رسالة باريس

الثقافة العالمية – العدد /44/ – يناير 1989

رسالة باريس

فصل الخريف في باريس فصل معاودة النشاط في كل شيء: في الحياة المدرسية، والحياة السياسية، والحياة الاقتصادية، والحياة الثقافية. وفي هذه الأخيرة تكثر المناسبات على اختلاف أنواعها، ولا سيما في الحياة الفنية حيث تشهد باريس توالد الكثير من المعارض التي يصعب اللحاق بها. أما في مجال الإنتاج الأدبي والفكري، فيتّسم الخريف أولاً بنتاج روائي قصصي غزير يتزاحم من أجل نيل الجوائز الأدبية التي يعلن عنها في هذه الآونة. ويتسم ثانياً، هذا العام، بتكاثر الكتب التي تتحدث عن الثورة الفرنسية (تمهيداً للاحتفال بمرور قرنين عليها في الرابع عشر من تموز / يوليو من العام القادم)، حتى لقد بلغ ما تقذف به المطبعة من الكتب حول هذه الثورة ثلاثة كتب يومياً في المتوسط!
(أولاً) الأحداث الثقافية العامة:
1- حصول «موريس آليه» على جائزة نوبل في الاقتصاد:
يستوقفنا أول ما يستوقفنا بين هذه الأحداث حصول عالم الاقتصاد الفرنسي «موريس آليه Maurice Allais» على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1988، وذلك تقديراً لأعماله الرائدة حول «نظرية الأسواق والاستخدام الفعّال للموارد».
وصاحب الجائزة قدم نتاجاً علمياً ضخماً، من أشهره:
– مؤلفه الكبير حول «البحث عن علم اقتصادي» الذي ظهر عام 1943.
– كتابه عن «الاقتصاد والفائدة» الذي ظهر بعد الحرب الثانية.
– وأخيراً كتابه الأخير الذي ظهر عام 1988 حول «النظرية العامة للفائض».
وفي هذه الكتب وسواها قدم أفكاراً جديدة وفتح في مجال الاقتصاد دروباً بكراً. وقد ظهر ذلك لديه بوجه خاص منذ أوائل الخمسينات، حين عقد حلقة هامة طرح خلالها ميداناً اقتصادياً جديداً يدور حول اختيارات الأفراد في مواجهة المخاطر والمغامرات الاقتصادية. ومثل هذا العمل المجدد بدا في كتابه حول «الاقتصاد والفائدة» الذي كان منطلقاً لأبحاث مبتكرة حول حركية النقد، وحول التقلبات الاقتصادية بوجه خاص. وفي كتابه الأخير حول «الفائض» نقض نظرية التوازن العام، وطرح في مقابلها نظرية عامة تفسر السلوك الديناميكي.
وقد كانت لأنظار «آليه» التي تبدو مجردة، آثار كبرى على تطور الحساب الاقتصادي وتعرفة الخدمات العامة وعلى دراسة مردود الأموال الموظفة وعلى الاقتصاد المتصل بالتأمين الاجتماعي وسوى ذلك.
وصاحب الجائزة قضى معظم حياته العملية أستاذاً للاقتصاد في «مدرسة المناجم Ecole des Mines» الشهيرة، وحصل على وسام ذهبي من «مركز البحوث في فرنسة». وله من العمر اليوم سبع وسبعون سنة. وما يزال مع ذلك مستمراً في البحث وفي التأليف. وعندما سئل عما سيصنع بالقيمة المالية للجائزة أجاب بأن المبلغ الذي سيحصل عليه سوف يتيح له أن يتابع أبحاثه ودراساته بيسر أكبر وعلى نطاق أوسع.
2- العقد العالمي لتنمية الثقافة:
يستوقفنا كذلك بين الأحداث الثقافية ما قامت به منظمة اليونسكو في باريس من نشاط في إطار «العقد العالمي للتنمية الثقافية». فلقد اجتمعت مؤخراً اللجنة الخاصة التي شكلت لهذه الغاية منذ أمد، نعني «اللجنة الممثلة للحكومات من أجل العقد العالمي للتنمية الثقافية». وتم ذلك الاجتماع بين الثاني عشر والسادس عشر من شهر أيلول / سبتمبر الماضي. ومن المعلوم أن اللجنة قد تم تشكيلها إنفاذاً لقرار صادر عن المؤتمر العام لليونسكو في دورته الرابعة والعشرين. ووظيفتها، كما ينص القرار، «أن توقظ وتتابع وتقوّم تطبيق برنامج العمل الخاص بذلك العقد». وكلنا يذكر أن تخصيص عقد للتنمية الثقافية قد أوصى به في البداية «المؤتمر العام حول السياسات الثقافية» الذي عقد في مدينة «مكسيكو عام 1982» ثم تبنى التوصية بعد ذلك المؤتمر العام لليونسكو الذي عقد في «صوفيا» عام 1985.
ويهدف برنامج العمل الذي وضعته منظمة اليونسكو إلى تنفيذ الأهداف الأربعة الكبرى لعقد التنمية وهي:
– أن يؤخذ البعد الثقافي بعين الاعتبار في جهود التنمية.
– التأكيد على الهويات الثقافية وإغناؤها.
– توسيع المشاركة في الحياة الثقافية.
– تطوير التعاون الثقافي الدولي.
ومن أجل متابعة هذه البرامج اجتمع أعضاء اللجنة التي أشرنا إليها مؤخراً في باريس، وعددهم 36 عضواً تم اختيارهم من قبل المؤتمر العام لليونسكو في دورته الرابعة والعشرين كما ذكرنا. والبلدان العربية الممثلة في هذه اللجنة هي: الكويت (ويمثلها الأستاذ عبد العزيز حسين) ومصر، والجماهيرية العربية الليبية، والجمهورية العربية السورية، واليمن.
وقد أعدت سكرتارية اليونسكو مشروعاً حول «إستراتيجية تنفيذ عقد التنمية» قام المجتمعون بدراسته وتعديله.
3- اليونسكو والجوائز العالمية لمحو الأمية:
ومن الأحداث الثقافية الدولية أيضاً التي جرت في باريس وفي منظمة اليونسكو، الاحتفال بمنح جوائز محو الأمية لأكثر الدول نشاطاً في هذا المجال. ولهذه الغاية اجتمعت هيئة المحكمين الدوليين، بين 24 و26 آب / أغسطس 1988، وقررت بعد المداولة، وبعد فحص 25 طلباً مقدماً من حكومات ومنظمات، منح جائزة «كروبسكايا Kroupskaia»، التي أنشئت عام 1969 بمبادرة من الاتحاد السوفياتي، إلى «المركز القومي لمكافحة الأمية» في «أنجولا». ذلك أن هذه الدولة، حين حصلت على الاستقلال عام 1975، كانت تضم حوالي 85% من الأميين. أما اليوم، وبعد أن دخلت حملة مكافحة الأمية المرحلة الرابعة، تمّ تحرير نيّفٍ ومليون شخص من الأمية، كما تابع حوالي ستة ملايين ونصف بعض التأهيل (مجموع سكان أنجولا حوالي تسعة ملايين).
أما جائزة «الرابطة الدولية من أجل القراءة»، التي أنشئت عام 1979، فقد منحت للخطة القومية لمكافحة الأمية في الأرجنتين. وقد بدأت هذه الخطة عام 1984، على أثر استقصاء تمّ عام 1983، بيّن أن نسبة الأمية تبلغ 6.1% لدى السكان الذين تزيد أعمارهم على 15 سنة، وأن 25% لا يجاوزون في تعليمهم مرحلة «التعليم الأساسي». وهكذا أنشئ في الأرجنتين حوالي 6500 مركز لمكافحة الأمية وسينشأ عما قريب 2500 مركز. فضلاً عن طبع مئات الألوف من كتب القراءة والكتابة والحساب، ومن كتب المتابعة لمن تمّ محو أميتهم. وفوق هذا، تعد الأرجنتين العدة، من أجل إيصال الحملة إلى المناطق النائية، للقيام «بمشروع لمكافحة الأمية عن بعد» عن طريق الراديو والتلفزيون.
كذلك حصلت الجامعة المفتوحة، جامعة إقبال، في إسلام آباد في الباكستان على جائزة «نوما Nouma» التي أنشأها السيد «شويشي نوما Shoichi Nouma» الياباني عام 1980.
وثمة جوائز أخرى منحت لمنظمات حكومية وغير حكومية لا يتسع المجال لتعدادها.

4 – الصالون الدولي للغذاء:
ومن الأحداث «الثقافية» (بالمعنى الواسع للكلمة) التي يحسن التوقف عندها افتتاح الصالون الدولي للغذاء في السابع عشر من تشرين الأول / أكتوبر 1988 (حتى الواحد والعشرين منه). ومما يلفت نظر الزائر لهذا المعرض ظاهرة انتشار الطعام «الخفيف»، فضلاً عن انتشار الطعام السريع. وكأن عصر «الطعام المشبع» قد ولّى وولت معه الشعارات التي تنادي «بالأطعمة الغنية حتى المنية». وكأن شعار مجتمعات اليوم، ما ورد على لسان طبيب سويسري: «ليس ما نتناوله سماً، وليس في ما نتناوله سم، والمسألة تحديد المقادير وتعييرها». وهكذا احتلت الساحة الأطعمة الفردية، ذات القيمة الحرارية الدنيا، والمتوازنة توازناً دقيقاً، والسهلة التحضير.
وتغيُّر طراز الطعام يعكس في الواقع تغير المجتمع، وتغير دور ربة البيت بوجه خاص. ففي عام 1950 كانت ربة البيت تقضي أربع ساعات من وقتها أمام الموقد. أما اليوم فلا تمكث أمامه أكثر من أربعين دقيقة، مستعينة بالطبع بالوسائل الحديثة وعلى رأسها «البراد» و«المجلد» والفرن ذو الموجات الصغيرة. يضاف إلى هذا أن انتشار «الأسرة النووية» (المؤلفة من الأب والأم والطفل فقط)، وتزايد تناول الطعام خارج المنزل، وتباين عادات الطعام بين الجيل الناشئ والجيل القديم، يمنح الطعام شكلاً جديداً ودوراً جديداً. فهو يعكس إلى حد كبير صورة مجتمع غدا مجزَّءاً مبعثراً، لا يبحث عن الطعام بمقدار ما يبحث عن تيسير شؤون حياته.
بل إن هنالك من يقول إن «الأيديولوجيا الناعمة» الهادئة التي أخذ يشهدها المجتمع الفرنسي وسواه من المجتمعات الغربية في مجال السياسة والفكر، يقابلها في مجال الطعام «التغذية الناعمة» أو الهادئة، و«المشروبات الناعمة Soft drinks» كذلك.
وهكذا فإن ما عرف باسم «المطبخ الجديد»، الذي ظهر في السبعينات وكان المعنيون به إذ ذاك رجال الأعمال الحريصين على المحافظة على رشاقة قوامهم بالرغم من الطعام، غدا اليوم رائجاً لدى معظم العائلات.
لقد كان «برنارد شو» يقول: «ليس من حب أصدق من حب الطعام». غير أن ذلك كان قبل ظهور الأفران السريعة وسائر تقنيات الطعام الحديثة.

(ثانياً) أحداث فنية:
1- معرض عن نتاج الفنان «سيزان Cézanne» في عهد الشباب:
بين الحادي والعشرين من شهر أيلول / سبتمبر 1988 والأول من كانون الثاني / يناير 1989 يقوم في متحف «أورسي Musee d’ Orsay» أول معرض عن أعمال الفنان «سيزان» أيام شبابه.
ومما يَشْدَهُ المرء منذ النظرة الأولى أن يرى في هذا المعرض صورة أخرى لسيزان، مباينة بشدة الصورة المألوفة التي سادت في مرحلة النضج: «فبدلاً من «سيزان» أبي سائر أصحاب النزعة التكعيبية، نقع على «سيزان» غير معروف، عنيف وعاطفي وهذه الصورة المجهولة لسيزان، صورة قريبة جداً، وكأنها معاصرة لنا، بحيث يصعب علينا أن نتصور أن ثمة قرناً كاملاً من الزمان على الأقل يفصل بين أعمال شبابه هذه التي أنتجها في الستينات من القرن التاسع عشر وبين نتاج الرسم أيامنا هذه».
ومع ذلك لم يكن «سيزان» بين العشرين والثلاثين من العمر، سوى مبتدئ يخط ما يحلو له على الورق ويبحث عن العبقرية ليدهش والده الذي كان صاحب بنك شهير ويصفه صديق مدرسته الثانوية بأنه كائن قلق «يراوده اضطراب عصبي».
غير أنه يتابع طريقه متحدياً أحكام الجميع. وفي سن الحادية والعشرين يأتي إلى باريس ويحاول أن ينتسب إلى «مدرسة الفنون الجميلة»، ويرسم ويفرط في الرسم، ثم ينتسب إلى الأكاديمية السويسرية، ويعنى بوجه خاص بالرسم المثير. ويتقدم إلى معرض الرسم فيرفض مراراً.
وهكذا تكاد تكون العوامل المختلفة قد اجتمعت لتخلق من «سيزان» رساماً ناقماً وشرساً. غير أن معاشرته للانطباعيين («بيسارو Pissaro» و«رنوار Renoir» و«مونيه Monet») تجعله يكتشف العالم، وتدفعه إلى أن يبني ما ينتجه من رسم انطلاقاً من المبدأ الآتي: لا طبيعة ولا رسم ولا مناظر، بل ثمة فقط «مستويات من الألوان». فالحيوان الميت، أو الدب، أو قشرة الشجرة، تطلق كلها اهتزازات ضوئية، على الرسام أن يمسك بها ويقبض عليها.
ولكن أين تبدأ الرؤية وأين تنتهي؟ إن «سيزان» في حاجة إلى مائة عرض ليرسم طبيعة ميتة، وإلى 150 عرضاً ليرسم وجه إنسان. وهو لا يوقع ما ينتج، لأن الرؤية ليس لها حدٌّ أبداً.
ويقدم لنا معرض «أورسي» ستين لوحة زيتية وعشرين رسماً مائياً، ويقف عند المرحلة التي بدأ يبزغ فيها «سيزان» الكبير. لقد كانت حقاً مسيرة قاسية نحو المجد والعظمة، تمّ رسمها خطوة خطوة. ولا تبدأ وثبته الكبرى إلا بعد عام 1872 وله من العمر ثلاثة وثلاثون عاماً.
ومن أبرز الرسوم التي نجدها في المعرض رسوم «الطبيعة الميتة» التي كانت دوماً موضع اهتمام الرسام.
كذلك عُني في هذه المرحلة برسم الوجوه، وكثيراً ما عني برسم وجهه نفسه. كذلك عني في فترة شبابه تلك برسم المناظر الطبيعية.
كما اهتم اهتماماً خاصاً بمناظر مدينة باريس نفسها، فرسم حي «مونمارتر» ورسم «رصيف برسي Ouai de Bercy» ورسم منطقة «هالّ الخمرة La Halle – aux Vins» بعد أن أقام فيها.

طبيعة ميتة وإبريق يغلي
وبعد ولادة ابنه بأشهر (في 4 كانون الثاني / يناير 1872 ترك «سيزان» باريس واشتغل جنباً إلى جنب مع «بيسارو Pissarro» في مدينة «بونتواز Pontoise»، ثم انتقل إلى أماكن أخرى.

وفي الجملة لا شك أن سنوات الشباب هذه التي يقدم لنا نتاجها معرض «أورسي» تعيننا على معرفة «سيزان» معرفة أعمق، وتكشف لنا عن طبعه المعقد، وعن شخصيته في دخائل أسرارها. وخير ما ييسر لنا هذا الفهم تلك المشاهد الخيالية المبتكرة التي نجدها لديه في تلك المرحلة، والتي أدرك معناها وأبعادها وأهميتها «بيكاسو» الذي قال في حديثه عن الرسام: لم يكن «سيزان» ليثير اهتمامي لو أنه عاش وفكر كما فعل جاك إميل بلانش Jacque Emile Blanche. إن ما يجلب انتباهنا هو قلق سيزان، أي مأساة الإنسان لديه.

2- المعرض الدولي الخامس عشر للفن الحديث:
فتح المعرض الدولي الخامس عشر للفن الحديث (فياك F.I.A.C) أبوابه في «القصر الكبير» بباريس في الحادي والعشرين من تشرين الأول / أكتوبر 1900 (واستمر حتى الثلاثين من الشهر نفسه). ومن المعروف أن هذا المعرض الذي يقام سنوياً قد غدا مع الزمن من أهم أماكن السوق الدولية في ميدان الفن المعاصر.
ولقد أنشئ هذا المعرض أول ما أنشئ في «الباستيل» عام 1974. وهو اليوم في عيده الخامس عشر يضم 160 جناحاً لِسِتَّ عشرة دولة، بينها 66 جناحاً لدول أجنبية. كما يضم مئات المعارض الشخصية الخاصة لحوالي ألف فنان، ويشمل خمسة آلاف عمل فني في الجملة.

وهذا المعرض الذي هو سرق مهنية ومكان للتبادل الثقافي في آن واحد، كان يستقبل يومياً حوالي 120 ألف زائر يجوبون مساحة قدرها 12 ألف متر مربع.
وخلال قيام هذا المعرض قام اثنا عشر جناحاً إسبانياً بالانتقال إلى باريس ليقدموا معارض حول الإبداع الفني الإسباني.

ونقدم فيما يلي نماذج قليلة جداً مما تم عرضه في هذا المعرض الشاسع والرائع.
4- «دوبوفيه» على ضفاف السين:
دشن رئيس الجمهورية الفرنسية في الرابع والعشرين من تشرين الأول / أكتوبر 1988 «برج الوجوه» من صنع الفنان الفرنسي المعروف «دوبوفيه Dubuffet». ويبلغ ارتفاع البرج 24 متراً وقد أقيم في أقصى جزيرة «سان جرمان» قرب باريس، فوق أرض عسكرية حُوّلت حديقة كبيرة، وأمام الأماكن التي تضم المقر الرئيس لشركة «رينو Renault» للسيارات. وقد تم إعداد هذا العمل الهام بناء على طلب وزارة الثقافة منذ حوالي خمس سنوات. وهذا البرج هو العمل الرابع من أعمال «دوبوفيه» التي تمّ تدشينها هذا العام في فرنسة. وكأن ثمة تذوقاً مستحدثاً بدأ يظهر للأبنية الضخمة. ومما يؤسف له أن الاهتمام بأعمال هذا الفنان قد حدث بعد وفاته عام 1985.
ويتحدث «دوبوفيه» نفسه عن عمله هذا ويصفه بأنه يمثل عملاً درامياً لا يخلو من خطورة. وفي هذا القول بعض الصحة، فالعمل لا يثير الضحك ولكنه لا يثير الحزن كذلك، بالرغم من مظهره الخارجي الذي يوحي بكتلة صلبة مطلية بالكروم بنيت فوق صخرة كبيرة أشبه ما تكون بالصخور التي نجدها في حدائق الحيوانات.
وتتخذ هندسة البرج أشكالاً أشبه ما تكون بأقفاص الأرانب. ولا توجد فيها جدران أو سقوف أو أرض، ولا يضم نوافذ أو أبواباً، وكل ما هنالك بعض الأشكال التي تذكر بالسلم وبعض الغرف التي تم توزيعها وفق الهوى انطلاقاً من هيكل عظمي حلزوني.
5- تدشين «هرم» متحف اللوفر:
قام رئيس الجمهورية أيضاً، في الرابع عشر من تشرين الأول / أكتوبر 1988، بتدشين هرم ساحة متحف اللوفر بعد أن انتهى بناؤه وظهر للعيان وغدا مقصداً للزائرين. ولهذه الغاية انطلق من الممر المعروف باسم ممر «ريشيليو Richelieu» وبلغ الساحة المسماة بساحة نابليون حيث يشع «الهرم» الذي صمم بناءه المهندس المعماري الياباني الشهير «مينغ باي Ming Pei». وكانت تتدفق حول الهرم والساحة نوافير المياه.
وبعد أن ألقى كلمة بهذه المناسبة خرج من جديد إلى الساحة ماراً أمام المنصة التي سوف يوضع عليها تمثال «الفكر» للنحات «رودان» أو تمثال «ديانا» من صنع «آنيه Anet».

6- معرضان للفنان «رامبرانت» وقضية:
في الأول من تشرين الثاني / نوفمبر 1988 افتتح معرضان للوحات الفنان الشهير «رامبرانت Rembrandt» ورسومه في أجنحة معرض «فلور Flore» وفي الوقت نفسه، ظهر الصراع من جديد حول مدى كون عدد من لوحاته حقيقية. لاسيما أن الأستاذ «جوزوا بروين Jusua Bruyn» في أمستردام قد نشر الجزء الثالث من مجموعته حول «رامبرانت» وفيه ينكر على هذا الفنان أبوّته لبعض أشهر أعماله حوالي عام 1640. كذلك أعلن محافظ المتحف الوطني في إنكلترا شكه في مدى النسب بينه وبين لوحتين من لوحاته التي عرضت في أحد المعارض. وقريب من ذلك حدث في فلورنسة (لاسيما بالنسبة للوحة التي هي صورته الذاتية).

أسد يستريح – للفنان رمبرانت
7- فيلم عن «الثورة الفرنسية»:
طبيعي ألا يقتصر الاهتمام بالاحتفال بعيد الثورة الفرنسية المائتين على الكتّاب وحدهم وأن يدلي المخرجون السينمائيون بدلوهم في هذا المجال. ومن أبرز الجهود حول هذا الموضوع الفيلم الذي يقوم بإخراجه – بعد لأي وتساؤل – المخرج المعروف «فالمي Valmy» والذي يحكي فيه تاريخ الثورة الفرنسية. ويحتاج إخراج الفيلم إلى ميزانية بلغت 230 مليون فرنك (شاركت فيها جهات متعددة) وإلى ثلاثين أسبوعاً من العمل، وإلى تجنيد الجيش الفرنسي لهذه الغاية، وإلى وسائل طموحة جداً في مستوى هذا الحدث الطموح.
وقد بدأت انطلاقة العمل في هذا المشروع منذ عامين وشارك فيه مخرجون فرنسيون شهيرون وغير فرنسيين. وقام بالأدوار الكبرى الهامة ممثلون معروفون من فرنسة وسواها: لويس السادس عشر (الممثل جان فرانسوا بالمر Jean-Francois Balmer) – «نيكر Necker» (الممثل ميشيل بيكولي Michel Picoli) – «دانتون Danton» (الممثل الألماني «برانداوار Brandaur») «روبسبيير» (الممثل البولوني «سيفرين Severin») الخ.. وحتى الآن لم يتم اختيار من يمثل أدوار «ماري أنطوانيت» و«مارا Mara» و«ديمولان Desmoulins».
8- فيلم فريد: «الدب»:
من أبرز الأفلام التي ظهرت في هذا الموسم والتي بدأ عرضها على شاشات السينما بباريس في أواخر شهر تشرين الأول / أكتوبر 1988، فيلم «الدب» من إخراج «جان جاك آنو Jean – Jacques Annaud». وهو بحق فيلم معجز في إخراجه وفيما رافق ذلك الإخراج من مهارات فنية رائعة، هذا فضلاً عن كلفته العالية التي تبلغ ملايين الفرنكات الفرنسية.
دبّ صغير نائم، منعطف على أمه المشغولة بسرقة العسل من خلية. نحلٌ يدوي ويدور حول الدب الصغير الذي يبعد أفواج النحل عنه دون أن يستيقظ. هكذا يبدأ الفيلم وهكذا يستمر. إنه تاريخ الصيادين الذي استوحاه المخرج من كتاب من تأليف «كو روود James Olivier Curwood». وفيه عرض رائع للحياة كما يراها الدب الصغير وكما يحياها. وهي حياة قاسية، يتم عرضها على شكل مناظر تخلبنا بجمالها: جبال شاهقة، وصخور مشرئبة، وكهوف مظلمة، وغابات كثيفة سوداء، وأعشاب مقلّمة، وشلالات، وسماء كثيفة، وألوان تحمل معها الصقيع أو يحملها الصقيع معه.. ومن وراء هذا كله القمر الساطع الذي يخلق ظلالاً وهمية ويوحي بأرواح شريرة.
وفي كل مكان، يكمن الخطر مهدداً: فها هنا عقرب تقفز من العشب، وهنالك حيوان مفترس جائع يلحق بك حتى بياض الشلال البارد، بل هنا وهناك كائنات إنسانية نهمة تبحث عن صيد.
هكذا حطمت صخرة أم «الدبيب»، فإذا باليتيم يعانقها ويفرك جلده بجلدها ثم يمضي إلى سبيله وقد امتلكه الرعب وتكاثرت عليه كوابيس الأحلام وبدأ يبحث عن مأوى. وأخيراً يجد هذا المأوى قرب دب كبير يتبناه. وقد يبدو مثل هذا الموقف غريباً عن الواقع. غير أن السؤال الحقيقي هو السؤال المتصل بالبقاء على قيد الحياة. ومخرج الفيلم يتبنى في هذا المجال عبارة للكاتب «كوروود»: «هنالك انفعال أقوى من انفعال القتل، إنه انفعال ترك الحيوان حياً». ولعل الرسالة التي أراد أن يبلّغنا إياها مخرج الفيلم هي هذه الرسالة.
ويصعب الحديث عن سائر مشاهد الفيلم، كما يصعب التريث عندما احتاج إليه المخرج من إعداد وترويض للدب كيما يقوم بالدور الرئيس في هذا الفيلم. فالدب الذي يقدمه لنا المخرج في الفيلم دب يقف منتصباً على قدميه كالإنسان سواء بسواء. وهو قادر على اتخاذ أوضاع مألوفة، بالرغم من أنه دب ضخم يزن حوالي طن. وهو قادر لذلك على أن يسحق الإنسان الواقف أمامه على صخرة شاهقة بمجرد حركة من يده، ولكنه لا يفعل ويبقيه على قيد الحياة. لقد انعقدت بينه وبين المخرج صلات حميمة يصعب وصفها.
هذا كله يجعل من هذا الفيلم حكاية ملحمية ساذجة وكريمة تغير مفاهيمنا التقليدية عن الحب والقسوة، على غرار الكثير من الحكايات التي تخترق العصور، وتعبر عن سائر الثقافات.
(رابعاً) بعض جدائد الكتب:
1- عودٌ إلى «بيرانديلو»:
«أعتقد أن الحياة مهزلة حزينة جداً». هذه العبارة التي قالها الكاتب الإيطالي الشهير «لويجي بيرانديلو Liuji Pirandello» (1867 – 1936) يضعها «جورج بيرويه Georges Piroue» في مطلع كتابه الذي خصّ به ذلك الكاتب الصقلي الكبير(1). والكتاب أول مؤلف يظهر باللغة الفرنسية عن سيرة حياة «بيرانديلو»، وهو يلقي ضوءاً جديداً على العمل الخلاق لهذا الكاتب الذي لا يعرف الناس عنه عادة إلا مسرحياته (وعلى رأسها مسرحية «ستة أشخاص يبحثون عن كاتب» ومسرحية «هنري الرابع» التي عرضت مجدداً على التلفزيون الفرنسي و«لكل حقيقته» التي سيقدمها التلفزيون الفرنسي عما قريب). وقليل أولئك الذين يعلمون أن كاتب المسرحية هذا كتب سبع روايات ومائتي قصة صغيرة وطائفة من الأشعار. وقد نشرت طائفة من قصصه الصغيرة مؤخراً باللغة الفرنسية في أربعة أجزاء(2).
وفي كتابه عن حياة «بيرانديلو» يصف «جورج بيرويه» صروف كائن هو في حد ذاته كائن «بيرانديلي» شبيه بالشخصيات التي يعرضها علينا في مسرحياته ورواياته. فمنذ أن ولد (عام 1867) في مكان تسوده الفوضى في جزيرة صقلية، كانت حياته أشبه بسلسلة من التحولات والمراحل المتفجرة والعهود اليائسة.
وعندما حصل الكاتب الكبير على جائزة نوبل عام 1934 (قبل عامين من وفاته) شعر في آن واحد بالفخار وبالضيق، الضيق بما يفرضه هذا اللقب من تكلف ليس من طبعه.

2- الفيلسوف «ليبنتز» كما يراه «دولوز»:
عني أستاذ الفلسفة الفرنسي «جيل دولوز Gilles Deleuze» بدراسة الفيلسوف الألماني «ليبنتز»، وكتب في ذلك مقالات وبحوثاً كثيرة. وقد صدر له مؤخراً كتاب شامل يتحدث عن هذا الفيلسوف، نشرته دار «مينوي Minuit» (في 192 صفحة).
وفي وسعنا أن نقول إن منطلق دراسة «دولوز» عن «ليبنتز» تلك العبارة التي أطلقها «نيتشة» حين قال: «ليبنتز إنسان خطير لكونه ألمانياً صالحاً في حاجة إلى الواجهات الظاهرية، ولكونه في الوقت نفسه مغامراً في أعماقه وغامضاً بلا حدّ». ذلك أن وراء الواجهات الشكلية التي كان يتزيّا بها بوصفه أستاذاً في مدينة «هانوفر» الألمانية (الشعر المستعار والمهمات الدبلوماسية والفضول الموسوعي، الخ..)، كان نظامه الفلسفي نظاماً عصياً على الفهم وغامضاً في معظم جوانبه. ولا يرجع هذا إلى تشتت نتاجه بين الدراسات القصيرة والمراسلات وما يكتب في المناسبات، كما لا يرجع هذا إلى استخدامه الدائم للنماذج الرياضية.
ولا شك أن «ليبنتز» يتوصل أكثر من أي فيلسوف سواه إلى أن يفكر في آن واحد بوحدة العالم وبتعدده الذي لا حد له، وباتساق الكل وتفرد الأفراد معاً، وبتكامل الواقع وتعدد وجهات النظر. وقد يكون مفتاح فلسفته: كل شيء هو دوماً نفس الشيء.
غير أن هذا الموضوع الظاهر في تفكير الفيلسوف ليس سوى مظهر خدّاع، ووراءه في أعماق الفكر الذي قدّمه يكمن السر الغامض. ووراء الواجهة الظاهرة غرفة مظلمة محكمة الإغلاق لا ينفذ إليها شيء. وراءها بقول موجز، «المونادات Monades» (أو الجواهر الفردية)، «وليس للمونادات نوافذ يمكن أن يدخل إليها أو يخرج منها أي شيء» على حد قول «ليبنتز» نفسه. وليس لها ثقوب أو أبواب. كما يقول في موضع آخر، والمونادات ليس أرواحاً ولا نفوساً كالتي كان يتصورها من جاء قبله. إنها تستمد كل شيء من جوهرها نفسه، وهو جوهر مظلم. وكل منها يعبّر عن العالم كله ولكنه لا يعبّر بوضوح إلا عن جزء من ذلك العالم.
على هذه السُّدفة (الظلمة المضيئة) التي قالها بها «ليبنتز» سلّط «الأستاذ دولوز» مصباحه.

ولن نتحدث عن مضمون ما جاء به من تحليل. وحسبنا أن نقول أنه قدم في كتابه هذا «تشريحاً كاملاً لفلسفة ليبنتز»، في ضوء الفلسفات السابقة واللاحقة، وأنه توقف بشكل خاص عند الانقطاع بينه وبين الفلسفة الكلاسيكية (فلسفة أرسطو وفلسفة ديكارت بوجه خاص)، ويضيف إلى هذا كله حديثاً عن الفن «الباروكي Baroque» ويربط هذا الفن بالتطور الفلسفي الذي حدث. ثم يختم ذلك بحديث عن «الطيء». وعالم «ليبنتز» في نظره مؤلَّف مما لا حد له من «الطيّات»، والأفكار مطوية في الأرواح وفي الأعماق المظلمة للمونادات. ويربط بين هذا وبين الفن الباروكي. فالفن الباروكي يطوي كل شيء: الخطوط والأجساد والألبسة، ويطوي بوجه خاص الخارج إلى الداخل والظاهر على الباطن، والمونادات على الطبيعة.