رسالة باريس

الثقافة العالمية – العدد /49/ – نوفمبر 1989
رسالة باريس
/1/

إن النشاط الثقافي في باريس، في أواخر هذا الصيف وبواكير الخريف، عامرٌ كعادته، بل متدفق كالسيل العرم. على أن ما يشْده المشاهد، وسط هذا الحشد من النتاج الفني والأدبي والفكري، تكاثر الأحداث الثقافية الكبرى خلال هذه الفترة تكاثراً لا ندري إن كان من قبيل الصدفة أم بسبب بعض الأحداث البارزة هذا العام، وعلى رأسها الاحتفالات بالثورة الفرنسية ولعله الشيئان معاً.
ولهذا نخفّ سراعاً إلى الحديث عن هذه الأحداث الكبرى، وعلى رأسها الأحداث الثقافية التي ما يزال يفرزها حتى اليوم ذلك الحدث الكبير، نعني الثورة الفرنسية.
(أولاً) أحداث ثقافية كبرى:
1- الثورة الفرنسية أيضاً وأيضاً:
طبيعي أن تستمر النشاطات الثقافية المتصلة بالثورة الفرنسية إلى ما بعد الاحتفال الكبير الذي جرى في الرابع عشر من تموز / يوليو الماضي بمناسبة ذكرى مرور قرنين على الثورة الفرنسية، وبالتحديد على الهجوم على سجن الباستيل، ذلك الهجوم الذي يعد شرارة تلك الثورة. وقد تحدثنا عن احتفالات الرابع عشر من تموز / يوليو تلك في رسالتنا السابقة.
أ- إعلان حقوق الإنسان (26 آب / أغسطس 1789):
ذلك أن هذا الهجوم على الباستيل ليس كل الثورة الفرنسية. وثمة ما قبله وما بعده بل ثمة بوجه خاص الحدث الأهم والأعمق في تاريخ الثورة الفرنسية، نعني «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» الذي تمّ في 26 آب / أغسطس 1789 والذي أعطى للثورة الفرنسية بُعدها الإنساني الهام وأثرها العالمي الكبير، إن لم نقل إنه قد غيّر مسيرة تاريخ الإنسان.
ومن أجل تخليد ذكرى ذلك الحدث قامت نشاطات عديدة هامة، بعضها فريد من نوعه.
من تلك النشاطات الاحتفال الرائع بذلك الحدث الذي قام به، بين الحادي والعشرين والسادس والعشرين من آب / أغسطس، عشرة آلاف من الشبان والشابات قدموا إلى باريس من مختلف أنحاء العالم، يمثلون مختلف الحركات الطلابية والتجمعات الرياضية أو الإنسانية والفئات الثقافية والحركات النضالية. وكان الهدف من اللقاء بين هؤلاء جميعاً إجراء حوار حقيقي بين زعماء الحركات السياسية في المستقبل وبين سواهم، من أجل إسهام منظمات الشباب في النضال ضد التعصب بأنواعه وضد النزعات الطائفية بأشكالها.
وفي إطار هذه الاحتفالات، دشّن المحتفلون «قرية» حقوق الإنسان في «أوتوي Auteuil» ووضعوا إعلاناً جديداً لحقوق الإنسان يلائم المرحلة الحالية، أطلقوا عليه اسم «نداء باريس عام 1989». وقد حمل «رسل المساواة» هؤلاء نداء حقوق الإنسان حتى ساحة «الشانزيليزيه» مساء الجمعة في 25 آب / أغسطس. ويوم تدشين «قوس الأخوة» في منطقة «الديفانس» على نحو ما سنذكر بعد قليل، قرأوا مواد هذا النداء.
على أن الاحتفال الرئيس الأهم بذكرى حقوق الإنسان هو ذلك الذي جرى مساء السبت في السادس والعشرين من آب / أغسطس، يوم تدشين «قوس الأخوة» في منطقة «الديفانس Defense» بباريس. ففي قمة «قوس الديفانس» الذي تم بناؤه حديثاً، أقامت «مؤسسة قوس الأخوة» حفلاً كبيراً حضره الرئيس «فرانسوا ميتران»، وحضره رئيس تلك المؤسسة «كلود شيسون Cheysson» وزير الخارجية الفرنسي الأسبق. وبعد كلمة ألقاها هذا الأخير وتحدث فيها عن مؤسسته، تلك المؤسسة التي يرجو أن تكون «مختبراً للفكر ومنشّطاً للآراء»، تحدث الرئيس الفرنسي عن معنى ذكرى إعلان حقوق الإنسان عام 1789، مبيناً كيف أن ذلك الإعلان «كان إنباءً جديد، مهما تكن الانحرافات التي صاحبته من بعد، ومهما تكن أنواع الاضطهاد التي انسلّت من خلاله بعد ذلك».
وبعد التدشين الرسمي، قدم أربعمائة فنان من مختلف أرجاء العالم مشاهد غنائية راقصة عند أسفل القوس حيث تجمع عشرات الألوف من المشاهدين.
وبعد الظهر، شاهد حوالي عشرة آلاف شخص في مدينة «سيرجي بونتواز Cergy-Pontoise» حفلاً موسيقياً كبيراً قاطعته مئات الأسهم النارية. وفيه قدم حوالي ألف موسيقي من مختلف أنحاء العالم قطعاً من الموسيقى العالمية.
وبعد ذلك بساعات قليلة، فاجأ سكان باريس شاب اسمه «فيليب بيتي Philippe» (أي فيليب الصغير وما هو بالصغير أبداً)، من أشهر الذين يسيرون على الحبل، فقطع مسافة السبعمائة متر التي تفصل ساحة «التروكاديرو Trocadero» عن برج «إيفل»، على حبل من حديد، ليقدم إلى السيد «جاك شيراك» عميد مدينة باريس، نسخة من «إعلان حقوق الإنسان والمواطن».
ب- اثنا عشر ألف حاج يتظاهرون ضد «جرائم الثورة الفرنسية»:
على أن للمدالية الذهبية وجهها الآخر. فالأصوات التي ارتفعت ضد الثورة الفرنسية وما رافقها من عسف واضطهاد لم تكن قليلة، وقد تحدثنا عن بعضها في العدد السابق.
وبمناسبة ذكرى إعلان حقوق الإنسان والمواطن، سار حوالي اثني عشر ألف شخص، بدعوة من «رابطة 15 آب / أغسطس 1989»، في شوارع باريس، «تكفيراً عن الجرائم التي ارتكبتها الثورة». والرابطة التي دعت إلى هذه المسيرة (ولها جريدة باسم «نقيض 1789») رابطة قريبة من رابطة «القديس بيوس العاشر» التي يترأسها المونسيور «لوفيفر» رجل الخلاف الشهير مع الكنيسة البابوية التي حكمت عليه أخيراً بالطرد والحرمان.
وقد جاء المتظاهرون من مختلف أنحاء فرنسة، بينهم الشيب والشبان، وبينهم جراميذ الكشافة وأشبالها.
جـ- نشاطات مستمرة حول الثورة:
على أن أحداث الثورة الفرنسية لم تقتصر على احتفالات المؤيدين للثورة ولإعلان حقوق الإنسان ومسيرات أعداء الثورة المندّدين بما رافقها من خسف واضطهاد. فلقد قامت وما تزال تقوم – بعد الرابع عشر من تموز / يوليو – نشاطات ثقافية متنوعة تقلّب الثورة مرة أخرى على أوجهها وتغوص في معانيها وتختال وسط أفانين عطائها. ومن العسير أن نحيط بتلك النشاطات أو نتحدث عنها أو عن بعضها حديثاً مفصلاً.

مسرحية (الرسالة) لهاينر ميلر
وحسبنا إشارات خاطفة: ففي مهرجان «أفينيون Avignon» الثقافي الشهير الذي يعقد كل صيف في مدينة «أفينيون» الجميلة، قامت نشاطات لا حصر لها، مسرحية وموسيقية وفكرية، تتناول الثورة الفرنسية. من أشهرها مسرحية «الرسالة» للكاتب الألماني «هاينر ميلّر Heiner Meller» التي أخرجها المخرج المسرحي «ماتياسي لانجهوف Langhoff» وهي مسرحية تتحدث عن عصر الثورة الفرنسية من خلال مشاعر الإنسان الحديث.
ومن تلك النشاطات ذلك المعرض الطريف الذي أقامه الرسامون والنحاتون في قاعة «القصر الصغير». وفيه خلّد هذا المعرض ذكرى الاحتفال الذي تمّ بالثورة الفرنسية في «القصر الصغير» نفسه قبل قرن (عام 1889)! ولهذه الغاية اختار عدداً من الرسامين والفنانين الشهيرين الذين شاركوا في ذلك الاحتفال وقدم مختارات من آثارهم.
ومن تلك النشاطات ذلك الهجوم الفني العجيب الذي قام به الفريق المسرحي الذي يرأسه «آريان منوشكين Ariane Mnouchkine» على الجمعية الوطنية الفرنسية «البرلمان» في السابع والعشرين من آب / أغسطس.

في معرض (القصر الصغير) قسم لعبة
راحة اليد بريشة (فيف C. Feff)
ففي ذلك اليوم، كانت قاعة الجمعية الوطنية خالية بين جلستين من جلساتها، ولكن أشباحاً غير متوقعة اجتاحتها، يرأسها شخص أحمر العينين يمثل دور خطيب الثورة الفرنسية «ميرابو» ومعه «سييسى Sieyes» بلونه الذي يشبه لون العاج. لقد اقتحم الجمع الجمعية الوطنية الفرنسية، وانتقل «مسرح الشمس» (وهو اسم المسرح الذي ينتسب إليه المقتحمون) إلى قلب تلك الجمعية، يمثل فيها أحداث الثورة.
أما النشاطات الفكرية التي تدور حول الثورة الفرنسية والتي أعقبت احتفالات الرابع عشر من تموز / يوليو، فأكثر من أن تحصى. حسبنا أن نذكر منها ما يأتي:
الكتاب الذي يتحدث عن دور العلماء في الثورة الفرنسية والذي يرى أن «المجتمع العلمي» ولد من الثورة. وهو بقلم «نيقول وجان دومبر Nieole et Jean Dhombres» وقد نشرته دار «بايو» في 960 صفحة.
المقال الملفت للنظر الذي كتبه في جريدة «الموند» الفرنسية «إسكندر جيفاكوف Jevak hoff» حول «الإسلام والثورة الفرنسية» وفيه يتحدث بوجه خاص عن أثر الثورة الفرنسية في أفكار «كمال أتاتورك».
الكتب العديدة التي صدرت عن أثر الثورة الفرنسية في البلدان الأخرى، ولا سيما في ألمانيا وروسيا ورومانيا.
الكتاب الهام الذي صدر عن «الكتّاب والثورة» ويضم مجموعة من الوثائق الهامة جمعها ثلاثة باحثين.
كتاب «كلوديت أود Claudette Hould» عن «صورة الثورة الفرنسية»، وهو عبارة عن «ألبوم» رائع يعرض ويحلل مائة وخمسين رشمة (estampe) عرضت في إطار معرض جال في مدن عديدة في كندا، ويعد من أفضل الدراسات حول النِّقاشة (gravure) أيام الثورة، من حيث إنتاجها والإتجار بها.
2- وفاة الكاتب والروائي الكبير جورج سيمنون:
الحدث الكبير الذي هزّ الأوساط الأدبية وسواها في بلجيكا وفرنسا والعالم كله، هو وفاة الكاتب الجبّار «جورج سيمنون Georges Simenon» يوم السبت في الرابع من سبتمبر / أيلول، عن عمر بلغ السادسة والثمانين. ومنذ اللحظات الأولى لذيوع نبأ وفاته، امتلأت الصحف والمجلات بالمقالات العديدة التي تتحدث عن أكبر روائي في هذا العصر (على الأقل من حيث عدد الروايات التي أنتجها). كما أخذت شاشات التلفزيون تبث الأنباء والأحاديث والمقالات عن مبتكر «المفوض ميجريه Commissaire Maigreh» الذي تدور حوله معظم رواياته والذي أصبح مع الزمن هو ومبتكره، نعني الكاتب جورج سيمنون نفسه، شيئاً واحداً. وقد أعادت قناة التلفزيون الثانية في باريس نشر مقابلة هامة له جرت مع صاحب البرنامج الثقافي الشهير «أبوستروف Apostrophe» نعني «برنارد بيفو Bernard Pivot» وفيها يكشف عن جوانب مثيرة من حياته الخاصة والعامة.
ولد «جورج سيمنون» في مدينة «لييج Leige» البلجيكية عام 1903 وقضى معظم حياته في باريس وتوفي في مدينة «لوزان» السويسرية التي أقام فيها منذ عام 1955، ودُفن فيها في حديقة قرب منزله لا تبعد عنه أكثر من مائة متر، وذلك بناء على وصيته. وكان تشييع جثمانه عادياً، دون مراسم رسمية أو خاصة، بناء على رغبته أيضاً.
وأول ما يثير الدهشة لدى هذا الروائي الكبير غزارة إنتاجه غزارة تكاد لا تصدق. فهذا الكاتب الذي أطلق عليه أحياناً لقب «بالزاك Balzac» العصر والذي أعجب به «آندريه جيد» وتنبأ له مبكراً بمستقبل رائع، جاوز في عدد الصفحات والكتب التي وضعها عشرات المرات أمثال «بالزاك Balzac» و«زولا Zola» و«سيلين Celine» و«فيكتور هوغو» بالرغم من أن هؤلاء جميعاً قد اشتهروا بغزارة الإنتاج.
ولا يضاهي إنتاج هذا الكاتب المتدفق كشلالات «نياجارا» إلا بعض صنّاع الأدب الكبار في القرن الماضي: أمثال «أوجين سو Eugene Sue» و«بونسون دي تير أي Ponsonde Terrail» و«جول فرن Jules Verne».
وقد تحدثت الأقلام كثيراً عن هذه القدرة الهائلة على الإنتاج، وذاعت الروايات والنكات أحياناً حولها. أولم يقل يوماً للكاتب «جيد» أنه قادر على كتابة رواية كل ثلاثة أيام؟ ومما يروى، بين الهزل والجد، أن «الفريد هيتشكوك Alfred Hitchcock» جرب أن يتصل به هاتفياً في يوم من الأيام، فقيل له: إن سيمنون لا يستطيع أن يحدثك لأنه بدأ في كتابة رواية جديدة منذ لحظات. وعند ذلك أجاب هيتشكوك: «لا بأس، سأنتظر على الخط الهاتفي حتى ينهي روايته»!
ولا غرابة، فقد خلّف أكثر من أربعمائة رواية، بينها 74 مجلداً من الأعمال الكاملة، وبلغ ما بيع من كتبه في العالم، منذ عام 1923، أكثر من خمسمائة مليون نسخة، حسب تقديرات منظمة اليونسكو! ويقدر الباحثون أن متوسط ما بيع من كتبه كل عام يبلغ المليون.
وتبلغ كتبه المنشورة لدى أشهر ناشر له في فرنسا منذ خمسة وثلاثين عاماً، نعني «بريس دي لاسيتي Presses de la cite»، مائة وخمسين كتاباً، تضاف إليها الكتب التي ظهرت في سلسلة «الجيب». وقد بدأت هذه الدار منذ عام 1988 بنشر مؤلفاته الكاملة، في خمسة عشر مجلداً، بمعدل خمس مجلدات في العام.
وكتبه التي لا تحصى هذه هي في الوقت نفسه أكثر الكتب التي ترجمت إلى اللغات الأخرى. فلقد ترجمت إلى خمس وخمسين لغة ونشرت في تسعة وثلاثين بلداً من بلدان العالم.
ولم تملأ كتبه خزائن المكتبات وحدها، بل زحفت سراعاً إلى السينما منذ عام 1960، وإلى التلفزيون منذ عام 1970. ولقد ألهمت هذه الكتب نيفاً وخمسين فيلماً سينمائياً، وأكثر من مائتي فيلم تلفزيوني في فرنسا وإنكلترا وألمانيا وهولندا وإيطاليا والاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة واليابان، لا سيما عن طريق شخصية رجل البوليس «المفوض ميجريه Maigret» الذي أصبح الشخصية الغالبة في مؤلفات «سيمنون» كما ذكرنا، بل الذي أصبح و«سيمنون» شيئاً واحداً.
ولا غرابة بعد ذلك أن يكتب عنه الكثير، وأن تخصص للحديث عنه عشرات المؤلفات وأكثر من أربعين مذكرة ورسالة جامعية، تم تحريرها بالتعاون مع «مركز دراسات جورج سيمنون» في جامعة «لييج Liege».
ولم يقتصر تمجيده على ما كتب عنه، بل لقي أنواعاً عديدة من التكريم. فناشر كتبه في هولندا أقام تمثالاً من البرونز عام 1966 تخليداً للمفوض «ميجريه» (أي سيمنون. وجمهورية «سان مارينو San Marino» أصدرت طابعاً تذكارياً يحمل صورة «ميجريه». وفي مدينة «لييج» مسقط رأسه، سمي أحد الشوارع باسمه، كما أطلق على اسم «مقهى» يملكه أحد أبناء عمه اسم «ميجريه».
على أن مكانة «جورج سيمنون» الكبيرة لا ترجع إلى غزارة إنتاجه وحدها، بل ترجع دون شك إلى قدرته الروائية المبدعة وإلى أسلوبه العادي في ظاهره، والدقيق والموجز في التعبير والأداء في حقيقته. ومن هنا كانت قراءة كتبه ضرباً من المغامرة الفكرية الغنية، يقوم بها منذ نصف قرن عشرات الملايين من القراء في العالم على مختلف لغاتهم وثقافاتهم. أولم تكن ضالّته من وراء هذا الفيض من الإنتاج، كما قال في مقابلته مع «برنار بيفو»، معرفة النفس البشرية؟ أولم يكن رائد هذا السعي الموصول وهذا الجهد الطويل أن يطوّف الكاتب في عالم الحياة البشرية الغنية والمغلقة بالرغم من كل شيء وبالرغم مما قيل عنها وكتب حول معانيها؟ أو لم تكن حياته نفسها، حياته النهمة الشرهة في كل شيء، ضرباً من الهروب إلى أمام، بحثاً عن عالم الإنسان، ذلك العالم الذي يهرب أمامه كالأفق كلما دنا منه؟
لقد بدأ مغامرة الكتابة يافعاً، ودخل عالم الرواية كاتباً منذ التاسعة عشرة من عمره. وما كاد يبلغ الخامسة والعشرين حتى ربح الرهان وأصبح كاتباً روائياً مرموقاً، يعيش من قلمه بل يوفر له هذا القلم حياة فيها الكثير من البحبوحة تحقق له أهواءه الفريدة، وما أكثرها، وتروي حنينه إلى عوالم جديدة ورؤى طريفة ومشاعر فذة، وما أعنف ذلك الحنين وما أعجزه عن الارتواء.
وقد زاد في ذلك التوفّر الوجودي الذي هزّ حياة «سيمنون» دوماً، ذلك الحادث المأساوي الذي ترك بصمات لا تمحى على مجرى حياته، نعني انتحار ابنته «ماري جو Marie»، التي ولدت عام 1953. وقد تركت له شريطاً مسجلاً، وصفت فيه مشاعرها المتأزمة، ومشاعرها نحوه بوجه خاص، لا سيما بعد أن تعرّف عام 1961 على الإيطالية الشابة «تيريرزا Theresa» التي غدت رفيقة حياته حتى وفاته.
ويحدثنا في «مذكراته» التي نشرها عام 1981 والتي وجهها إلى أولاده، عن مأساته هذه مع ابنته، وعن شجون كثيرة من حياته الخاصة والعامة، ويكفي لكي ندرك حيرة هذه الحياة وقلقها أن نذكر أنه انتقل إلى ثلاث وثلاثين منزلاً في حياته!
3- المكتبة الفرنسية الكبرى ذات الأبراج الأربعة:
تحدثنا في رسالة سابقة عن المشروع الضخم الذي أعلن الرئيس الفرنسي منذ أواخر العام الماضي عن افتخاره به وعزمه على تنفيذه، كواحد من أبرز منجزات حكمه، نعني إنشاء مكتبة فرنسية كبرى، يأمل أن تكون من أبرز مكتبات العالم، لا سيما أن في صلب أهدافها أن تحقق التواصل الكامل مع كبريات المكتبات والجامعات العالمية، وأن تكون سجلاً لكل ما ينشر في شتى أرجاء المعمورة.
وقد كان اختيار التصميم الملائم والمصمم المناسب لبناء هذه المكتبة موضع مدّ وجزر وأخذ وعطاء خلال عام كامل. وأخيراً، أعلن الرئيس الفرنسي، في السادس عشر من
آب / أغسطس 1989، عن تكليف المهندس الفرنسي «دومينيك بيرو Dominique Perrault» بهذه المهمة الكبرى.
وسوف يتم تشييد المكتبة الجديدة في شارع «تولبياك Tolbiac» بباريس، وسوف ترث جانباً كبيراً من وظائف ومحتويات «المكتبة الوطنية» الحالية. ومن المقدر لها أن تفتح أبوابها عام 1995، وسوف يكون قوامها أربعة أبراج تضم الإدارة والمستودعات، وتكوّن زوايا لمكان فسيح لا يقل اتساعه عن «ساحة الكونكورد» التي تعد أكبر ساحة في العالم، وسوف تقوم في قلب هذه العرصة الواسعة حديقة حولها ثلاث طوابق (أدوار) تضم غرف المطالعة المختلفة.
وكما سبق أن ذكرنا، كان أول إعلان عن إنشاء هذه المكتبة في شهر تموز / يوليو 1988، حين أعلن الرئيس «ميتران» عن مشروعاته الأربعة الكبرى المفضلة التي يرجو إقامتها خلال فترة رئاسته، وعلى رأسها وأكثرها طموحاً «إنشاء وتجهيز إحدى أكبر المكتبات وأحدثها في العالم» على حد قوله، «يتم وصلها بجملة كبريات الجامعات الأوروبية».
وكان السؤال وما يزال: ما مصير المكتبة القديمة، «المكتبة الوطنية الشهيرة»؟ وهل ستقفل هذه المكتبة أبوابها وتنقل محتوياتها إلى المكتبة الجديدة، أم أن الأفضل أن تبقى الأمور على ما هي عليه، وأن تقوم المكتبة الجديدة في معزل عن المكتبة القديمة؟ أمام هذا الجدال، تمّ تبني حل وسط، اقترحته لجنة شكلها رئيس الوزراء من كبار الاختصاصيين في شؤون المكتبات أخذت بعين الاعتبار دراسة كلف بإعدادها حول هذا الموضوع المستعرب الشهير الأستاذ «أندريه ميكل Andre Miquel» الذي كان منذ سنتين مديراً للمكتبة الوطنية ثم استقال ليلتحق بعمله في «الكوليج دي فرانس».
وهكذا انتهت الدراسات إلى حل وسط قوامه أن كل ما سبق عام 1945 سوف يبقى في «المكتبة الوطنية» القديمة (شارع «ريشيليو Richelieu»)، وكل ما تلا ذلك ينقل إلى المكتبة الجديدة. ولقد أوكلت رئاسة المكتبة الجديدة، منذ شهر كانون الأول / ديسمبر 1988، إلى الصحفي «دومينيك جاميه Dominique Jamet». وتم اختيار موقعها، في شارع «توليباك» كما ذكرنا، على أرض مساحتها سبعة هكتارات (الهكتار 10000 م2)، بين نهر السين وبين السكك الحديدية التي تنطلق من محطة «أوسترلتز Austerliztz». وهي أرض قدمتها بلدية باريس مجاناً. غير أن اختيار الموقع طرح مشكلات جزئية لابد من معالجتها: منها أن إقامة هذه المكتبة في هذا الموقع يستوجب إعادة النظر في محطة «أوسترلتز» نفسها، بحيث يتم حصرها في موقع محدد وذلك عن طريق حذف الطرق الحديدية المنطلقة منها، تلك الطرق التي قلّت الحاجة إليها فعلاً بعد أن تم ربط القطار السريع الذاهب إلى الأطلسي بمحطة «مونبارناس Montparnasse». والعمل جارٍ من أجل إعادة النظر هذه.
ومهما يكن من أمر، لابد من القول بأن مشروع «المكتبة الفرنسية» الكبرى يخطو الآن خطوات حثيثة، تحمله إرادة سياسية عارمة، ويرفع من شأنه رهان هندسي، هو المشروع الهندسي الذي تم اختياره والذي يحمل وعوداً كبيرة.
فإلى عام 1995، موعد اكتمال المكتبة الكبرى الموعودة.
4 – أوبرا الباستيل:
وأخيراً، بعد هرج ومرج، وهياط ومياط، جرى الاحتفال الأول بافتتاح «أوبرا الباستيل»، في الثالث عشر من تموز / يوليو، كما ذكرنا في رسالة سابقة. وكان حفل الافتتاح ناجحاً من كل الوجوه، رغم الكثير من الشكوك والعديد من ضروب النقد التي رافقت إشادة هذا الصرح الكبير:
فمنذ أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، فرانسوا ميتران، عزمه على إشادة «أوبرا» جديدة في باريس، تتسع لجمهور أكبر، مغاير للجمهور القليل والمختار الذي يختلف إلى «الأوبرا» التقليدية المعروفة، اشتدت حملات النقد والتشكيك حول مكان هذه الأوبرا الجديدة، وحول طراز بنائها، وحول إدارتها، وكل ما يتصل بها. حتى ظن القوم أن «الأوبرا»، بعد هذا المد والجزر، لن تجد طريقها إلى النور.

موقع (أوبرا الباستيل)
فالمكان المختار لها، نعني ساحة الباستيل، ليس في الواقع مكاناً بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنما هو موضع تلاقٍ اعتباطي بين باريس القديمة وباريس شارع «أوسمان Haussmann»، بين مركز باريس وشرقها، بين الأماكن السكنية وحوانيت العمل. فيه تتقاطع ثلاثة خطوط من المترو مع خط القطار.. ومع ذلك استطاع مشروع البناء الذي وضع للأوبرا أن يتغلب على هذا الحشد المتنافر من العناصر، وأن يحيله، بعمل عبقري نادر، إلى وجود متجانس.

مشهد عام لأوبرا الباستيل
غير أن ولادة مشروع البناء لم تكن يسيرة. واختيار المهندس «كارلوس آوت Carlos Ott» للقيام به جاء بعد تعثر ومحاولات سابقة قام بها غيره لم تلق القبول. ولكن الأحكام والشكوك وضروب النقد ما لبثت حتى تغيرت بعد إنجاز البناء الرائع. إنه بناء يتألف من تسع «منصّات أرضية» تتحرك بين طابقين، في وسعها أن تدور أو تتسلق أو تخرج أو تنقسم إلى أجزاء، تبعاً لحاجات المشاهد والبرامج. وحسبنا لكي نتصور عمق هذا الكهف الفني أن نذكر أن طول المسرح عشرون متراً، وهو بهذا يعد من أطول المسارح وأكثرها تأنقاً في العالم. وهذا كله مسيّر بالأجهزة والحاسبات الإلكترونية الكبيرة الدقة. والقاعة الكبرى في هذه الأوبرا تتسع لألفين وسبعمائة مكان أي ضعف الأمكنة المتوافرة في الأوبرا القديمة.
هذا فضلاً عن التوزيع الصوتي الطبيعي الناجح، وعن النور الذي يتسرب إلى البناء ويجعله شفافاً، وذلك بفضل استخدام الزجاج (مع الحديد) على نطاق واسع، وفضلاً عن أسلوب «التكييف» الهوائي الفعّال والاقتصادي الذي استخدمت فيه تقنية تتم من خلالها استعادة حرارة المياه في أسفل البناء عن طريق مضخة. وهي تقنية لم تستخدم بعد في أي مسرح غنائي في العالم.
ولم يقتصر تدشين هذه الأوبرا الرائعة على حفل الافتتاح الذي أشرنا إليه (في الثالث عشر من تموز / يوليو) والذي حضره رئيس الجمهورية مع رؤساء الدول التي شاركت في احتفالات الرابع عشر من تموز / يوليو (وفيه تم تقديم مشاهد من رقص الباليه مع الموسيقى، شارك فيها عدد كبير من أشهر الفنانين)، بل جاوز ذلك إقامة حفلات مسائية للجمهور بين الرابع عشر من تموز / يوليو والثاني والعشرين منه، أكثرها موسيقي وغنائي، أسهم فيها فنانون عالميون.
وهكذا، بفضل الزمن والجهد، تحوّل هذا البناء الذي وصف في البداية، قبل أن يولد، بأقبح الأوصاف! والذي قيل عنه إنه «أشبه بحيوان وحيد القرن حُبس في مغطس على شكل قبقاب»، إلى بناء طريف لابد أن يجد فيه أبناء القرن الحادي والعشرين الجمال الذي قد
لا ندركه اليوم كاملاً، شأنه في ذلك شأن برج «إيفل» عند إنشائه. وزائره يمتلكه العجب والتساؤل في آن واحد، عندما يصعد سلمه الكبير، وعندما يشهد الاتساع الهائل لقاعاته، وعندما يرى الألوان السوداء والبيضاء والرمادية التي تباين بشكل واضح الألوان الذهبية في قصر «جارنييه Garnier» (أي قصر الأوبرا التقليدي)، والذوق الموفق والمعتدل، والأشكال المستديرة، وعندما يلاحظ قبل هذا وفوق هذا ما يتمتع به هذا البناء من طابع «وظيفي» يستجيب لحاجاته.
وقد اكتشف رؤساء الدول وسواهم من المدعوين إلى حفل الافتتاح المزايا العديدة لهذا البناء: إنه كما قلنا بناء مشرق يتسرب إليه ضوء النهار من كل جانب. وإنه بناء معتدل،
لا يقبل البهرج والزينة، بل يؤثر عليهما قيامه بوظائفه الفنية الأساسية، سواء فيما يتصل بالصوت أو الضوء أو المقاعد المريحة أو تحرك قواعد المسرح. إنه بإيجاز نقيض قصر «جارنييه» (الأوبرا القديمة) وما يتصف به من أبهة وأسرار ومراتب. فبدلاً من «علبة الشر» الواسعة تلك، أراد بانوه أن يجعلوا منه مبنى بسيطاً وجميلاً وبدهياً. وفيه لا يمكن أن يتم تقديم البرامج عن طريق البراعة الظاهرية الكاذبة، بل لابد أن تنصب أعماله على الجوهر والمعنى قبل الشكل والبريق.
5 – قوس الأخوة:
من أبرز الأعمال الجديدة الضخمة التي تمت بمناسبة الذكرى المائتين للثورة الفرنسية «قوس الديفانس Defense» (نظراً لتشييده في منطقة «الديفانس» بباريس) أو «قوس الأخوة» وفق التسمية التي شاعت نظراً لاتخاذه مقراً لمؤسسة عرفت باسم «مؤسسة الأخوة» كما سنذكر بعد قليل.
وقوس الأخوة معنى رائع ومبنى رائع. أما المبنى، فهو أبرز مثال مبتكر لقوس جديد، يستجيب لحلم طالما راود الفرنسيين منذ سنوات ولم يتحقق إلاّ اليوم. وإشادة القوس في قلب «منطقة الديفانس Defense» تلك المنطقة التي تمثّل، في ناطحات سحابها وهندستها الجديدة، طرفاً من أجواء نيويورك، والتي أقيمت على حدود باريس عام 1982، عملٌ يحمل معاني خاصة، إنه يربط منطقة «الديفانس» ربطاً ثقافياً وبالتالي عضوياً بمدينة باريس. وهو فوق ذلك يجعل من منطقة «الديفانس» بداية (أو نهاية) لأفق ممتد من اللوفر حتى القوس الجديد. والواقف على سطح المبنى الجديد يرى بنظرة واحدة ممتدة على استقامة واحدة «قوس النصر» القديم الشهير (وقد جُدّد) و«ساحة الشانزيليزيه» ونوافيرها وحدائقها، وساحة الكونكورد التي تنتصب في قلبها «المسلة» الشهيرة التي حملها «بوشار» من مصر، وحديقة «التويليري» وراء الساحة وأمام متحف اللوفر، وساحة متحف «اللوفر» والهرم الجديد المقام وسطها، ثم أخيراً المبنى القديم لمتحف اللوفر.

منظر عام لقوس الأخوة
وبالإضافة إلى ذلك كله يحمل المبنى خصائص هندسية وتقنية نادرة، ليس أقلها مصاعده المبتكرة؛ وشكل القوس الذي يبدو مستديراً وهو مكعّب، والكتلة الكبيرة المقامة على اثني عشر عموداً بوساطة مخدات من «النيوبرين Neoprene»، تلك الكتلة التي يبلغ وزنها (300) ألف طن (أي ثلاثة أضعاف وزن برج «إيفل»)، والتي تبلغ مقاييسها (106) أمتار في (110 أمتار)، والتي كلّف إنشاؤها نيفاً وملياري ونصف المليار من الفرنكات. وفوق هذا وذاك، مداخل القصر والسلم العريض الذي يرتفع حوالي ستين درجة، والحديقة المقابلة له بنوافيرها وتماثيلها ومضاربها.
هذا البناء الضخم قام بتصميمه المهندس المعماري الدانماركي «أوتوفون شبريكيلسن -Otto Von Sprechelsn» الذي توفي عام 1987 قبل أن ينجز البناء. وعند ذلك تولّى إنجازه وفق التصميم الموضوع له من قبله، المهندس المعماري الفرنسي «بول أندروه Paul Andreu» الذي أصبح منفذه منذ عام 1984.
أما المعنى الذي يحمله هذا المبنى الفريد فيتجلى في كونه مقراً للمؤسسة الإنسانية التي حمل القوس اسمها نعني مؤسسة «قوس الأخوة»، تلك المؤسسة التي يرأسها «كلود شيسون Claude Chysson» وزير العلاقات الخارجية الفرنسية السابق وعضو البرلمان الأوروبي. وتضم المؤسسة التي تعنى بحقوق الإنسان في العالم، لجنة علمية من شخصيات فرنسية وأجنبية تتولى التفكير في المشكلات العالمية المتعلقة بحقوق الإنسان في المجتمع الحديث، وتوجه اهتماماً خاصاً إلى التحديات الجديدة التي يوجهها المجتمع المعاصر إلى حقوق الإنسان. وفي هذا المجال تأمل المؤسسة في أن توصل صوتها إلى مختلف أرجاء العالم، وترجو ألا يمتد هذا الصوت إلى بعض الآلاف أو عشرات الآلاف من الشخصيات البارزة فحسب، بل أن يصل إلى مئات الملايين في العالم، بحيث تدرك الجماهير الكثيرة كيف تتكوّن المخاطر التي تتعرض لها حقوق الإنسان في المجتمع المعاصر وكيف تتم مجابهتها.

جانب من مدخل (قوس الأخوة)

وقد كان من بواكير عمل هذه المؤسسة الاحتفال بيوم حقوق الإنسان والمواطن في السادس عشر من آب / أغسطس كما سبق أن ذكرنا.
ومن نشاطاتها الحالية معرض أقامته في مقرها «المفوضيةُ العليا للأمم المتحدة من أجل اللاجئين»، وفيه نرى رسوماً تمثل مآسي اللاجئين في عدد كبير من البلدان، كما نرى فيه برامج تلفزيونية حول هذا الموضوع، بالإضافة إلى برامج خاصة بنشأة «قوس الأخوة» وبنائه.
6- استقبال جاك – إيف كوستو في المجمع الفرنسي:
قد لا يثير استقبال عضو جديد في المجتمع الفرنسي اهتماماً استثنائياً. وليس هذا شأن استقبال «الكومندان جاك – إيف كوستو»، رجل البحر والماء، وأحد أرباب دراسات وعلوم البحار، وصاحب الرحلات العلمية الفذة في شتى أنحاء العالم على متن سفينة «كاليبسو Calypso»، ونجم البرامج التلفزيونية التي تبث حول رحلاته هذه. فلقد حمل هذا الاستقبال الذي تمّ في أواخر شهر حزيران / يونيو الماضي معنىً خاصاً، فيه تجاوزٌ للمألوف في اختيار أعضاء المجمع، وفي تمجيد لرجل في الثمانين من عمره ما يزال يغوص إلى أعماق البحار، وراءه تراث ضخم من الرحلات الاكتشافية التي تنوف على الخمسين في مختلف بقاع المعمورة، وحوالي نصف قرن من الاكتشافات العلمية المتلاحقة في ميدان علوم البحار. ويزيد في المعنى الخاص الذي يحمله هذا الاختيار أن صاحبه يحل محل عضو راحل، ليس بينه وبين ميدان اختصاصه أي وشيجة قربى، هو طبيب الأمراض النفسية الشهير «جان دولي Jean Delay» الذي غاص طويلاً في عالم آخر، هو عالم الحياة النفسية، لعله لا يشترك مع عالم «كوستو» إلاّ في شيء واحد وهو أن كلاً منهما بحرٌ كبير من الصمت. كذلك يحمل هذا التكريم معنى خاصاً آخر، لكونه تكريماً لواحد من الرجال القلائل الذين يحرصون على إنقاذ الجنس البشري عن طريق الحفاظ على الشروط اللازمة لبقائه. ولا نغلو إذا قلنا إن «كوستو» هو الرجل الذي تعلّم أن يحب البشر عن طريق تعليمه البشر أن يحبوا البحر. أولم يقل في مقابلة حديثة معه: «لو لم أكن واثقاً بالإنسان للجأت إلى صومعة».
والحق إنه أحد المكافحين القلائل الذين يريدون أن «يغيروا العالم». فالعالم الذي نعيش فيه، فيما يرى، لا يمكن أن يستمر ويبقى بكل ما فيه من تزايد سكاني ينوء بحمله وبما يقذف به من «صين جديدة كل عشر سنوات» على حد قوله، وبكل ما فيه من طغيان على المحيطات والغابات، وبكل ما فيه من تشويه للطبيعة وخيراتها.
ولنعد إلى حفل الاستقبال في المجمع الفرنسي. لقد ألقى رجل البحار كلمة تحدث فيها عن سلفه، كما هي عادة المجامع، وسلفه كما قلنا طبيب معنّي بالأمراض النفسية، وشتان ما بين العالمين ومع ذلك استطاع «كوستو»، بفضل مواهبه الفذة، أن يتحدث حديث العارف عن سلفه هذا، بل أن يربط بين عالمه هو وعالم ذلك الطبيب. وفي مطلع كلمته عبّر عن مشاعره تجاه هذه المهمة، مهمة التحدث عن سلفه، قائلاً: «لقد قلت في نفسي: أي سخرية في أن يدعى للكلام عن أستاذ علم النفس الفيزيولوجي الحديث، باحث منقِّب في البحار. وما هي الصلات التي يمكن أن تعقد بين تحليل اضطراب الفكر والحياة النفسية وبين سلوك الكائنات التي تعمر بها المحيطات؟». ومن أجل مواجهة التحدي بحث طويلاً ونقِّب مستعيناً بالسيدة «مادلين دولي» زوجة سلفه «جان دولي» التي يلقبها أصدقاؤها بالحوت، والتي كان أجدادها من المعنيين بالبحار.
وبعد لأي، ما لبث حتى ائتلف مع أفكار سلفه، وما لبث حتى أحبه. وكان حصيد هذا كله خطبة استقباله الرائعة التي تحدث فيها عن سلفه، حديث العالم الخبير، متريثاً عند مشكلات يعجز عن طرقها المختصون: من مثل الحديث عن الصلة بين «فرويد» والكيمياء، والحديث عن الكاتب «أندريه جيد»، في معرض حديثه عن الصلة بين «جان دولي» ووالديه؛ والحديث عن التناقضات الداخلية في عالم «دولي»، وعن الخدمات التي قدمها للمرضى، وغير ذلك. وهذا كله من أجل أن يتمكن من عقد الصلة بين تجارب سلفه هذا وبين تجارب العالم البحّار على متن «كاليبسو»، ومن أجل أن يمضي وراء ذلك كله إلى الإفاضة في تحليل معاني عالمه وعالم الغوص والرؤى، عالم القواعد والأخلاق، عالم حماية الطبيعة.
إنها حقاً خطبة عصماء فذة تلك التي ألقاها «كوستو» يوم استقباله. خطبة امتد إلقاؤها حوالي ثلاث ساعات، ولكنها ساعات مضت أمام السامعين وكأنهم يمرون أمام مشهد الحياة الرائع، من قلب المحيطات إلى أعماق النفس الإنسانية. ولقد نشرت هذه الخطبة كثير من الصحف، ونشرتها صحيفة «الموند» في أربع صفحات من حجم صفحاتها، وذلك في عددها الصادر في 25 حزيران / يونيو 1989. وقد كتبت عن «كوستو» مؤلفات عديدة، من أشهرها الكتابان اللذان كتبهما عنه صديقه «لوك ماري بيل Bayle». وقد قام هذا الصديق أيضاً برسم السيف التذكاري الذي قدمه «موريس دورون Duron»، وهو سيف من الكريستال مزين برسوم معبرة.
ثانياً – أحداث فنية:
بعد أن التهم الحديث عن الأحداث الثقافية الكبرى العديد من الصفحات، لعلنا نشعر ويشعر القارئ معنا أننا لم نبق بقية تذكر للحديث عن الأحداث الفنية والأحداث الأدبية والفكرية والكتب الجديدة، وهي أبواب اعتدنا أن نتحدث عنها في معظم رسائلنا. ومع ذلك فثمة أحداث هامة في هذه المجالات جميعها لا يجوز إغفالها. ومن هنا سوف نأخذ بموقف وسط، فنتحدث عن أهم تلك الأحداث حديثاً خاطفاً، تاركين التريث الأطول والأعمق عند بعضها إلى رسالة أخرى.
وفي ميدان الأحداث الفنية تفجأنا جملة من النشاطات الهامة، نشير من بينها إلى النشاطات التالية إشارات عابرة:
1- المعرض الفني المصري في «معهد العالم العربي»:
بين السادس عشر من تموز / يوليو 1989 والرابع عشر من كانون الثاني / يناير 1990، يستقبل «المعرض المصري» في معهد العالم العربي زواره. وقد افتتح هذا المعرض في الخامس عشر من تموز / يوليو بحضور الرئيس المصري حسني مبارك. وهو أول معرض يقام لمصر في معهد العالم العربي.. وقد ضمّ المعرض بوجه خاص مجموعة من الآثار المصرية الفرعونية القديمة إلى جانب آثار مصرية إسلامية. وقد انتشرت فيه حوالي ثلاثين قطعة فنية تم جلبها من القاهرة، كل منها يمثل إحدى روائع الفن المصري. منها تماثيل ونقوش من عهود كلاسيكية (مثل تل العمارنة وسواها)، من مثل «الكوبرا» المقدسة المنحوتة من الجرانيت الرمادي الذي تتخلله عروق حمراء (والتي ترجع إلى عام 670 قبل الميلاد). ومنها ذلك التاج الذهبي لأحد كهنة «أوزيريس» الذي تم اكتشافه في واحة صغيرة من الصحراء الليبية (واحة دوش). ومنها ذلك التاج الذي يمثل «أوزيريس» وقد حمل فم «زيوس Zeus».
وفي ميدان العمارة الإسلامية في مصر نجد محراب «السيدة نفيسة»، التي أقامت في القاهرة منذ عام (800) ميلادية وتوفيت فيها.. ويرجع المحراب إلى العهد الفاطمي، وهو محراب من الخشب صنع عام 1139 ميلادية. ومن الآثار الإسلامية المعروضة أيضاً سجادة «ذات مقاطع» نسجت في القرن السادس الميلادي.
ويقدم المعرض لزائريه عرضاً تلفزيونياً مستمراً، فيه لقطات جميلة من الحياة المصرية الحديثة في شتى جوانبها. كما يقدم فيلماً لمدة 23 دقيقة عنوانه «من النيل إلى السين»، فيه رحلة بالخيال (مع الموسيقى المصرية) من القاهرة إلى معهد العالم العربي الواقع على ضفاف السين، تمر بنا على أهم المواقع والآثار. ويقدم المعرض كذلك نشاطات أخرى، فضلاً عن المكتبة ومطعم فخر الدين الذي أقام فرعاً له، خلال فترة انعقاد المعرض، في ساحة معهد العالم العربي.
2- الكويت في باريس:
في العشرين من شهر أيلول / سبتمبر، افتتح وزير الإعلام الكويتي «الأسبوع الإعلامي الثقافي الكويتي» في «معهد العالم العربي» بباريس. وألقى كلمة جامعة هامة تحدث فيها عن أغراض الأسبوع الثقافية والفكرية، مبيناً كيف يجمع هذا الأسبوع بين النشاطات الثقافية المتنوعة الهامة التي تُعرّف بعطاء الكويت في شتى مجالات الثقافة وبين النشاط الفكري الذي يتم عن طريق الندوات الفكرية التي تُعقد للتعريف بجوانب الحياة المختلفة في دولة الكويت. وسوف نتحدث عن هذا الأسبوع حديثاً مفصلاً في رسالة أخرى، بعد أن ينهي الأسبوع الثقافي نشاطاته.
3- أجمل معارض الصيف في فرنسة:
من أجمل المعارض التي شهدتها فرنسة خلال هذا الصيف – وما أكثرها – معرض يقدم لنا آخر الأعمال التي أنتجها عدد من كبار الرسامين أمثال: «سيزان Cezanne» و«دوبوفيه Dubuffet» و«ميرو Miro» و«بيكاسو» و«مونيه Monet» وسواهم. وقد أقيم المعرض في مدينة «نيس Nice»، واتخذ عنواناً له «الأثر النهائي، من سيزن إلى دوبوفيه»، وقد افتتح في أوائل آب / أغسطس ويستمر حتى الرابع من تشرين الأول / أكتوبر. والصفة الفريدة التي يمتاز بها المعرض، كما يدل عليه اسمه، هو أنه يقدم لنا آخر نتاج أنتجه بعض كبار الفنانين، عندما بلغوا سن الشيخوخة، وظل يراودهم مع ذلك هاجسٌ يجعلهم يطمحون إلى أن يقولوا كلمتهم الأخيرة من خلال ما ينتجون. ولقد راود هذا الهاجس «كلود مونيه Monet» مثلاً عندما كان يمضي معانداً، بالرغم من شيخوخته، إلى حديقته ليرسم الألوان والأشكال التي يحلم بها. وبعد حيرة وقلق وتجارب بعضها فاشل، يقدم لنا أروع لوحاته. وقد جمع منظمو المعرض تلك اللوحات من مظانّها. وفعلوا مثل ذلك فيما يتصل باللوحات الأخرى التي عرضوها للفنانين الآخرين والتي أبدعها هؤلاء الفنانون في أواخر حياتهم. وهكذا نجد في هذا المعرض أمهات آثارهم وقد تمت استعارتها من كبريات المتاحف في العالم ومن المجموعات الخاصة السرية.
والمجال لا يتسع للحديث عن أهم تلك الآثار، وكلها هام. وحسبنا أن نشير أن أبرزها رسم (متأخر أيضاً) للرسام «غوغان Gauguin» عنوانه «يوم لذيذ»، ورسم رائع للفنان «سيزان» (في شيخوخته كذلك) عنوانه «البستاني فالييه Vallier» (وقد أنجزه بين عام 1905 وعام 1906).
ومن أبرز تلك الآثار المعروضة رسوم الفنان الألماني الأصل «شفيتر Schvitters».
ولا يضاهيها إلا رسوم «بول كلي Paul Klee» ومن أجملها «وجه في المساء» (وقد رسم عام 1935)، و«ملاك الموت» (1939).
على أن الشيخوخة لدى فنانين آخرين كانت أشبه بنهر يتسع مجراه. هكذا أخذ «رونوار Renoir» يبحث عن مزيد من الاتساق والانسجام في لوحاته. ومثله الرسام «جياكوميتي Giacomette» و«ديغا Degas» و«موند ريان Mondrian» و«ماتيس Matisse» حتى نصل إلى «دوبوفيه Dubuffer» وعنده نصل إلى أعمال عزم صاحبها على أن تكون الأخيرة، وفيها نشهد مغامرات لونية وسط متاهات من الألوان البيضاء والحمراء والزرقاء، وكأنه يبحث عن «اللانهاية» عبر لوحات مغطاة كلها بالسواد.
ويتوج ذلك كله «بيكاسو Picasso»، وكأنه يعزف آخر لحن في سنفونية. ففي لوحاته الأخيرة تتفجر الحميّا المتغلغلة في داخله. فإذا به يقدم لنا أجساداً ووجوهاً تتبادل هويتها فيما بينها حتى تغيب أخيراً في سحب هائمة على وجهها.
4- فيلم الموسم في فرنسا والعالم: «الرجل الخفاش»:
وأخيراً بدأ منذ العاشر من أيلول / سبتبمر عرض الفيلم الأمريكي الذي راج رواجاً مذهلاً في الولايات المتحدة وسواها والذي عاد على أصحابه، في ذلك البلد وحده، بريع بلغ 200 مليون دولار خلال ستة أسابيع، نعني فيلم «الرجل الخفاش Batman»، من إنتاج «تيم بورتون Tim Burton».
وقد عجب الكثيرون من هذا النجاح الفريد لهذا الفيلم، بالرغم من أنه يبدو مجرد فيلم خيالي، شبيه بأفلام «السوبرمان». غير أن العجب يزول إذا وضعنا هذا الفيلم في الإطار الاجتماعي الذي ظهر فيه، إطار المجتمع الأميركي المعاصر والمجتمع العالمي المعاصر، لا سيما في الغرب. فهذا الفيلم «فكرة» قبل أن يكون فيلماً. ومن أجل فهمه يحسن أن نذكر أنه ولد من أجواء العنف والضياع والجنون، كما ولدت المسرحيات الموسيقية في الثلاثينات من أجواء «الاكتئاب العارم»، إذ ذاك. أجل لكي نفهمه ينبغي أن نراه حيث وجد، أي في «المسرح الصيني Chineese Theater»، وأن نخرج من السينما في قلب «غوتام سيتي Gotham City»، وقد أحاط بنا جو العنف والجنون الذي يسرح ويمرح في ذلك الحي وفي أبنيته الزجاجية السوداء.
وسط هذا الجو من العنف والفساد الذي يرين على «غوتام سيتي» كل ليلة؛ وأمام فظائع عصابة «كارل غريسون Carl Grisson» التي تعتدي على المارة وتسلبهم ما لديهم، يبزغ الرجل الخفاش، هذا الكائن الغامض، وكأنه يد العدالة، يطارد زمرة الفساد ويحطمها، وقد ارتدى جبة عريضة وعلى وجهه قناع أسود.
ولا نغلو إذا قلنا إن الفيلم ضرب من الرؤية الذاتية للعالم. فالرجل الخفاش يسهر على كل شيء. إنه يحطم الفساد والفاسدين، وإنه أقوى من الشر إلى الأبد. وفيه رؤية للعالم من خلال العودة إلى الطفولة، طفولة الأربعينات والخمسينات والستينات، يوم كان العالم يحمل آمال المستقبل.
ومن هنا كان هذا الفيلم وسيلة إعلامية وعى أصحابها أغراضها وعياً كاملاً، وقد أرادوا من خلالها أن يرضوا أكبر عدد من الناس. إنه فيلم للجماهير الكبيرة، صنع لتعبده هذه الجماهير.
والفيلم كما ذكرنا من إنتاج «تيم بورتون»، وقد كتب مضمونه للمرة الأولى (ثم عدل ثلاثين مرة) «سام هام Sam Hamm». ولعب فيه دوراً أساسياً، هو دور «الجوكر»، الممثل «جاك نيكلسون Jaek Nicholson»، ولعب فيه دور «الرجل الخفاش» الممثلُ «مايكل كيتون Michal Keaton».
وقد كلف إخراج الفيلم 40 مليون دولار، وقد ربح أرباحاً خيالية كما سبق أن ذكرنا، بالإضافة إلى الأرباح التي تلقاها منتجو الفيلم من رجال الصناعة الذين باعوهم حق استخدام صورة «باتمان» واسمه؛ وهم فيما يبدو كثيرون جداً. فهناك من صنع «بيجاما الرجل الخفاش»، وهنالك من أنتج دراجات وشموعاً وبالونات ونظارات وميداليات وآلات موسيقية وفرشاً تحمل اسم «باتمان» أو تقلد شكله. ومن هنا لم يكن من الغريب أن يشير بعض النقاد إلى ضرب من المرض سماه باسم «الباتا مانيا» أي الهوس بإنسان الخفاش.
5 – وبعد، لابد أن ندع الحديث عن أحداث فنية هامة أخرى، منها:
– إقامة معرض في حي «بيغال» للكاتبة الفرنسية الشهيرة «جورج سان George Sand».
– تقديم نسخة جديدة محدثة لفيلم «لورانس Laurence الجزيرة العربية»، أنتجه«دافيد لين David Laine».
– افتتاح معرض أميركي في قاعة المكتبة الوطنية بباريس، عنوانه: «الضحك سلاح»، وقد أقيم من قبل في «شيكاغو» و«لوس أنجلوس».
– إقامة معرض عن الرسم والنحت الفرنسيين في القرن العشرين في مدينة «موسكو».
– إقامة معرض هام عن الفن البدائي لدى العديد من الشعوب الأفريقية.
– قيام المخرج والفنان الكبير «موريس بيجارMaurice Bejart» بالاحتفال بالذكرى المائتين للثورة الفرنسية على طريقته، وذلك بتقديم «باليه» ضخمة عن أحداث الثورة وعن «روبسبيير Robespierre» وعهده بشكل خاص.
– تمثيل مؤلَّف للشاعر الرومانتيكي الشهير «ألفريد موسيه Alfred Musset» هو كتابه الشهير «لا مزاح في الحب» على «مسرح المدينة» بباريس.
– تجديد القنديل الضخم في قاعة الأوبرا بباريس، وإعادة بريقه الأول إليه وتوهجه القديم
(لا سيما يوم كان يضاء بالغاز). وقد بلغت نفقات التجديد حوالي مليون فرنك فرنسي. والقنديل ذو الكريستال البوهيمي هذا من أضخم القناديل: (يزن 8.5 طن) وفيه سبعمائة شمعة.. وهو ليس مجرد قنديل للإضاءة، بل يلعب دوراً في توزيع الصوت في القاعة. فهو مزوّد بعدد من الجلاجل التي تقضي على ذبذبات الزجاج وتُوزع الصوت الذي يغيب عبر أطره الذهبية.
ثالثاً – الكتب الجديدة:
نحن في الخريف وعلى أبواب الشتاء، وفي هذه الآونة بوجه خاص تتدافع الكتب إلى المطابع وتفيض واجهات المكتبات بالنتاج الجديد المتلاحق.
ومن هنا كانت مهمة تخير الكتب الجديرة بالاهتمام مطلباً عسيراً، إن لم يكن مستحيلاً. ولهذا سوف نلجأ ههنا أيضاً إلى حل توفيقي، فنتوقف بعض الشيء عند أهم ما يعنينا من هذا العطاء السخيّ، ونرد في ذلك بإشارات سريعة إلى بعض ما لا يتسع المجال للتريث عنده.

1- كتاب هام عن «ميشيل فوكو Michel Faucault»:
وأول ما يسترعي انتباه المتقرّي للنتاج الجديد، ذلك المؤلَّف الهام الذي كتب عن «ميشيل فوكو» (الذي توفي منذ خمس سنوات عام 1984 عن عمر بلغ الثامنة والخمسين) للكاتب «ديدييه إيريبون Didier Eribon» والذي نشرته دار «فلاماريون Flammarion» في نيف وأربعمائة صفحة، وظهر في الأسواق منذ أوائل شهر أيلول / سبتمبر.
والكتاب عرض شامل عميق لكل الجوانب المتصلة بحياة وأفكار المفكر والفيلسوف والبحاثة «ميشيل فوكو»، وهي جوانب غنية فريدة. وقد قيل الكثير عن «فوكو» بمناسبة وفاته عام 1984، وامتلأت الصحف والمجلات بالمقالات الكثيرة عنه. وقد تحدثنا عن ذلك في حينه. غير أن كتاب «إيريبون» هذا ثبت كامل يتقرى كل شيء في حياة الفيلسوف. وفي مثل هذا العمل عمل يكاد يكون معجزاً، نظراً لتنوع العطاء الفكري الذي قدمه «فوكو» تنوعاً مذهلاً، ونظراً لكثرة ما أنتج في شتى الميادين. يضاف إلى هذا أن الكاتب استعرض من خلال حديثه عن «فوكو» الحياة الفكرية في فرنسة كلها خلال أربعين عاماً.
ويغوص الكاتب في حياة «فوكو» الشخصية والعامة، ويكشف لنا عن «فوكو» جديد أكثر غموضاً وتعقيداً مما نعرف. ويرينا بذلك الأوجه العديدة والغريبة لهذا الفيلسوف:
يرينا إياه طالباً في مدينة «بواتييه» ثم طالباً في معهد المعلمين ذا منازع شيوعية، ثم مستشاراً ثقافياً في السويد، ثم أستاذاً في جامعة «كليرون فيران Clermont Ferrand» ثم معتنقاً «البنيوية» إلى حين ومؤلفاً كذلك الكتاب الشهير «الألفاظ والأشياء Les Mots et les Choses»، ثم أستاذاً في تونس يحيا في ضاحية «سيدي بو سعيد» إلى ما هنالك من الأوجه العديدة، وأحياناً المنحرفة الشاذة لحياة «فوكو». ومن العسير التوقف عند هذه الجوانب المتنوعة لحياة الفيلسوف وفكره، على نحو ما يعرضها لنا كاتب تاريخ حياته وأفكاره في كتابه الهام هذا. ومن العسير بوجه خاص أن نتوقف عند ما كتبه عن صلات الفيلسوف ببعض مفكري زمانه من أمثال عالم الاجتماع «لويس آلتوسر Louis Althusser» والطبيب النفساني الشهير «جاك لاكان Jacques Lacan»، و«كلود مورياك Claude Moriac» و«جان إيبوليت Jean Hypolite» معلمه الأول، وسواهم، أو أن نتحدث عما ذكره عن المساجلات والنقاش بينه وبين «سارتر». والكتاب بحق حدث فكري هام، ولعل نقطة القوة والضعف فيه أنه ليس مجرد تاريخ حياة وفكر، بل هو أيضاً ثَبْتٌ بيبليوغرافي بأهم ما ظهر من نتاج فكري فرنسي عبر مسيرة حياة فوكو.