رسالة باريس

الثقافة العالمية – العدد /46/ – مايو 1989
رسالة باريس
(أولاً) أحداث ثقافية مهمة:
1- جان مونّيه Jean Monnet ساحر الوحدة الأوروبية:
بمناسبة مرور مائة سنة على ولادة المفكر الاقتصادي الشهير، المرهص بالوحدة الأوروبية، الرائد لمنطلقاتها الأولى، نعني «جان مونيه Jean Monnet»، قامت تظاهرات فكرية عديدة، توّجها ذلك الاحتفال المهيب، الاحتفال بنقل رفاته إلى قبة «البانتيون» حيث يرقد عظماء فرنسة.
وقد جرى ذلك الاحتفال في التاسع من تشرين الثاني الماضي، برعاية رئيس الجمهورية «فرانسوا ميتران» وبحضور معظم رؤساء دول المجموعة الأوروبية وكبار العاملين في أجهزتها.
وأقيم هذا الحفل في آونة يكثر فيها الحديث عن الخطوة الهامة التي سوف تخطوها دول السوق الأوروبية المشتركة نحو الوحدة في معظم مجالات حياتها في بداية عام 1993. والقوم هنا في فرنسة، وفي سائر بلدان السوق، يشمّرون عن سواعدهم استعداداً لذلك اليوم الموعود، ويهيئون الدراسات والأبحاث والخطط والبرامج استعداداً لذلك الحدث، بل يصوغون حياتهم الاقتصادية والعلمية والتقنية صياغة جديدة تتناسب وضخامة التحديات التي سيطرحها قيام الوحدة الأوروبية، وعلى رأسها حرية تنقل الأشخاص وحرية ممارسة الأعمال، وحرية النشاط الاقتصادي في شتى صوره داخل بلدان الوحدة المرجوة.
ومن هنا اكتسب هذا الاحتفال بنقل رفات «جان مونيه» معنىً خاصاً، بل لعل منطلق العزم على القيام بهذا الاحتفال هو الرغبة في تحميله هذا المعنى، وجعله مدخلاً للحديث عن آفاق الوحدة الأوروبية التي تدق الأبواب وتدق معها رؤى المستقبل.
أما الحديث عن بلاء «جان مونيه» من أجل بناء الوحدة الاقتصادية الأوروبية بعيد الحرب العالمية الثانية مباشرة فحديث ذو شجون، يستغرق كتباً برأسها. ولا عجب فالوحدة كانت حلمه، وكل بحث في الوحدة يستهويه. أولم يستشهد مرة بقول «سانتيكزوبري Saint-Exupéry» الذي التقاه في الجزائر أثناء الحرب العالمية الأخيرة: «إن أجمل مهنة يضطلع بها الناس هي أن يوحدوا الناس»؟
لقد اقتنع «جان مونيه» من خلال معايشته لأحداث الحرب العالمية الثانية، أن من اللازب تجاوز الإطار القُطري، عن طريق توحيد الناس ونشاطاتهم. وفي هذا يقول قولة شهيرة، توحي بالكثير من التأمل والتفكير: «إننا لا نوحد دولاً بل نوحد أناساً وبشراً».
ولتحقيق أهدافه، خطا «مونيه» خطوات عملية منظمة، وأدرك أن العمل الاقتصادي الأوروبي المشترك الذي ينشده لابد أن يسبقه عمل اقتصادي في فرنسة نفسها من أجل إصلاح ما أفسدته الحرب، ولكي يجعل من فرنسة قوة عالمية علمية تكنولوجية رفيعة المستوى.
ومن هنا ناضل طويلاً لإقناع المسؤولين، وعلى رأسهم «ديغول» بأهمية وضع «خطة» اقتصادية فرنسية (وكان التخطيط الاقتصادي قبل ذلك مقصوراً تقريباً على المعسكر الشرقي). وقد نجح في مهمته هذه، بعد جهود طويلة وشاقة، ووضع بالتعاون مع فريق من الاقتصاديين وسواهم أول خطة فرنسية (للأعوام 1947 – 1950) تبنتها الحكومة الفرنسية في 14 كانون الثاني / يناير 1947. ولم يكتف «مونيه» بوضع هذه الخطة بل أشرف على إنفاذها وعلى تذليل ما واجهه تطبيقها من صعاب.
وعندما أنجز هذه المهمة، تكشفت أمامه الآفاق الأوروبية على نحو أوضح، وشعر بأن الخطة الفرنسية هي المرآة الأوروبية لفرنسة.
وهكذا انطلق من وضع أسس السوق الأوروبية المشتركة، وكان له الدور الأول في الخطة الأوروبية التي دعيت فيما بعد باسم «خطة شومان Schuman» والتي انطلقت أول ما انطلقت من الخطة المشتركة لإنتاج الفحم والفولاذ (لا سيما بين ألمانيا وفرنسة) ثم اتسعت أبعادها.
وعندما نقرأ اليوم «مذكرات» مونيه وكتاباته الأخرى لا نشعر فقط أننا أمام إنسان كان يملك قدراً هائلاً من التفاؤل بنجاح الأفكار التي يدين بها، وعلى رأسها توحيد أوروبا، بل نشعر فوق ذلك وقبل ذلك أننا أمام إنسان ذي عزيمة وإرادة، يضع جهده وعرقه في خدمة تفاؤله، ويناضل ويكافح من أجل إيمانه العميق بالمستقبل المشرق لأوروبا الموحدة. ووراء إيمانه هذا بأوروبا، تثوي شخصية فذة رفضت رفضاً قاطعاً ما اتصف به رجال السلطة، منذ أن كان الإنسان، من تمركز حول الذات وروح السيطرة والانطلاق من المبدأ القائل «فرّق تسد» والتخفي وراء الكتمان والمكر. وهذه الشخصية نجدها مشرقة واضحة في الكتاب الذي نشرته حديثاً «رابطة أصدقاء جان مونيه» وعنوانه: «مائة مفتاح ومفتاح من أجل العمل». وإذا كان لابد أن نذكر شيئاً عن هذه المفاتيح أو المبادئ التي يوصي بها رجال الأعمال بوجه خاص، فلنذكر هذه الوصية «إن لم يكن من المفيد دوماً أن نقول كل شيء لكل الناس، فلا مندوحة من أن نقول لكل الناس الشيء عينه. فالثقة مرتبطة بهذا، ولم يقع لي قط، ولم أجرب أصلاً، أن أحصل على أي شيء بدون الثقة».
2- وفاة الروائي الشهير «بيير بوالو Pierre Boileau»:
في الثامن عشر من شهر شباط / فبراير الماضي توفي كاتب الرواية الشهير «بيير بوالو Pierre Boileau»، وبوفاته يغيب روائي من الطراز الأول شغل حلبة الرواية خلال نيف وخمسين عاماً، وساق حياة أدبية نموذجية مزدوجة: جانبُ منها حمل اسمه، وشمل مجموعة من الروايات أُطلق عليه بسببها لقب «منظم الأسرار». وجانب آخر قام به بالتعاون مع «توماس نارسيجاك Thomas Narcejac» وحمل اسميهما مجتمعين.
ولد «بوالو» في باريس في 28 نيسان / أبريل 1906، وتركت قراءات سن الطفولة أثراً بالغاً في نفسه. ثم بدأ يشغل أوقات الفراغ التي تتيحها له المهن المختلفة التي تقلّب عليها، بكتابة قصص صغيرة بوليسية أو قصص مغامرات.
وفي عام 1934 نشر روايتين بوليسيتين، اسم الأولى «نزهة منتصف الليل» واسم الثانية «الحجر الذي يرتعش». وفي هذه الرواية الأخيرة خلق شخصيته الروائية التي تكرر ظهورها في معظم رواياته بعد ذلك، شخصية البوليس السري الخاص «أندريه برونيل André Brunel». وفي عام 1938 ظهرت شخصيته هذه في رواية جديدة هامة، حازت على جائزة روايات المغامرات، هي رواية «استجمام باخوس».
أما الرواية التي كشفت عن موهبته المبدعة في أقصى توهجها، فقد نشرها في العام التالي وعنوانها «جرائم ست بلا قتلة».
وبعد الحرب العالمية الثانية وبعد أن أصدر عدداً آخر من الروايات، التقى عام 1948 أثناء حفلة أقيمت لمنح جائزة روايات المغامرات، الكاتب الروائي «توماس نارسيجاك Thomas Narcejac» الذي حاز على تلك الجائزة من أجل رواية بعنوان: «الموت رحلة». وقد أتاح لهما اللقاء فرصة الحوار والتساؤل عن تطور الرواية، ولا سيما رواية المغامرات، وقد جمع بينهما الحرص على اجتناب ما أصاب روايات الألغاز والأسرار من تصلّب وجمود، وعلى عدم الوقوع في الوقت نفسه في مزالق «الرواية السوداء» التي كانت ذائعة في ذلك الحين. وهكذا شقا معاً طريقاً ثالثة، ونشرا في البداية، من قبيل التجربة، تحت اسم مستعار دراسة عنوانها «الظل والفريسة»، ثم نشرا باسميهما الصريحين مندمجين في اسم واحد هو «بوالو – نارسيجاك»، مجموعة من الروايات الهامة الشهيرة، من بينها: «تلك التي لم تكن أبداً» (عام 1952)، و«عرق بارد» (1954)، و«الذئبات» (عام 1955) و«الساحرات» (عام 1957). وهذه الرواية الأخيرة أبهرت المخرجين السينمائيين لما فيها من مواقف «تحبس الأنفاس»، على غرار ما نجد في روايات «هيتشكوك Hitchcock» و«كلوزو Clousot».
ثم تطور نتاجهما عبر السنين. وخلال السبعينات أخذت المواقف «التي تحبس الأنفاس» ترتكز إلى ظواهر اجتماعية بعد أن كانت تستند إلى مواقف تقترب مما هو خيالي مدهش. هذا بالإضافة إلى أن نتاجهما أخذ في التنوع، فكتبا قصصاً لأرسين لوبين، وقصصاً للشبيبة، ودراسات حول الرواية وسيرة ذاتية (باسم Tanden) أفصحا فيها عن أسرار مهنتهما. وعبر هذا التطور المديد لم يفقدا قط مكان السبق في حلبة الرواية البوليسية ورواية المغامرات وسواها.
3- جائزة «غونكور Goncourt» لعام 1988:
منحت جائزة «غونكور» الشهيرة للعام 1988 إلى الكاتب «إيريك أورسينا ERIC ORSENNA» على روايته «المعرض الاستعماري L’exposition coloniale» الذي نشرته دار «سوي Seuit». وقد تم منحه هذه الجائزة في الدورة السادسة من التصويت، فحصل على خمس أصوات (ضد أربعة صوتت لكتاب برنار – هنري ليفي عن «الأيام الأخيرة لشارل بودلير» من مطبوعات «غراسيه Grasset» وصوت واحد منح لفرانسوا أوليفييه رسو وكتابه «محطة فانسي»، من مطبوعات غراسيه كذلك).
وهكذا آثر أعضاء اللجنة المحكّمة الرواية على سواها، تلك الرواية التي احتلت مقام الصدارة بين منشورات أواخر العام. وصاحب الجائزة في الحادية والأربعين من العمر. وقد كان أستاذاً للاقتصاد حتى عام 1981، ثم عمل في مكتب «جان بيير كوتة وزير التعاون»، وبعد ذلك في قصر الإليزيه مستشاراً ثقافياً لرئيس الجمهورية خلال ثلاث سنوات. وهو من أبرز المختصين في العلاقات الاقتصادية الدولية. وروايته «المعرض الاستعماري» تفيد من خبرته في هذا الميدان. إنها القصة العجيبة لسوق المطاط في العالم خلال السنوات التي تمتد من عام 1890 إلى عام 1950. وفيها نجد كيف سرقت البلدان الغنية هذه الثروة التي تملكها البلدان الفقيرة المتخلفة. وكما يدل عليها اسمها، تمثل الرواية ضرباً آخر من الهذيان سيطر على العصر أيام الاستعمار: إنه التشوف إلى بناء مملكة وراء البحار وإدارتها، ثم تبرير ذلك كله، وأخيراً فقدانها.
على أن ما جاء في الرواية من حديث عن تاريخ المجتمعات ومن تطور العقول لم يكن أمراً مقصوداً لذاته. إنه يصدر عن قصة عائلية ينبثق فيها ويتفتح دوماً الحب والعطف والهوى والشوق إلى الحياة وروح المرح اللينة. وبطل الرواية يفيض كرماً وأصالة وهو يسوق ملحمة المطاط بين الحربين العالميتين، وسط جو عائلي تسوده محبة جدته وأبيه وأختيه، ومحبة أسرة زوجته محبة فيها من الروعة الشيء الكثير.
4- وفاة الشاعر والكاتب المسرحي اللبناني جورج شحادة:
في السابع عشر من كانون الثاني / يناير الماضي توفي الشاعر والكاتب المسرحي اللبناني الشهير في منزله بباريس بحي «مونبارناس».
ولقد تحدثت الصحف والمجلات الفرنسية عن تجربته الإبداعية الفريدة، ونتاجه الفذ. وأشارت فيما أشارت إلى أنه من الشهيرين الكبار القلائل الذين رفضوا الظهور على شاشة التلفزيون (بل قد يكون الوحيد في هذا المضمار).
ومما ذكرته الصحف عنه وعن مزاجه الشعري الخاص، أنه عندما دُعي إلى مدينة «كيبك Québec» الكندية عام 1987 بمناسبة القمة الثانية للمتكلمين بالفرنسية، قبل تلك الدعوة رغم خوفه من الأسفار، «لأن مؤتمر المتكلمين بالفرنسية هام للبنان»، غير أنه رفض أن يتحدث في ذلك المؤتمر لأن الصمت عنده هو «مصيف الألفاظ». وفي مناسبة أخرى وصف نفسه بأنه «فريسة الألفاظ». وقد طلب إليه أحد محرري جريدة «الموند» مرة أن يبعث إليه بنسخة من «تاريخ حياته»، ليقدمها إلى لجنة تحكيم إحدى الجوائز، فأجاب قائلاً: «إنني، كالشعوب السعيدة، لا تاريخ لي، بل لي تاريخ داخلي وبالتالي لا يُرى». وبعد أن ألحف عليه المحرر في الطلب أرسل إليه قصاصة صغيرة من الورق كتب عليها: «ولدت في الإسكندرية في الثاني من تشرين الثاني / نوفمبر 1907، من عائلة لبنانية قديمة أرثوذكسية ثقافتها فرنسية». ثم أضاف: «درست الحقوق ثم شغلت منذ عام 1930 مناصب إدارية في لبنان، .. ». ولم يذكر شيئاً من مؤلفاته، ولا سيما المسرحية، رغم أنها ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة، ومُثّلت في شتى أنحاء العالم.
ولئن كان جورج شحادة مُقِلاً في الشعر فلقد كان، على حد قول الروائي «نيقول سودري Saudray»، «الممثل الرئيس للمسرح السوريالي في صيغته الهادئة الناعمة»، كما كان في معظم مؤلفاته المسرحية منافحاً عن البيئة الطبيعية قبل الأيكولوجيين وأعداء القنابل الذرية.
ومن أبرز مسرحياته التي تتجلى فيها عبادته للفظ وفهمه للعالم ونواياه الطيبة، مسرحية «مهاجر بريسبان L’Emigré de Brisbane» التي نشرها عام 1965، والتي ظهرت على مسرح «الكوميديا الفرنسية» عام 1967.
وعلى الرغم من أنه لم يكن من أتباع أي مدرسة أدبية وأي مؤلف شهير، فإنه كان كما قال عنه الكاتب العراقي الكيبيكي «نعيم قطان»، وريث خليل جبران وإيليا أبي ماضي و«فييون Villon» و«رامبو Rimbaud» و«ملارميه Mallarmé».
5- لويس الرابع عشر في باحة نابليون:
اكتشف المارة الذين كانوا يجوزون كوّات متحف اللوفر صبيحة الثاني والعشرين من كانون الأول / ديسمبر الماضي، فارساً من الرصاص يمتطي جواداً من الرصاص أيضاً، وذلك قرب «الهرم» الذي أقامه حديثاً في ساحة اللوفر الفنان المعماري الياباني «باي PEI». ولم يكن ذلك الفارس سوى تمثال لويس الرابع عشر الذي صنعه النحات الإيطالي «برنين Bernin» الذي كان أشهر نحاتي عصره. وهكذا عاد الملك إلى المكان الذي اشتهر به: نعني ساحة «كاروسيل Carrousel» التي سميت بهذا الاسم بعد أعمال الفروسية التي أداها الملك الشاب على مشهد من رجال بلاطه.
غير أن هذا العمل الفني الذي بدأ الفنان الإيطالي بصنعه عام 1670 والذي قضى في إنجازه سبع سنوات وسلّمه لقصر فرساي عام 1685، عرف أثناء صنعه صنوفاً من المشكلات ونزاعاً محتدماً بين هذا الفنان الإيطالي الذي استقدمه الوزير «كولبير Colbert» عام 1664 لهذه الغاية، وبين الفنانين الفرنسيين. بل إن هذا التمثال، بعد إنجازه من قبل «برنين» خضع لتعديلات من قبل الفنان الفرنسي «جيراردون Girardon». وخضع التمثال فوق هذا وذاك لأعمال سطو أساءت إليه، فتحطمت بعض أجزائه بالمطرقة وطُلي بالدهان. مما أدلى إلى نقله إلى «الإسطبل الكبير» حيث خضع لإصلاحات دقيقة. وبقي هناك بعيداً عن الأنواء والأجواء. وتم نتيجة لذلك صنع مثيل له من الرصاص. وهذا التمثال الرصاصي المجهض هو الذي نصب حديثاً في مقابل قوس النصر أمام متحف اللوفر، المتحف الذي شارك في بنائه كبار الفنانين قديماً وحديثاً، من أمثال «ليسكو Lescot» و«لوفو Le Veau» و«بيرسييه Percier» و«لوفويل Lefuel» وأخيراً «باي PEI» باني الهرم، هرم «ساحة اللوفر» لا هرم «خوفو».
تمثال لويس الرابع عشر في ساحة متحف اللوفر
(ثانياً) عالم الفنون:
1- الرسام الشهير «غوغان Gauguin» وسره المكنون:
في «القصر الكبير»، يشاهد الزوار بين الثالث عشر من كانون الثاني / يناير والرابع والعشرين من نيسان / أبريل 1989، معرضاً يضم نيفاً ومائتين وخمسين عملاً له تم جلبها من اليابان والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي ومن بعض المجموعات الأوروبية الخاصة، بعضها لم يسبق له أن عرض في باريس. ويقام هذا المعرض في باريس بعد أن عرض في واشنطن وشيكاغو.
واللوحات المعروضة تتيح بوجه خاص اكتشاف الوجه الحقيقي للفنان «بول غوغان Gauguin»، وجه ابن شواطئ «بريتانيا Bretagne» الفرنسية وجزرها.
عُرف «غوغان» أول ما عُرف رساماً يتصيد رسم الناس أيام الأحد خلال العقد السبعين من القرن التاسع عشر (1870). ولم يتبع «غوغان» التعليم الكلاسيكي في «مدرسة الفنون الجميلة»، ومع ذلك نجح في أن يعرض إحدى لوحاته في «الصالون الرسمي» عام 1876. على أن شهرته بدأت بالذيوع عندما انضم إلى فريق الانطباعيين واكتسب صداقة «بيسارو Pissaro» و«دوغا Degas». وقد أنفق معظم ما جناه من بيع لوحاته على شراء لوحات منتقاة، حتى غدا جمّاعة شهيراً لأعمال الانطباعيين من أمثال: «بيسارو» و«دوغا» و«مانيه Manet» و«مونيه Monet» و«رينوار Renoir» و«سيزان Cezanne» وسواهم..
ومنذ عام 1879 أخذ «غوغان» يسهم في جميع معارض الانطباعيين. وكان رسمه إذ ذاك شديد القربى إلى رسوم «بيسارو»، كما تشهد على ذلك لوحته المسماة «أشجار التفاح في الدير قرب بونتواز» ولوحته المسماة «مساكن حول مزرعة» ولوحته «منظر الثلج عام 1883».
وقد خلّف «غوغان» عدداً هائلاً من صوره الذاتية، المرسومة أو المنحوتة أو المصورة.
وقد حرص طوال حياته على الأناقة والمظهر المتميز. فلبس اللباس البروتوني أثناء إقامته في «بريتانيا» (الصدرية المطرزة وقبقاب الخشب المنحوت). وعندما أبحر إلى «تاهيتي»، قدم إليها حاملاً شعره الطويل وفوقه قبعة عريضة كالتي كان يلبسها أبناء البلاد. وبعد عودته إلى باريس عام 1894، حين كان يختلف إلى حلقات الرمزيين، كان يسير الخيلاء يغطيه معطف عريض ويعتمر بقبعة من الاستراكان، وكأنه في ذلك من أبناء المجر.
ومع ذلك، فهذا الإنسان الفخور ظل فترة طويلة فناناً منبوذاً، يكاد لا يملك نفقات معيشته، كما ظل أسير حلمه وأسطورته حتى أواخر حياته.
وبين عام 1886 و1895 تقريباً عني «غوغان» «بفن السيراميك» وأنتج نيفاً ومائة قطعة شهيرة.
وفي عام 1887 سافر إلى «باناما» ومنها إلى جزر «المارتينيك». وفي عام 1888 سافر إلى «بون – آفين Pont Aven» ليقيم فيها مرة أخرى. وفي عام 1891 جرى بيع بالمزاد لأعماله الفنية في قاعة «دروو Drouot» الشهيرة، من أجل تمويل رحلة إلى «تاهيتي».
وبعد أن عاد إلى باريس عام 1893، قدم عدداً من المعارض في باريس وفي سواها. وفي عام 1897 توفيت ابنته «آلين» في «كوبنهاغن» وأصابته نوبة قلبية، وحاول الانتحار في الثلاثين من شهر ديسمبر. وبعد ذلك بعامين أصدر صحيفة «البسمة». وفي عام 1900 أصبح رئيس تحرير صحيفة «الزنابير». وهكذا تقلب بين الأجواء المختلفة والبلدان العديدة إلى أن توفي في الثامن من أيار / مايو 1903.
2- النحات السويسري «تينجلي Tinguely»، شكسبير الحديد:
يقوم مركز «بومبيدو» بعرض أعمال النحات السويسري «تينجلي» مطوّع الحديد، بين الثامن من كانون الأول / ديسمبر والسابع والعشرين من آذار / مارس 1989. ونشهد في هذا العرض أعمال النحات الكبرى، بعضها يعرض للمرة الأولى.
وعالم «تينجلي» عالم عجيب، إنه عالم الحديد والقضبان والصفائح. إنه عالم الآلات الضخمة الساخرة التي ينحتها من الحديد، تضاف إليها جماجم البقر، وبقايا الجرارات الزراعية، وقطع من القماش المتكلس.
لقد تعرّف «تينجلي» منذ السابعة عشرة من عمره على طائفة من النحاتين المحدثين الذين يستقون أعمالهم من حلبة الصناعة المعاصرة وجلبتها. ومنذ ذلك الحين وجد طريقه وطريقته في فن النحت. لقد غدا إعادة تشكيل نفايات الحديد وبقاياه مصدر وحي وغنى متزايد عنده. وأخذ يُدخل الحركة ليس فقط ليعيد خلق عمله إلى ما لا نهاية بل كتعبير قائم بذاته. وطفق يكمل ما ينتجه عن طريق «الآلات» بالصور الحية. وأصبح الرسم عنده مناسبة للتفكير في «إيجاد العلاقة بين الشكل ومظهره والحركات التي عليه أن يقوم بها» وهكذا نجد كل مقدمات عمل «تينجلي» في أفكاره الأولى وفي التماثيل الحديدية الأولى التي يكاد يلخصها ذلك العمل الفني الذي يعدّ أروع أعماله، نعني التمثال الذي سماه «تحية إلى نيويورك»، وهو عبارة عن آلة ضخمة تحطم نفسها بنفسها. وقد عرض عام 1960.
والذي يحمل على العجب والدهشة في أعمال «تينجلي» هو تلك القدرة العجيبة على توليد الإيحاءات والإيماءات والإشارات. فمن خلالها نجد الحياة والموت والسكون والحركة والوثبة. ومن خلالها تصدق قولة «فيكتور هوغو»: الشكل هو الأعماق التي تخرج إلى السطح.
تينجلي ينصب المشرحة 1945
ولد الفنان في مدينة «فريبور Fribourg» السويسرية في 22 أيار / مايو 1925 ثم استقر مع أسرته في مدينة «بال» منذ عام 1928. وبدأ منذ عام 1954 بإنتاج مجموعة من القطع المصنوعة بأسلاك الحديد مثل «طواحين الصلاة» ومجموعة من القطع الناتئة، أرضيتها سوداء وعليها أشكال هندسية معدنية بيضاء. كما قدم في ذلك العام مجموعة من المعارض الشخصية. وفي عام 1960 يسافر إلى نيويورك ويصنع أشهر تماثيله المعدنية كما سبق أن ذكرنا، نعني «تحية إلى نيويورك». وفي عام 1963 يُدخل «تينجلي» إلى أعماله الفكرة المستوحاة من «أسطورة سيزيف»، وبذلك يبدأ مرحلة جديدة من الإنتاج. وهكذا يستمر في تطوير إنتاجه عاماً بعد عام، ويبدع القطعة بعد القطعة، ويجد لنتاجه أسواقاً شرهة، ويعرض في مختلف مدن العالم (سان باولو، نيويورك، ستوكهولم، مونريال، أوزاكا، برن، زوريخ، الخ.. ). قبل أن ينتهي به المطاف إلى المعرض الذي نتحدث عنه، معرض «مركز بومبيدو» بباريس.
3- معرض أزياء للفنان الياباني «إيسي ميياكي Yssey Miyake»:
بين الخامس من تشرين الأول / أكتوبر والحادي والثلاثين من كانون الأول / ديسمبر 1988، أقيم في باريس، في «متحف الفنون التزيينية» معرض فريد للفنان الياباني ورفاقه «إيسي ميياكي». وقد جعل عنوان المعرض (كما جعل عنوان نتاجه كله) الكلمة اليابانية «آ أون AUN».
وهدف هذا المعرض تقديم جانب من الثقافة المعاصرة، جميل حقاً ومثير حقاً، هو جانب فن الأزياء، ذلك الفن الذي يرى فيه «ميياكي» وفرقته أقرب الميادين التزيينية لجوهر الإنسان.
ولقد عرض هؤلاء مبدعاتهم في طوكيو ونيويورك ولندن وسان فرانسيسكو ولوس أنجلوس قبل أن يلقوا عصا التسيار في باريس. وقد جرى خلال هذا المعرض عرض للأزياء قامت به عارضات محترفات، كما قُدمت أثناءه معارض للأزياء في حوانيت وفي معارض أخرى وفي الهواء الطلق.
لقد قدم مبدعو الأزياء اليابانيون دوماً أعمالاً خلاقة جذبت انتباه العالم كله منذ منتصف الثمانينات، واستُقبلوا استقبالاً حاراً في شتى عواصم العالم. ويمكن القول إن الفضل في ذلك يرجع بوجه خاص إلى «ميياكي» فهو الذي شق الطريق أمام هذه الحركة الفنية المبدعة في عالم الأزياء. وقد نال نتاجه ونتاج فريقه إعجاب الشباب في شتى ديار العالم، وشعروا بأن هذا الطراز من الأزياء ينتمي حقاً إلى عصرهم. ذلك أن «ميياكي» وصحبه لم يكتفوا بمجرد التعلق بالأزياء الشرقية والأقمشة التقليدية، بل صاغوا منها ومن سواها طرازاً فريداً يعكس روح العصر الحديث.
4- فيلم رائع وممثلة رائعة: فيلم «كاميل كلوديل Camille Claudel»:
فيلم «كاميل كلوديل» الذي أخرجه «برونو نويتن Bruno Nuytten» والذي بدأ عرضه في باريس في شهر كانون الأول / ديسمبر 1988، وراءه قصة صبر ومجالدة وهوى. بل وراءه مغامرة استمرت قرابة أربع سنوات، وميزانية بلغت 96 مليون فرنك فرنسي.
وهو يحكي الحياة المطموسة المغمورة لتلك الفتاة التي كان يظن خلال فترة طويلة أنها أخت «بول كلوديل» (الكاتب والشاعر الفرنسي الشهير الذي عاش من عام 1868 – 1955) وخليلة «أوغست رودان Rodin»، والتي قضت في المستشفى النفسي ثلاثين عاماً. بل إن قاموس «لاروس القرن العشرين» نفسه يتجاهلها، ومثله كثير من كتب تاريخ الأدب، بالرغم من أنها كانت «نحاتة» ذات شأن.
وأروع ما في الفيلم هو أن الممثلة التي تمثل شخصية تلك الفتاة هي الممثلة الشهيرة ذات الأصل الجزائري «إيزابيل عجاني Izabelle Adjani» التي لمع نجمها في السنوات العشر الأخيرة. ولقد وجدت هذه الممثلة نفسها وذاتها في تلك الفتاة، ومن هنا فهي لا تمثل دوراً بل تتقمص تلك الفتاة وكأنها هي. وهذا ما عبّرت عنه «عجاني» في مناسبات عديدة وفي تصريحات صحفية كثيرة. ومما تقوله متحدثة عن تلك الفتاة التي تقمصت شخصيتها: «إن الذي يشجيني في هذه الفتاة أكثر من أي شيء آخر هو أنها لم تُعن إلا بعالمها الداخلي، وأنها صنعت ما سماه أخوها « بالنحت الباطني». وهذه الحياة الداخلية الحميمة تولّد سوء التفاهم الذي يولّد بدوره ما قامت به من أعمال والذي يجعل منها كائناً ليس كغيره. وأنا بدوري أعاني هذه التجربة وأعيشها. ففي الفترة التي تفصل بين فيلمين أقوم بالتمثيل فيهما، وبين دورين أضطلع بهما، آوي إلى حياتي الداخلية الحميمة وأجد فيها ضرباً من الكتلة الحية تتحرك وتهتز وتربو قوةً وعزيمة، بالرغم من أنها لا تقطن في مكان وليس لها حيز في الوجود».
وقد اعتبرت الصحافة الفرنسية ظهور هذا الفيلم حدثاً هاماً، وتوفر النقاد على الحديث عنه وتحليله. كما كان ظهوره مناسبة للحديث عن «إيزابيل عجاني» بشكل خاص وتاريخها السينمائي وأدائها الرائع في هذا الفيلم.
ولا غرابة، فقبل أن تبدأ «عجاني» تمثيل الفيلم، أرادت أن تعرف كل شيء عن النحت في القرن التاسع عشر. ولهذه الغاية عملت فترة مع «جان فرانسوا دوفو Jean Francois Duffaus» الأستاذ بمدرسة الفنون الجميلة، واستمعت إلى دروسه ومحاضراته، وسألت وتساءلت. وبدهي أن مما زاد في نجاحها في هذا الفيلم، إخراجه من قبل علم من أعلام التصوير هو «برونو نويتين».
(ثالثاً) مؤلفات حديثة:
1- «بيير دروان» والمستقبل الآخر:
في خاتمة عام 1988 صدر عن دار «فايار Fayard» بباريس كتاب للمفكر الفرنسي «بيير دروان Pierre Drouin» عنوانه: «المستقبل الآخر». وهو كما يدل عليه اسمه تحليل للواقع العالمي الحاضر من أجل بناء مستقبل يباينه، مستقبل أفضل.
ذلك أن الناس في عصرنا، كما قيل ويقال، لا يدرون إلى أين يمضون، ولكنهم ماضون مع ذلك إلى حيث لا يدرون. وعصرنا هذا، كما قيل أيضاً كرة بعد كرة، هو عصر التقدم السريع والرائع، وهو في الوقت نفسه عصر الاضطراب والقلق. ومن هنا يحاول مؤلف هذا الكتاب أن يبحث في أسباب هذا الضياع. ومن أجل هذا يستنطق الحاضر وكأنه رسّام يرسم خريطته، مشيراً إلى عقبات الطريق ومتاهاته، محاولاً أن يتبين الطريق الذي يقود إلى «المستقبل الآخر».
وهكذا يجوب البقاع، ويرينا كيف تأتلف فيها ائتلافاً عجيباً الآمال الجسام والمخاطر الكبار. إنه يجوب بقاع عالم الذرّة مبيناً وعوده ومخاطره. ويجوب عالم الإلكترون، قوام «مملكة الآلة» وعالم المعجزات، والمكان الذي يصبح فيه الذكاء الذي هو صفة الإنسان الأولى أقل ارتباطاً بالإنسان وألصق بالآلة. ويكرس الكاتب معظم جولته وجلّ نقده لميدان الأحياء وعلم الأحياء: ذلك أننا لسنا ههنا (في عالم البحوث البيولوجية وبحوث علم النسل) أمام مجرد تقنية متطورة، وإنما نحن أمام مغامرة تستهدف التحكم في الحياة نفسها ومعالجتها، يلتقي فيها ما هو مطبوع وما هو مصنوع، وتتفاعل فيها طبيعة الإنسان الموروثة مع آثار الثقافة المكتسبة. وانشطار الجزيء البيولوجي يقلقه دون شك أكثر من انشطار الذرة، ذلك أن الأول يؤثر في الحياة نفسها بينما الثاني مجرد تهديد للحياة.
ويتريث الكاتب أيضاً عند ميدان الآلة المؤتمتة ويدخل ديار اللامتناهي في الصغر Micro واللامتناهي في الكبر Macro، وما نلفيه في هذه الديار من سيطرة نزعة الإنتاج لمجرد الإنتاج ومن بورقراطية، وما يسود أرجاءها من قلق وشكوك. وينتهي من وراء هذا التحليل للواقع إلى القول بأن الجواب على ما نجده في عالمنا المعاصر من قلق وشك وسوى ذلك، لا يكون باليأس أو الانطواء على الذات، كما لا يكون بالثقة الزائفة والانخداع بما نجده في عالمنا من إنجازات كبرى.
والجواب عنده سبيله أن نسأل عالمنا ونستجوبه كيفما نفهمه فهماً أفضل، وأن نزين حظوظه ووعوده كما نزين مخاطره، كيما نمضي فيه مطمئنين، وأن نفتح الآفاق على عالم آخر مقبول. وقد يكون الكشف عن هذه المهمات أهون من الاضطلاع بها. ولكن كاتب الكتاب واجه هذا التحدي بجرأة، ودعا في كتابه إلى إعادة بناء السدود التي ترد الطوفان: سدود القيم والأخلاق وحقوق الإنسان، وجعل من نفسه حامياً للحمى وحارساً للعقبات، من أجل توليد «المستقبل الآخر».
2- كتاب هام عن الفيلسوف «جورج باتاي Georges Bataille»:
في بداية عام 1989 صدر عن دار «فوربي Fourbis» بباريس كتاب هام عنوانه «حول جورج باتاي» بقلم «ميشيل ليري Michel Leiris». وأهم ما في الكتاب أنه يحدثنا، من خلال كلامه حول «باتاي» الفيلسوف الفرنسي الذي ولد عام 1887، عن فترة غنية بالفكر والفلسفة، فترة ما بين الحربين العالميتين. ويمثّل هذا الفيلسوف النموذج المعارض لنموذج سارتر ومدرسته، نعني النموذج الذي يدعو إلى تأكيد فكرة الالتزام في الفكر والأدب، وإلى التوقف عند الدور الذي ينبغي أن يضطلعوا به في بناء مجتمعهم. ففي مقابل ذلك النموذج السارتري، يرينا كاتب الكتاب نموذجاً آخر هو نموذج الفكر المتمرد، الذي يمثله جورج «باتاي» الذي ظهر قبل سارتر بعدد من السنوات.
لقد كان سارتر يمثل بعد الحرب العالمية الثانية المفكرين الذين يفكرون ويكتبون ويعبرون عن أنفسهم من أجل بناء «مشروع» مجتمع يَوَدّون التعجيل في تحقيقه. فهم أصحاب قضية ورسالة، وهم بالتالي ينظرون إلى كل الأمور من منظار الغد الذي يتغنون به.
غير أن ثمة مفكرين لا يملكون مشروعاً أو عقيدة، غير أنهم لا يترددون في النزول كل إلى ساحة المعركة أو اعتلاء منبر الخطابة. وهؤلاء قد اختاروا الثورة «لا لما تحمله للمستقبل من آمال فحسب، بل لما تقدمه للحياة الحاضرة أولاً». إنهم يعملون مدفوعين بروح التمرد قبل أن يكونوا مدفوعين بإرادة الالتزام. إنهم المفكرون الذين يسميهم كاتب الكتاب «أصحاب الشجون في مقابل أولئك الملتزمين الذين يطلق عليهم لقب «أصحاب الشؤون». وخير من يمثل هذا الفريق من المفكرين الفيلسوف «جورج باتاي» الذي اتخذ منه الكاتب موضوعاً لكتابه».
وهكذا يحدثنا الكاتب، من خلال «جورج باتاي» عن بعض المعارك الفكرية التي احتدمت ما بين الحربين العالميتين. ومن أجل ذلك يلاحق خط حياة «باتاي» الفلسفية، مبيناً الأثر الكبير الذي خلّفه في فكره واكتشافه للفيلسوف «هيجل» وأفكاره، ولا سيما من خلال الشروح التي قدمها عنه في تلك الفترة «ألكسندر كوجيف Alexandre Kojeve»، عبر المحاضرات التي كان يلقيها في «المدرسة التطبيقية للدراسات العليا»، والتي كان يحضرها، بالإضافة إلى «باتاي» مفكرون وكتّاب كبار أمثال «لاكان Lacan» و«ميرلوبونتي Merleau – Ponty» و«بروتون Breton» و«آرون Aron».
3- الرواية الأولى للكاتب الياباني «كاواباتا Kawabata»، حامل جائزة نوبل في الآداب:
صدرت عن دار «آلبان ميشيل Albin Michel» بباريس في نهاية عام 1988 ترجمة لرواية «أزاكوزا Asakusa»، وهي أول رواية بارزة كتبها الروائي الياباني الشهير «كاواباتا Kawabata» حامل جائزة نوبل، يوم كان له من العمر ثلاثون ربيعاً. وقد أراد في هذه الرواية أن يصف ما خلّفه الزلزال الكبير الذي هدم طوكيو عام 1923 ولا سيما الحي التاريخي فيها، حي «آزاكوزا» (الذي استمد اسم الرواية منه). ويحدثنا فيها عن آثار هذا الزلزال المخرب بعد ست سنوات من حدوثه، وما خلفه من خرائب في شوارعها وفي النفوس وفي القلوب. ويحاول من خلال هذا الحديث أن يصوغ رواية تبتعد عن الأسلوب الروائي المألوف وتمزق تسلسل الأحداث وتترك أشخاص الرواية تائهين هائمين.
وفيها نشهد كيف يمتاح الكاتب قصته من أرض مضطربة واسعة ولكنها محدودة: فيها الشوارع والأزقة والعرصات الخاوية والجسور والنهر. ومن هذه المتاهة،
لا يكاد القارئ يجد له مخرجاً. إنها سور مغلقة لا تكشف لنا إلا عن آثار مختلطة ومصائر ممزقة.
ويمضي المؤلف عبر تلك الأرض الموبوءة، باحثاً عن «عصابة أصحاب الأحزمة الحمر»، وكأنه يحرر تقريراً عن زمرة من الصعاليك والمحتالين. وخلال البحث عن هذه العصابة يضل الطريق ويتعلق بأشباح أفّاقة، إلى أن يَلقى بطلته، بطلة الرواية، وهي فتاة رائعة، قصيرة الشعر، كانت تعزف على البيانو، وكأنها السر الذي قاده إليه مصيره عبر تلك المسيرة الضالة الشاقة. إنها جزء من المثل الأعلى، الجزء الوحيد الراسخ الذي بقي وسط هذا العالم المائج.
وهكذا، عبر الآلام والأهواء والمغامرات، يمضي بنا المؤلف في عالم «آزاكوزا» السري المكتم، ويحدثنا من خلاله عن عالم مضطرب يوشك أن ينهار، مستهدفاً من وراء هذا كله تحقيق كلمة له شهيرة «ليس هنالك من حد للأقاصيص التي تروي حكاية أزمة الجنس البشري».
4- معجم حي عن رثاء الكتّاب أنفسهم قبل وفاتهم:
ظهر عن دار «فرانسوا بوران Francois Bourin» بباريس معجم طريف في حوالي خمسمائة صفحة، وضعه «جيروم غارسان Gerome Garcan» سجّل فيه المرثيات التي كتبها مائتان وخمسون كاتباً بأقلامهم لتكون بمثابة «الرثاء» الذي يرثون به أنفسهم لو تأتى لهم ذلك بعد وفاتهم.
ومما يستوقفنا ونحن نتصفح هذه المرثيات عبر هذا المعجم الغريب أن كاتباً مثل «جان بيير فاي Jean – Pierre Faye» كتب في تمجيد نفسه بعد وفاته اثنتي عشرة صفحة لتنقش على رخام قبره. ومما يستوقفنا كذلك بعض عبارات الرثاء القصيرة التي خطها بعض الكتاب: فالكاتبة «فرانسواز ساغان Francoise Sagan»، تكتب العبارة التالية: «لم يكن غيابها بعد حياة ممتعة ونتاج ممتع ولكنه متسرع، إلا فضيحة لها».
والكاتب «أنجيلو رينالدي Angelo Rinaldi» يكتب: «لقد بقي حبيس بيته، وجدّ واجتهد.. ولا ينسى شيئاً مما لم يقدر له أن يحياه». ويبدو أن طول المرثية، يتناسب عكساً مع عبقرية الكاتب وشأنه، فيما عدا استثناءات قليلة. ولهذا نجد الكاتبة «مارغريت دورا Marguerite Duras» ترفض أن تكتب شيئاً لهذه الموسوعة. أما «جان كو Jean Cau» فيرى نفسه في الأدب «أشبه بالحصا في العدس». بل إن «جان إدرن هالييه Jean – Edern Hallier» يكتب «إن هالييه إنسان لم يوجد». ويضيف إلى ذلك، مؤكداً صدق عقيدته: «إنني لم ألقه قط».
وهكذا نمضي في هذا المعجم الممتع، في أجواء الجد والسخرية والحزن في آن واحد، وكأن وصية «مونترلان Montherlan» قد تحققت: «على الكاتب أن يكتب كما لو أنه مات».
فرانسواز ساجان ج. كريستيفا
5- «غرباء عن أنفسنا» للكاتبة «جوليا كريستيفا Julia Kristeva»:
عن دار «فايار Fayard» الباريسية صدر في أواخر عام 1988 مؤلف للكاتبة «جوليا كريستيفا» – التي ما فتئت تتحدث عن «الغريب» في كتبها – عنوانه «غرباء عن أنفسنا»، وهو المؤلف الثالث عشر لها. وفيه تساءلت مرة أخرى عن العجيب والغريب وجوهرهما. تساءلت: من هو هذا الآخر الذي يخيفنا ويجذبنا لأنه يحيا أيضاً في داخلنا؟ وما مصدر تلك الغرابة المقلقة التي يثيرها فينا ذلك الذي ينبثق من قلب المجتمع ليكون دخيلاً على حياتنا؟
وللإجابة على هذه التساؤلات، تقوم بدراسات وأبحاث موثقة وعميقة للتعرف على تعريفات الغريب وتحديد وضعه عبر تاريخ الغرب، بل عبر التاريخ الإنساني.
وتنتهي الكاتبة بعد تحليل تاريخي فلسفي عميق وطويل إلى فكرة رائدة يمكن تلخيصها على النحو التالي: «أنّى لنا أن نقْبل الآخر إذا لم نشعر أولاً أننا غرباء عن أنفسنا»؟.