رسالة باريس

الثقافة العالمية – العدد /45/ – مارس 1989
دورية تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت
رسالة باريس(1)
وتبقى باريس هي باريس. تبقى عالماً متكاملاً فيه أعمق التقى متمثلاً في نوتردام وأعمق صرخات اللهو والفن في مونماتر وفيه رهبان العلم في الجامعات كما أن فيه الدنيا الكبرى لرجال الأعمال في كل زاوية وفيه… المعدة الكبرى للملايين في الهال…
الذين اتخذوا ما تحت الجسور فندقهم الدائم ومخدتهم كمية من المخدر يحلمون بكل شئ. و«الكلوشار» الذين لا يفكرون بالجيبية بقدر ما يفكرون بقطعة الخبز مع كأس من الابسنت هم التتمة الطبيعية لسكان القصور الفخمة في الحي السادس عشر أو رواد فندق سان جورج والمليون ونصف المليون من الزوار الذين يتحركون يومياً بين المطارات ويتدفقون من محطات السكك الحديدية ومن كوى البواخر راكضين إلى باريس، لكنك لن تشهد منهم سوى الزحام الشديد والمعارض وسيل السيارات. سر باريس يهرب منهم حتى ولو شهدوا في آخر الليل ما تقذفه المدينة خارج جدرانها من عهر وجريمة… وتهجد نساك!
الثورة الفرنسية:
إن هذا العام 1989 هو عام الاحتفال بمرور مائتي سنة على الثورة الفرنسية..
الباريسيون الفخورون بثورتهم وثوريتهم المأسوية يسترجعون خاصة صورة الهجوم على الباستيل وإعلان الحرية والمساواة وأطياف روبسبير ودانتون وميرابو والآخرين… حتى شارلوت كروداي. ولكن ثم مقابل ذلك آلام تسحق الفرنسيين سحقاً. وتطل من عيونهم. بعد مائتي سنة على إعلان حقوق الإنسان يجدون أن الهموم هي الهموم.. وفي استفتاء جرى على
3 آلاف فرنسي كانت النتيجة أن هناك ثلاثة فرنسيين من كل أربعة يشكون. ومع ذلك فما من أحد يعتقد أن ثورة فرنسية أخرى قريبة أو أن فرنسا الجدية السمراء تفكر في أكثر من إحياء ذكرى الثورة للتفاخر والتذكر. ولهذا فإن رسالة باريس هذه المرة لن تكون ثقافية فقط ولكنها ستمزج الثقافة بالحياة العامة للناس وسوف تطوف في جولة بالوسائل الشعبية وعلى الأقدام لترى هموم الشعب الفرنسي ومباهجه المباشرة. إنها محاولة اتصال به بعد مائتي سنة من الثورة الفرنسية. لن نمر على «الخبازين» بالطبع ولا على القصور الملكية التي تحولت متاحف ولن نرى حتى شبح المقصلة إلا توهماً وظناً. ولكنها جولة حرة عادية تلم ببعض المعالم العادية. أهي متعبة؟ قد تكون. ولكن المدينة الأسطورية تستحق أن نرى بعض حياتها عن قرب…
سينما ومسرح:
لا نتوقف عند دور السينما حيث يعرض فلم «ضربات شارلوت الأربعمائة» والذي يصنفه بعض النقاد بدرجة ممتاز ولا ينزل به إلى ما دون درجة جيد، ولكن نذهب رأساً إلى المسرح. ونفاجأ – وهي ليست مفاجأة – بأن شكسبير ما يزال هناك. لم يستهلك بعد. وأن هملت تعرض في إخراج جديد على مسرح أرماندين. ولكنك دون شك تفضل مسرحية جديدة. إنها رأس من ذهب التي تعرض في مسرح الأوديون. كتبها بول كلوديل. وتحكي عن رجل في العشرين يحلم بشكسبير ويعبد رامبو. كتب مرة واحدة هذه الدرامة الرمزية، كما لو كان المرء يلقي بنفسه فجأة في الماء. إنها صرخة. نداء سلوك يستمر أربع ساعات من الضجة والرعب مع سيل من الصور وبحر من الغنائية وإذا كان فيها لحظات من السمو العلوي فإن فيها أيضاً من القسوة الحادة ما لا تحتمله القلوب الحساسة، وعليك أن تقبل المسرحية كلها أو ترفضها كلها فإن كلوديل لا يمكن أن ينقسم! وفيه دوماً الأسوأ مع الأحسن والأحسن مع الأسوأ في أي وقت معاً. الفنان أوريليان روكوان الذي فهم هذه الحقيقة يبدع مع حماسته الشابة في أداء هذا التاريخ الدامي لرجل حر عنيد يذهب لغزو العالم ويموت على سفوح القوفاز، ويؤخذ صاحباه بمغامرته فيكملون الطريق. قد تستطيع أن تجد أمسية أكثر ملاءمة وراحة ولكنك بالتأكيد لن تجد أكثر إثارة من هذه الأمسية، إن كنت من هواة الشعر الخالص!
فنون تشكيلية:
وتدخل مشرباً متواضعاً جداً للاستراحة فتجد أن زبائنه من الفنانين الفاشلين. كل منهم يبحث بالإبرة عن فرصة للنجاح. يعرضون عليك النجاح ليدفعوا ثمن مشروباتهم ويحلمون أن يأتي ذلك اليوم الذي تباع هذه الرسوم بألوف الأضعاف. تجارة اللوحات الفنية صار لها سوقها ومخدوعوها والسماسرة. أعطني اليوم عشرة فرنكات ثمن نبيذي وخذ أنت غداً المائة ألف أو المليون فرنك! غوغان، الرسام الفرنسي المهووس هو بعض أحلام اليقظة للمتسكعين على الأرصفة وفي الحانات. يقول لك أحدهم وهو مخمور: لوحته شلال نياغارا بيعت سنة 1903 بسبعة فرنكات لطبيب في البحرية وقد عرضت عليه بالمقلوب فظهر أن الثلج فيها ماء هادر والصخور البيضاء مهاو للماء.. وهي في الواقع «بروتونيه تحت الثلج»! ومات غوغان في جزر الماركيز وألقيت لوحاته مع القمامة. وكان ملعون الملعونين. واليوم يجاهد متحف الغران باليه ويدفع الملايين بعد الملايين من الفرنكات لجمع 250 لوحة من لوحاته. اعترفوا لهذا الرجل بأنه أعظم مستخدمي الألوان في كل العصور الفنية…
بعد الحديث ندرك أن قصة غوغان هذه مروية في الكتاب المعروض في واجهة المكتبة المجاورة والذي نشرته منذ أشهر فرانسواز كاشان، بعنوان غوغان، وهي مديرة متحف دورساي!
مشهد من مسرحية رأس من ذهب جوجان 1891
نشر:
ويتحدثون في الشارع الباريسي عن موجة الكتب الجديدة التي تدفقت مع السنة الجديدة. في العلوم والتاريخ (بمناسبة ذكرى الثورة) وفي الفلك والرياضيات والهندسة. لكن لا شئ يضاهي تدفق الروايات التي تطبع بكل مكان وهي تطمح إلى الفوز بجائزة من الجوائز الأدبية التي ترفع مبيعاتها إلى الأوج. ومن القصص التي تدور في دور النشر قصة بيع سلسلة «نجاح الكتاب» التي تصدرها «مطبوعات السين» إلى مكتبة ودار النشر المعروفة «هاشيت» التي أعلنت استعدادها لرفع رأس مال السلسلة 49% للناشرين الذين يرغبون في المساهمة بتمويلها.. كانت السلسلة تبيع كتبها بسعر أقل من السعر المعتاد 30% ولكن هاشيت لن تحتفظ إلا بحوالي 10% من المطبوعات التي سوف تصفي حساباتها مطبوعات السين. أما المراكز الستمائة التي تبيع هذه المطبوعات فسوف تبقى كما هي وتتحمل هاشيت نفقاتها وعمالها وتعويضاتها!
وندع قصص دور النشر؛ فهي أسرار لا تنتهي ودهاليز عتمة. إنهم رجال أعمال يتاجرون بالثقافة. ونسأل عن الكتب نفسها. منحت جائزة «فمينا» لرواية الزرافة التي كتبها الكسندر غاردين. وجائزة «غونكور» لرواية المعرض الاستعماري التي كتبها إيريك أورسينا وجائزة الأكاديمية الفرنسية لرواية فرانسوا أوليفيية روسو: محطة فانسما التي تحكي عن برلين قبيل حرب 1914 وعن النهضة الفنية الهائلة فيها يومذاك. أما جائزة «ما بين المتحالفين» (انتراكييه) فنالها برنار هنري ليفي عن رواية الأيام الأخيرة ليودلير…
وتعكس صورة المبيعات هذا الفوز للروايات. فأول الكتب الأكثر مبيعاً هو رواية المعرض الاستعماري للأسبوع الخامس عشر ثم الزرافة للأسبوع السادس عشر ثم الأيام الأخيرة لبودلير للأسبوع الرابع عشر.
أما في الدراسات فالكتاب الأول في المبيع هو مناظر الريف بقلم فيليب اسكندر ونصوص للمسرح الذي كتبه بيير ديسبروغ. ومن الدراسات الرائجة هذا الشهر والجديدة الصدور كتاب مفتوح لجيل ميتيران الذي كتبه تييري بفيتسر والرغبة في الشرق وهي قصة حياة إيزابيل ايبرهاردت التي غامرت أواخر القرن الماضي في صحاري الجزائر والمغرب وأسلمت وقرأت القرآن وأصبحت صوفية. وتنام اليوم في مثواها بمقابر المسلمين عند عين الصفرا. أما أحدث الروايات التي راجت منذ صدرت أواسط فبراير فهي أسطورة الجسد التي تحكي قصة الأركان الأربعة الملتهبة فيه: الدم، القلب، الجنس، الدماغ! وأحدث الدراسات كتاب النبالة الفرنسية من تأليف كريستيان دوباليتا. وكتاب المستشرق جاك بيرك: ذكريات خنفين الذي صدر أوائل فبراير وهو أشبه بالسيرة الذاتية التي تلخص حياة هذا الرجل التي قامت على أمرين: علم اجتماع الإسلام، وعلم اجتماع المغرب ولكنها تميزت بأسلوبها الخاص في الفكر والتعبير.
شعر – موسيقى:
أما الشعر؟ فقد قال الشاعر كلود ميشيل كلوني: «نحن البلد الوحيد الذي لا يجد فيه ديوان شعر أي أمل في أن يكون الكتاب الأكثر مبيعاً..» ومع ذلك فإن سلسلة (أورفيه) التي يشرف عليها هذا الشاعر تصدر الآن سلسلة دواوين آخرها وحدة ملتهبة من شعر ساندوبينا وتحت نجم الكلب لـ: د. هـ: لورانس و12 قصيدة لفريدريك هولدرلن. وكلها مزينة بالرسوم!
وندع حديث الكتب إلى الموسيقى لنجد أن مجموعة باريس الاركسترالية بقيادة بروسترو بوفيتش تقدم في مسرح الأوبرا قطعاً من هايدن، وبوكشريني وتشايكوفسكي لمصلحة أرمينيا المنكوبة والهزة الأرضية التي ذهبت بالآلاف المؤلفة هناك. مشاعر الفنانين اهتزت مع الحدث، وهذه إحدى المظاهر. لكن قاعات أخرى تقدم مؤلفين موسيقيين آخرين. فإن كنت من هواة رخمانينوف ودوفوراك فإن الأوركسترا الفيلهارمونية الجديدة تقدمهما في مسرح الشانزيليزيه. وثم قاعات أخرى لتختار منها سماع الأرغن أو الباليه أو الموسيقى الخالصة، أو انتظر أياماً فقط لتسمع شوستاكوفيتش الذي يسمونه الآن موسيقار 1989 فإن عدداً من الاحتفالات خارج نطاق الأعياد السنوية، سوف تسمح لك بالتمتع الطيب بعظمة هذا الموسيقي السوفياتي وبضعفه معاً، بعد وفاته سنة 1975. وهناك فرص أخرى لسمفونيات وأعمال أخرى مما يسمونه بموسيقى الغرفة سوف تتوالى. تفتح الباب الأوركسترا الفيلهارمونية بقيادة ماريك جونويسكي فتقدم السيمفونية الرابعة عشرة (ما قبل الأخيرة في سلسلة شوستاكوفيتش). إنها بناء موسيقي كامل يستمر ساعة من الزمن كتبه سنة 1969 بوحي من قصائد ريلكه وأبولونيير وغارسيا لوركا. وينتظر أن تثير هذه القاعات التي تقدم أعمال هذا الموسيقار الضخم الكثير من الجدل حوله بعد أن احتمل الكثير من استخفاف بلاده به. فهل تعيد له البرويسترويكا – ولأمثاله وهم أحياء وكثيرون – ما يستحقون من التكريم؟
د. هـ. لورنس هايدن
الشاكون من الجوع:
ونهبط من سماء الموسيقا والشعر والأدب إلى أرض الواقع، لنصطدم بحجره وترابه. تلك الأجواء أضحت كأنها من هموم المجتمع المخملي لدى الكثيرين. هي لون من ألوان باريس القزحية. وثم اللون الأسود في قاع المدينة، وإنا لنراه لو نزلنا في محطة من محطات المترو لنرى المتراكضين إلى أين يذهبون تحت الأرض فنفاجأ بما يسمونه الآن «بالفقر الجديد». إنهم مليون ونصف مليون من المعدمين الذين يعيشون عيشة التشرد لأنهم لا يجدون عملاً. كالغول تفترسهم البطالة وترغمهم على أن يعيشوا على هامش المجتمع، بعيداً عن دنيا الرواية والشعر والموسيقى، في قاع المدينة وعلى… كأس نبيذ سيئ! لا يغادر محطة بيفال أو نويي أو أورلئان أو غيرها فإنه بدون مال ولا مسكن… ولا حقيبة. كيس من البلاستيك بجانبه يحوي بقايا كنترة أو حذاء مهترئاً وبضعة صحف يتخذها غطاء في الليل!!
بعضهم كان بحاراً جاب البحار السبعة. وبعض كان بائع خضار أو عامل سيرك
أو مستخدماً في مصعد أو أجير إسكافي. وبعضهم لا يعرف ما هو ولا ما كان ولكنه يعرف فقط أنه لا شئ! كائن حي. بلى! ولكنه ينام دون نعاس وتمر أمامه قطارات المترو دون أن ينتبه لها. حتى الجوع لم يعد يزعجه!..
لهؤلاء أنشئ مشروع الدخل الأدنى للشاكين من الجوع. الرئيس الفرنسي في كتابه إلى جميع الفرنسيين قال: «يجب أن توفر وسيلة عيش أو بالأحرى وسيلة بقاء». لهؤلاء الذين لا يملكون شيئاً ولا يستطيعون شيئاً والذين هم لا شئ! هذا هو سر المشروع.
ولكن هل يفيد؟ سكان محطات المترو وما تحت الجسور يعرفون أن المعونة لا يمكن أن تصلهم لأنهم بكل بساطة دون عناوين تهدي إليهم!! 200 فرنك في الشهر، و3 آلاف للزوجين (دوماً لمن تجاوز الخامسة والعشرين) وللأجانب الذين أمضوا في فرنسا أكثر من ثلاث سنوات. كل هذا لا يهمهم. لقد فضلوا حياة التشرد والعيش بسلام!
مقابل هؤلاء تخطر في البال والقطار يغادر بك المحطة، فضيحة بيتشيني التي يعكف الكثيرون، في المترو، على قراءة مسلسل تفاصيلها في صحف الصباح والمساء. ملايين الفرنكات تتحرك بين الجيوب بالاختلاس والأسهم والتآمر والتزوير. وترتعد حين تقرأ اسماً عربياً يرد بين الأسماء الفرنسية والأمريكية. إنه سمير طرابلسي اللبناني. والمال يفسد ويقتل ويثير العفن! وتسمع هرماً يقول لجاره: كيف تحولت 15 ألف سهم إلى خمسين ألفاً بين 15 و17 نوفمبر وإلى 120 ألفاً يوم 16 منه؟ إنها ألغاز ليست ثقافية أبداً… وتمر بها باريس كغيرها من الألغاز ويبقى وجهها الثقافي على إشراقه. معدتها تبتلع كل شئ. وتسأل نفسك: ما هي هموم الباريسي إذن؟ ويأتيك الجواب بسرعة في استفتاء نشرته إحدى المجلات سألت فيه ثلاثة آلاف شخص من الطبقات كافة: ما هي أكثر الكلمات استخداماً لدى الفرنسي؟ وكان الجواب كالتالي:
الصحة 42.9% الأولاد 19.7%
العمل 36% الصداقة 18.5%
الحب 33.4% السعادة 17%
الأسرة 30.8% الراحة 12.9%
المال 25.2% الحرية 8.8%
إنه استفتاء في أعمق المشاعر الفرنسية اليوم يختلط فيه العامل الثقافي بالاقتصادي والاجتماعي.
أما القيم فللرجال سلم وللنساء فيها سلم آخر!
الرجال عندهم العمل أولاً ثم المال ثم الراحة ثم العطلات ثم الحياة ثم السلام.
والنساء عندهن الحب أولاً ثم الأسرة ثم الأولاد ثم الصداقة ثم السعادة ثم البيت..
كل هذا ليس أكثر من جولة عين سريعة في جانب من ذلك العالم الذي يسمى باريس!!