المعوقات الاجتماعية والثقافية والنفسية للتنمية في العالم العربي

المعوقات الاجتماعية والثقافية والنفسية للتنمية
في العالم العربي
بحث مقدم إلى الندوة التي عقدها في القاهرة (من 4 – 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989)
برنامج الأمم المتحدة في العالم العربي
حول «آفاق استمرارية التنمية في التسعينات ودور برنامج الأمم المتحدة في العالم العربي»
إعـداد
أ. د. عبد الله عبد الدائم
موضوعات البحث
(أولاً) مدخل:
1- نظرة مبدئية: البعد الثقافي للتنمية
2- المصطلحات وتوضيحها
(ثانياً) منطلقات أساسية:
1- ضرورة الانطلاق، في عمليات التنمية، من البنية الثقافية الاجتماعية للبلد المعني.
2- تاريخ التنمية الاقتصادية في العالم وتطور النظريات الاقتصادية في التنمية نحو تأكيد العناية بالعوامل الثقافية.
3- ربط التنمية بالتنمية الذاتية الأصيلة للشعوب.
4- توفير عنصر المشاركة الشعبية في عملية التنمية وارتباط ذلك بالعناية بالعوامل الثقافية.
5- الدور المعوّق للعوامل الثقافية والاجتماعية في التنمية ووسائل مغالبته.
6- التنمية ليست عملية مفاجئة، بل عملية تطور ثقافي حضاري شامل وطويل.
(ثالثاً) تحفظات وإيضاحات حول المنطلقات الأساسية:
1- مخاطر المغالاة في مفهوم “التنمية المستقلة”.
2- الانطلاق من الثقافة ينبغي ألا يحمل معنى سكونيا جامدا.
3- التنمية الثقافية الذاتية ينبغي أن تكون هماً مشتركاً بين الدول النامية والدول المتقدمة.
(رابعاً) الثقافة والتنمية في الوطن العربي:
1- المعوقات الثقافية الاجتماعية للتنمية:
– المعوقات الثقافية الاجتماعية البنيوية (العائلة – البداوة والريف والحضر – البنية الطبقية).
– المعوقات الثقافية الفكرية (النظرة إلى العمل اليدوي والمهني – المواقف السلبية تجاه استخدام التكنولوجيا الحديثة – النظرة إلى المرآة وعملها – الموقف من التنظيم الإداري الحديث – الخ…)
2- المحركات الثقافية للتنمية في الوطن العربي:
– القيم الثقافية العربية وتحديثها.
(خامساً) خاتمة:
– ضرورة توفير الشروط اللازمة لتحقيق الثورة العلمية التكنولوجية من خلال الجهد الذاتي والثقافة الذاتية لأبناء البلاد العربية.
– ضرورة توفير المناخ الروحي اللازم لتحقيق هذه الثورة، عن طريق تعبئة الإدارة المشتركة لأبناء البلاد العربية من أجل بناء المشروع الحضاري العربي.
المعوقات الثقافية والاجتماعية والنفسية للتنمية
في الوطن العربي وسبل التغلب عليها
(أولاً) مدخل:
1- نظرة مبدئية
1-1: بعد أن بدأ الاقتصاديون في الغرب يعنون بالتخطيط الاقتصادي (بأشكاله المتباينة) بعد الحرب العالمية الثانية بوجه خاص (في حين انطلق التخطيط الاقتصادي في الاتحاد السوفياتي منذ العشرينات)، ما لبثوا حتى أدركوا بعد حين، من خلال المعاناة والتجربة، أن التخطيط الاقتصادي لا يبلغ مداه إلا إذا صحبه تخطيط للموارد البشرية، وأن تنمية رأس المال المادي لا تؤتي أكلها إلا إذا أسعفتها تنمية لرأس المال البشري.
وقد ساعدت على اكتشاف هذه الحقيقة وتأكيدها طائفة الدراسات الاقتصادية الإحصائية التي ظهرت تترى في الولايات المتحدة وأروربا، في بداية الأمر، والتي كشفت، بالرقم والإحصاء، عن الدور الكبير الذي تحتله تنمية رأس المال البشري، عن طريق التربية والإعداد والتدريب، في تنمية الدخل القومي العام وفي المردود الاقتصادي للمشروعات الصناعية والزراعية وسواها.
وكلنا يذكر الأبحاث الكثيرة بهذا الصدد التي ساقها أمثال “سولو Solow”، في الدانمارك و”دينسون Dennison” و”شولتز Schultz” في الولايات المتحدة، و”فيزي Vaizey” في بريطانيا وسواهم كثير. وهي أبحاث كشفت جميعها عن أن نصيب رأس المال البشري، المعد إعداداً حسنا، في الدخل القومي وفي أي مشروع اقتصادي، يفوق نصيب أي عامل آخر من عوامل الإنتاج (كرأس المال المادي، أو المعدات والتجهيزات، أو عدد العاملين أو غير ذلك).
2-1: ونتيجة لهذا كله ولد التخطيط التربوي وغدا نظيراً وعوناً للتخطيط الاقتصادي. وأقبلت معظم دول العالم على إدخال التخطيط التربوي جنباً إلى جنب مع التخطيط الاقتصادي، إما عن طريق تضمين خططها الاقتصادية أبواباً خاصة عن تنمية القوى العاملة وعن المشروعات المتصلة بالتربية والإعداد، وإما عن طريق وضع خطط تربوية مستقلة ولكنها متكاملة – من حيث المبدأ على أقل تقدير- مع الخطط الاقتصادية. وفي البلاد العربية، انطلق التخطيط التربوي منذ عام 1959 – 1960 (في مصر أولاً ثم في معظم البلدان العربية الأخرى).
غير أن المخططين الاقتصاديين والتربويين ما لبثوا حتى أدركوا أن التخطيط للتنمية لم يبلغ بعد مداه ولم تكتمل بنيته، رغم هذا الدمج والتكامل بين التنمية الاقتصادية وتنمية الموارد البشرية عن طريق التربية والإعداد. وأدرك المخططون الاقتصاديون والتربويون على حد سواء أن خططهم قلما تجد سبيلها إلى التطبيق الفعلي إلا جزئياً، وإن وجدت طريقها إلى التطبيق فهي قلما تبلغ الغايات والأهداف المرسومة لها، وقلما نجد فيها تطابقاً بين الأهداف المتوخاة والأهداف المحققة.
3-1: وقد قادهم ذلك إلى أن يتبينوا وراء التنمية الاقتصادية ووراء التربية والإعداد عاملاً ثالثاً هاماً يلعب دوره الكبير أحياناً في عرقلة التنمية أو تيسيرها، نعني العامل الثقافي (الذي يضم بين ثناياه العوامل الاجتماعية والنفسية). لقد أدركوا أن الخطط الاقتصادية تتعثر من خلال مواقف الناس واتجاهاتهم وتقاليدهم وعاداتهم وقيمهم ونظرتهم إلى التنمية ومدى إيمانهم بها وسوى تلك الأمور التي تضمها ثقافة شعب من الشعوب أو مجتمع من المجتمعات، تلك الثقافة التي تعني، كما سنرى بعد حين، أنماط السلوك المادية والمعنوية السائدة لدى ذلك الشعب أو ذلك المجتمع.
وهكذا خطا أرباب التنمية خطوة جديدة في طريق تجويد التخطيط الاقتصادي وسواه،فأخذوا يعنون بما سمي بالبعد الثقافي للتنمية. وذاع منذ ذلك الحين وشاع الحديث عن “التنمية الثقافية” إلى جانب التنمية الثقافية والتنمية التربوية. وغدا من الأمور البدهية القول بأن أي خطة اقتصادية، وبالتالي أي تنمية، لا تكتمل ولا تبلغ مداها إلا إذا تمت من خلال التكامل مع البنية الثقافية الاجتماعية ومع الاتجاهات الثقافية الاجتماعية لدى الأناس الذين ترسم لهم خطط التنمية. ومن هنا بدأ الحديث عن التنمية المستندة إلى “الهوية الخاصة” لكل شعب، وإلى “الخصوصية القومية”،وبدأت الأقلام تتحدث عن “التنمية الذاتية” وعن “الأصالة في التنمية” منكرة في مقابل ذلك التنمية التي تؤدي إلى “الاغتراب” و”الاستلاب” و”التبعية”.
4-1: ومع ذلك ظلت هذه الخطوة على أهميتها ناقصة في نظر الكثيرين ممن بحثوا في أمور التنمية، ولاسيما من أبناء البلدان النامية (وبوجه خاص من أبناء أمريكا اللاتينية). وفي مقابل الحديث عن “البعد الثقافي” للتنمية، وعن اعتبار التنمية الثقافية بالتالي مجرد جزء من التنمية الاقتصادية، ووسيلة لها، أخذ الباحثون يتحدثون، في السبعينيات والثمانينيات، عن الثقافة بوصفها الهدف النهائي للتنمية، إلى جانب كونها وسيلة من وسائلها. وتوالدت الدراسات والأبحاث والمؤتمرات والندوات التي أكدت مكانة الثقافة في التنمية وجعلت منها محرك التنمية وباعثها ومحط رحالها. وتلقفت البلدان النامية بوجه خاص نتائج هذه الدراسات ووجدت فيها متكأ صالحاً لرغبتها في تحقيق “التنمية الذاتية” وفي التحرر من “التبعية” وفي تأكيد هويتها وأصالتها. بل وجدت فيها أحياناً الأجواء النفسية التي توفر لها اعتزازها بذاتها والتخلص من مشاعر الصغار التي يولدها تخلفها. ولعل بعضها وجد فيها عزاء كسولاً وطمأنينة واهمة. وسنتريث عند هذا فيما بعد.
5-1: أما الآن فحسبنا أننا حاولنا، من خلال هذا العرض السريع لتجربة التخطيط الاقتصادي في العالم، أن نضع البحث الذي يشغلنا في موقعه وإطاره ضمن جملة هذه التجربة، وأن نبين بوجه خاص الأهمية الخاصة التي توليها التجربة العالمية اليوم للعوامل الثقافية (التي تضم كما قلنا ونقول العوامل الاجتماعية والنفسية).
وفي بلداننا العربية، حيث الحديث عن الهوية والأصالة القومية قائم على قدم وساق في شتى المجالات، نظراً لعمق التجربة الثقافية العربية وامتدادها عبر قرون طويلة وغناها، تشتد الحاجة دون شك إلى الحديث عن الأصالة في ميدان التنمية، تلك التنمية التي تعني في أعماقها، كما سنرى، التنمية الحضارية الشاملة وبناء المشروع الحضاري العربي.
6-1: البحث الذي نسوقه إذن نريده أن يكون بحثاً في جوهر التنمية وقوامها، نعني التنمية الشاملة التي تتم من خلال الثقافة ومن أجل الثقافة، من أجل بناء مستقبل عربي جديد.
والسؤال الذي نطرحه هو السؤال الذي طالما طرحه الكثير من الاقتصاديين العرب ومن المثقفين العرب، وهو: ما السبيل إلى تحقيق التنمية (بالمعنى الحضاري الواسع لهذه الكلمة) وإلى القضاء على التخلف في الوطن العربي؟
ولماذا فشلت تجارب التنمية إلى حد بعيد في الأقطار العربية؟ وما دور الشأن الثقافي في هذا كله؟ وسنرى أن الموضوع شائك، وأنه ما يزال ينتظر من يجيب عليه، رغم تكاثر ما كتب فيه في البلاد العربية في السنوات الأخيرة. فلئن كان من السهل نسبياً رسم خطط اقتصادية كمية مؤيدة بالأرقام والإحصاءات والاسقاطات، فأصعب من ذلك رسم خطط تربوية، لاسيما إذا أردنا لهذه الخطط التربوية أن تكون خططاً كاملة سليمة، أي أن تعنى بالتخطيط النوعي الكيفي للتربية والإعداد إلى جانب التخطيط الكمي. غير أن ما هو أصعب من هذا وذاك رسم خطط ثقافية، متكاملة مع الخطط الاقتصادية والتربوية، لاسيما إذا ذكرنا أن الغايات والأهداف الثقافية، في أي مجتمع وفي المجتمع العربي، من الأمور التي تثير الجدال وتفتق مشكلات فكرية وإيديولوجية كبرى.
ولكن، لندع هذا الآن، ولنا إليه عود، ولنمض في بحثنا. ولزام علينا، إذا أردنا أن نمضي فيه مطمئنين، أن نبدأ بتعريف بعض المصطلحات.
2- المصطلحات وتوضيحها:
عنوان البحث لا يخلو من غموض، والمصطلحات الواردة فيه في حاجة إلى مزيد من الجلاء.
2-1: لقد أشرنا إلى المعوقات الثقافية والاجتماعية والنفسية ولم نكتف بكلمة “المعوقات الثقافية”، رغبة منا في مزيد من التوضيح، ومن قبيل ذكر الخاص بعد العام كما يقول النحويون. والحق أن المعوقات الاجتماعية والنفسية تضمها المعوقات الثقافية. لاسيما إذا تبنينا التعريف الآنثروبولوجي الواسع لكلمة “ثقافة” ،ذلك التعريف الذي يرى فيها مجموع أنماط السلوك المادي (من مأكل ومشرب وملبس وأدوات وبيئة وسوى ذلك) والمعنوي (من عادات وتقاليد وقيم ومن فكر وفلسفة وأدب وفن، ومن علاقات ومؤسسات اجتماعية، الخ..) السائدة في مجتمع من المجتمعات والتي تميزه من سواه. وبهذا المعنى تحل كلمة ثقافة محل كلمة حضارة إلى حد بعيد (بل إن بعض الكتاب العرب يؤثرون اللفظ الثاني على الأول). وأياً كان الأمر فثقافة مجتمع من المجتمعات عمل متكامل يضم، فيما يضم، أشكال التنظيم الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية، كما يضم الاتجاهات والمواقف النفسية.
ومن هنا فسوف نكتفي، عبر هذا البحث، باستخدام كلمة “الثقافة” أو “العوامل الثقافية – الاجتماعية” أحيانا حيث يستلزم الأمر التنبيه بشكل خاص إلى الوجه الاجتماعي للمسألة.
2-2: كذلك استخدمنا في عنوان هذا البحث كلمة “معوقات”، وكأننا بذلك نوحي منذ البداية بأن العوامل الثقافية الاجتماعية هي معوقات في سبيل التنمية وأن من الواجب التالي القضاء عليها. وليس الأمر كذلك، لاسيما بعد كل ما ذكرنا منذ حين عن شأن الثقافة في التنمية. والذي أردنا أن نوحي به من خلال العنوان هو أن إهمال العوامل الثقافية الاجتماعية وعدم أخذها بعين الاعتبار وعدم دمجها في صلب مشروعات التنمية هو الذي يعيق التنمية ويجعلها عاجزة مشلولة إلى حد بعيد.
فالعوامل الثقافية الاجتماعية كما سنرى، قد تلعب دوراً سلبياً في التنمية ولاسيما عندما تكون نتيجة لانحطاط الثقافة وركودها وابتعادها عن ينابيعها الحية. كما أنها تلعب في معظم الأحيان دوراً إيجابياً، حيث تعني العناية بها تحقيق التنمية من خلال تطوير البنية الثقافية الاجتماعية من داخلها بحيث تلتقي مع أهداف التنمية الذاتية التي يرسمها المجتمع لنفسه. وفي كلتا الحالتين لابد لخطط التنمية ومشروعاتها أن تأخذ هذه العوامل الثقافية الاجتماعية مأخذ الجد، وأن تتكيف تكيفاً ديناميكياً مولداً للعطاء والابتكار الذاتي.
(ثانياً) منطلقات أساسية:
من خلال المدخل العام الذي قدمناه بين يدي هذا البحث، نود، قبل ولوج حلبة البحث في المعوقات والعوامل الثقافية للتنمية في الوطن العربي، أن نمهد لذلك بتوضيح المنطلقات الأساسية التي ننطلق منها في دراستنا للتنمية العربية الحضارية الشاملة وآفاقها ووعودها وحدودها. ونستمد تلك المنطلقات من تأملنا لحصاد التجربة العالمية في هذا المجال، ومن النتائج التي نستخلصها من تلك التجربة.
ولا حاجة إلى القول أننا حين نبحث في تلك المنطلقات من خلال التجربة العالمية، فإنما نفعل ذلك واضعين الواقع العربي والتجربة العربية والمستقبل العربي نصب أعيننا، ومتخيرين بالتالي النتائج والدروس التي لها شأن خاص في توضيح الطريق العربي إلى التنمية.
1- وأول ما ينبغي التوقف عنده، هو ما أكدناه في مدخل هذا البحث، نعني ضرورة الانطلاق، في عمليات التنمية، من البنية الثقافية الاجتماعية للشعب، ومن هويته وأصالته وجهده الذاتي. وهذا ما انتهت إليه الدراسات العالمية المتكاثرة خلال العقدين الأخيرين بوجه خاص، كما أكدته الكثير من توصيات وقرارات هيئة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المنبثقة عنها، ولاسيما منظمة اليونسكو. وهذا ما أكدته أيضاً المؤتمرات الثقافية المحلية والدولية، وعلى رأسها مؤتمر المكسيك (26 تموز/ يوليو – 6 آب/ أغسطس 1982) حول السياسات الثقافية.
ويعني هذا المنطلق أو هذا المبدأ أن كل مجتمع لا ينمو نمواً حقاً إلا من خلال صيغة النمو الخاصة به، المرتبطة ببنيته الثقافية والاجتماعية. ويعني ذلك فيما يعني أن أي مجتمع، إذا هو أراد الانطلاق في سبيل النمو، لابد له أولاً أن “يمتنع عن أن يكون غير ما هو”. فما هو غير موجود لا ينمو. ويعني ذلك أيضاً أن عملية التنمية بعد ذلك ينبغي ألا تنتهي به إلى تقويض شخصيته واستلابها وتشويهها. ومن هنا فكل مجتمع أو كل شعب ينبغي عليه أن يبحث عن طراز تنميته الخاصة مستهدياً خصائص ثقافته ونظم التفكير والعمل السائدة عنده.
هذا المبدأ أكدته الجمعية العامة للأمم المتحدة، في “الإعلان” الخاص بالنظام الاقتصادي العالمي الجديد، حين أعلنت، حق كل بلد في أن يتبنى النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي يراه متفقاً مع التنمية الخاصة به” (1).
وهكذا أصبح من الحقائق المسلم بها والمكرورة القول بأن التنمية ينبغي أن تكون “مستقلة” و”ذاتية” أي نابعة في خاتمة المطاف من داخل المجتمع ومولّدة من صلبه. ولا يتم ذلك إلا إذا انطلقت من “ثقافته” تلك الثقافة التي تمثل في أعماقها عبقرية شعب من الشعوب وبراعته في البحث عن التقدم والسعادة، آخذاً بعين الاعتبار حاجاته ومنازعه وطموحاته، مدركاً المشكلات والإمكانات والقيود التي تفرضها عليه بيئته وتمليها نظرنه الخاصة ويحددها تصوره لمكانه في العالم ودوره ومعنى وجوده.
2- ويؤيد هذا المنطلق الأول، بل يثوي وراءه، تاريخ التنمية الاقتصادية في العالم وتطور النظريات الاقتصادية بهذا الشأن.ولن نتوقف عند جانب أطال الاقتصاديون العرب والأجانب في شرحه وتوضيحه وهم أقدر عليه منا. وحسبنا أن نقول أن التجربة العالمية في ميدان التنمية، في العالم المتقدم والنامي، دلت على فشل النظريات الثلاث الكبرى التي وجهت الاقتصاد منذ بدايات هذا القرن. ونعني بذلك نظرية “كينز Keynes” (وتلاميذه بشكل خاص)، والنظرية الماركسية، ونظرية “روستو Rostow” الشهيرة بنظرية مراحل النمو. ونترك للاقتصاديين أمر تفصيل البحث في هذا.
ولئن كانت هذه النظريات قد أثبتت عجزها عن حل مشكلات التنمية في مختلف بلدان العالم، فقد أثبت فشلها بوجه خاص في البلدان النامية. وقد انطلقت أصوات النقد لهذه النظريات، وبالتالي محاولات البحث عن نظريات مستقلة ذاتية تعبّر عن حاجات بلدان العالم الثالث، من بعض المفكرين الاقتصاديين في بلدان أمريكا اللاتينية (من أمثال “دوس سانتوس Dos Santos” و”كارديسو Cardeso” و”فرانك Gundar Frank” و”هيمر Hymer” و”فورتادو Furtado” و”سنكل Sunkel”). وقد تلقف أفكار هؤلاء كثير من مفكري واقتصاديي البلدان النامية، بل ومن مفكري البلدان الغربية نفسها، وأخذ في الظهور منذ السبعينيات تيار بدأ ينمو ويشتد، يؤكد على “التنمية المستقلة” المرتبطة بالجذور الثقافية والاجتماعية للبلدان المعنية، ويتهم نظريات التنمية الغربية بإهمالها لهذا الجانب، بل يرى فيها نزوعاً واضحاً لتغليب وجهة النظر الغربية واعتبارها محور أي تنمية ولإخضاع بلدان العالم الثالث لمنطلقاتها النابعة من تجربة الغرب، إن لم نقل لاستعمار العالم الثالث عن طريقها. وقد أسهم عدد من المفكرين الاقتصاديين العرب، كما سنرى، في نشر هذا التيار الجديد، التيار الواعي الداعي إلى الاستقلال عن التجربة الاقتصادية الغربية ورفض اعتبارها النموذج الواحد الممكن والواجب، والمنادي بالتالي بضرورة توليد تجربة تنموية عربية ذاتية. ومن أبرز هؤلاء إسماعيل صبري عبد الله ونادر فرجاني ورمزي زكي ومحمد لبيب شقير ويوسف صايغ وجلال أحمد أمين وعصام الزعيم وعادل حسين وعلى خليفة الكواري وفؤاد مرسي وسواهم.
وقد صاحب هذا التيار رفض المفهوم الاقتصادي الذي يوحد بين النمو الاقتصاجي والتنمية، والأخذ بمفهوم يؤكد على أن النمو الاقتصادي (مقدراً بنمو الناتج القومي ومتوسط الدخل الفردي) لا يعني بالضرورة قيام تنمية حقة، ويتريث عند تلك الحقيقة التي أصبحت مكرورة بعد ذلك وهي أن التنمية إما أن تكون شاملة وإما ألا تكون، وأنها تعني في أعماقها التنمية الحضارية في شتى أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
على أن أهم ما يقدمه هذا التيار من إسهام جديد، هو أن أي تنمية تتجاهل البعد الثقافي والهدف الثقافي الإنساني، لا يمكن أن تكون فعالة ناجعة، فضلاً عن كونها بالضرورة ضارّة وهدامة.
ومعنى هذا كله أن ليس للتنمية نموذج واحد (هو النموذج الغربي) وأن ليس للتنمية المستقلة بوجه خاص نموذج واحد، بل هنالك نماذج من التنمية بمقدار ما هنالك من نماذج للثقافات.
3- وينجم عن هذا المنطلق منطلق ثالث، أشرنا إليه عابرين، يتصل بالهدف النهائي للتنمية. فربط بالثقافة الأصيلة للشعوب، وهو ما دعت إليه الاتجاهات الحديثة التي أتينا على ذكر بعضها، لا يستهدف تجويد الاقتصاد وزيادة مردوده فحسب، بل يستهدف قبل هذا وفوق هذا توليد الحضارة القومية الإنسانية، الحضارة القادرة على تنمية الإنسان والمسخرة لرفاهه وسعادته وكامل تفتحه الإنساني. وزيادة الإنتاج والدخل، كما كانت ترى النظريات الاقتصادية الغربية، ليست هدفاً نهائياً للتنمية. وتحقيق العدالة الاجتماعية، إلى جانب زيادة الإنتاج والدخل، لا يمكن أن يستنفد كذلك الأهداف النهائية للتنمية. “وإشباع الحاجات الأساسية” للسكان كما شاع وذاع، وكما هو شائع حتى اليوم، لا يفي أيضاً بأغراض التنمية، وإن انضاف إلى زيادة الدخل وعدالة التوزيع. ذلك أن الهدف النهائي للتنمية هو الحضارة، هو الإنسان، هو “تجويد حياة الإنسان” نوعاً وجوهراً. وإذا كانت التنمية على هذا النحو مشروعاً حضارياً من أجل التفتح الكامل والمتسق للإنسان أي مشروعاً ثقافياً يعبئ القوى المبدعة الخلاقة لدى الشعب من خلال أنماط السلوك المادي والمعنوي السائدة لديه، حق لنا أن نقول أن التنمية هي الثقافة وأن الثقافة هي التنمية. وكل تنمية حقيقية ينبغي أن تكون تنمية ذاتية، قاعدتها وأساسها ثقافة الشعب، وغايتها مشروعه الحضاري الخاص ومحورها الإنسان نفسه.
وينجم عن ذلك، كما سبق أن ذكرنا عابرين، أن التعبير الشائع، نعني “البعد الثقافي للتنمية” تعبير ملتبس وبالتالي ناقص ومضلل. فقد يحمل على الظن بأن عملية التنمية هي أولاً عملية اقتصادية وأن الثقافة ليست سوى عنصر مضاف إلى تلك الثقافة العملية الاقتصادية المركزية.
وجملة القول إن التنمية الحقة ليست النمو الاقتصادي، ولا هي التقدم التكنولوجي ولا هي التحديث، ولا مزيج من النمو الاقتصادي والعدالة وإشباع “الحاجات الأساسية”، بل هي التنمية الحضارية الشاملة كما سبق أن قلنا.
4- والانطلاق من الثقافة في عملية التنمية يعني بوجه خاص توفير عنصر المشاركة، مشاركة الشعب كله في جهد التنمية، وهو عنصر هام وأساسي في نجاح التنمية. فتوليد نموذج التنمية النابع من تراث الشعب وثقافته وقيمه، من شأنه أن يعبئ الجماهير الشعبية من أجل التنمية وأن يوفر مشاركتها الإيجابية في تنفيذ مشاريع التنمية، وهو شرط لازم Sine qua non لنجاح أي تنمية. وسوف نعود إلى هذا فيما بعد، عند الحديث عن البلدان العربية. كذلك سوف نشير في هذا المجال إلى بعض تجارب الشعوب التي تؤكد هذه النظرة، وعلى رأسها تجربة اليابان أبان عصر “ميجي Meiji” الشهير منذ عام 1868.
5- على أن حديثنا عن الدور الإيجابي للثقافة ينبغي ألا ينسينا دورها السلبي، إذا لم تستخدم الاستخدام الصحيح. وهذا هو المنطلق الخامس الذي ننطلق منه في بحثنا، وهو منطلق هام في نظرنا. فالعوامل الثقافية الاجتماعية قد تكون عوائق في طريق التنمية، ولابد بالتالي من معالجتها معالجة تؤدي إلى تعطيل آثارها السلبية وتفجير قواها وطاقاتها الإيجابية. وغني عن القول أن الثقافة إرث يجده المجتمع أمامه ويجده الفرد أمامه، وهو بالتالي من صنع أجيال عديدة وظروف متباينة، منها المشرق ومنها المظلم القاتم. وطبيعي إذن أن نجد في ذلك الإرث، لاسيما لدى الأمم والحضارات التي تخلفت بعد نهوض وتقدم، قيماً ومواقف واتجاهات وعلاقات أفرزتها عهود الانحطاط والركود، وكانت في الوقت نفسه من أهم أسباب ذلك الانحطاط والركود (فالعلاقة دائرية بين الجانبين).
من تلك القيم (أن صح أن نسميها قيماً) والاتجاهات: اللجوء إلى التواكل والاستسلام، والأخذ بالتفسيرات الميتافيزيقية للأحداث، ورفض فكرة التقدم من خلال الاعتقاد بأن العالم يسير من سيئ إلى أسوأ، وفقدان روح المبادرة، وذيوع الاتباع والتقليد من دون الإبداع والتجديد، وسيطرة الأفكار “الجبرية” التي تنكر حرية الإنسان، وغلبة الروح الفردية على الروح الجماعية والاتجاهات الأنانية على الغيرية، والنزوع إلى الخضوع والخنوع، وطغيان مواقف التسلط والعدوان، وإنكار قيمة العمل بوجه عام واحتقار العمل اليدوي والمهني بوجه خاص، وضعف الإحساس بالزمن، والنظرة الدونية إلى المرأة، الخ…
وواضح أن هذه الأفكار والمواقف والمعتقدات، وسواها كثير، مما نجده ذائعاً في المجتمعات النامية، تشكل عقبات كبرى في طريق العمل والإنتاج والعطاء الاقتصادي، فضلاً عن كونها عوامل مهدمة للكيان الاجتماعي كله، تحول بينه وبين مسيرته الحضارية. وسنعود إلى ذلك عند حديثنا عن الثقافة والتنمية في البلاد العربية.
وحسبنا الآن أن نقول، في إطار المنطلقات الكبرى التي نمضي منها، إن العوامل الثقافية الاجتماعية يمكن أن تكون معوقات كبرى في طريق التنمية، كما أن من الممكن أن تكون قوى إيجابية دافعة ومحركة لمسيرة التنمية والتقدم. والمسألة كل المسألة هي أن نتقرى ونبحث داخل كل ثقافة عن العناصر الديناميكية الحية القادرة على أن تسهم في عملية التنمية. ومهمة التنمية الثقافية هي أولاً وقبل كل شئ أن تجعل من الوعاء الثقافي بوتقة ومنبعاً لتفجير قوى العطاء والإبداع لدى الشعب المعني.
وبتعبير آخر إن الهدف من التنمية الثقافية لشعب من الشعوب في عصرنا هذا ينبغي أن يكون الوصول إلى بناء مجتمع يستطيع الإنسان فيه أن يكيف قيمه ومؤسساته ومواقفه واتجاهاته بحيث تتلاءم مع التقدم في مجالات المعرفة والتقنية، دون أن يفقد بسبب ذلك أصالته ودون أن ينسلخ عن الهدف الكبير لأي تنمية، نعني الإنسان وسعادته ومصيره.
ولا نغلو إذا قلنا أن هذا المطلب لم يتحقق بعد حتى في المجتمعات المتقدمة فضلاً عن المجتمعات النامية.
وبتعبير آخر أيضاً، إن روح الثقافة (وليس إهابها وشكلها)، روحها الحية المحركة التي أوجدت حضارتها يوماً ما، هي التي ينبغي أن تستهدى في تنمية هذه الثقافة من أجل التنمية الشاملة والحضارة الجديدة المرجوة.
وهكذا، إذا كان صحيحاً ما يقول به بعض أصحاب النظريات الاقتصادية حين يردون الفقر والتخلف إلى عوامل غير اقتصادية، وحين يرون في بعض القيم والمؤسسات وأنماط السلوك السائدة في المجتمعات المتخلفة، العقبات الأساسية في طريق التنمية والتحديث، فمن غير الصحيح الأخذ بالحل الذي يذهب إليه بعضهم، نعني محاكاة الأنماط الأوروبية. فالتنمية، كما قلنا ونقول، إما أن تكون داخلية ذاتية وإما ألا تكون.
والثقافة، تقليدية كانت أو غير تقليدية، هي، فضلاً عن كونها واقعاً قائماً، منطلق لابد منه لتفجير قوى العطاء والإبداع لدى أمة من الأمم ولتحقيق المشاركة الشعبية العفوية والحارة في مشروعات البناء الحضاري. وبدلاً من المطالبة بتغيير الأنماط الثقافية عن طريق تبني الأنماط الثقافية الغربية والغريبة، أو بدلاً من المطالبة بتطوير نماذج اقتصادية نابعة من التراث دون تقري هذا التراث لتحريك قوى التقدم والإبداع فيه، يتوجب على البلدان النامية أن تنظر في التراث الثقافي الاجتماعي نظرة حديثة، لتتعرف على ما فيه من مفرزات عصور التخلف من قوى نابذة للتقدم، وما في روحه وجوهره الحي الديناميكي من قوى جاذبة للإبداع والحضارة. فالمسيرة الحضارية هي دوماً وأبداً صراع، صراع بين قوى الإبداع والعطاء، بين القيم الإنسانية الكبرى، من جانب، وبين عوامل الجمود والانحدار والركون إلى الدعة الحضارية الزائفة وإلى الطمأنينة الكسولة. وتغلب القوى الأولى على الثانية هو الذي يولد الحضارات الحية، بينما تولد غلبة القوى الثانية تخلف الحضارات وتراجعها.
6- وما أتينا على قوله ينقلنا إلى المنطلق السادس من المنطلقات الأساسية التي أردناها دعامة ومتكأ لبحثنا. ونعني بهذا المنطلق التأكيد، انطلاقاً مما ذكرنا منذ حين، على أن التنمية ليست عملية مفاجئة، يمكن أن تتم بين عشية وضحاها، وإنما هي عمل دؤوب طويل النفس ما دام يستهدف تنمية الثقافة وتنمية القيم في مجتمع من المجتمعات وسط جملة التحديات التي تواجهه، ومن خلال الغايات والأهداف الجديدة التي رسمها لنفسه. وهذا يعني رفض موقفين يتعجلان الأمور ويبحثان عن حل جاهز فيما يتوهمان: أولهما هو الموقف الذي يبسط المسألة في الظاهر فيدعو إلى الأخذ بثقافة الحضارة الغربية وقيمتها وعلمها وتقنياتها، والذي يرى أن عملية التقدم هي مجرد “مسار خطي في الزمن” يستهدف اللحاق بالنموذج الثقافي الوحيد الذي أثبت جدارته، أي النموذج الغربي جملة، والنموذج السائد في الولايات المتحدة بوجه خاص. وهو موقف يرى أن التخلف ما هو إلا التخلف عن اللحاق بهذا النموذج. والموقف الثاني المبسط للأمور كذلك، هو الموقف الذي يدعو إلى التوقع على الذات، ورفض كل ما هو غريب، غربياً كان أو شرقياً، والانطلاق من التراث الثقافي انطلاقاً حرفياً اتباعياً، يرفض حتى تجديد فهمه من خلال سياق العصر. وهو ما يصفه “توينبي” بالموقف “الزيلوتي”. وسنعود إلى ذلك عند الحديث عن البلاد العربية، وأياً كان الأمر، فما نود أن نقوله منذ الآن هو أن البناء الحضاري لا يرتجل ارتجالاً، عن طريق تقليد نموذج جاهز، كما لا يكتشف اكتشافاً كما تكتشف الجوزة القابعة في قشرتها، على حد تعبير وليام جيمس. إنه يُبنى بناء جاداً موصولاً، يتصل فيه الماضي بالحاضر، ويتصلان معاً برؤى المستقبل وحاجاته.
(ثالثاً) تحفظات وإيضاحات حول المنطلقات الأساسية:
ولكي نمضي في بحثنا مطمئنين، نجد لزاماً علينا، بعد أن بسطنا المنطلقات الخمسة الأساسية التي نتخذها عدة لنا في هذا البحث، أن نستدرك فنكشف عن بعض التفسيرات الخاطئة التي قد تعطي لهذه المنطلقات، وبالتالي لفكرة التنمية الثقافية كوسيلة وهدف للتنمية بوجه عام. وأهم ما نرى من الضروري التوقف عنده ما يلي:
1- لقد تريثنا عند مفهوم “التنمية المستقلة”، وبيّنا ما قام به الاقتصاديون (وعلى رأسهم كتاب أمريكا اللاتينية) من تأكيد على رفض النموذج الغربي المجلوب، الذي هو وليد التجربة الغربية وحدها. وقد سار على هذا النهج بعض الاقتصاديين العرب كما ذكرنا، بل كاد هذا النهج يصبح شعاراً سائداً ومبذولاً.
ولا جدال في صحة هذا النهج في اتجاهاته الأساسية. غير أنه لابد من أن ننبه إلى مخاطر المغالاة فيه، كما فعل بعض الكتاب الأجانب والعرب، الذين رفضوا النموذج الغربي جملة وتفصيلاً. ولا ينطلق هؤلاء من مجرد القول بأن نقل التجربة من إطار ثقافي إلى آخر أمر غير جائز فضلاً عن كونه غير ممكن – وهذا قول لا غبار عليه – بل يضيفون إلى ذلك أمرين: أولهما أن التجربة الغربية في التنمية ينبغي أن ترفض كلها، وأن نسق التنمية في الغرب نسق “لا تاريخي”، وأنه نسق لا يُعنى بالمحتوى التاريخي والاجتماعي والثقافي لعمليتي التنمية والتخلف. وثانيهما أن النموذج الغربي للتنمية نموذج غير صالح للغرب نفسه والدول المتقدمة، فضلاً عن عدم صلاحه للدول النامية، وأن النظريات الغربية في التنمية والتحديث هي فروض اشتقت بوجه خاص من التجربة الرأسمالية الغربية، وأنها بالتالي انعكاس لمسيرة وتصارع القوى الاجتماعية الأوروبية في المراحل المختلفة، وأن الفكر الاقتصادي الغربي قد غالى في عزل الظاهرة الاقتصادية عن سواها، وأنه وحد إلى حد بعيد بين النم الاقتصادي والتنمية، إلخ…
ولئن كنا نؤكد دوماً ضرورة البحث عن نموذج عربي للتنمية، ونرى أن البدء الصحيح يكون بالانطلاق من الذات ومن التنمية المستقلة الذاتية، ولئن كنا نقول مع كثير من الكتاب الغربيين بنقص النموذج الغربي وتقصيره حتى بالقياس إلى الغرب، فإننا لا نعني بذلك أن نموذج التنمية الذاتية المستقلة يمكن أن ينمو ويتطور ويأخذ شكله وقوامه في معزل عن التجربة العالمية وعن التجربة الغربية بوجه خاص، سواء اصطرع مع بعض جوانبها أو اغتذى ببعض عطائها. ولا أدل على ذلك من أن الدعوة إلى التنمية المستقلة، التي انطلقت من البلدان النامية، كما رأينا، أغناها بوجه خاص ومنح لها الكثير من مضمونها ومعناها الفكر الاقتصادي الغربي نفسه لدى العديد من المفكرين.
والحق إن الموقف الصحيح الواجب في هذا المجال، فيما نرى، هو الذي ينطلق من الحقيقة الآتية: وهي أن المجتمعات المتقدمة الحديثة اليوم لم تبلغ التحديث الحقيقي بعد، التحديث الكامل المتكامل الجدير بالإنسان والمصنوع من أجل الإنسان. وما تزال هي نفسها في مرحلة الانتقال نحو الحداثة. ومن هنا فإن سعي الدول النامية لا يصح أن يكون سعي من ينقل تجربة هذه المجتمعات ويقلدها، بل سعي من يسهم معها في فهم العوائق التي حالت بين نماذج التنمية فيها وبين أن تكون نماذج “حديثة” حقاً، أكثر قربى ورحماً إلى الغابات الإنسانية. وعندما يرافق هذا السعي سعي مواز له، تبحث فيه الدول النامية في عناصر الثقافة الذاتية التي يمكن أن تلتقي مع التجربة العالمية الباحثة عن مصير أفضل، يمكن أن يولد من هذا اللقاء نموذج تنموي ذاتي، أصيل وحديث معاً. وفي رأينا أن تجربة اليابان، منذ عصر ميجي، كما قلنا ونقول، تظل نموذجاً يحتذى في هذا المجال. وسنعود إليها. ومثلها إلى حد ما، تجربة الصين في بعض جوانبها، وتجربة الهند.
وبتعبير آخر إن إستراتيجية الأبواب والنوافذ المغلقة إستراتيجية غير مقبولة في أي مجال، فضلاً عن كونها غير ممكنة. وما تؤدي إليه هو عكس ما تقصد إليه: نعني المزيد من التخلف وبالتالي المزيد من التبعية للدول المتقدمة. والإستراتيجية الصحيحة هي، إن صح التعبير، إستراتيجية “تخير النوافذ المفتوحة”. أو لم يقل “غاندي” يوماً أنه لا يود أن يغلق النوافذ في غرفته، ويود أن يدخل الهواء الخارجي منها حراً طليقاً، ولكنه لا يريد أن تعصف به رياح عاتية، ولو كان في هوائها بعض العبق والأريج؟
2- وينجم عن هذا الاستدراك الأول الذي حاول أن يدحض المغالاة في مفهوم “التنمية المستقلة”، التأكيد على أن الانطلاق من الثقافة ينبغي ألا يحمل معنى سكونيا جامداً. فالثقافة ليست مجموعة من الثوابت، وإنما هي كائن حي يتطور ويتقدم ويحمل قسمات وسمات جديدة مع تطور الزمن، وإلا قضي عليه بالزوال. صحيح أن ثقافة أي شعب هي وراءنا، لأنها حصاد تجربته التاريخية وإرثه عبر العصور، غير أن من الصحيح كذلك أنها أمامنا، أي أنها في تطور مستمر وأن هدفها المزيد من التطور، وأنها لا تعرف التوقف عند نقطة زمنية معينة.
والمعنى الأساسي للانطلاق من الثقافة في نظرنا هو الانطلاق من الجهد الذاتي لبناء الثقافة واستمرار هذا الجهد. فالثقافة، كما قلنا ونقول، بناء وليست اكتشافاً. وخصوصيتها تنجم عن كونها صنعت وصيغت بأيدي وعقول أبنائها، وهي أيد وعقول تتطلع دوماً إلى المزيد، وتعانق الأيدي والعقول في أي عصر ومصر، وتمزج دمها وروحها وعبقريتها بعبقرية سواها، وتمضغ هذا كله وتتمثله تمثلاً ذاتياً، ثم تولد منه صيغاً يصعب وصفها بأنها غريبة عن جسم أبنائها، وإن يكن فيها من دماء سواها الشيء الكثير.
3- وهذا ينقلنا إلى استدراك ثالث وهام، لعله بيت القصيد. وهو استدراك يتصل بمخاطر التنمية الثقافية الذاتية ذات الوجه الإنساني حين تتبناها الدول النامية وحدها، من دون الدول المتقدمة. أو لم يشر الكثيرون إلى تلك المأساة العالمية الحقة وهي أن أنصار التنمية الموجهة لمصلحة الإنسان والنظام العالمي الجديد اقتصادياً كان أو ثقافياً أو إعلامياً، هم أولاً أبناء الدول النامية؟ أو لم يقل بعضهم، بين الجد والهزل، إن الدفاع عن القيم الإنسانية غداً من نصيب الفقراء في العالم؟
ومن هنا تأتي أهمية السعي المشترك والمتبادل بين الدول النامية والدول المتقدمة في سبيل تضامن جهود التنمية في العالم كله، وفي سبيل تطوير بعض الأسس لنظريات تنموية تصلح للبلدان النامية والمتقدمة على حد سواء. لقد قلنا أن الدول المتقدمة نفسها لما تبلغ “الحداثة” الحقة، وأنها ما تزال في مرحلة انتقالية نحو الحداثة. ولاشك أن نماذج الحداثة التي تقدمها نماذج لا تدعو إلى الإعجاب. وليس من الجديد أن نقول أن التنمية التي تلوث البيئة الطبيعية والاجتماعية لا يمكن أن تكون محط رحال الإنسان. وتطوير التجربة الحديثة في مجال التنمية لابد أن يكون أيضاً من صنع أبناء هذه التجربة أولا وقبل كل شئ، ومن خلال معاناتهم. ولكن آفلا يفيد الحوار بين أبناء هذه التجربة وبين تجربة الدول النامية في إغناء كلتا التجربتين؟
وقد يبدو من باب التشاؤم أن نقول أن تبني الدول الضعيفة وحدها لنمط من التنمية أكثر إنسانية، مستوحى من خصوصياتها الثقافية، لا يقودها فقط إلى التبعية الاقتصادية والثقافية، بل يعود فيلقي بها مرة أخرى في هوة الاستعباد السياسي.
على أن مسؤولية هذا المصير السيء لا تقع على البلدان المتقدمة وحدها، بل تشارك فيها الدول النامية نفسها. فالحوار لن يكون ممكناً إلا إذا دللت هذه الدول النامية على تصميمها على القيام بجهد تنموي حقيقي، وإلا إذا التقت قواها وتآزرت في سبيل توليد واقع جديد يجعل الدول المتقدمة نفسها تشعر بالحاجة إلى الحوار وتطلبه.
(رابعاً) الثقافة والتنمية في الوطن العربي:
إن المنطلقات التي عددناها في القسمين السابقين تصلح بوجه خاص منطلقات للتنمية في الوطن العربي، كما تصلح لسواه من البلدان النامية. ولهذا لن نعاود الإشارة إليها في معرض حديثنا عن الثقافة والتنمية في الوطن العربي، رغم أنها دوماً أمام ناظرينا تهدينا الطريق وتسدد ما نقدمه من عرض وتحليل. على أننا لا ننسى أن نذكر في طليعة تحليلنا هنا أن مؤتمر القمة العربي الذي انعقد في عمان (من 25 – 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970) قد أكد معاني التنمية العربية الذاتية وجعل من الهدف الإنساني أهم أهداف التنمية في الوطن العربي. فمما جاء في بيانه: “إن الإنسان العربي هو هدف التنمية ذاتها. وبالتالي فإن البعد الإنساني للتنمية يجب أن يحتل أولوية خاصة في الاستراتيجية الاقتصادية العربية، وذلك لضمان مستوى الأداء الاقتصادي للإنسان العربي، وتطوير خبراته ومهاراته، واكتسابه القدرة التقنية مع التمسك بالشخصية الحضارية الأصيلة للمجتمع العربي”.
على أنه لابد من التذكير بأن هذه المنطلقات نجدها، على أشكال مختلفة وشتيتة، في ثنايا كثير من الكتابات العربية الحديثة حول التنمية ولدى العديد من المفكرين الاقتصاديين، ولاسيما الذين ينادون بالتنمية المستقلة، ممن ذكرنا ولم نذكر(2).
غير أننا لا نجد إلا القليل من الدراسات الاقتصادية العربية التي تجاوزت البحث العام في “نموذج التنمية المستقل” إلى البحث المفصل في العوامل الثقافية ودورها في توليد ذلك النموذج. ومن هنا يجد الباحث عناء في تحليل التنمية العربية من هذا المنظار، منظار الثقافة. وسنحاول ذلك، مستندين إلى الشتيت من الدراسات والأفكار ومن تحليلنا للواقع العربي وأصوله الثقافية – الاجتماعية.
1- التنمية العربية والمعوقات الاجتماعية:
ونبدأ بالجانب السلبي، محاولين تبين أهم العوائق الثقافية الاجتماعية التي تغالب التنمية وتعطل انطلاقتها في البلاد العربية.
ومثل هذا البحث قد يقودنا بعيداً، ويحتاج إلى أسفار ومجلدات لا إلى صفحات محدودة، ويحتاج إلى جهود كتلة من الباحثين، لا إلى جهود الفرد الواحد.
ومع ذلك سنحاول الحديث عن أهم ما نجده جديراً بالبحث في هذا المجال، مستخدمين لغة مختزلة أشبه بلغة البرقيات.
على أنه لابد أن نستدرك فنقول أن المجتمع العربي يتصف أولاً وقبل كل شئ بأنه في حال صراع، صراع بين قيم متعارضة، وصراع بين القديم والحديث، وصراع بين الأصالة والمعاصرة، الخ… ولهذا فعندما نتحدث عن العوامل الثقافية التي نعتبرها معوقات للتنمية ينبغي ألا ننسى أن في مقابلها عوامل أخرى تغالبها، وأننا لا نجد بالتالي مقومات ثقافية سلبية نقية خالصةـ بل لابد أن تختلط المقومات الثقافية السلبية بالمقومات الإيجابية، أو بتعبير أصح أننا نجد بين الطرفين الحديين للمسألة (وهما حدان نظريان إلى حد بعيد) سلماً متدرجاً يأتلف فيه السلب مع الإيجاب بدرجات متفاوتة، ونرى فيه، بين الظلام الغربيب والنور المشرق، ألوان الطيف الشمسي كلها.
ولنمض بعد هذا الاستدراك إلى البحث في العوامل الثانية السلبية (وهي كما قلنا درجات ومراتب، وفي صراع مستمر وتفاعل دائم لدى الجماعة ولدى الفرد مع العوامل الإيجابية).
1-1: ولنبدأ بسلب السلب، إن صح التعبير، أي بنقد بعض الأفكار السلبية التي شاعت لدى عدد من المفكرين العرب، والتي لا تكتفي بالقول إن في الثقافة العربية قيماً وتقاليد وعادات بالية تقليدية تحول دون التنمية والتقدم، بل تذهب إلى ما هو أبعد من هذا فترى أن علل الثقافة العربية هذه، علل مزمنة بل أصيلة، رافقت الثقافة العربية دوماً، وكانت من أسباب ضعفها وانحلالها. وتكاد هذه الاتجاهات تعتبر أن ثمة عللاً قائمة ومقيمة في العقل العربي نفسه. ومن تلك العلل التي تذكرها تلك الدراسات:روح الاتباع والماضوية والغيبية – روح التمركز حول الذات وما يرافقها من أنانية مفرطة – ضعف الإحساس بالزمن – غلبة اللفظ على الفكر – تقديم الفرضيات الفكرية المجردة على الواقع والتجربة – غلبة روح الشقاق والخصام والاقتتال – تكون العقل العربي من خلال مبادئ وقواعد و”نظام معرفي” فرض عليه – الخ…(3).
ولن نتوقف طويلاً عند مناقشة هذه الآراء. وحسبنا إن نقول أن ما تحدثنا عنه من صفات وخصائص في الطبع العربي والعقل العربي، قد يكون بعضه قائماً في يومنا هذا، وهو دون شك من معوقات التنمية والتقدم. أما اعتبار تلك الصفات والخصائص أصيلة وعريقة وكأنها من بنية الطبع العربي والعقل العربي والثقافة العربية ففرض ترفضه الدراسات الاجتماعية والأنثربولوجية الحديثة التي تنكر أي تفسير “اثني” أو “عرقي” للثقافة، ونأخذ بالتفسير الذي يرد تكون الثقافة إلى جملة من العوامل والظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وسواها.
1-2: وإذا تركنا هذا النقد السلبي، وجدنا في بعض الدراسات العربية، ولاسيما الاجتماعية منها، تحليلاً للثقافة العربية ومقوماتها، كثيراً ما يشير إلى ما فيها من معوقثات تعرقل التنمية والتقدم. ونكتفي بالإشارة إلى بعضها…..
وفي وسعنا، زيادة في التوضيح، أن نقسم العوامل الثقافية السلبية التي تقف في وجه التنمية إلى طائفتين كبيرتين: أولاهما ما ندعوه بالعوامل الثقافية الاجتماعية البنيوية (الصادرة عن المؤسسات والبنى الاجتماعية الثقافية)، وثانيهما ما ندعوه بالعوامل الثقافية الفكرية (الصادرة عن القيم والمواقف والاتجاهات) منبهين إلى أن الفصل بين هذين النوعين من العوامل فصل صنعي، لجأنا إليه من أجل مزيد من الوضوح.
1-2-1: المعوقات الثقافية الاجتماعية البنيوية:
نعني بهذه المعوقات أنماط السلوك الصادرة عن طبيعة البينية الاجتماعية الثقافية للمجتمع العربي في مكوناتها ومؤسساتها وتنظيماتها الأساسية، كالعائلة وكالبيئات البدوية والريفية والمدنية، وكالبنية السكانية وسواها.
1-2-1-1: وقد ظهرت في السنوات الأخيرة دراسات عديدة تبحث في بنية العائلة العربية وخصائصها والثقافة السائدة فيها وما تفرزه من آثار اجتماعية واقتصادية وسياسية وسوى ذلك(4). والذي يعنينا من هذه الدراسات أنها تكاد تجمع على أن العائلة العربية عائلة هرمية – طبقية في بنيتها، أو بطركية أبوية كما يقال (يحتل الأب فيها رأس الهرم)، وتلعب فيها صورة الأب، على حد تعبير المدرسة الفرويدية، دوراً كبيراً في تكوين القيم والاتجاهات وسائر أنماط السلوك لدى الأولاد. ومن هنا كانت العائلة العربية يسودها النظام الأبوي (البطركي) وما يلحق به من مفهوم التبعية. وقد بين بعض الباحثين (وهو الدكتور هشام شرابي) أن اندماج النظام الأبوي ونظام التبعية خلال القرنين الماضيين أدى إلى قيام بنية اجتماعية سياسية خاصة يمكن وصفها بالنظام الأبوي الجديد (5)، وهو نظام ليس بالتقليدي وليس بالحديث، بل يكاد يكون “نسيج وحده Sui Generis”، له أنماطه الخاصة في التفكير والعمل والقيم والسلوك. وأهم خصائصه في نظر هذا الباحث ما يأتي:
– التفتيت الاجتماعي: أي أن العائلة أو العشيرة أو الدين أو الجماعية الاثنية (بدلاً من الأمة
أو المجتمع المدني) تشكل أساس العلاقات الاجتماعية.
– التنظيم السلطوي: أي السيطرة والقسر (بدلاً من التعاون والمساواة).
– الأخذ بالنماذج المطلقة في النظر والعمل.
– الممارسات الشعائرية: أي السلوك المبني على الرسميات والعادات والطقوس (بدلاً من العفوية والإبداع والابتكار)(6).
ويذهب هشام شرابي إلى ما هو أبعد من ذلك فيرى في كتابة «مقدمة لدراسة المجتمع العربي» “أن الاضطهاد في مجتمعنا هو ثلاثة أنواع: اضطهاد الفقير واضطهاد الطفل واضطهاد المرأة”.
وقد يصدق بعض هذا الوصف على العائلة العربية قبل تطورها. أما الآن، فالعائلة العربية تشهد الانتقال التدريجي من العائلة الممتدة الواسعة (الأبوية البطركية إلى العائلة النووية (المؤلفة من الزوجين والأولاد فقط)، وبذلك تتغير كثير من خصائصها.
على أنه يظل من الصحيح أن العائلة العربية ما تزال تشكو الهرمية والطبقية المستندة إلى الجنس والعمر، وأننا نشهد فيها غالباً دونية النساء ودونية الصغار.
ويتحدث الدكتور سعد الدين إبراهيم حديثاً هاماً عن العلاقة بين الأسرة والإبداع في الوطن العربي. ويبدأ بتلخيص الدراسات العربية في مجال الأسرة، وما تنتهي إليه من تحديد ملامحها الأساسية (أسرة ممتدة – أسرة أبوية – أسرة متماسكة متضامنة – أسرة تقليدية محافظة). ويشير إلى ما ذكرته تلك الدراسات من تباين الأنساق القيمية السائدة في الأسرة العربية في كل من البادية والريف والحضر. ثم يتحدث عن أساليب التنشئة في الأسرة العربية، في إطار علاقتها بالإبداع، فيرى أن ثمة اتفاقاً بين الباحثين اليوم على أن أساليب التنشئة هذه تتصف بالتقبل والدفء والتسامح في الطفولة المبكرة، وتمنح الطفل إحساساً بالأمان والطمأنينة، الأمر الذي يساعد على تكوين شخصية مهيأة للإبداع. غير أن هذه التنشئة ما تلبث – بعد حوالي السادسة من العمر – أن تصبح أكثر صرامة وقسوة وتسلطاً، وأن تجعل الأطفال العرب فيما تزعم بعض الدراسات الأجنبية القديمة، يصبحون أقرب إلى التبلد والعقم عندما يقتربون من سن الرجولة. وفي هذه المرحلة من العمر تظهر السمات الغالبة للأسرة العربية، وعلى رأسها سمتا السلطوية والتقليدية المحافظة.
وهذه الصفات التي تسود الأسرة العربية (وعلى رأسها السلطوية والمحافظة التقليدية) هي النموذج المصغر لما يجري في المجتمع العربي كله، ذلك المجتمع الذي يحول دون الإبداع والابتكار. والمبدع فيه ” الذي يجهر بإبداعه…. هو في الواقع شهيد”(7). وهكذا ينتهي الدين إبراهيم إلى القول ” أن البيئة الاجتماعية العربية عموماً والأسرية خصوصاً لا توفر المناخ المناسب لاستنفار وتنمية القدرات الإبداعية”(8)، وإن الأسرة العربية بشكلها ووظائفها التقليدية “تمثل في معظم سماتها وأساليب التنشئة عامل مصادرة وإهدار “للثروة البشرية بوجه عام، وبوجه خاص لتلك النسبة المعتادة من ذوي الذكاء العالي المستوى(8).
لقد أوردنا هذه التحليلات التي قدمها بعض علماء الاجتماع العرب، لنتبين بعض العوائق التي يمكن أن تضعها الأسرة العربية في طريق التنمية. ولئن كان في بعض هذه التحليلات تعميم مغالٍ، ولئن كان بعضها الآخر يشير إلى الجوانب الإيجابية في بنية العائلة العربية (وهي كثيرة دون شك)، فإنه يظل من الصحيح إلى حد بعيد أن التنشئة الأسرية العربية أقرب إلى السلطة منها إلى الحرية، وإلى الاتباع منها إلى الإبداع. ولا حاجة إلى بيان دور الإبداع وتكوينه منذ الصغر في أي جهد تنموي وحضاري. والدراسات حول ما يعرف “بالإبداعية” أصبحت أكثر من أن تحصى.
على أننا نعود فنذكّر باستدراكنا الذي سقناه منذ حين، نعني أن المجتمع العربي مجتمع قوامه الصراع بين قيم وأنماط من السلوك متعارضة، وأننا نجد فيها ألواناً ولُوينات من البنى الثقافية الراجعة إلى العائلة، وأنه في حال تحول وتغير لا في حال جمود وسكون. وهدف مثل هذا التحليل هو إدراك هذه الحقيقة من أجل العمل على توفير الظروف الملائمة لغلبة العوامل الديناميكية الإيجابية الحية في العائلة العربية (والمجتمع العربي) على العوامل الساكنة الجامدة، ومن أجل تيسير عملية التطور البنيوي والثقافي للأسرة العربية، ذلك التيسير الذي ينبغي أن نعتبره مهمة أساسية من مهمات التنمية.
1-2-1-2: البداوة والريف والحضر:
وترتبط ببنية العائلة العربية البنية البيئية إن صح التعبير، تلك البنية التي تتجلى في وجود بيئات “إيكولوجية” ثلاث أساسية في المجتمع العربي: بيئة البادية، وبيئة الريف، وبيئة الحضر. وقد ذكرنا أن ثقافة العائلة العربية تختلف باختلاف هذه البيئات الثلاث.
ولسنا في صدد القيام بدراسة اجتماعية حول هذه البيئات. وحسبنا من أجل أغراض بحثنا (الذي يهدف إلى الكشف عن المعوقات الثقافية والاجتماعية للتنمية) أن نبين أن كل واحد من هذه التنظيمات البيئية يفرز قيماً ومواقف خاصة ينبغي أن تؤخذ بعي الاعتبار عند وضع خطط التنمية ومشروعاتها. ففي البادية (ديار الكرام كما يقول شوقي) تسود قيم العصبية والفروسية والضيافة والقيم المتصلة مباشرة بنمط المعيشة اليومية (كالبساطة، والفطرة، وتحمل الصعوبات، والخشونة، والصبر، وصفاء النفس، والصراحة).
وفي القرية تسود العلاقات الحميمة بين الفلاح والأرض، كما تسود العصبية العائلية (المشتقة من هذه العلاقة)، كما تسود قيم معيشية ترتبط بنمط معيشة الفلاح (المثابرة والصبر – الجيرة – التشديد على الأعراف – البساطة – العيش يوماً بيوم كفافا، الخ…) فضلاً عن القيم الدينية وبعض القيم الطبقية.
وفي الحضر تختلف القيم وتتنوع إلى حد كبير، وتتباين بوجه خاص تبعاً للطبقات الاجتماعية وأحياناً تبعاً للأقليات والطوائف والمهن. ويشكل الحي في كثير من الأحيان وحدة اجتماعية إيكولوجية مترابطة تملك ثقافة فرعية Culture – Sub ضمن ثقافة المدينة الأعم(9).
ووههنا أيضاً لابد أن نذكر أن الحدود ليست قاطعة بين البدو والريف والحضر، وأن ثمة تأثراً بين هذه البيئات الثلاث، وإن ذهب بعض علماء الاجتماع العرب إلى القول بأن القيم السائدة في المجتمع العربي كله ما تزال قيم البداوة (علي الوردي، فاضل الأنصاري وسواهما). يضاف إلى هذا أن الثروة النفطية غيرت الكثير من خصائص هذه البيئات بل من الصلات فيما بينها. هكذا يبين سعد الدين إبراهيم، في دراسة هامة عن الآثار الاجتماعية للثروة النفطية (10)، أن ثمة نظاماً اجتماعياً عربياً جديداً ولدته الثروة النفطية بوجه خاص وآثارها، فيه نجد أن القوى الاجتماعية الرئيسة الفاعلة في المجتمع لعربي يمكن تصورها عن طريق صور ثلاث: صورة البدوي المميكن، والرأسمالي الهلامي، والكفيل، وذلك في البلدان العربية النفطية. وفي البلدان العربية الأخرى، ولاسيما في الريف، والريف المصري بوجه أخص، نجد صوراً ثلاثاً أخرى: الفلاح المصري في الجزيرة العربية، وطالبة الطب المحجبة، والمناضل المسلم الساخط.
ولن نسترسل في هذا البحث، وجل ما أردناه أن نبين بعض خصائص البيئات الاجتماعية العربية الثلاث (البداوة والريف والحضر) وأن نتبين ما يمكن أن تكون لها من آثار مختلفة ومتباينة في عملية التنمية، وأن ندرك من جديد أهمية إدراك هذه الخصائص في أي جهد تنموي في البلاد العربية.
ونجد في الأدب الأجنبي، وفي الأدب الصادر عن منظمة اليونسكو بوجه خاص، أمثلة مفيدة جداً حول العلاقة بين هذه التنظيمات البيئية وبين التنمية. وبعض هذه الدراسات تتوقف عند واقع بعض الدول النامية في هذا المجال (مدغشقر – الهند – إيران وسواها) وعند واقع بعض الدول العربية أيضاً (المغرب) (11).
1-2-1-3: البنية الطبقية:
أياً كان التحليل الإيديولوجي للمجتمع العربي، يظل من الصحيح أن ثمة مظاهر أساسية للنظام الاقتصادي العربي المعاصر، أهمها: التبعية (للسوق العالمية وللشركات المتعددة الجنسية) – والفجوة بين الأقطار العربية الغنية والفقيرة، تلك الفجوة التي تولد خللاً اجتماعياً وثقافياً فضلاً عن الخلل الاقتصادي – والفجوة بين الأغنياء والفقراء داخل كل بلد عربي – وعدم التوازن بين القطاعات الاقتصادية الرئيسية (الزراعة – الصناعة – التجارة والخدمات). وهذا كله يولد علاقات اجتماعية وثقافية خاصة: منها علاقة الاستغلال بين المالك والفلاح أو الأجير – العلاقة السلطوية – علاقة العداء والحسد والكره والنفاق. وأهم مظاهر هذه العلاقات ضعف الحراك الاجتماعي العمودي(12).
والحديث عن الآثار الاجتماعية والثقافية للبنية الطبقية في المجتمع العربي حديث ذو شجون، لا يتسع له هذا البحث، لاسيما أن مثل هذا الحديث ينبغي أن يتناول، إلى جانب الأوضاع المشتركة بين البلدان العربية، وضع كل بلد عربي على حدة. وحسبنا أن نقول أن البنية الطبقة ما تزال في البلاد العربية من المعوقات الرئيسية التي تحد من نجاح مشروعات التنمية، ولاسيما أنها تبطل أهم عوامل هذا النجاح، نعني مشاركة المنتجين مشاركة فعالة في عملية الإنتاج وحماستهم لها. فضلاً عن أنها تحول دون تفتح قوى الإبداع والعطاء لدى الجماهير الغفيرة المحرومة، تلك الجماهير التي تثوي فيها جل إمكانات الابتكار والتقدم والتنمية. يضاف إلى هذا أن البنية الطبقية تولد توتراً اجتماعياً يأخذ مظاهر عديدة، وقد تكون له نتائجه الوخيمة أحياناً.
1-2-2: العلاقات الثقافية الفكرية:
ونعني بها،كما سبق أن ذكرنا، القيم والمواقف والاتجاهات الأساسية السائدة التي يكون بعضها عائقاً في طريق التنمية. وهذه المعوقات الثقافية الفكرية لا تنفصل – كما سبق أن استدركنا – عن المعوقات الثقافية الاجتماعية البنيوية، وبين الجانبين تأثر دائري.
1-2-2-1: ونعود فنذكر أننا في هذا المجال، كما في سواه، لا نجد قيماً ومواقف سلبية محضة وأخرى إيجابية محضة، بل نجد في حقيقة الأمر صراعاً بين الجانبين، وتحولاً يوجه خاص من القيم السلبية إلى القيم الإيجابية، وهذا التحول هو الذي ينبغي أن تمده خطط التنمية ومشروعاتها بما ييسر له اشتداد عوده وغلبته في نهاية المطاف.
هكذا نجد أزواجاً من القيم تتصارع أحياناً وتتقارب في معظم الأحيان وتطغى فيها بعض الأحيان القيم الإيجابية على القيم السلبية. من هذه الأزواج المتصارعة والسائرة نحو التحول: القيم الجبرية وقيم الإرادة الإنسانية الحرة – القيم المحافظة التقليدية والماضوية والقيم المستقبلية – قيم الاتباع وقيم الإبداع – قيم العقل والعقلانية وقيم القلب – القيم الأنانية الفردية وقيم التضامن الاجتماعي – قيم الانفتاح وقيم الانغلاق – قيم الخنوع وقيم الإباء – قيم الشكل واللفظ وقيم المضمون والمحتوى(13) – الخ….
ولاشك أن الزوج السالب في كل من هذه الأزواج المتصارعة ما يزال هو الغالب في المجتمع العربي. وواضح ما في مثل هذه الغلبة من نتائج معوقة خطيرة بالقياس إلى التنمية. ولسنا في حاجة إلى تفصيل الحديث عن كل زوج من هذه الأزواج – على أهمية ذلك – فالقارئ يمكنه أن يستخلص بيسر ما ينجم عنها من آثار معوقة للتنمية.
وهنالك مفكرون ينظمون هذه الأزواج نظماً آخر، يلتقي في بعض وجوهه مع الأزواج السابقة. هكذا يرى الدكتور جواد رضا أن “هنالك عشر أزمات مسؤولة عن تمزيق النسيج الداخلي للمجتمع العربي”، وهي عنده:
1- الدين ضدا للعلمانية.
2- الفردية (الأتوقراطية) ضداً لحكم المؤسسات.
3- التقليد ضدا للإبداع.
4- السلطة ضدا للحرية.
5- القبلية ضدا للتعاقد الاجتماعي.
6- المحسوبية ضدا للكفاية الفردية.
7- الاستعلاء الذكري ضداً لتحرير المرأة.
8- الإقليمية ضداً للقومية.
9- الزراعة ضدا للتصنيع.
10- الثروة ضدا للفقر(14).
1-2-2-2: ومن أهم المواقف والاتجاهات التي تقف في وجه التنمية في نظرنا تلك المواقف والاتجاهات التي تتصل بالنظرة إلى العمل بوجه عام وإلى العمل المهني والحرفي بوجه خاص. وكلنا يعلم أن المجتمع العربي ما يزال يحمل إرث قرون بعيدة وطويلة، تجعله يزري بالعمل اليدوي والمهني، ويرى في المهنة امتهاناً، كما يرى في حياة الحضر احتضاراً. وما يزال إرث حياة البداوة شائعاً فيه إلى حد بعيد، ذلك الإرث الذي جعل الفرزدق يعير جريراً بأنه “القين وابن القين” (أي الحداد ابن الحداد) قائلاً له:
أني بنى لي في المكارم أولي ونفخت كيرك في الزمان الأول
وما يزال أبناء بعض المجتمعات العربية يرفضون حتى اليوم الاشتغال بالأعمال اليدوية والحرفية والتقنية، فضلاً عن الاتجاه الغالب لدى الجمهرة الكبرى من أبناء المجتمع العربي، الاتجاه الذي يؤثر العمل المكتبي والديواني على العمل اليدوي أو الزراعي أو الصناعي، ويرفع من شأن أصحاب “الياقات البيضاء” ويخفض من شأن أصحاب “الياقات الزرقاء”. بل ما نزال نرى في بعض المناطق العربية احتقاراً لمن يعمل في زراعة بعض البقول أو في تربية الدواجن أو سوى ذلك.
ومن هنا نجد ذلك التدافع الكبير على أنواع التعليم النظرية والأكاديمية وذلك الأحجام عن ارتياد التعليم المهني والتقني. الأمر الذي يجعل المحاولات الكثيرة التي تقوم بها الخطط التربوية في معظم البلدان العربية من أجل زيادة عدد المنتسبين إلى التعليم المهني والتقني وإلى الدراسات العلمية محاولات تبوء بالفشل.
ولا حاجة إلى بيان الآثار السلبية الخطيرة التي تخلفها مثل هذه الاتجاهات والمواقف في مسيرة التنمية في بلاد عربية تحتاج أول ما تحتاج إلى أعداد الفنيين والمهنيين والعلماء في عصر الثورة العلمية التكنولوجية. ولا حاجة إلى ذكر الأرقام والإحصاءات – وهي عديدة – من أجل بيان الخلل القائم بين عدد الذين ينتمون إلى الدراسات المهنية والتقنية في التعليم الثانوي وإلى الدراسات العلمية في التعليم العالي، وبين عدد الذين ينتمون إلى الدراسات النظرية الأكاديمية ثم الدراسات الإنسانية، في جملة البلاد العربية. وحسبنا أن نذكر أن نسبة المقيدين في التعليم التقني والمهني بالقياس إلى العدد الكلي لطلاب التعليم الثانوي في الدول العربية جميعها لم تجاوز 10.5 % عام 1980 وأنها لم ترتفع إلى أكثر من 12 % عام 1988 (تبعاً لإحصاءات منظمة اليونسكو).
على أنه لابد أن نستدرك، دفعاً لأي لبس، فنقول أن ضآلة المنتسبين إلى التعليم المهني التقني لا ترجع فقط إلى هذه الاتجاهات والمواقف الثقافية التي نتحدث عنها، بل ترجع أيضاً إلى أسباب وعوامل أخرى، منها ضعف برامج هذا التعليم المهني والتقني وضعف ارتباطها بحاجات سوق العمل المتجددة. ومنها عدم قدرة السوق في كثير من البلدان العربية على امتصاص خريجي هذا التعليم، نظراً لعدم الربط بين تطور مشروعات التنمية الاقتصادية وما يرتبط بها من فرص عمل جديدة وبين عدد الخريجين من فروع التعليم المهني والتقني المختلفة.
على أنه يظل من الصحيح، رغم ذلك أن من أهم معوقات تقدم التعليم المهني والتقني في البلاد العربية مواقف الآباء والأبناء ونظرتهم إلى هذا التعليم. وقد لا يكون من الغلو أن نقول أن كثيراً من الآباء – ولاسيما في الريف ولدى الطبقات العمّالية – يهدفون من وراء إرسال أولادهم إلى المدارس تحريرهم من آفات العمل اليدوي والمهني ووضاعته وتوفير فرص جديدة لهم من أجل الارتقاء الاجتماعي”.
1-2-2-3: ويرتبط بهذه المواقف المتصلة بالعمل اليدوي والمهني والتقني المواقف السلبية تجاه استخدام التكنولوجيا الحديثة وإدخالها في مجالات العمل المختلفة، ولاسيما العمل الزراعي. وكلنا يعلم أن الزراعة بطبعها محافظة، بل لعلها موئل المحافظة ومقر استمرار التقاليد والعادات المألوفة.
ومن هنا نجد أن معظم المشروعات الزراعية الجديدة التي قامت في البلدان النامية، سواء بمساعدة هيئات ومنظمات دولية أو من خلال جهود أبناء تلك البلدان، قد اصطدمت بعدم تقبل المزارعين للتجديد، ورفضهم لاستخدام الوسائل والأدوات العلمية والتكنولوجية الحديثة. وقد بيّن كثير من الباحثين كيف طغت في النهاية الثقافة الشائعة وأساليب التفكير والعمل المألوفة لدى المزارعين (وغير المزارعين أيضاً) في العديد من البلدان النامية على الثقافة (التكنولوجيا) الغربية الدخيلة، وكيف أخفقت مشاريع التنمية التي لم تدرك الآثار الثقافية لإدخال الثقافة (التكنولوجيا) الغريبة (ولسنا الآن في معرض الحديث عن مدى نجاح استخدام ما يدعى “بالتكنولوجيا المتوسطة” أو عن تحويل التكنولوجيا” أو استيعابها أو زرعها واستنباتها أو عن “التكنولوجيات المتكيفة في التنمية الريفية” وغير تلك من الشعارات التي شاعت وذاعت في العقود الأخيرة. وحسبنا، في إطار أغراض بحثنا، أن نذكر إن إخفاق مشروعات التنمية، في قطاع الزراعة وسواه، يكشف عن الدور الكبير الذي تلعبه المواقف والنظرات والتقاليد والعادات الخاصة بكل بلد، وعن أهمية أخذها بعين الاعتبار، أخذاً بالمبدأ الذي لا يحول ولا يزول، والذي أشرنا إليه أكثر من مرة في هذا البحث، نعني القول بأن التنمية إما أن تكون ذاتية داخلية ملتحمة بثقافة الأمة وإما ألا تكون.
ولا حاجة إلى ذكر الآثار التخريبية التي يجلبها إدخال التقنيات الحديثة قسراً وإكراها، سواء في ميدان العلاقات الاجتماعية أو القيم الإنسانية أو سائر أنماط السلوك. وفضلاً عن آثارها التخريبية في نمو الإنتاج نفسه وفي التنمية بوجه عام. ونرد القارئ في هذا المجال، مرة أخرى إلى الدراسات العديدة التي نشرتها حول هذا الموضوع الكثير من المنظمات الدولة، ولاسيما منظمة اليونسكو. أما في البلاد العربية فالأمثلة عديدة من مشروعات زراعية (وغير زراعية) جديدة، لم يقدر لها النجاح لأسباب على رأسها رفض البنية الثقافية لها.
ومن الدراسات الميدانية الهامة التي نقع عليها فيما يتصل بهذا الصراع بين العوامل الثقافية والاجتماعية وبين المحاولات الرامية إلى إدخال التكنولوجيا الحديثة دون ما اكتراث بالبنية الذاتية، الدراسة الهامة التي قام بها الدكتور حامد إبراهيم الموصلي، والتي نشرت حديثاً ضمن كتاب صدر عن منظمة اليونسكو عنوانه “التنمية الذاتية: مظاهرها الكيفية والعوامل الاستراتيجية(15)”.
ويتناول الباحث في هذه الدراسة المعوقات التي يخلقها في وجه التنمية إدخال التكنولوجيا الحديثة دون ما دمج تدريجي عضوي بالتكنولوجيا التقليدية السائدة وبالنسيج الثقافي الذي تصدر عنه. ويصل إلى ذلك عن طريق دراسة تجريبية ميدانية قام بها في مناطق نموذجية تمثل البيئة المصرية. أولها واحة “سيوة” في صحراء ليبيا (ومثلها واحة الفرفارة”)، حيث تسود زراعة النخيل والزيتون.
وثانيهما مدينة العريش الواقعة في شمالي شبه جزيرة سيناء، على البحر المتوسط، حيث تسود الحرف اليدوية المشتقة من الزراعة ومن تربية الحيوان ومن المناجم المعدنية. وثالثها قرية “القصر” الواقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، على بعد عشرة كيلو مترات من “مرسي مطروح” وهي المدينة الرئيسية في منطقة الصحراء الغربية، وتسود فيها الحياة البدوية. ورابعها مدينة دمياط الواقعة على الطرف الشرقي لدلتا النيل، عند مصبه في البحر الأبيض المتوسط، وتسود فيها طائفة من الحرف اليدوية والصناعات التقليدية.
ويبين من خلال تحليل هذه البيئات الأربع التي كانت تسود فيها حياة اقتصادية واجتماعية تقليدية متماسكة ومتسقة ومنتجة، كيف أدى الدخول القسري للتكنولوجيا الحديثة إلى تفكيك الثقافة التقليدية المتماسكة وإلى زعزعة بنى الإنتاج نفسها. ويخلص من هذا كله إلى تقرير الحقيقة الآتية: “إن جوهر المشكلة التي يعاني منها السكان هنا، وتعاني منها في حقيقة الأمر دول بلدان العالم الثالث كلها، لا يكفي في تفسيرها أن نردها إلى نقص كمي أو كيفي في عوامل الإنتاج (الاستثمارات، التكنولوجيا الغربية، البحث العلمي، الخ…) وإنما هي في جوهرها مشكلة “وجودية” ترجع إلى التفكك الاجتماعي – الثقافي لتلك المجتمعات وإلى كونها تفقد، بسبب ذلك التفكك، الدوافع والبواعث العميقة التي كانت تجعلها تحيا وتزدهر” (16). ومن هنا، فإن ما ينبغي أن تسعى إليه مثل هذه المجتمعات ليس تحقيق التنمية بل تحقيق “النهضة” الحضارية الشاملة.
1-2-2-4: ولن نتريث طويلاً عند المواقف الثقافية الاجتماعية المتصلة بالمرأة في البلاد العربية، مما سوف تتعرض له أبحاث أخرى في هذه الندوة.
غير أنه لابد من الإشارة إلى ما نجده حتى اليوم في المجتمع العربي من رفض لاشتغال المرأة، يصحبه أحياناً تقبّل لاشتغالها في مجالات محدودة جداً (كالتعليم والتمريض وبعض أعمال السكرتارية). وهذا الرفض ما يزال في البلاد العربية أقوى منه في أي بلد من بلدان العالم.
بل إن النظرة الخاصة للمرأة لا تقتصر على الأمور المتصلة بالعمل خارج المنزل، بل تتجاوزها في كثير من الأحيان إلى الأمور المتصلة بتعليم المرأة. ومن هنا نجد في البلاد العربية نسبة من الأميات، تكاد تفوق نسبتهن في أي بلد آخر، رغم الجهود التي بذلت في العقود الخيرة. وتبلغ هذه النسبة (نسبة الأميات فوق الخامسة عشرة من العمر إلى مجموع السكان) حوالي 75 % في جملة البلاد العربية. هذا فضلاً عن هبوط نسبة الإناث في التعليم الثانوي والجامعي بالقياس إلى مجموع الطلاب، وفضلاً عن ارتفاع نسب التسرب لديهن.
وما دمنا قد أشرنا إشارة عابرة إلى مشكلة الأمية لدى النساء، لنذكر أن برامج محو الأمية في كثير من البلدان العربية ما تزال تتعثر لدى النساء بشكل خاص، لأسباب تتعلق بالقيم والتقاليد الاجتماعية الثقافية.
على أن مشكلة تعثر برامج محو الأمية في البلاد العربية، ومن ورائها برامج تعليم الكبار بوجه عام، يتجاوز المشكلات الخاصة بالمرأة، ويرجع فيما يرجع، لدى الذكور والإناث، إلى عدم التكيف مع الأوضاع والحاجات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للكبار. ولاشك أن مشروعات محو الأمية للكبار ومشروعات التنمية الريفية المتكاملة وسواها من المشروعات التي تستهدف زيادة القدرة التنموية لدى السكان بوجه عام ولدى الأميين بوجه خاص، من أبرز الأمثلة التي تشهد على ضرورات ربط مثل هذه المشروعات بالإطار الثقافي الاجتماعي. وفقدان هذا الربط يؤدي فيما يؤدي إلى ضعف الإقبال على هذه البرامج وإلى كثرة المتسربين منها بوجه خاص.
1-2-2-5: ومن الهام في نظرنا أن نشير إلى عامل ثقافي لم يعط حقه من الاهتمام، نعني التعارض بين العادات والاتجاهات والبنى الثقافية القائمة في البلدان العربية، وبين التنظيم الإداري، لاسيما عندما ينقل هذا التنظيم صيغاً مجلوبة من بلدان غريبة.
وتزداد أهمية هذا العامل إذا نحن ذكرنا أن الذي يقود عملية التنمية في معظم البلدان العربية هو القطاع العام. وهو يفعل ذلك عن طريق بنى وتنظيمات إدارية ما تزال عاجزة عن أن تلقى التجاوب الفعال وعن أن تحظى بالمشاركة الإيجابية الطوعية من قبل الجماهير. وهكذا يفرض التنظيم الإداري نفسه في معظم هذه البلدان وكأنه البديل عن القوى الحاملة للتنمية والفاعلة فيها.
والتنظيم الإداري في هذه البلدان يشكو، كما نعلم، ثغرات عديدة. منها أن الإدارة لم تشهد بعد في معظم البلدان تحولات عميقة سواء في بنيتها، أو في طرائقها وتقنياتها، أو في أنماطها وآلياتها. وظلت في الجملة تحمل الكثير من الإرث الذي خلفته الإدارة أيام الاستعمار.
ولا نغلو إذا قلنا أن هذه الإدارة ما تزال في معظم البلدان العربية أقرب إلى أن تكون “إدارة تسيير” منها إلى أن تكون “إدارة تطوير”، وإن لجوءها إلى الأساليب الحديثة والتقنيات الجديدة في التنظيم والإدارة ما يزال متعثراً، وإن ما يعرف باسم “التكنولوجيا الإدارية” ما يزال غريباً عنها.
ولسنا في معرض الحديث عن واقع الإدارة في البلدان العربية، وقد قيل فيه الكثير. وما يعنينا هو أن العقبة الكأداء الأساسية التي تقف في وجه تطوير الإدارة في البلاد العربية، وفي وجه قيادتها للتنمية بالتالي قيادة فعالة، هي غياب الجهود اللازمة لتحقيق تطور من داخل النظم الإدارية التقليدية، ومن خلال ثقافة المجتمع وعاداته، ينث الجديد في القديم نثا تدريجياً وعميقاً، بحيث يجعل من استخدام التقنيات الحديثة في الإدارة والتنظيم عملية منبثقة من قلب النظام القائم، مدركة لمعوقاته ولا نغلو إذا قلنا إن البون الذي نجده في كثير من البلدان العربية بين ما تحاول الأخذ به من قواعد وطرائق ووسائل إدارية حديثة، وبين القيم الاجتماعية والثقافية والإنسانية للمجتمعات التقليدية (ولاسيما في الريف) في تلك البلدان، يؤدي غالباً إلى رفض محاولات التطوير، أو عدم تقبّلها على أقل تقدير، من قبل أبناء الشعب. ولا حاجة إلى القول إن الذي يمنح أي قانون أو قاعدة حقوقية أو نظام شأنه وقيمته هو موافقة الناس وإرادتهم، لا الأوامر المفروضة.
ومن هنا ارتفع في العقود الأخيرة شعار “الإدارة الذاتية” كما ارتفع شعار “التنمية الذاتية”. ويعني هذا الشعار ضرورة تجذّر الإصلاح الإداري في البنية الاجتماعية الثقافية للشعب(17).
والعاملون في الإصلاح الإداري في البلدان العربية يعلمون حق العلم كيف أن الروابط الاجتماعية (ومن بينها الروابط الأسرية والقبلية والطائفية وسواها) تحول دون التغيير الإداري في البلدان. كما أنهم يعلمون حق العلم أن محاولات استخدام التقنيات الحديثة، ولاسيما محاولات “ميكنة” الإدارة، قد اصطدمت بالمعايير والمواقف والعادات الاجتماعية – الثقافية المتأصلة لدى المجموعات البشرية على المستوى القومي والمحلي. ومن أبرز الأمثلة على ذلك اصطدام مشروعات الإدارة الحديثة بمشكلة الأمية. فالإدارة الحديثة تتطلب دون شك توافر القدرة لدى الجماهير على استخدام الكتابة وقراءة النصوص. وانتشار الأمية لدى هذه الجماهير يؤدي إلى خلق مواقف خاصة عسيرة على التكيف مع التغيير الإداري، وإلى ظهور “وسطاء” بين الناس وبين الإدارة، وإلى ولادة “سوق إدارية موازية” إن صح التعبير، وإلى ضعف التواصل المباشر بين الجماهير وبين القائمين على الإدارة، وبالتالي إلى ضمور المشاركة والعطاء.
ونجد في بحث قيم بقلم “مصطفى شاكر(18)” وصفاً عميقاً ودقيقاً لما تواجهه الإدارات العربية في علاقاتها مع المجتمع. ونجد فيه بوجه خاص تحليلاً للتجربة الإدارية في الجزائر (حيث قام تنظيم لا مركزي إلى حد ما يستند إلى “النواحي”) وفي المغرب (حيث أعيد تنظيم المجتمعات المحلية) وفي تونس (حيث ظهرت “التعاونيات الإنتاجية” ولاسيما في الزراعة) وفي اليمن الشمالية حيث تقوم بنى تقليدية قوامها القبلية) وفي السودان حيث تسود أيضاً سيطرة القبلية وقواعدها وشعاراتها). وفي حديثه عن هذه التجارب جميعها يبين أن لا يكفي اتخاذ تدابير إدارية جديدة (من مثل البنى اللامركزية) من أجل توفير مشاركة السكان في أهداف الإدارة وبالتالي في التنمية، بل لابد من تحقيق الدمج بين الثقافات المحلية القائمة وبين الثقافة الداعية إلى المشاركة. ولابد كذلك من تغيير سلوك الموظفين الإداريين، ذلك السلوك الذي يقف عائقاً في سبيل المشاركة الحقة. فدور الرجال في البلاد العربية لا يقل عن دور التنظيم الإداري إن لم يعل عليه. ومواقف وأعمال الموظفين الإداريين كثيراً ما تعرض للخطر والفشل فعالية البنى الإدارية، ولو كانت هذه البنى سليمة من الوجهة النظرية. يضاف إلى هذا ضعف الوجدان المهني وما يرافقه من “تسيُّب”، والفساد والرشوة وسوى ذلك.
ويتريث مصطفى شاكر بوجه خاص عند جهل الإداريين والحكام بحاجات المحكومين، وما ينجم عن ذلك من عدم ملاءمة الإصلاحات الإدارية للحاجات الحقيقية، وما يؤدي إليه من توتر العلاقات وتأزمها بين الإدارة والجمهور. وهذا كله يقف عائقاً دون تحقيق التنمية الذاتية والمشاركة الفعالة في التنمية.
ولئن كانت الدول العربية قد عرفت خلال العقود الثلاثة الأخيرة تطوراً إدارياً ملحوظاً، فإن هذا التطور لم يكن تطوراً متسقاً ومتوازناً ومتفاعلاً مع حاجات الناس ومواقفهم، وكان في معظم الأحيان مجرد “توسع” في الإدارة بدلاً من تجويدها وصياغتها صياغة أصيلة وحديثة. وكثيراً ما يخيل للمرء، عند تقري الأوضاع الإدارية في بعض البلدان العربية، أن إدارتها قد بنيت من أجل توفير الاتصال بين النخب الحديثة وبين العالم الخارجي، وأنها بالتالي لم تنشأ لتلبية حاجات الشعوب نفسها.
2 – المحركات الثقافية للتنمية في الوطن العربي:
2-1: لقد كشف لنا القسم السابق، المتصل بالمعوقات الثقافية الاجتماعية للتنمية في البلاد العربية، عن حقيقتين، هما صلب بحثنا ومحوره:
الأولى إن أي تنمية لا تستند إلى الثقافة الذاتية لهذه البلدان ولا تقيم وزناً لضرورة اندماجها مع جهود التطور في شتى الميادين وشتى قطاعات النشاط الاقتصادي والاجتماعي، تنمية لابد متعثرة وفاشلة.
والثانية أن الثقافة العربية – شأن أي ثقافة – تشتمل على قيم ومواقف واتجاهات وتقاليد وعادات سلبية معادية للتنمية، كما تشتمل على قيم ومواقف إيجابية تسعف عملية التنمية وتغنيها. وهذه العوامل السلبية في الثقافة لا يمكن أن تهمل، كما لا تتم معالجتها عن طريق التنكر لها أو إحلال قيم ومواقف دخيلة محلها، بل لابد أن تعالج عن طريق تطويرها من داخل ثقافة المجتمع الكلية ومن خلال تجديد هذه الثقافة وشد أزر العناصر الحية الديناميكية منها.
2-2: ويتخذ هذا الموقف شأناً خاصاً في البلاد العربية إذا ذكرنا أن الثقافة الشائعة فيها هي وليدة تاريخ طويل، فضلاً عن كونها وليدة التفاعل بين ذلك التاريخ وبين الحاضر العربي والعالمي. وهذا التاريخ الطويل، ولاسيما في عصور انحطاطه، أدخل على الثقافة العربية عناصر دخيلة أفسدت الكثير من منطلقاتها الحية الإيجابية، وأبقى على الشكل منها دون الجوهر، وأضاف إليها عناصر سلبية جديدة كثيرة، لا سيما بعد أن استولت على مسيرة الحضارة العربية أخلاط من الشعوب الدخيلة (كالمغول والتتر والأتراك) لم تستطع أن تدرك المعاني العميقة والاتجاهات الرائدة والروح المقومة للحضارة العربية الإسلامية.
ومن هنا كانت مهمة تحديث الثقافة العربية، من خلال أصالتها وقيمها الثقافية الجوهرية، مهمة تنموية كبرى، لاسيما عندما تحمّل التنمية، كما سبق أن بينّا، معنى العمل من أجل بناء مشروع حضاري عربي متكامل في شتى جوانبه.
2-3: والحديث عن تحديث الثقافة العربية يخرج عن قصدنا، وقد غدت له مظانه الكثيرة والمتوالدة (19). وجملة ما نود أن نقوله في إطار هذا البحث وأغراضه، أن التراث الثقافي العربي والإسلامي، ولاسيما في أصوله الكبرى، يشتمل على جملة من القيم التي ينبغي أن تعاد إليها الحياة والديناميكية، وتتخذ عدة من أجل منح التنمية محركات داخلية وذاتية، ومن أجل مشاركة الجماهير فيها مشاركة جذرية وحاسمة. وحسبنا أن نعدد بعض تلك القيم، دون أن نفصل الحديث فيها، وهي تضم قيم التراث الإسلامي منذ ولادته وعبر تطوره، كما تضم بعض القيم العربية السابقة على ظهور الإسلام والتي جاء الإسلام ليؤكدها.
2-3-1: هكذا نجد فيما يتصل بقيم التراث العربي الإسلامي، قيماً أساسية كالآتية:
– المسؤولية الفردية واعتبار كل فرد في المجتمع مسؤولاً عن أعماله وعن المجتمع بكامله مسؤولية تتجاوز ما تمليه القوانين الوضعيّة وحدها.
– التضامن الاجتماعي والتكافل الاجتماعي ومحاربة الأنانية
– الحقوق الفردية والحرية واحترام الإنسان.
– الديمقراطية والشورى.
– العدالة والمساواة.
– تقديس العلم.
– تقديس العمل
– الدعوة إلى التبصر والعقل
هذا بالإضافة إلى قيم ومواقف واتجاهات فرعية أخرى كثيرة، لا مجال إلى تعدادها.
2-3-2: وفيما يتصل بالقيم العربية السابقة على الإسلام والتي أكدها الإسلام وأغناها ومنح لها معاني إيجابية ووضعها في إطار القيم الإسلامية الشاملة:
– الكرم، كرم اليد وكرم النفس.
– الإباء والشمم ورفض الذل والظلم.
– الوفاء.
– الحلم والصبر.
– الشرف، أي السمو والكرامة والرفعة، عن طريق الصدق في السلوك والقول والعمل.
– الذود عن الوطن.
– رفض الحياة الطفيلية والدعوة إلى إغناء الحياة بالعمل الصالح.
– الشجاعة في الدفاع عن الحق.
2-4: وجوهر القصد في هذا كله، أن نؤكد ما قلناه مراراً في هذا البحث، نعني ضرورة الانطلاق في عملية التنمية العربية (أي في عملية بناء المشروع الحضاري العربي) من القيم الثقافية الاجتماعية العربية، بعد أن نجلوها وبعد أن نعيد إليها حيويتها ومعانيها وطاقتها المبدعة الخلاقة. وبث الحياة على هذا النحو في القيم الثقافية الاجتماعية العربية، ينبغي أن يتم من داخلها دوماً، وعن طريق تجديدها وتطويرها من خلال منطقها الذاتي. والتجربة الغربية والثقافة الغربية تلعب في هذا التجديد دور “العامل بالتماس Catalyser”. وهو دور أساسي وهام، ولكنه لا يكتسب قيمته وشأنه وقدرته على التأثير إلا حين يداخل النسيج العضوي الذاتي للثقافة العربية الإسلامية بحيث يغدو جزءاً لا يتجزأ منها.
وتجربة تمازج الثقافات في عصور الازدهار العربي (ولاسيما في القرن الرابع الهجري) تقدم لنا مثلاً رائعاً عما ينبغي أن يكون عليه التفاعل العضوي بين الثقافة العربية والحضارة الحديثة. فلقد استطاعت الثقافة العربية الإسلامية أن تمثل وتهضم التراث اليوناني والهندي والفارسي وأن تولّد من ذلك حضارة جديدة أصيلة، يكاد المرء لا يتبين في كثير من جوانبها ما فيها من آثار الثقافات الأجنبية. بل استطاعت في كثير من الأحيان أن تولّد من هذا اللقاح نتاجاً عربي الوجه واللسان، رغم الكثير من أصوله الأجنبية، في الأدب والفكر والفلسفة والعلوم التجريبية وسواها. ولا أدل على ذلك من النحو العربي والمنطق العربي وعلم الكلام والتصوف والفلسفة، فضلاً عن الكيمياء وعلم المناظر (الضوء) والرياضيات والطب وعلم النبات وكثير من العلوم الأخرى. ومن أعجب ما نقع عليه من أنماط الهضم والتمثل الذاتي للثقافات الأجنبية، ما نجده في ميدان لا يثير الاهتمام عادة، نعني ميدان “تأويل الرؤيا” (تأويل الأحلام). ففي هذا الميدان تأثر العرب تأثراً واضحاً باليونان، ولاسيما “أرطميدوروس” غير أنهم مزجوا ما أخذوه عنهم بتراثهم الديني والأدبي والشعري وسواه، وولّدوا منه “علماً” يحسبه المرء عربياً خالصاً. ولا أدل على ذلك من أنهم نسبوا هذا العلم (من باب التقية) إلى الفقيه محمد بن سيرين رغم أنه لم يكتب أي كتاب في هذا المجال(20).
ومن أبرز الأدلة أيضاً على هذا المزج العضوي بين التراث وبين الثقافات التي خالطته، ما نجده لدى بعض الفقهاء، من أمثال “الإمام الشاطبي الأندلسي”، صاحب كتاب “الموافقات”. فالظروف الجديدة التي واجهها العرب في الأندلس ولّدت بعض الأحكام الفقهية الجديدة أيضاً، والمشتقة أصلاً وجوهراً من الدين الإسلامي. وهذا ما فعله الإمام الشاطبي من خلال حديثه عن فرض الكفاية حين اعتبر أن من فرض الكفاية أن يوجد في كل بلد من يوفر له حاجته من المأكل والمشرب والملبس والصناعات المختلفة، وحين قاده ذلك إلى وضع ما يشبه النظرية في ميدان القابليات النفسية وتوجيه الصغار إلى ما تهيئهم له فطرتهم وطبعهم، أي فيما يسمى اليوم بالتوجيه المهني. وهي نظرية فيها، كما نرى، من الحداثة ما فيها وفيها من الأصالة ما فيها، وفيها من المزج بينهما ما هو جدير بأن يتّبع.
2-5: وفي العصور الحديثة تقدم لنا التجربة اليابانية، كما سبق أن ذكرنا عابرين، نموذجاً رائعاً لهذا المزج العضوي بين الثقافة الأصيلة وبين الثقافات الأخرى. وقد كتب كثير الكثير عن هذه التجربة التي انطلقت منذ عصر “الإمبراطوري ميجي Meiji” (1868 – 1912) الذي أطلق في اليابان شرارة تقدم رائع سار يعد ذلك صعداً وأينع وأثمر ما نجده اليوم من سبق مذهل لهذا البلد في شتى الميادين.
غير أن معظم الدراسات التي تحدثت عن هذه «المعجزة اليابانية» وأسبابها، عزت ذلك أولاً وقبل كل شئ إلى ما تحقق في تلك الفترة من اتصال وثيق بالتجربة العلمية والصناعية الغربية، بفضل البعوث الكبيرة التي قصدت ديار الغرب، وبفضل ما تمّ من استقدام أعداد كبيرة من الخبراء الصناعيين وسواهم من ديار الغرب ليدربوا أبناء اليابان على الصناعات الحديثة وليعملوا جنباً إلى جنب معهم في شتى مواقع الإنتاج (حتى أن نسبة الخبراء العاملين في وزارة الصناعة آنذاك بلغت ربع مجموع العاملين فيها).
ولاشك أن هذا الاتصال بالتجربة العلمية الصناعية الغربية كان عاملاً أساسياً في تقدم اليابان. غير أن الذي فات معظم المحللين الاقتصاديين للتجربة اليابانية أن مثل هذا الاتصال بالتجربة العالمية تمّ في إطار عامل آخر لا يقل شأناً، بل هو الذي يمنحه زخمه ونجعه، ونعني بهذا العامل الآخر تحريض إرادة العمل المشترك لدى المواطنين وتعبئتهم تعبئة كاملة من أجل العمل على تحقيق نهضة أمتهم وبناء مستقبلها. ولا أدل على ذلك من أن الظهير الإمبراطوري الذي صدر في ذلك الحين قد ترّيث بوجه خاص عند أهمية بناء الإرادة القومية المشتركة وإذكاء روح العمل والتضامن، من خلال الاعتزاز بالثقافة اليابانية وماضيها، ومن خلال التشوف إلى مستقبلها.
والحق إن ما تّم ويتم من تقدم مذهل في اليابان، لا يمكن فهمه إلا إذا أدركنا أثر هذه العوامل الثقافية القومية في تحريك إرادة العمل المشترك وفي بناء المستقبل المنشود. وأهم مظاهر هذه الثقافة القومية المشتركة، التي غذّت نهضة اليابان ومنحت لها الحرارة والحياة والتجدد، مظهران:
أولهما الديانة البوذية التي دخلت اليابان في القرن السادس الميلادي، مع ما تحمله من فلسفة وأدب صينيين، ولاسيما بعد أن أضيفت إليها تعاليم “كونفوشيوس” وما فيها من احترام رفيع للتعلم، ومن مثل وتقاليد فلسفية، ومن إكبار لقيم التعاون والبذل والتضحية.
وثانيهما أمرٌ لم ينتبه إليه إلا قلة من المحللين الاقتصاديين، وهو انتقال عادات التضامن والتعاون العربي الجماعي المشترك التي عرفها اليابانيون يوم كانوا يعملون في الزراعة، إلى ميدان الصناعة يوم سطع نجمها وامتد أثرها. فالفلاحون الذين كانوا يؤلفون الكثرة الكاثرة من سكان اليابان آنذاك (حوالي 80 % حتى بعد عصر “ميجي” وأكثر من نصف السكان حتى عام 1950)، كان يعمل معظمهم في زراعة الأرز، وهذه الزراعة بوجه خاص تستلزم بطبيعتها أكبر قدر من التعاون، نظراً لضرورة زرع الأرز وحصاده، ولاسيما في ظروف اليابان المناخية، في أقصر فترة ممكنة. وقد أدى هذا إلى تطوير المجتمعات المحلية بين الفلاحين وإلى نشوء ما عرف باسم “جماعات الجوار” أو” جماعات العمل”(21).
هذه العادات والتقاليد والقيم الثقافية التعاونية الخلقية التي ولدتها حياة الريف وظروف الإنتاج الزراعي. انتقلت إلى حد بعيد إلى بيئات المدن مع بداية النهضة الصناعية. وفي حين نرى أن الثورة الصناعية في مختلف أنحاء العالم دمّرت أنسجة المجتمعات المحلية والريفية، نرى أن اليابانيين قد استطاعوا أن ينقلوا معهم إلى المصانع وأماكن العمل الجديدة روابط الجماعات الأولية التقليدية، كالعلاقات العائلية والتنظيمات القروية. هكذا نجد أن الرجال والنساء الذين هاجروا إلى المدن وقصدوا أماكن العمل الصناعي، اعتبروا مكان عملهم المصدر الثاني، بل حتى المصدر الأول، للعلاقات الجماعية السابقة. وعندما فقدوا “جذورهم” في قراهم التي قدموا منها، أقاموا لأنفسهم أسرة جديدة في مكان عملهم. ومن هنا نرى العمال اليابانيين يطلقون على شركتهم مصطلح “الأسرة”. وهذا كله قاد إلى تلك الظاهرة الفريدة في اليابان، وهي ارتباط العامل بمؤسسته الإنتاجية طوال حياته في معظم الأحيان، وكأنها أسرته أو وحدته الإنتاجية، وبالتالي ضمور ظاهرة الصراع الطبقي، إلى حد بعيد، بين العمال وأرباب العمل.
(خامساً) خاتمة:
1- إن تحليلنا للتجربة اليابانية بوجه خاص – وهي تجربة لها نظائرها دون شك في بلدان أخرى ولو لم تبلغ الشأو الذي بلغته اليابان – وما قمنا به خلال هذا البحث من بيان لأهمية العوامل الثقافية في نجاح خطط التنمية ومشروعاتها، وما وصفنا من واقع التنمية في البلاد العربية ومعوقاتها، حقائق تنتهي بنا إلى نتيجة أساسية نود أن نتريث عندها في خاتمة هذا البحث.
هذه النتيجة الأساسية هي أن التنمية بالمعنى الحق للكلمة، بالمعنى الذي بيناه وشرحناه منذ بداية هذا البحث، نعني التنمية الحضارية الشاملة، لا يمكن أن تتم في الوطن العربي (وفي سواه) إلا إذا توافر عنصران متلازمان:
أولهما توفير الشروط اللازمة لتحقيق الثورة العلمية التكنولوجية من خلال الجهد الذاتي لأبناء الأمة العربية.
وثانيهما، وهو الأهم، توفير المناخ الروحي اللازم لنجاح هذه الثورة العلمية التكنولوجية الذاتية، ونعني به تعبئة الإرادة المتضامنة المشتركة لجماهير الشعب تعبئة طوعية راضية، ولكنها قوية وحارة. ولا يتوافر هذا العنصر الأخير إلا إذا تّم تحديث المجتمع العربي وتحقيق ثورته العلمية التكنولوجية بيد أبنائه، من خلال تطوير ثقافتهم الخاصة وتنميتها من داخلها ومن خلال منطلقاتها ذاتها. ويعني ذلك، كما ذكرنا أكثر من مرة، تكيف تجارب التحديث، بشتى صورها وأبعادها، مع الثقافة السائدة وأخذها بعين الاعتبار، لا للخضوع لما فيها من عناصر تخلف وردة إلى الوراء، بل لتغذية عناصرها الحية وأصولها الديناميكية الغنية التي أبدعت حضارة الأمس، والتي تستطيع، حين تحمل معاني جديدة يفرضها العصر، أن تبدع حضارة الغد.
2- وبتعبير آخر، للتنمية الحضارية المرجوة في البلاد العربية قطبان، تنطلق من لقائهما شرارة التقدم ومشروعات النهضة، ونعني بهما: المهاد العلمي التكنولوجي الذاتي الذي لابد منه لأي تقدم يتم في عصرنا ولأي أمة تأبى أن تظل عالة على سواها، تابعة لغيرها، مستهلكة للحضارة غير منتجة لها. ثم الشحنة الخلقية الروحية التي تولدها تعبئة الثقافة القومية ويخلقها الإيمان بالأهداف الحضارية المشتركة. وهذان القطبان كما قلنا ونقول، متآخذان، لا يتم أحدهما بدون الآخر. فالتقدم العلمي التكنولوجي الذاتي في حاجة إلى إرادة مجتمعية قومية مؤمنة به مدركة لأهدافه الثقافية والحضارية المشتركة. والإيمان بالثقافة المشتركة والمصير المشترك والأهداف القومية يظل إيماناً أعزل إن لم يصاحبه سلاح العلم والتقانة، وإن لم يملك أدوات الاستقلال الذاتي القومي، نعني العلم والتكنولوجيا مرة أخرى.
وهكذا نرى أننا حين نبحث في العوامل الثقافية الاجتماعية للتنمية للوطن العربي، نمس في حقيقة الأمر موضوع الموضوعات في حياتنا العربية، إذ نحاول الإجابة على هذا التساؤل الذي طالما طرح: كيف نقضي على التخلف وكيف نبني مشروعنا الحضاري العربي؟
3- وإجابتنا على هذا التساؤل، على نحو ما بينا، لا تقدم في نظرنا مدخلاً صالحاً لمعالجته في البلدان العربية وحدها، وفي البلدان النامية كلها، بل لعل فيها جوانب كثيرة تضئ مسيرة التجربة العالمية التي ما تزال، كما قلنا، في منزلة بين المنزلتين، وفي مرحلة السعي إلى تحقيق الحداثة دون أن تبلغها بعد.
بل إن إجابتنا هذه تبين بوجه خاص أن انتهاج السبيل التي وصفناها، لا تستطيع أن تقوم به الدول النامية وحدها، وإن قامت به ففي عسر شديد، ولابد من تضامن وتكامل إنساني عالمي تسهم فيه الدول المتقدمة من أجل ذاتها ومن أجل سواها. لقد قيل كرة بعد كرة، في المنتديات الدولية المختلفة وفي المناسبات العديدة، إن تنمية البلدان النامية شرط لابد منه لزيادة تنمية البلدان المتقدمة. ولكن هذا الشعار لا يجد طريقه إلى التطبيق إلا في أحوال قليلة.
4- ومن هنا تقع مسؤولية ضخمة على هيئة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها وسائر المنظمات الدولية، ولاسيما تلك المعنية منها بتمويل مشروعات التنمية في البلدان النامية.
وواضح بعد كل ما قلناه أن هذا التمويل الدولي لا يأخذ مداه وجدواه إلا إذا أخذ بعين الاعتبار واقع البلدان النامية بوجه عام وواقعها الثقافي الاجتماعي بوجه خاص. والعوامل الثقافية الاجتماعية التي توقفنا عندها طوال هذا البحث لابد أن تكون دوماً حاضرة في أذهان مصادر التمويل وأن تجد ترجمتها العملية في ضروب العون التي تقدمها. الأمر الذي ينقلنا إلى القسم الأخير من بحثنا، لنقدم فيه بعض التوصيات في هذا الإطار، نستخلصها من ثنايا بحثنا ومن حصاد التجربة العالمية والعربية.
(سادساً) توصيات إلى الجهات الدولية المعولة لمشروعات التنمية:
1- قد يكون من المكرور أن نخلص من دراستنا إلى القول بأن على الجهات الدولية الممولة لمشروعات التنمية – وعلى رأسها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة – أن تعنى بالمظاهر الثقافية للمشروعات التي تقوم بتنفيذها. غير أن هذا القول الذي يبدو بدهياً قلما نجد له تطبيقاً فعلياً في واقع المشروعات القائمة. ويرجع ذلك إلى سبب مقبول في ظاهر الأمر، قوامه أن الجهات الممولة تعتبر أن تلك العناية بالمظاهر الثقافية هي مسؤوليات البلدان المستفيدة نفسها، تلك البلدان التي تعد مسؤولة عن كل ما يتصل بالسياسة العامة للتنمية، والتي يتوجب عليها بالتالي أن تقيم وزناً كافياً، في مشروعاتها، للعوامل والمظاهر الثقافية.
ولا يماري أحد في أهمية المبدأ الذي تنتهجه منظمات الأمم المتحدة في كل ما يتصل بالعون الفني الذي تقدمه للدول المختلفة، ذلك المبدأ الذي يؤكد على ضرورة انطلاق أهداف المشروعات التنموية التي تقدمها تلك المنظمات لأي بلد من السياسة التي يقرها ذلك البلد، ومما يرسمه من أهداف تنموية تلبي حاجاته. غير أنه يظل من الصحيح مع ذلك أن مسؤولية الهيئات الدولية الممولة توعية القائمين على السياسة التنموية في البلد المعني وتقديم الآراء والأفكار ورسم الطرائق والأساليب التي تساعدهم على تحقيق أمثل تنمية ذاتية ممكنة. ولا شك أن توضيح الجوانب الثقافية للتنمية وبيان أهميتها وتحديد وسائل العناية بها مهمات ينبغي أن تضطلع بها تلك الهيئات الدولية الممولة، تاركة لكل بلد بعد ذلك أن يستخرج منها ما يراه متفقاً مع سياسته التنموية العامة.
2- بل إن تعاون الهيئات الدولية الممولة مع الجهات الوطنية في سبيل تحقيق مزيد من العناية بالمظاهر الثقافية، ينبغي ألا يقتصر على التوضيح والتوعية والعون الفكري، بل لابد أن يشمل جوهر المشروعات وبنيتها وأهدافها وسائر مقوماتها ومكوناتها.
وفي وسعنا أن نلخص أهم الجوانب التي يحسن بالجهات الممولة – وعلى رأسها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة – أن تعنى بها، فيما يأتي:
2-1: أن تقوم هذه الجهات بتحليل دقيق للآثار الثقافية للبرامج والمشروعات التي تقترحها الدول النامية، لا من أجل أن تؤثر في قراراتها وسياستها التنموية الداخلية، بل من أجل أن توجه انتباهها عند الضرورة، إلى مظاهر للتنمية ما تزال مجهولة أو لمّا تدرس بعد، وعلى رأسها المظاهر الثقافية.
2-2: أن تشجع هذه الجهات الممولة الدراسات والأبحاث التي تقوم بها مؤسسات البحث أو يقوم بها المختصون في البلد المعني، المتصلة بالجوانب الآتية:
– إعداد طرائق تقويم جديدة للمشروعات والبرامج تمنح العوامل الثقافية المكانة التي تستحقها.
– إعداد أنماط جديدة من المشروعات، أكثر مرونة في أهدافها وفي مصادر تمويلها، يتم تحقيقها انطلاقاً من دراسات للبيئة، من شأنها أن تجعل السكان أكثر وعياً لحاجاتهم وإمكاناتهم، وأن تمنحهم حق مراقبة تنفيذ المشروعات.
– إعداد طرائق جديدة في التقويم، تجعل من هذا التقويم عملية مستمرة تتم خلال مجرى المشروع وتطبيقه، ويسهم فيها المستفيدون، فضلاً عن التقويم التالي لتنفيذ المشروع.
2-3: أن تحرص هذه الجهات الممولة على أن تتوافر في المشروعات التي تتبناها الشروط الآتية:
– أن تكون هذه المشروعات مستندة إلى تحليل مسبق لأنماط التنظيم الاجتماعي في البلد المعني، ولأشكال الملكية السائدة فيه، ولأنواع إدارتها،ولسوى تلك من مظاهر البنية الاجتماعية الثقافية العامة للبلد.
– أن تكون هذه المشروعات قد أفسحت المجال، في مرحلة إعدادها، لإسهام واسع من قبل الفئة السكانية المستهدفة.
– أن تتضمن تحديداً واضحاً للأهداف الاجتماعية والثقافية بحيث يمكن تقويم تحقيق تلك الأهداف أثناء تنفيذ تلك المشروعات.
– أن تتضمن تحليلاً للآثار الثقافية التي يخلّفها إدخال تقنيات جديدة.
2-4: أن تعنى مشروعات التنمية التي تنفذها الهيئات الدولية الممولة عناية فعلية وجادة بمقوّم من المقوّمات الأساسية لكل مشروع: نعني إعداد النظراء (Counterparts) وتدريب الخبراء والفنيين الوطنيين. ولا حاجة إلى القول إن الغاية الأساسية لأي مشروع من مشروعات المساعدة الفنية هي، من حيث المبدأ، أن يستطيع أبناء البلد، بفضل مشروع المساعدة الفنية الذي يظل محدوداً في الزمان والإمكانيات، أن يتولوا بأنفسهم أمر المشروع بعد انتهائه وأن يولدوا منه مشروعات أخرى، بفضل ما تكوّن لديهم من دراية وخبرة. ولعل خير هاد لتلك الجهات الدولية الممولة هو ذلك المثل الصيني الشهير: إذا جاءك جائع، فلا تعطه سمكة بل علمه كيف يصطاد.
وواضح ما يكتسبه هذا الجانب المتصل بتدريب الوطنيين وإعدادهم من أهمية خاصة في إطار ذلك المبدأ الذي أكدناه خلال هذه الدراسة، مبدأ التنمية الذاتية المستقلة.
2-5: أن تعنى الجهات الدولية الممولة عناية خاصة بمشروعات مكافحة الأمية وتعليم الكبار ومشروعات التنمية الريفية المتكاملة، سواء عن طريق تبني مشروعات في هذا الإطار، أو عن طريق تضمين الكثير من المشروعات الأخرى جانباً يتصل بهذه الميادين (الأمية وتعليم الكبار والتنمية الريفية المتكاملة). وقد رأينا، عبر هذه الدراسة، كيف أن شيوع الأمية في البلدان النامية، ومن بينها البلدان العربية، يعطل تحقيق كثير من مشروعات التنمية وأهدافها، وكيف أن هذا العنصر من أهم المظاهر الثقافية والاجتماعية المعوقة للتنمية. وتتخذ هذه الحقيقة شأنا خاصاً حين لا نعني بمكافحة الأمية مجرد مكافحة الجهل بالقراءة والكتابة، بل مكافحة سائر أنماط الأمية الثقافية.
2-6: انطلاقاً مما ذكرناه في دراستنا من أهمية التنظيم والإدارة ومن اصطدام التطوير الإداري في البلاد العربية بالعوامل الثقافية الاجتماعية، يجدر بالهيئات الممولة أن تعنى عناية خاصة، بالتعاون مع أبناء البلدان المعنية، بإعداد مشروعات تتصل بتحقيق تطور إداري من خلال البنى الإدارية القائمة ومن خلال البنى الثقافية والاجتماعية.
3- وقد يكون أهم من هذا كله أن تسود الجهات الدولية الممولة للمشروعات الروح التي ما تزال مقصّرة عن مداها لدى معظمها، نعني الروح الرافضة لاتخاذ المعايير الاقتصادية وحدها أساساً لتخيّر المشروعات وبنائها، والتي تقيم وزناً كافياً وفعلياً بالتالي لدمج المظاهر الثقافية الاجتماعية بالمظاهر الأخرى لأي مشروع.
4- على أن هذه الروح، كيما تعّم وتسود – ينبغي أن تذيع أولاً وقبل كل شئ لدى الدول المعنية بمشروعات التنمية. ولاشك أن وعي أثر العوامل الثقافية الاجتماعية في مشروعات التنمية بالبلاد العربية وعي تنامى واشتد في العقدين الأخيرين. ومع ذلك ما يزال هذا الوعي يفتقر إلى الترجمة العملية له في شتى مبادئ التنمية، وهو عمل ضخم وطويل النفس، منطلقه ومآله بناء مشروع حضاري عربي متكامل وولود كما سبق أن رأينا. وهذه المهمة تستلزم تعبئة متكاملة في شتى ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية، يسودها الإيمان بأن الهدف النهائي للتنمية، أنى كانت، هو التنمية الثقافية، أي توليد الحضارة الجديرة بالإنسان وبالأمة المعنية، عن طريق تحديث الثقافة القائمة وبث الحياة والدينامية فيها وتحقيق تفاعل حي أصيل بينها وبين سائر الثقافات الإنسانية.
5- وبتعبير آخر إن ما يصدق على الثقافة بوجه عام يصدق على مشروعات التنمية. فلئن كانت الثقافة بناء ذاتياً أولاً وقبل كل شئ تتولاه الأمة المعنية، فإن مشروعات التنمية، والمشروعات التي تمولّها هيئات دولية بوجه خاص، ينبغي أن تنطلق من وعي ذاتي لدى تلك الأمة، تدرك من خلاله كيف تبلل الثقافة حياة المجتمع كلها وشتى ميادين نشاطه، وتستطيع بفضل ذلك الإدراك أن تقترح وتعد مشروعات تنموية متكاملة، محورها ومحركها العوامل الثقافية والأهداف الثقافية. ولا نغلو إن قلنا في خاتمة المطاف أن عملية التنمية في البلدان النامية عملية تقوم فيها صلة دائرية بين التطوير الثقافي وبين التطوير الشامل بأبعاده المختلفة، وإن هذا التآخذ والتواصل بالتالي في مشروعات التنمية هو الذي يولد الشرارة القادرة على تحقيق تنمية فعالة ومنتجة وخصيبة، جديرة بأن توصف بأنها حضارية.
الهوامش:
(1) القرار رقم (3201)، الدورة السادسة الاستثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة، عام 1974.
(2) يحسن الرجوع بوجه خاص إلى كتاب “التنمية العربية. الواقع الراهن والمستقبل”، بقلم عدد من الكتاب. من منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1984.
كذلك يمكن الرجوع الكتاب الهام التالي (الذي نجد فيه كذلك عرضاً شاملاً لواقع التنمية العربية ومستقبلها) “التنمية العربية”، بقلم عدد من الكتاب، تحرير الدكتور إبراهيم سعد الدين والدكتور محمود عبد الفضيل. بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1989. وهو جزء من مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي الذي قام به هذا المركز.
(3) يحسن الرجوع بوجه خاص إلى آراء المفكرين التالين في كتبهم ومنشوراتهم العديدة: أدونيس – محمد عابد الجابري – حسين مؤنس – حافظ الجمالي – أحمد حسن الزيات – عبد الله العروي.
(4) يمكن الرجوع، على سبيل المثال، إلى المرجعين التاليين:
– حليم بركات: المجتمع العربي المعاصر. بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1984 (ولاسيما الفصل السادس ص 171 – ص 224).
– العقد العربي القادم: المستقبلات البديلة. بقلم مجموعة من الباحثين. بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1986. (ولاسيما الفصل الثالث عشر ص 259 – 268).
(5) هشام شرابي في كاب “العقد العربي القادم”، المرجع المذكور سابقاً، ص 260.
(6) هشام شرابي، المرجع السابق، ص 261.
(7) سعد الدين إبراهيم في كتاب “العقد العربي القادم”، المرجع المذكور سابقاً، ص 189.
(8) المرجع السابق، ص 190.
(9) يحسن الرجوع في هذا كله إلى المرجع الهام الذي أشرنا إليه سابقاً:
حليم بركات: المجتمع العربي المعاصر. بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1984. الفصل الثالث من القسم الأول، ص 63 – ص 102.
(10) سعد الله إبراهيم: النظام الاجتماعي العربي الجديد. دراسة عن الآثار الاجتماعية للثروة النفطية. بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1982.
(11) يحسن الرجوع إلى الكتاب الهام الآتي:
La Culture Clef du Developpement: UNESCO, 1983
(12) أنظر أيضاً حليم بركات، المرجع المذكور سابقاً، الفصل الخامس، ص 131 –
ص 164.
(13) أنظر كذلك حليم بركات، المرجع السابق، ص 321 – ص 357.
(14) محمد جواد رضا: أزمات الحقيقة والحرية في التربية المعاصرة. الكويت، دار ذات السنابل للطباعة والنشر والتوزيع، 1987، ص 250.
(15) Développement endogéne et facteurs stratégiques. UNESCO, 1988
والفصل الخامس منه (ص 109 – 175) هو الفصل الذي نشير إليه، وقد حرره الدكتور حامد إبراهيم الموصلي.
(16) المرجع السابق، ص 157.
(17) يحسن الرجوع في هذا إلى الكتاب الهام الآتي:
Huynh Cao Tri: Administration participative et développement endogéne UNESCO, 1998.
(18) المرجع السابق، الفصل السادس، ص 218 – 219.
(19) يمكن الرجوع على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، إلى الكتب التالية:
– عبد الله عبد الدائم: في سبيل ثقافة عربية ذاتية. بيروت، دار الآداب، 1983.
– زكي نجيب محمود: تجديد الفكر العربي. بيروت – القاهرة، دار الشروق، 1972.
– معن زيادة: معالم على طريق تحديث الفكر العربي. سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 115، تموز/ يوليو 1987.
– فؤاد زكريا: آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة. القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975.
– حسن حنفي: التراث والتجديد. القاهرة، المركز العربي للبحث والنشر، 1980.
– طيب تيزيني: مشروع رؤية جديدة للفكر العربي. الجزء الأول: من التراث إلى الثورة. بيروت، دار ابن خلدون 1978.
– عابد الجابري: بنية العقل العربي. بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1986.
– قسطنطين زريق: مطالب المستقبل العربي، دار العلم للملايين، 1983.
– عبد الله العروي: العرب والفكر التاريخي. بيروت، دار الحقيقة، 1973.
كما يمكن الرجوع إلى كتاب “التراث بين الأصالة والمعاصرة”، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية (1985). وهو حصاد أعمال الندوة الفكرية التي نظمها المركز في القاهرة، من 24 – 27 أيلول / سبتمبر 1984.
(20) يحسن الرجوع إلى كتابنا باللفة الفرنسية:
L`oniromancie arabe d`arpres lbn sirin. Presse Universitaires de damas, 1957
(21) يحسن الرجوع في هذا كله إلى بحث الأستاذ “ياسومازا كورودا” حول “التحديث والاغتراب في اليابان”، وذلك ضمن كتاب “التراث وتحديات العصر”، وهو المرجع المشار إليه سابقاً، ص 223 – 241.
كما يحسن الرجوع، من أجل مزيد من التفصيل حول نظام التعليم في اليابان وجذوره الثقافية التاريخية، إلى كتاب “التعليم في اليابان”. وهو تقرير مأخوذ من دراسات أمريكية للتعليم في اليابان، تولت نشر ترجمته إلى العربية “الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية” في أيار/ مايو 1987.