رسالة باريس

الثقافة العالمية – العدد /43/ – نوفمبر 1988
مجلة تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت
رسالة باريس
بقلم الدكتور عبد الله عبد الدائم
الصيف هنا فترة ركود في كل شيء. إنه فصل الراحة والمتعة والتأمل. وعليه يصدق ما قاله البحتري في «الربيع»:
دنيا معاش للورى حتى إذا
حلّ الربيع فإنما هي منظر
ومن المتع اللذّة التي تنفتح خلال هذا الفصل، المتع الثقافية. فالمهرجانات الفنية والثقافية قائمة على قدم وساق. ومهرجان السينما في «كان» ومهرجان الفن المسرحي في «آفينيون» بعض الثوابت والصروح التي يؤمها رواد الفن والثقافة من كل جنس.
على أن المطبعة تشهد في بواكير هذا الفصل وأثناءه نشاطاً فذاً، بالرغم مما يبدو في هذا من مفارقة. ذلك أن «أدب المصيف» إن صح التعبير يزدهر ويحمل وجهاً جديداً. فملايين المصطافين على شواطئ فرنسة الممتدة وخارجها وعلى الجبال والسهول، يتلقفون مع أشعة الشمس ومياه البحر وخضرة الشجر ملايين الكتب والمجلات تشغلهم حين يتمددون في العراء، أو تضيف إلى متعة الطبيعة لديهم متعة الفكر والنفس الإنسانية حين يكشفان حجب الطبيعة وحين يصنعان الفن من الجمع بين الإنسان والطبيعة كما قال «بيكون».
نشاطات فنية
1- مهرجان «آفينيون» المسرحي:
كما يجري كل صيف، انطلق مهرجان «آفينيون» المسرحي (في دورته الثانية والأربعين) هذا العام في بداية شهر حزيران/ يونيو وقد كان برنامجه غنياً وطابعه يحمل طابع مديره منذ عام 1985 «آلان كرونبيك Alain Cronbeck»، وهو طابع تسوده البساطة الذكية والتواضع الظاهري والمنطق المحكم.
وأبرز أحداث هذا المهرجان، كما ذكر النقاد حدثان: هما مسرحية «هملت» لشكسبير التي قام بإعدادها «باتريس شيرو Patrice Chereau»، والحضور المسرحي البارز للسوفييت، عبر عرضين وندوات ونقاشات عديدة. ولنتريث بوجه خاص عند مسرحية «هملت»:
لقد تم عرض المسرحية في ساحة الشرف في قصر البابوات، وهي ساحة مكشوفة تتحول كل عام تبعاً للمسرحيات التي تعرض فيها وتبعاً لمطالب الإخراج والعرض. وقد جرى تقديم هذه المسرحية في حفلة الافتتاح تعبيراً عن شأنها الخاص. وهذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها ذلك المخرج الشهير، الذي يتصدر لائحة المخرجين في فرنسة منذ سنوات، بعرض مسرحية في الهواء الطلق، إذ كان يرفض ذلك دوماً.
ويبدو أن في شخصية «باتريس شيرو» كثيراً من أوجه الشبه مع شخصية «هملت»، فهو مثله يعيش في شك دائم، ويتساءل بقلق: أي مسرح أصنع؟ وما صلته بالواقع؟
وكلنا يعلم أن مسرحية شكسبير هذه قد عرفت مائة شكل وشكل، سواء في المسرح أو في السينما. ومع ذلك يظل ثراؤها غير قابل للنفاد، وتظل ترجمتها إلى لغة المسرح قابلة لأن تتلون بألف لون ولون، ويظل في وسع كل مخرج أن ينطقها معاني جديدة وأن يسبر فيها أغواراً لم تسبر. والحق، إن هنالك وجهين يسيطران على كل الأزمان: وجه الأمير «هملت» (لشكسبير) ووجه «الجوكوندا» لدافنشي والسبب في الحالين واحد: كلاهما يثيران ما لا نهاية له من الأسئلة ومن الصعاب، دون أن يقدما يوماً ما جواباً على ذلك.
2- عيد الموسيقى:
منذ عام 1982 اعتبر اليوم الحادي والعشرون من شهر حزيران / يونيو من كل عام عيداً للموسيقى.
وهذا العام شهدت باريس أفراح هذا العيد ومظاهرة في زوايا الشوارع وفي الساحات وفي الكنائس وسواها. وانتشر الموسيقيون زرافات ووحداناً انتشاراً بعضه منظم وبعضه عفوي في شوارع العاصمة. وفي كل حي من أحياء باريس العشرين نظمت حفلات موسيقية مجانية، تولت تقديم مقطوعات من الموسيقى الكلاسيكية أو من الموسيقى الحديثة بأنواعها. وقد كان من أبرز تلك الحفلات تلك التي نظمت في الساحة الكبرى أمام مركز «بومبيدو» الثقافي والتي تصدرت منصتها الرئيسة لافتات تدعو إلى التضامن مع الزعيم الأفريقي «نيلسون منديلا» ومع الانتفاضة الفلسطينية في الأراضي المحتلة.
3- أوبرا «الباستيل»:
سبق أن تحدثنا (في أحد الأعداد السابقة) عن القرار الذي اتخذ منذ نيف وثلاث سنوات والخاص بإنشاء «أوبرا واسعة وشعبية في ساحة «الباستيل» (التي اشتهرت بالهجوم على سجنها أيام الثورة الفرنسية في الرابع عشر من تموز / يوليو).
والآن لابد من إشارة خاطفة إلى هذا الصرح المنشود بعد أن قطع شوطاً واسعاً في طريق بنائه، والذي سيتم افتتاحه من قبل الرئيس «ميتران» في الرابع عشر من تموز / يوليو من العام المقبل، بمناسبة العيد المائتين للثورة الفرنسية. بعد مد وجزر، اختار المحكمون، من بين المشروعات المعمارية التي تم تقديمها لبناء الأوبرا، المشروع الذي تقدم به مهندس كندي اسمه كارلوس أوت Carlos Ott لم يكن ذائع الصيت قبل اضطلاعه بهذه المهمة الجبارة.
أوبرا الباستيك في طريقها إلى الاكتمال
ومنذ ذلك الحين، أخذ بناء الأوبرا يتسلق الأجواء، بالقرب من مستشفى «الكانزفان» الذي يعد طليعة مستشفيات العيون في باريس، والذي يتسم بدوره بطابع معماري عريق. وفي مثل هذه المناسبات يظهر ذلك الصراع الأبدي بين القديم والحديث، وتطرح مسألة العلائق الجمالية بينهما. هذا ما حدث فيما يتصل بمشروع «اللوفر»، وهذا ما حدث من قبل عندما بني، في عهد بومبيدو، ذلك البناء الذي يشبه «المصنع»، والذي شيد ليكون مركزاً ثقافياً. وهذا ما سيحدث حتماً فيما يتصل بالمشروع الذي أعلن عنه رئيس الجمهورية منذ حوالي شهر، مشروع إنشاء «أكبر مكتبة في العالم».
ومن مظاهر هذا الصراع – فيما يتصل بالأوبرا الجديدة – أن مطعم «البرج الفضي» (الذي يشبه المطعم الشهير بهذا الاسم الذي يقع عند رصيف «لا تورنيل La Tournelle» على ضفاف السين)، قد تم هدمه. ولكي يتم الوصل بين الجديد والقديم أقام المهندس المعماري الكندي (كارلوس أوت) بناء جديداً مكانه يقلد فيه المطعم القديم المهدوم.
وفي الثامن والعشرين من شهر آب / أغسطس صدر قرار بتسمية الفنان والمبدع الشهير «بيير برجيه Pierre Berger» مديراً لهذه الأوبرا، وقد كان حتى الآن مديراً لمحلات «إيف سان لوران» الشهيرة، كما شغل قبل ذلك مناصب إدارية وفنية رفيعة. وهو يضم إلى خبرته الإدارية، مواهب في الرسم والموسيقى والكتابة.
شؤون ثقافية
1- جولة في المقاهي الأدبية:
المقاهي الأدبية، ولا سيما في حي «السان جرمان دي بري» وحي «مونبارناس» وحي «مونمارتر»، عرفت شهرة ذائعة لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية. وإن ننسَ لا ننسَ المقاهي الأدبية التي اشتهر بارتيادها أمثال «سارتر» و«سيمون دي بوفوار» والتي أصبحت من مرابع الحركة الوجودية: «مقهى القردين»، ومقهى «فلور». لقد كان ذلك الثلاثي المؤلف من الكاتب والمنضدة والساقي رمزاً للحياة الاجتماعية الأدبية. وقائمة هذه المقاهي الأدبية وتاريخها أطول من أن تفي بهما الصفحات الكثيرة بل المؤلفات. وفي وسع المرء أن يضع خارطة جغرافية واسعة تبين مواقع هذه المقاهي وتشير إلى ممثليها ومشاهدها المفضلة بدءاً من «مونمارتر Montmartre» و«مونبارناس» و«سان جرمان» وانتهاء بالأحياء التي تقع على تخوم باريس:
من أمثلة ذلك مقهى «الأرنب الرشيق Lapin agile» الذي تدافع عليه منذ بداية القرن «دورجوليس Dorgeles» و«ماك أورلان Mac Orlan» و«كاركو Carco» بعد «جيرار دي نرفال Nerval» و«جان باتيست كليمان Clement ومن الأمثلة كذلك مقاهي مونبارناس (الروتوند، وسيلكت، والكوبول، والدوم) التي توافد عليها الكتاب (والرسامون)، والتي عرفت سيلاً لا ينقطع من الزبائن الشهيرين، من أمثال «سوتين Soutine» و«كيسلنغ Kisling» و«همنجواي Hemingway»، و«بريفير Prevert» و«ماكس جاكوب Max Jocob ولينين وتروتسكي.. هذا بالإضافة إلى رواد مقاهي الحي اللاتيني و«سان جرمان دي بري» (التي عرفت ازدهاراً خاصاً كما ذكرنا أيام الحركة الوجودية، والتي كان سارتر وسيمون دي بوفوار يكتبان ساعات طويلة في أحدها (نعني مقهى «القردين Les deux Magots» على حرارة الموقد وحدها).
في الوقت نفسه انضاف إلى تلك الحياة الأدبية الاجتماعية في المقاهي حياة أدبية اجتماعية أخرى تتم في صالونات باريس الكبرى أيام الحفلات أو بدعوة ممن يملكون مثل هذه الصالونات.
غير أن هذا كله ما لبث حتى تحول، وما لبثت روح الجماعة الأدبية حتى أخذت بالانطفاء، وانتقلت أمكنة النشاط الأدبي من المقاهي والصالونات والبيوت الخاصة إلى دور الوراقين (دور النشر) وإلى قاعات تحرير المجلات. وأصبح الكتاب والأدباء يؤمون مقاهي من طراز جديد، كل تبعاً للاتجاه الذي يمثله، : فبعضهم يذهب إلى منطقة «بون رويال Pont Royal» (حيث تقوم دور نشر عديدة، منها دونويل، وغاليمار، وتابل روند، ومركور دي فرانس)، وآخرون يذهبون إلى ساحة «سان سولبيس Saint Sulpice» (حيث تقوم دار لافون، ودار بورجوا)، الخ..
وتحاول هذه الأماكن الجديدة أن تبقي على بعض نكهة الصالونات والمقاهي الأدبية، إذ نجد فيها، كما في تلك، «الساقي» الذي يلعب دور صاحب المقهى. وفي الجملة هذه المقاهي الحديثة التي تقوم في قلب دور النشر أو المقاهي العادية التي يؤمها الكتاب أبقت على الشكل دون أن تحفظ الجوهر.
فالكتاب لم يعودوا اليوم – كما كانوا – جماعة من الأفراد تقوم بينهم روابط عميقة، ويتكاتبون ويتشاورون ويقرأون معاً نتاجهم الأدبي بصوت عال. وهم يأتون إلى المقهى لكي يَروا ويُروا، لا ليتجاذبوا أطراف الحديث ويقلبوا أوجه الرأي ويتبادلوا الأفكار والمشاعر والتجارب.
2- سياسة فرنسة الثقافية:
كلف «مجلس أوروبا» أربعة باحثين (بلجيكي وبريطاني وسويدي وسويسري) بدراسة سياسة فرنسة الثقافية منذ أيام «أندري مالرو Andre Malraux» (الكاتب الشهير ووزير الثقافة في عهد ديغول). وقد أدى هؤلاء المهمة ووضعوا تقريراً مفصلاً على شكل كتاب قدمه مقرر الفريق في الثالث والعشرين من حزيران / يونيو الماضي إلى «جمعية الأدباء».
ذلك أن «منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية» (O.C.D.E) تقوم منذ عدة سنوات بتقويم سياسة الأعضاء المنتسبين إليها في ميدان التربية. ومن هنا قرر «مجلس أوروبا» الذي يضم عشرين دولة أن يقتفي آثارها في بعض الميادين الخاصة. وقد كانت الثقافة أول أهدافه، وكانت فرنسة أول من تصدى لها.
ولا شك أن مهمة الفريق كانت عسيرة. فقد كان عليه أن يحلل ثلاثين سنة من السياسة الثقافية الفرنسية خلال الوقت القصير الذي يملكه (أسبوعين تقريباً). ومن هنا كان لابد للتقرير أن يهمل كثيراً من جوانب الثقافة الفرنسية، وعلى رأسها الجانب المتصل بالتراث الثقافي الفرنسي ثم الجهود الدولية في مجال الثقافة.
على أن أصحاب التقرير حاولوا – تسهيلاً لمهمتهم – أن يستخلصوا الخيط الرائد الذي ينظم الثقافة الفرنسية. وههنا وجدوا أن الخيط الذي يسري عبر الوزارات المختلفة خيط مستمر لم ينقطع على الرغم من تغير الوزارات والعهود. فلقد كانت هنالك خيارات ثلاثة أساسية ومستمرة يمكن تلخيصها في كلمات ثلاث: ديمقراطية الثقافة – لا مركزية الثقافة – الإبداع.
ومن العسير عرض جوانب التقرير المختلفة – وهو بحق جهد جدير بأن يقرأ قراءة ممعنة دقيقة. وييسر ذلك أنه طبع من قبل دار الوثائق الفرنسية La Documentation Francaise (في 394 صفحة).
3- المؤتمر الدولي الحادي عشر للتوثيق (الأرشيف):
بين الثاني والعشرين والسادس والعشرين من آب / أغسطس التقى في باريس حوالي ألف موثق يمثلون أكثر من مائة دولة. وقد افتتح المهرجان الرئيس الفرنسي «فرانسوا ميتران»، وبين في كلمته الافتتاحية أهمية هذا اللقاء الذي يتم في وقت تقلب فيه التقنيات الحديثة صفحة الأمور رأساً على عقب وتغير مشهداً مضت عليه قرون. ومما قاله بهذا الشأن: «عندما كان السومريون يكتبون الأحرف الأبجدية الأولى (الهيروغليفية) على لوحات من الشمع، كانوا يعيشون، ربما دون أن يعلموا ذلك، تحولاً حاسماً في تاريخ الإنسانية: نعني ظهور الكتابة. واليوم لعل وسائل الإعلام الحديثة تنبئ بمثل ذلك الانقلاب».
وقد بينت السيدة «بول رونيه – بازان Paule Rene – Bazin»، وهي موثقة خبيرة، منذ الجلسة الأولى، الدور الكبير لهذه التقنيات الإعلامية الجديدة:
لقد ظل التوثيق خلال آلاف السنين يعتمد على الورق. وما كان على العقل الإنساني إلا أن يقرأ ما كتب عليه. وكانت العيون كلها سواسية في هذا المجال. أما بعد ظهور الأشكال الجديدة من الحفظ والتذكر بوساطة الحاسبات والتكنولوجيات الإعلامية (كالأفلام، والأشرطة، وسواها) فقد انقلبت الأمور.
وغداً، لن يستطيع الإنسان أن يقرأ آثار ماضيه المنقوشة على اللدائن إلا عن طريق الاستعانة بالآلة. يضاف إلى ذلك أن هذه الأدوات الجديدة سريعة العطب غالباً. فمدة صلاح الشريط المغناطيسي مثلاً لا تجاوز عشر سنوات. هذا إذا لم نتحدث عن الأفلام المصنوعة من «النترات» والتي تحرق ذاتها بذاتها. ولابد إذن أن ننقلها إلى حاملات موثوقة، كالاسطوانات الضوئية العددية، الأمر الذي يرفع من ثمن أداة التوثيق بمقدار كبير ويزيد بالتالي في الفوارق بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية في هذا المجال أيضاً.
وهذه التكنولوجيات الجديدة تضع موضع التساؤل مسألة أخرى أساسية هي مسألة تخزين الوثائق واصطفائها، تلك المسألة التي كان يبدو من قبل أنها حلت حلاً يكاد يكون نهائياً. ولكن، كما يقول مدير مركز الوثائق الوطنية في فرنسة: «لقد غدا التوثيق علماً يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم. فنحن لا نستطيع أن نكوّن فكرة إجمالية عن حضارتنا إذا لم نحتفظ بعناصر قد نعتبرها اليوم عديمة الفائدة، كالمعلومات المبثوثة عن طريق التلفزيون أو الوثائق الصناعية المسجلة على شرائط الفيديو، تلك العناصر التي لن نستطيع بدونها في المستقبل أن نفهم مجتمعنا».
يضاف إلى هذا أن وضع وثائق ورقية تحت تصرف الناس لم يكن يكلف شيئاً، أما المعلومات والشواهد التي تتطلب اللجوء إلى آلات مكلفة فلها غير هذا الشأن.
زد على ذلك أن سهولة استنساخ الوثائق يطرح مشكلات قانونية (تتصل بحماية الملكية)، ومشكلات مبدئية (تتصل بحريات الأشخاص). ذلك أن تقاطع الآلاف من المعلومات قد يعرض حقوق الناس وحرياتهم الشخصية للخطر. ومن هنا لم يكن من قبيل الصدفة أن تتابع اللجنة الوطنية للمعلوماتية بعين حذرة وجبين مقطب استخدام الأساليب المعلوماتية الحديثة من قبل مركز الوثائق الوطنية. وفي مقابل ذلك يستطيع مستخدم هذه الوسائل الحديثة، بفضل الوسائل الإلكترونية، أن يسأل عن بعد ملفات الوثائق، وسوف يتمكن عما قريب من أن يحصل – على شاشة الحاسبة الإلكترونية عنده – على النص الكامل للوثيقة التي يود الإطلاع عليها.
ومما قالته «بول رينيه – بازان» في محاضرتها: «إن معلومةً ما تحصل في أوروبا تُحلَّل في الولايات المتحدة وتلتقط في جنوبي شرق آسيا، قبل أن يبثها القمر الصناعي في العالم كله. ولن تنجو الوثائق من هذه العملية التي هي مصدر غنى لكل دولة، كما أنها في الوقت نفسه عامل يحد من استقلالها».
ولعل الرئيس ميتران لخص هذا كله في كلمته الافتتاحية التي أشرنا إليها حين قال: «إنها ذاكرة العالم تلك التي تتولون حفظها وإبرازها. إن وثائق الدول جميعها، حين تحفظ آثار الأعمال الماضية وسيرتها، تنير الحاضر أيضاً وتمسك بزمامه. والأشخاص الذين في موقع المسؤولية يعلمون حق العلم أنه لا يمكن تحديد اتجاهات معينة للعمل الحاضر إذا نحن لم نعلم الماضي.. إن التقدم الهائل للتكنولوجيات الجديدة يفرض علينا أن نعاود التفكير في أساليب جمع المعلومات وحفظها واستخدامها. إنه يفرض علينا بكلمة واحدة أن نعنى اليوم بما سيكون تراثنا غداً»، أجل، التوثيق، ولا سيما في إطاره التقني الحديث، جدير بأن يوصف بأنه «ذاكرة المستقبل».
4- المكتبة الوطنية الكبرى:
مؤتمر التوثيق يذكرنا بموضوع لصيق به هو موضوع إنشاء مكتبة جديدة، تبزّ سائر المكتبات في فرنسة بل في العالم. وقد أشار الرئيس «ميتران» فعلاً إلى هذا المشروع في ثنايا كلمته التي افتتح بها مؤتمر التوثيق.
على أن أول إشارة إلى هذا المشروع من قبل الرئيس الفرنسي كانت يوم عيد الرابع عشر من تموز / يوليو الماضي، خلال حديثه التلفزيوني مع المذيع المعروف موروزي Maurousy». وقد تلا ذلك توجيه رسالة منه إلى رئيس وزرائه «ميشيل روكار» حول هذا الشأن. وفي هذه الرسالة رغب إليه أن تقوم حكومته بإنجاز ذلك المشروع الضخم، مشروع إنشاء مكتبة عظمى «تغطي جميع حقول المعرفة، وتكون في متناول الجميع، وتستخدم أحدث التقنيات في نقل المعلومات والبيانات، كما يمكن استخدامها عن بعد، فضلاً عن أن تكون على صلة بسائر المكتبات الأوروبية».
وثمة دراسة أولى عن «الجوانب العلمية والتكنولوجية والإدارية لهذا المشروع» ينبغي أن يتم تسليمها قبل نهاية شهر تشرين الثاني / نوفمبر 1988. وقد شكلت لجنة لدراسة الموضوع مؤلفة من مدير النقود والأوسمة ومدير المكتبة العامة للإعلام في مركز «بومبيدو». وهدف هذه اللجنة «تزويد السلطات الرسمية بالتوضيحات اللازمة حول وظيفة هذه المكتبة الجديدة وموقعها وتنظيمها، وحول الوشائج بينها وبين المكتبة الوطنية وسائر المكتبات في فرنسة وكبريات المكتبات في أوروبا».
والمكتبة الكبرى الموعودة «سوف تغطي حقول المعرفة جميعها» كما سبق أن ذكرنا. ومعنى هذا أنها ستضم أيضاً ميدان العلوم. ومعنى هذا كذلك أنها قد تلحق بها، بشكل أو بآخر مكتبة «المركز الوطني للبحوث العلمية». ثم إنها، كما ذكرنا أيضاً «سوف تكون في متناول الجميع»، أي أن أبوابها ستفتح لأوسع جمهور، الأمر الذي يفترض أن تضم مراجع للاستعمال بالإضافة إلى المراجع التي تحفظ. وإذا كانت مكتبة مركز «بومبيدو» تضم ثلاثمائة ألف مجلد تقريباً، فإن المكتبة الكبرى المنشودة ينبغي أن تضم خمسمائة ألف مجلد على أقل تقدير.
وثمة تساؤل أساسي حول الصلة بين هذه المكتبة وبين المكتبة الوطنية. وهذا التساؤل يزداد أهمية إذا ذكرنا أن ذلك قد يعني أن تنتزع من المكتبة الوطنية الحالية حوالي 12 مليون كتاب (في تزايد مستمر) تأتيها من حصاد تطبيق قانون الإيداع، إيداع نسخة في المكتبة الوطنية من أي كتاب يصدر. وانتزاع هذه الثروة المجانية التي تغذي المكتبة الوطنية معناه قتل هذه المكتبة العريقة الشيخة. ولكن نظام الاتصال بالمكتبة الموعودة عن بعد، والصلات بين هذه المكتبة والمكتبات الكبرى في البلد، على نحو ما يرغب الرئيس ميتران، أمور تفترض القيام بإصلاح جذري للمكتبات كلها، وللمكتبات الجامعية بوجه خاص.
ومهما يكن من أمر، لا شك أن هذا المشروع الطموح سيكون أكثر كلفة من أي من المشاريع الكبرى التي اختارها الرئيس ميتران أو التي يتابعها، ولكن الجميع هنا يعرفون محبة الرئيس الفرنسي للكلمة المطبوعة. ولعل أحب شيء إلى قلبه أن يترك اسمه إلى جانب «أكبر مكتبة».
5- مكتبة أخرى فذة في الإسكندرية بالتعاون مع منظمة اليونسكو:
بريق مكتبة الإسكندرية التاريخي ما يزال يراود النفوس، على الرغم من انقضاء ألفي سنة على إنشائها. ومن هنا تطمح الحكومة المصرية، بالتعاون مع اليونسكو ومع جهات أخرى، أن تحل محلها «مكتبة إسكندرية» جديدة.
وبالفعل، قام الرئيس المصري حسني مبارك والمدير العام لليونسكو السيد «مايور» في 26 حزيران/يونيو الماضي، بوضع الحجر الأساسي لهذه المكتبة التي سيتم تنفيذها منجمة على شرائح متتابعة والتي سيكتمل بناؤها في بداية القرن القادم.
والمكتبة المنتظرة سوف تكون مكاناً للتعلم معنياً بوجه خاص بميادين المعرفة المرتبطة بالتاريخ والجغرافيا، وبوجه أعم بثقافة الإسكندرية وما يجاورها من بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط والشرق الأدنى.
وسوف تكون المكتبة مزودة بأحدث الوسائل، كما ستستقبل، إلى جانب الجمهور، الباحثين في الآثار والتاريخ والهندسة المعمارية وفق اللغة والفلسفة والدين والعلوم… وفوق ذلك سوف تكون مركزاً لترميم المخطوطات الأصلية المهددة بالتلف، ولا سيما تلك المخطوطات التي تبلغ عشرات الآلاف والتي تنتسب إلى العصر الوسيط، وهي مخطوطات تضمها الجوامع والمتاحف والأديرة، وليس لها حتى اليوم فهرست كامل.
وسوف تفتح المكتبة أبوابها حوالي عام 1995 برصيد من الكتب يبلغ مائتي ألف كتاب. ثم توسع مقتنياتها شيئاً بعد شيء (حتى تبلغ أربعة ملايين كتاب ثم ثمانية ملايين كتاب). أما إدارتها فستكون كلها آلية تعتمد الحاسبات الإلكترونية، وسوف يغدو من الممكن الاتصال بفهرستها من قبل جامعات المنطقة عن طريق الاتصالات الهاتفية الحديثة.
ونظراً للحاجة إلى تكوين أشخاص عاملين مدربين على فنون العمل المكتبي اللازمة لمثل هذه المكتبة، سوف تضم مدرسة دولية لعلوم المعلومات. وسوف تستقبل طلاباً يعدون دبلوماً متقدمة أو دكتوراه متخصصة، ليس لحسابها فقط، بل من أجل مؤسسات أخرى في مصر وفي البلاد العربية الأخرى.
وتقدر تكاليف مثل هذا المشروع الطموح حوالي (160) مليون دولار، بالإضافة إلى ثمن الأرض (60 مليون دولار)، والمبالغ اللازمة لتكوين مجموعات الكتب والوثائق وشراء التجهيزات (40 مليون دولار).
ومن أجل الإشراف المنظم على مثل هذا المشروع الضخم شكلت السلطات المسؤولة في مصر «لجنة قومية عليا لجامعة الإسكندرية» يرأسها رئيس الجمهورية نفسه. وثمة لجنة وزارية تشرف على حسن تنفيذ هذا المشروع.
وقد قدمت الحكومة المصرية لهذا المشروع أرضاً مساحتها أربعة هكتارات (تقدر قيمتها بستين مليون دولار) تقع على البحر، ومركزاً دولياً للمحاضرات (سوف يدمج ببناء المكتبة فيما بعد) تقدر تكاليف بنائه (وهو جاهز حالياً تقريباً) بحوالي 20 مليون دولار.
يضاف إلى هذا أنها خصصت في خطتها الخمسية مبلغ (2.2 مليون دولار) لتغطية نفقات العاملين.. وتبقى مائة مليون دولار تقريباً ينبغي البحث عنها من أجل إنجاز المشروع. وتأمل الحكومة المصرية تغطية هذا المبلغ عن طريق القيام بحملة تبرع وطنية، وعن طريق المنح الخارجية الخاصة والعامة.
أما إسهام منظمة اليونسكو في هذا المشروع فتضم تقديم مجموعة من الخدمات والخبرات الفنية (تم بعضها) تشمل فيما تشمل: القيام بدراسة جدوى لجملة المشروع انتهت عام 1987، ومجموعة من الاستشارات والخبرات فيما يتصل بنظام جمع المجموعات الأساسية، واختيار أنظمة المعلومات الملائمة، وإنشاء مدرسة دولية في علوم المعلومات، والتنظيم الداخلي للمكتبة، الخ… وتقدر كلفة مجموع هذه الخدمات التي تقدمها اليونسكو بمائة ألف دولار. على أن اليونسكو التزمت بِحَثّ الدول المختلفة على تقديم مساعدات من أجل تجهيز البناء أو من أجل الحصول على المجموعات أو من أجل المنح الدراسية لإعداد العاملين في المكتبة ولا سيما محافظوها.
أنباء علمية
1- ذاكرة المادة: اكتشاف فرنسي قد يقلب أسس الفيزياء:
كشف فريق من البيولوجيين الفرنسيين والأجانب، يرأسه الدكتور «جاك بنفنيست “Jacques Benveniste”» مدير البحوث في «المركز القومي للصحة والبحوث الطبية “I.N.S.E.R.M.”، عن نجاحه في الكشف عن ظاهرة كانت ما تزال عصية على التفسير، وهو نجاح قد يقلب المفاهيم الحالية حول بنية المادة. وقد نشرت هذا النبأ المجلة الأسبوعية البريطانية «الطبيعة» في عددها الصادر في 30 حزيران/يونيو الماضي.
وقد عيلَ صبر العلماء من قبل ترقباً لنشره. ولا غرابة فالموضوع يتعلق بأمر خطير، هو الكشف عما إذا لم يكن من الواجب أن توضع موضع التساؤل بعض الأسس الحالية للفيزياء والكيمياء وعلم الحياة.
وبعد أشهر من التردد عزمت المجلة البريطانية الهامة «الطبيعة» على نشر ما وصفه مديرها بأنه ظاهرة «لا تصدق»: إنه البرهان الذي قدمه فريق من علماء الحياة العالميين، يرأسهم طبيب فرنسي، على أن معلومة بيولوجية معينة يمكن أن تنتقل عن طريق الماء الصافي مبدئياً. أو بتعبير آخر أن الماء قادر على أن يحفظ «ذكرى» جزيئات فعالة بيولوجياً سبق أن مرت به ثم زالت بعد ذلك على أثر عمليات إذابة للجزيئات بتكرير الماء مراراً وتنقيته من تلك الجزيئات. وهكذا يمكن الاعتقاد بأن من الممكن وجود «آثار جزيئية دون وجود جزيئات». ومثل هذه النتيجة من شأنها أن تؤرق العلماء في العالم كله، لأنها تقلب المبادئ الأساسية التي قامت عليها الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا الحديثة.
في البدء كان الدكتور «بنفينست» رئيس الفريق يطرح أسئلة بسيطة: هل للأدوية المثلية (homeopatique) نتائج بيولوجية تمكن ملاحظتها تجريبياً؟ وهل للمواد المذابة في الماء (إلى حد لا تبقى فيه جزيئات فعالة بيولوجياً) أثر على الكائن الحي؟ غير انه ما لبث حتى اكتشف سريعاً (إذ كان ذلك عام 1985) إن المشكلة معقدة جداً وإن ثمة ظاهرة خارقة للمألوف يمكن الكشف عنها. وهكذا انطلق من معلوماته وكفاءاته في ميدان الأدوية المناعية في مجال الحساسية والالتهاب، واستعان بطبيب اختصاصي بالمعالجة المِثْلِية، ودرس الظاهرة المعروفة في ميدان الحساسية، ظاهرة «عدم تَحبُّب» بعض الخلايا الدموية (وهي الخلايا المستقْعِدة Basophiles) عندما تواجه مادة مثيرة للحساسية (كغبار الطلع، وغبار المنزل، والأسبرين، وسوى ذلك). وقد استطاع بالفعل أن يثبت لنا أننا إذا وضعنا هذه الخلايا المستقْعِدة وسط مادة مثيرة للحساسية ودواء مِثْليّ (كَسُمِّ النحلة المذاب إلى درجة كبيرة)، يحدث تناقص كبير في النسبة المئوية لعدم تحبُّب الدم.
وقد نشر هذه النتائج في جريدة «الموند» عام 1985 (عدد السادس من آذار/مارس، وأثار نشرها جدالاً حاداً، واتهم بأنه يحاول بذلك أن يدعو للعلاج عن طريق الأدوية المثلية (homeopathie).
غير أن الدكتور «بنفينست» والفريق العامل معه تابعوا خلال السنوات التالية أبحاثهم حول آثار الإذابة العالية على النظم البيولوجية. وكلما تقدموا في البحث كان حدسهم الأول يتأكد: إن الإذابة العالية جداً قادرة على أن تسبب عدم تحبب الخلايا المستقعدة في الدم. ولكن الصحافة العلمية الفرنسية والدولية أبت نشر مثل هذه النتائج، وأخيراً قبلت مجلة «الطبيعة» بإجراء مفاوضات مع الدكتور «بنفينست»، واشترطت لنشر هذا البحث أن يعاد إجراء هذه الظاهرة في مختبرات أجنبية أخرى، وقد تم ذلك ونشر البحث.
وما يزال الباب مفتوحاً للتأكد من هذا الكشف: هل هو كشف علمي حقاً يحقق تقدماً في العلم، أم هو مجرد وهم. على أن نشر البحث في مجلة «الطبيعة» المعروفة بجديتها ومستواها العلمي الرفيع يشكل دليلاً على أهمية الكشف ومرحلة هامة على طريق تقويمه.
2- نقل الدم وآفاق عام 1993، عام الوحدة الأوروبية:
الوحدة الأوروبية سوف تعرف مرحلة جديدة من تقدمها وسوف تبدأ بداية حقة في الأول من كانون الثاني / يناير 1993، بحيث تشمل شتى جوانب الحياة في بلدان الوحدة. الأمر الذي يبدأ الاستعداد الصارم له منذ اليوم في هذه البلدان جميعها، والذي يطرح كذلك مشكلات يبحثها المختصون محاولين تجاوزها.
ومن المشكلات التي تطرح منذ اليوم طرحاً حاداً مشكلة نقل الدم في أوروبا الموحدة.
والمسؤولون الفرنسيون والدوليون عن نقل الدم يراودهم في هذا المجال قلق ذو وجهين: أولهما يرجع إلى وباء السيدا (الإيدز)، وثانيهما الانقلابات المفاجئة التي سوف يحدثها «القانون الموحد الأوروبي» على السوق الدولية للدم ومشتقاته.
وقد كانت هذه المسألة موضع اهتمام المجتمعين في المؤتمر الرابع عشر «للجمعية القومية لنقل الدم»، ذلك المؤتمر الذي انعقد في مدينة «رين Rennes» الفرنسية، بين الثاني والعشرين والرابع والعشرين من شهر حزيران/يونيو الماضي، والذي ضم نيفاً وستمائة اختصاصي فرنسي وأجنبي.
والهدف المنشود في هذا المجال عام 1993 يبدو سهلاً وبسيطاً: إنه حرية تنقل الدم بين بلدان المجموعة الأوروبية الاثني عشر، بحيث تكمل «أوروبا الحمراء» «أوروبا البيضاء» (أوروبا الأطباء والأدوية). غير أن دون ذلك في الواقع صعوبات ومشكلات عديدة، بعضها خلقي وبعضها الآخر اقتصادي وجانب منها طبي.
أما فيما يتصل بالجانب الخلقي، فيلاحظ أن المبادئ الخلقية في هذا المجال ليست حتى اليوم محددة على النطاق الدولي إلا داخل المنظمات غير الحكومية، كالصليب الأحمر والجمعية الدولية لنقل الدم. والمبادئ المحددة داخل هذه المنظمات تشمل بالدرجة الأولى المبادئ المتصلة بالتبرع بالدم. ومن المشكوك فيه أن تظل «المبادئ الإنسانية» التي تحكم هذا الميدان ذائعة في إطار سوق أوروبية مشتركة للدم. فهنالك مصالح اقتصادية قوية يمكن أن تقف عقبة دون ذلك. ويبدو أن ألمانيا الاتحادية هي التي تطرح مشكلة جدية، إذ أنها – بسبب حجم صناعة الأدوية عندها – تعجز عن أن تحصل على كميات كافية من «البلاسما» مما يضطرها إلى استيرادها من البلدان الأوروبية الأخرى. وجمع «البلاسما» كما نعلم هو الذي يثير مشكلات خلقية هامة. هكذا نجد مثلاً أنه في حين يتراوح حجم ما يجمع من البلاسما في أوروبا بين عشرة ليترات وخمسة عشر ليتراً في السنة للمتبرع الواحد، نجد أن الولايات المتحدة التي تستهلك – لأسباب صحية وصناعية – 50% من البلاسما العالمية، تسمح حالياً بجمع مقدار من البلاسما يبلغ خمسين أو ستين ليتراً كحد أعلى للشخص الواحد، وتقدم غالباً مكافأة مالية للمتبرعين، الأمر الذي يعرضهم لأخطار طبية كبيرة (كأمراض الكليتين).
أمام هذا الوضع، ماذا سيكون عليه الموقف عام 1993؟ هل من الممكن منذ الآن مثلاً حث المتبرعين بالدم في فرنسة أو سواها على التبرع بدمهم وبما فيه من بلاسما من أجل تلبية حاجات ألمانيا؟ أم أن الأفضل الأخذ بمبدأ «الاكتفاء الذاتي» الذي تدافع عنه هولندا والذي تنتقده بشدة رابطة جمعيات الصليب الأحمر التي ترى فيه شكلاً من أشكال «الأنانية الوطنية»؟
وإلى جانب هذا كله، وفوق هذا كله، تطرح مسألة نقل الدم مشكلة مرض السيدا (الإيدز). فمن المؤكد اليوم أن من أهم وسائل انتقال هذا الوباء نقل الدم من شخص مريض (أو حامل للفيروس) إلى شخص معافى. ومعنى ذلك أن حرية انتقال الدم سوف تزيد من أخطار تعرض الأصحاء لآفات هذا الوباء. ومن هنا يطالب بعض المسؤولين منذ اليوم بأن توضع على زجاجة الدم أو على دواء مشتق من الدم ملصوقة تبين فيما إذا كان مصدر الدم أناساً متبرعين طوعاً وبرغبة منهم.
ومهما يكن من أمر فما يزال السؤال مطروحاً: هل سيسهم هذا الوباء في إقامة حواجز «دموية» بين البلدان الاثني عشر، تلك البلدان التي تترقب حرية انتقال الأشخاص والبضائع ورؤوس الأموال؟
مناسبات
المناسبات في هذه الفترة متكاثرة، ومعظمها يتصل بغياب بعض الوجوه الفكرية والأدبية الشهيرة. ومن العسير التريث عندها جميعها، لذلك نكتفي بوقفات خاطفة عند أهمها:
1- وفاة الشاعر الفرنسي الكبير «فرانسيس بونج»:
في السادس من آب / أغسطس توفي الشاعر الفرنسي الفذ «فرانسيس بونج Francis Ponge» عن عمر بلغ التاسعة والثمانين، وبوفاته ينتهي عقد أولئك الأدباء الذين أحدثوا في القرن العشرين هزات كبرى، من أمثال: «بولان Paulhan»، و«ميشو Michaux» و«ليريس LEIRIS» و«بلانشو Blanchot». وقد سرى شعره خلال زمن طويل وتغلغل في الأدب وحفر فيه دروباً عميقة، حتى بلغ ذروته وشاع صيته ودان له الجميع، دانوا لذلك الذي تغنى باللفظة وبالعالم.
وقد وضع «سيرج كوستلر Serge Kostler» (عام 1983) دراسة قيمة عن هذا الشاعر نشرتها دار «فيرييه H.Veyrier»، وهي جديرة بالقراءة، إلى جانب عشرات المؤلفات التي كتبت عن هذا الشاعر الذي أحدث ثورة فعلية في الشعر الفرنسي، بل في أسلوب استخدام اللغة الفرنسية.
2- وفاة فيلسوف القانون «ميشيل فيلي»:
في السابع والعشرين من تموز / يوليو الماضي توفي «ميشيل فيلي Michel Villey» الأستاذ السابق في جامعة باريس الثانية، واحد الأوجه البارزة في ميدان فلسفة القانون.
ولد الفيلسوف في «كان Caen» عام 1914، من أسرة ضمن مجموعة من ذوي الشهرة. فلقد كان جده «اميل بوترو Boutroux» الفيلسوف الشهير، وكان بين أولاد خاله وعمه «هنري بوانكاريه Poincaré» الرياضي الشهير و«ريمون بوانكاريه» المحامي والسياسي ورئيس الجمهورية الفرنسية (بين عام 1913 وعام 1920). وقد اختار أن يكرس جهوده لفلسفة القانون في وقت كان لواء النصر معقوداً فيه للنزعة الاجتماعية وللنزعة الوضعية في ميدان القانون. وهكذا أبدع إنتاجاً قوياً وغريباً، يسير في عكس اتجاه الأفكار السائدة. وعلى الرغم من تكوينه الفكري الذي يدين به للحقوق الرومانية، كان أول ما أكد عليه هو أن يثبت أن الحقوق الحديثة ليست أبداً وليدة الحقوق الرومانية. ذلك أن حقوق القدماء، فيما كتب، كانت حقوقاً تستند إلى البحث عما هو «عادل»، وبالتالي كانت حقوقاً موضوعية، بينما حقوق المحدثين حقوق ذاتية شخصية مصدرها القانون.
3- «بول» و«فيرجيني» بعد مائتي عام:
مضى مائتا عام على نشر قصة «بول وفرجيني» Paul et Virginie التي كتبها برنار دي سان بيير Bernard de St. Pierre» والتي عرفها قراء العربية عن طريق نقلها، نقلاً فيه من حرية التصرف ما فيه، من قِبَلِ مصطفى لطفي المنفلوطي.
وقد لا يرى قارئ اليوم – ولا سيما في
الغرب – في هذه القصة إلا طرازاً من الأدب يحمل على الضحك: السعادة في الجزيرة، العواطف الجميلة، أنهار الدموع، النهاية التعيسة… هذه وسواها قد تبدو لقارئ اليوم ضرباً من التعلق المفرط بالحياء والبراءة وبضرب من الأخلاق تلخصها أمثال ثلاثة: «السعادة هي الحياة في غفلة عن الناس»، «المال لا يصنع السعادة»، «المصائب لا تأتي فرادى». وقد عبر «ألبير كامو A. Camus» عن نظرة بني عصره إلى مثل هذا الأدب تعبيراً لا يخلو من قسوة فقال: «إن أدب القدوة الحسنة بينه وبين الأدب العظيم بون أعظم. وأفضل القصص الوردية، أعني بول وفرجيني، ذلك المؤلف المفجع، لا يقوى على أن يقدم أي عزاء».
وقد لا تخلو مثل هذه الأحكام من تسرع وغلو. فقصة بول وفرجيني التي عرفت في زمانها نجاحاً منقطع النظير تظل على أقل تقدير وثيقة هامة تصف عقلية عصر بكامله.
ثم إن مؤلف القصة يحدثنا، على لسان حكيم يعلّم غافلاً، عما في فرنسة إذ ذاك (بعد أن زارها فيرجيني في القصة) من ظلم وانعدام للعدالة الاجتماعية ومؤامرات سياسية وغياب للقيم الخلقية وسيطرة لسلطان المال. وفي هذا كله ما يقدم لنا صورة واقعية لمجتمع ذلك العصر ونقداً لتلك الصورة لا يخلو من عمق.
زد على ذلك أن مؤلف الكتاب يسهم في كثير من مواضيعه في تغير العقليات السائدة، ويدعو إلى تغيير الواقع، وهل فقد معناه حقاً قولٌ كالآتي: «إن النساء لابد أن يكن مخادعات وزائفات في البلدان التي يكون فيها الرجال جبابرة متسلطين. إن العنف، أنّى وُجد يولّد الخداع».
4- ذكرى مرور مائتي عام على ولادة الفيلسوف شوبنهور:
بمناسبة مرور مائتي عام على ولادة الفيلسوف الألماني «أرثور شوبنهور» Arthur Schaupenhauer (ولد في 22 شباط / فبراير 1788) خصّته بعض الصحف والمجلات الفرنسية بدراسات ومقالات تحليلية.
بدأت نزعة التشاؤم التي اشتهرت بها فلسفة شوبنهور، منذ طور مبكر في حياته. ففي مذكراته نقرأ ما يلي: «لقد تملكني الشعور بفجع الحياة، شأن «بوذا» عندما أكتشف في ريعان شبابه وجود المرض والشيخوخة والموت». وفي خلال رحلاته الكثيرة التي يسرها له والده، ولما يجاوز الحادية عشرة من العمر، بقي في ذاكرته ذلك الشعور الذي راوده على سفح الجبل الأبيض (المون بلان). وقد تحدث عن هذا الشعور بعد عشر سنوات في كتابه الشهير «العالم كإرادة وتصور»، فقال: ذلك المزاج القاتم الذي يلاحظ غالباً لدى العقول السامية نجد رمزاً له في قمة الجبل الأبيض: القمة تكاد تكون دوماً محجوبة بالغيوم، ولكن عندما يتمزق الحجاب أحياناً، لا سيما عند الفجر، بحيث يظهر الجبل للعيان وقد خالطته حمرة أشعة الشمس وبدا في كامل شموخه، عند ذلك نشهد منظراً يتفتح لرؤيته قلب كل إنسان حتى الشِّغاف وحتى أعمق أعماق وجوده، وهذا هو شأن الرجل العبقري، إنه في العادة ميال إلى الكآبة، غير أنه يبدي بين الفينة والفينة ذلك الصفاء الخاص الذي لا يقوى عليه سواه من البشر، والذي يطوّف فوق جبينه طيفاً كشعاع النور، والذي يرجع إلى أن عقله يعرف أن ينسى ويذوب في العالم الخارجي».
ولئن كانت زيارة الجبل الأبيض مصدر اكتشاف الوحدة التي يعرفها العبقري، فإن زيارة «طولون» حيث يوجد منفى يعمل فيه ستة آلاف شخص محكومون بالأشغال الشاقة وقد رُبط بعضهم ببعض بالسلاسل، أحدث لدى «شوبنهور»، تباشير الدُّوار الفلسفي والأسى الفلسفي. أليس شأننا جميعاً هو شأن المحكومين بالأشغال الشاقة في «طولون»؟ ألسنا رفاق سجن طويل؟
أليس جديراً بالإنسان إذن حين يواجه إنساناً آخر أن يحييه قائلاً/ يا رفيق الألم؟
وهكذا إن كل لقاء يذكرنا بضرورة التسامح والصبر والعفو ومحبة الآخرين. فلئن كان نصف البشرية يئن ويشكو، فإن نصفها الآخر لا يضطرب إلا ليخفي ضرباً آخر من الألم يأكله: نعني الملل.
وهكذا نرى أن شوبنهور (شأنه شأن نيتشه وكير كجورد Kierkegard) يغذي أفكاره بتجاربه وشكوكه وضيق صدره. إن الفلسفة عنده لم تعد مجرد تفسير للعالم من بعد، بل غدت محاولة للاندماج مع التجربة ذاتها.
ذلك أن المسألة عند شوبنهور ليست أن نعرف بماذا نفكر بل أن نعرف ماذا نحن. أولم يكتب في رسالة إلى «غوته»: إن ما يجعل الفيلسوف فيلسوفاً هو الشجاعة في المضي حتى نهاية المشكلات. إن عليه أن يكون مثل «أوديب» في رواية سوفوكليس الذي حاول أن يعرف مصيره المخيف، فتابع البحث عنه دون كلل، حتى عندما خمن بأن الجواب لن يقدم إلا الخوف والذعر».
5- وفاة «جدة» التحليل النفسي «فرانسوازدولتو»:
في الخامس عشر من شهر آب/أغسطس توفيت الطبيبة والمحللة النفسية الشهيرة «فرانسواز دولتو Francoise Dolto) عن عمر بلغ التاسعة والسبعين.
ولقد كانت لدى الجمهور الفرنسي العريض «الجدة» المفضلة، بفضل ما تفردت به من قدرة على استخدام اللغة التي يفهمها معظم الناس: وهكذا كان صوتها يصل إلى قلوب الجماهير وعقولهم مؤثراً بليغاً. وبفضل ما كان لديها من حس سليم ومعاني واضحة استطاع الناس أن يفهموا «لا معنى» الحياة.
لقد بدأت «دولتو» عملها طبيبة للأطفال، وأدركت منذ أيام ما قبل الحرب العالمية الثانية، أن عدداً من أمراض الأطفال الذين كانت تعالجهم كانت ترجع إلى أسباب نفسية لا شعورية. وكانت منذ ذلك الحين، عضواً في مدرسة، فرويد» الباريسية، ونشرت عدداً من المؤلفات «منها التحليل النفسي وطب الأطفال» (عام 1939) ومنها الكتاب الذي أطلق شهرتها «حالة دومينيك» (عام 1971). وعاودت التفكير في عالم الطفولة هذا بعد سنوات واهتمت به في نشراتها الإذاعية ثم في مجلدين هامين نشرتهما دار «سوي Seuil» بعنوان: عندما يبدو الطفل (وهو عنوان مستقى من عنوان قصيدة فكتور هوغو الشهيرة). ومما قالته في ذلك المؤلَّف: إن ما يجهله الكثير من الآباء والراشدين هو أن صغير الرجل (تعني الطفل) هو منذ ولادته كائن ذو لغة، وأن كثيراً من صعوباته تجد طريقها إلى الحل حين تفسر له». فاللغة (أي الاتصال عن طريق التعبير) هي التي تميز تربية الإنسان من تربية الحيوان. ولا تعني بذلك فقط اللغة المكونة من ألفاظ ولكن تعني كذلك الأوضاع الجسدية والحركات والعواطف.
وإلى جانب الكتب الكثيرة التي كتبتها عبر السنين الكثيرة (وعلى رأسها، «حالة دومينيك»، الكتاب الذي أشرنا إليه منذ حين وقد طبع عام 1971، ثم علم النفس وطب الأطفال. (عام 1971). ثم الحياة الجنسية للمرأة (عام 1982) ثم «الطفل في المرآة» (عام 1987) وسواها…) خلفت المحللة النفسية الكبيرة مخطوطاً يدور، حول مرحلة المراهقة، رأى فيه النقاد ما يشابه وصيتها وسوف تقوم بنشره دار، هاتييه hatier عام 1989 بعنوان. كلمات للمراهقين. وفيه تتحدث عن المراهقة التي هي أشبه ما تكون بولادة جديدة، ولكن على مراحل. وقد كتبت في مقدمته، قبل أيام قليلة من وفاتها: هذا الكتاب موجه إليكم، أيها الفتيان والفتيات الذين تشعرون أن من الصعب عليكم أن تعيشوا ما عليكم أن تعيشوه». إنه من الكتب النادرة التي تخاطب من تتراوح أعمارهم بين الثالثة عشرة والسابعة عشرة مخاطبة حميمة وعلمية في آن واحد. ومن هنا لا عجب إن أطلق عليها اسم «الأم الساهرة».
6- مرض السيدا (الإيدز) لا يوفر الفلاسفة:
في العشرين من آب/أغسطس توفي المفكر والباحث، جان بول آرون، Jean Paul Aron، وله من العمر 63 عاماً، بعد صراع طويل مع مرض «السيدا» الذي اكتشف منذ عدة سنوات أنه مصاب به. ومما هو جدير بالذكر أنه تحدث بعد ذلك عن مرضه وكتب عنه في كثير من رباطة الجأش وصفاء الذهن. على أن هذا لا ينسينا فكر آرون القوي وشخصيته الهازلة وفلسفته الصارمة والساخرة معاً، بالإضافة إلى قدرته على التمثيل ومشاركته فيه ومحبته للمسرح وللفن جملة. لقد كان في الجملة يعبر عن الفرح بالحياة ومحبتها.
ومن بين الكتب العديدة التي ألفها، نشير إلى المؤلفات الآتية:
– دراسة حول الأحاسيس الغذائية في باريس في القرن التاسع عشر (عام 1967).
– دراسة في مناهج البحث في علم الحياة (عام 1969).
– المحدثون (1984).
وبعد أيام معدودة توفي بالمرض نفسه (مرض السيدا) الكاتب الفرنسي الشهير الشاب «غي هوكنغم Guy Hockenghlem» وذلك في الثامن والعشرين من آب/أغسطس عن عمر لم يزد عن 42 عاماً، وقد أنتج خلال هذا العمر القصير عشرات المؤلفات تعالج موضوعات أدبية وفكرية متنوعة.
مؤلفات جديدة
ههنا أيضاً نختار قليلاً من كثير، ونكتفي بالتلميح إلى مضمون الكتاب دون التصريح الوافي.
1- الفلاسفة الفرنسيون كما يراهم الألمان:
نشرت دار «غاليمار» ترجمة فرنسية لكتاب هام وضعه الفيلسوف الألماني المعروف «يورغن هابرماس Yurgen Habermas» وعنوانه الخطاب الفلسفي للمعاصرة le discours philosophique de la modernite وهو مجموعة من عشرة «دروس»، فيها نقد للفلسفة الفرنسية، بل نقد جارح أحياناً.
وتعود بنا هذه الدروس إلى مسيرة تاريخ الفلسفة منذ القرن الثامن عشر، أي منذ ابتكار مفهوم المعاصرة. وهو مفهوم ظهر أول ما ظهر في عالم الفن، من خلال صراع القدامى والمحدثين، ثم حوله فلاسفة عصر النور إلى شعار سياسي. وجاء بعد ذلك «كنت» فوحّد بين الحداثة والعقلانية، وجاء هيجل فطرح المشكلة من جديد واعتبر المعاصرة أمراً تم واستوى في نظامه الفلسفي. وجاء الهيجليون الشبان، من أصحاب اليسار واليمين، وتجاوزهم بعد ذلك تيار «نيتشه» ثم تيار «هيدجر» الذي لا يتورع «هابرماس» عن وصفه بأنه فاشي.
ومن هنا يحاول «هابرماس» في نهاية كتابه هذا أن يضع الخطوط الكبرى لنزعة عقلانية وذاتية، يستند إليها التفكير الاجتماعي، والسياسي الذي فصل الحديث عنه في كتابه الأساسي «نظرية العمل التواصلي».
وفي حديثه عما ظهر بعد نيتشة من نزعات فلسفية في فرنسة. لا يرجع إلا إلى بعض النصوص القديمة التي كتبها «داريدا darrida و«فوكو Foucault» وحديثه هذا يحمل طابعاً نقدياً واضحاً.
2- الثورة الفرنسية انتهت:
إعداداً للعيد الكبير، في الرابع عشر من تموز/يوليو 1989، عيد مرور مائتي عام على الثورة الفرنسية، تظهر عشرات الكتب ومئات المقالات على صفحات المجلات، تتحدث عن الثورة الفرنسية في شتى وجوهها.
ومن بين ما يكتب ويقال، نقع على صيحات نابية تحاول أن تقلل من شأن الثورة الفرنسية أو أن تنقدها أو أن تنظر إلى ما تبقى منها.
من هذه الصيحات، ومن أقوالها، تلك التي أطلقها فرانسوا افوري Francois Furet المؤرخ والأستاذ الشهير الذي أطلق عليه بعضهم لقب رجل عام 1789 لكثرة ما كتب عن الثورة الفرنسية. وقد بدأت صيحاته هذه خافتة ثم أخذ لهيبها يشتد حتى بلغ أوجه في كتاب نشرته دار «هاشيت» هو الجزء الرابع من المؤلف الكبير «عن تاريخ فرنسة» ثم في «معجم نقدي للثورة الفرنسية»، نشرته دار فلاماريون وسوف يظهر في الأسواق في شهر تشرين الأول/أكتوبر.
والكتاب الأول (الذي نشره المؤلف في دار هاشيت في 528 صفحة) محاولة شخصية ورؤية خاصة لمؤرخ تقوده فكرة أساسية: لقد عاشت الثورة الفرنسية قرناً واحداً.
أما المعجم فهو معجم موسوعي (في 900 صفحة). وفي رأي (فوريه)، الذي كتب نصف هذا المعجم تقريباً، لم ينتبه المؤرخون والباحثون انتباهاً كافياً إلى التاريخ السياسي للثورة الفرنسية، بينما أكدوا المعنى الاقتصادي لها. أما هو فيرى أنه إذا كانت الثورة الفرنسية هي أكثر الأحداث شمولاً في تاريخ فرنسة، فما ذلك إلا لأنها وضعت الأسس لا لعلاقات اقتصادية جديدة، لكن لمبادئ سياسية جديدة ولأنماط جديدة من الحكم. كذلك ينبغي ألا نغفل، فيما يقول، تاريخ الأفكار السياسية والتاريخ الثقافي جملة في حديثنا عن هذه الثورة.
وفي الجملة، لقد آن الأوان في نظر «فوريه»، بعد قرنين من الصراع الإيديولوجي، أن نؤكد أن الثورة الفرنسية انتهت، وأن نتخذ منها مجرد موضوع لدراسة علمية.
2- «من قريب ومن بعيد»، أحاديث لعالم الأنثروبولوجيا الشهير كلود ليفي.. ستروس:
لعل كلود ليفي – ستروس Claude Levi Strauss. عالم الاجتماع الشهير والأستاذ في الكوليج دوفرانس وعضو المجمع الفرنسي، يمثل واحداً من القلائل الباقين من «الوحوش» المقدسة للحياة الفكرية في فرنسة.
ومن النادر أن يتحدث مبدع الأنثروبولوجيا البنيوية عن نفسه وعن حياته الخاصة أو الفكرية. ولكن الكاتب الصحفي، ديدييه إيريبون Didier Eribon، اقتحم عليه خلوته وأجرى حديثاً مفصلاً معه، نشرته دار أوديل جاكوب Odile Jacob في كتاب ظهر في الأسواق منذ أيام قليلة (في التاسع والعشرين من شهر آب/أغسطس). والكتاب يصف في الواقع، من خلال تجربة ليفي ستروس الفكرية، حياة العصر الذي عايشه. إنه يحدثنا مثلاً عن صلاته بالسرياليين، وبأندريه بروتون Breton بوجه خاص ثم عن «ماكس إرنست Max Ernest». ويشير إلى مدى تأثره بالسريالية، مبيناً أنه وأصحابها ينتسبون إلى أسرة فكرية واحدة ترجع إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد اهتم السرياليون باللاعقلاني وحاولوا الإفادة منه في الإبداع الجمالي. أما هو فقد استخدم المواد نفسها ولكنه أخضعها للتحليل وجرب أن يفهمها فهماً عقلياً، مع اهتمامه بمواطن الجمال فيها. يضاف إلى هذا أن جو الزمرة السريالية كان جواً من الاندفاع الفكري الذي أفاد منه ليفي ستروس فيما يقول: فبفضل التَّحاك مع هذه الزمرة اغتنى ذوقه الجمالي ورقت حاشيته.
وهكذا يمضي ليفي ستروس من فنن إلى فنن، فيتحدث عن كبار مفكري عصره وعن أهم تياراته، ويتحدث عن الماركسية وعن تعلقه بها تعلقاً غير سياسي، مبيناً كيف ان «ماركس هو الذي قاده إلى معرفة «هيجل» ومن ورائه «كنت».
ومما يقوله، محاولاً أن يعرّف نفسه: «تسألني عن العوامل التي تركت لدي أثراً. الحق أنني «كَنْتي» عامي، ولعلي في الوقت نفسه بنيوي بالولادة. فلقد حدثتني أمي أنني عندما كنت صغيراً وغير قادر على المشي ولا أعرف القراءة طبعاً، صرخت ذات يوم، وأنا في عربتي، أن الأحرف الثلاثة الأولى على الشارة التي يضعها كل من الجزار Boucher والخباز Boulanger ينبغي أن تكون Bou لأنها كانت متشابهة في الحالين. وهكذا كنت منذ ذلك العمر أبحث عن الثوابت».
ولكن السؤال الحائر الذي يظل مطروحاً بعد هذا كله: أين هم تلاميذ ليفي ستروس وأتباعه الذين ظهروا أيام مدّ الفلسفة البنيوية؟ ومن بقي منهم على الدرب وماذا بقي من آثارهم؟ وهل لزام علينا أن نعتقد أن أي منهج لا ينجح ويعمل إلا من خلال الموهبة الأدبية التي يملكها صاحبه؟ أو بتعبير آخر، ما عسى أن يكون عليه علم ليفي ستروس لولا أسلوبه؟