdo Bufalino» الذي يطلق عليه أحياناً لقب «شكسبير الصقلبي».. وعنوان الرواية «أكاذيب الليل Les Mensongesde La nuit» وقد نشرتها دار «جوليار Julliard» في (190) صفحة. وفيها تأتلف الرواية الميتافيزيقية مع الرواية البوليسية.
– كتاب «جان بيير بوا Jean- Pierre Bois» عن المسنين، وعنوانه: «المسنون من عهد مونتيني Montagni» حتى المتقاعدين الأوائل، وقد نشرته دار «فايار Fayard» في (448) صفحة. وفيه يتحدث عن تطور النظرة إلى المسنين وتطور العناية بهم والقوانين والأنظمة المتصلة بحياتهم منذ منتصف القرن الثامن عشر حتى القرن التاسع عشر.
– كتاب «آلان رينو Alain Renaut» عن «عصر الفرد» وقد نشرته دار غاليمار في (306) صفحات. وفيه يسأل: أيهما مصدر قيمنا: الفرد أم الإنسان؟ وهو تساؤل عرفه تاريخ الفلسفة الغربية على مرّ العصور، ويعاود «رينو» البحث عنه من منظار أحدث.
– كتاب «جورج قرم» عن «أوروبا والشرق: من البلقنة إلى اللبننة». وقد نشرته دار «الكشاف La Decouverte» (إن جازت لنا الترجمة هنا). وفيه يطرح أسئلة هامة على الأوروبيين المنشغلين بالإعداد للوحدة الأوروبية عام 1993. وهو كتاب هام موثّق، شأنه شأن كتب جورج قرم الهامة والعديدة.
أحداث تتصل بالكتاب:
وما دمنا قد تحدثنا عن بعض الكتب الهامة التي ظهرت خلال هذا الخريف، لزام علينا أن نشير إلى حدثين هامين يتصلان بالكتاب:
– أولهما التدابير الثلاثون التي اتخذها وزير الثقافة الفرنسي «جاك لانج Jack Lang» من أجل تشجيع الكتاب والقراءة، وهي تدابير هامة نرجو أن يتاح لنا الحديث عنها في رسالة أخرى.
– وثانيهما عزم النجم التلفزيوني «برنار بيفو Bernard Pivot» صاحب برنامج «أبوستروف Apostrophe» الشهير، على التوقف عن تقديم هذا البرنامج الذي يشهده آلاف الآلاف في فرنسا وسواها من بلدان العالم، وذلك بدءاً من شهر حزيران / يونيو القادم. ولم يذكر أسباب عزمه هذا، واكتفى بأن قال بأنه
لا يريد أن يظل حبيس هذا البرنامج طوال عمره.
وبعد، هل يغني التلميح والإشارة عن التصريح والإبانة؟ لقد اضطرنا تكاثر النتاج خلال هذا الفصل إلى أن نكون كفراشة الشعراء، تنتقل من زهرة إلى زهرة، دون أن تأنس إلى عطر كل منها إلا لماماً. ومع ذلك، لابد أن تقوى العين النفاذة على أن تؤلف من هذا الشتات مشهداً ذا قوام.