الإيديولوجيا الناعمة، موجة جديدة في الغرب

نشر في مجلة العربي الكويتية – العدد /354/ – مايو 1988

«الأيديولوجيا»
الناعمة
موجة جديدة في الغرب
بقلم: الدكتور عبد الله عبد الدائم

تمحيص «الأيديولوجيات» وتنقيحها وإعادة النظر فيها، بل ووضعها موضع التساؤل والشك، مواقف ليست جديدة، وإن لبست تبعاً للأحداث والملابسات حللاً متجددة. وتصويب «الأيديولوجيات»، وتسديد مراميها في ضوء تقدم الحضارة الإنسانية وتطور مظاهرها وآثارها أمر مألوف كذلك، لاسيما بعد ظهور الثورة الصناعية في تاريخ الإنسانية منذ القرن الثامن عشر والتاسع عشر. لكن بروز موجة جديدة في الغرب تبشر «بالأيديولوجيا الناعمة» هو الجديد في الأمر. فما هي هذه «الأيديولوجيا»؟
إن أضخم مراجعة عرفتها «الأيديولوجيات» في العصر الحديث سواء انتسبت إلى اليمين أو اليسار، هي تلك التي ولدتها الثورة العلمية التقنية المختلفة في الطبيعة لا في الدرجة كما يقول ثقات المحللين عن الثورة الصناعية التي سبقتها.
ولعل أبرز نتاج تلك المراجعة التي أطلقتها هذه الثورة العلمية التقنية ما نجده في ذلك الكتاب الذي وضعه فريق كبير من الباحثين في معهد الفلسفة التابع لأكاديمية العلوم التشيكية بإشراف «رادوفان ريشتا» الذي حملت ترجمته الفرنسية عنوان «الحضارة على مفترق الطرق» عام 1968. ولقد تم تأليف هذا الكتاب بدعوة من الحزب الشيوعي التشيكي قبل أحداث «ربيع براغ» الشهيرة عام 1968، تلك الاتجاه السياسي الجديد في الحزب، وأطاحت معهم بالحصاد الفكري «الأيديولوجي» الذي عبر عنه هذا الكتاب. ومحور هذا الكتاب هو تحليل النتائج التي تنجم عن الثورة العلمية التقنية، وبيان ما تمليه من تعديل في «الأيديولوجية» السائدة.
وعلى منوال هذا الكتاب – بل تحت تأثيره المباشر – كتب «روجيه غارودي» عام 1969 كتابه الشهير «منعطف الاشتراكية الكبير».
وفي الجانب الآخر، جانب «الأيديولوجية» الرأسمالية اليمينية، ظهرت أيضاً مؤلفات عديدة، تحاول أن تعيد النظر في «الأيديولوجيات» الرأسمالية، في ضوء التقدم العلمي التقني، وما ولّد من عالم متسارع في تغيره، وما أدى إليه من خضوع مسيرة الإنسان ومصيره لإرادة الاقتصاديين و«التكنوقراطيين» ومديري الإنتاج. ومن أبرز الأمثلة على هذه المؤلفات كتابات «ماركوز» الشهيرة العديدة، وبوجه خاص كتابات «ألفين توفلر»، بدءاً بكتابه الشهير الذي أحدث دوياً صارخاً، ونعني كتاب «صدمة المستقبل» (وقد ظهر عام 1970)، وانتهاء بكتابه الذي ظهر عام 1983، وعنوانه «إرهاصات ومقدمات».
ومن خلال تنقيح «أيديولوجيات» اليمين و«أيديولوجيات» اليسار ظهرت تيارات تحاول أن تقول بالتقارب المحتوم بين هاتين «الأيديولوجيتين»، وبزوال الفروق الحادة بينهما تدريجياً، بحكم التقدم العلمي التقني كذلك، وكأنها تتنبأ بولادة «أيديولوجيات» واحدة، لابد أن يمليها في نظرها تغير البنى الاقتصادية والاجتماعية تغيراً متماثلاً في البلدان المختلفة، بفعل انتشار آثار الثورة العلمية التقنية في كل مكان.
«الأيديولوجيات» وحاجات الإنسان:
لقد كانت هذه المحاولات جميعها – محاولات التنقيح والتصحيح ومحاولات الجمع والتوفيق – تعبيراً عن جهود فكرية دائبة، همها أن تجد «الأيديولوجيات» الملائمة للعصر، وأن تتنبأ «بالأيديولوجيات» المرجوة في المستقبل. وكان وراء تلك الجهود دوماً الواقع الجديد المتغير الذي تحدثه، في عالم العمل وأدوات العمل وعلاقات العمل وحياة العمال، التطورات السريعة التي تتم بسبب الثورة العلمية التقنية التي تجاوزت الثورة الصناعية إلى مجتمع
ما بعد الصناعة، والتي شاعت فيها الآثار الاجتماعية والإنسانية الفريدة «للأتمتة»، وللتحرك الذاتي للآلة، والتي غزت عوالم جديدة، غيرت العلاقات الإنسانية، ورسمت لها إطاراً جديداً كل الجدة، كعوالم الإلكترون والذرة والفضاء والمحيطات والهندسة البيولوجية والنسل وسوى ذلك.

الفردوس الموعود:
من هنا بدت جهود مراجعة «الأيديولوجيات» في ضوء ذلك كله أموراً طبيعية، بل لازمة، وأخذ الكثير من المنظرين يبشرون بمجتمع جديد، أبعد عن الصناعة واستعبادها للإنسان، وأقرب إلى حاجات الإنسان الحقيقية، وأدنى إلى إرواء منازعه ورغباته وصبواته، سواء كانت جسدية أو فكرية أو انفعالية. ومن أبرز من تنبأ بمثل هذا الفردوس الجديد «دانييل بيل» من جامعة «هارفارد» في كتابه «نحو مجتمع ما بعد الصناعة» (عام 1973)، وعالم الاقتصاد الفرنسي «جان فوراستييه» في العديد من كتبه، لا سيما كتابه الشهير «أمل القرن العشرين الكبير» (الذي ترجم إلى العربية منذ عقدين ونيف، وكتابه «تاريخ الغد»، وكتابه «الأربعون ألف ساعة»، بل حتى كتابه (مع ابنته) «من فرنسة إلى أخرى» الذي ظهر في آخر عام 1987.
على أن هذا الفردوس لم يتحقق، ولا تشير الاتجاهات السائدة إلى إمكان تحقيقه خلال حقبة معينة، ولا تكشف عن بوادر تبشر بمخاضه وولادته، بل إن كل شيء يشير إلى أن عالمنا يشهد أزمات متزايدة في شتى جوانب حياته، وعلى رأسها الأزمات الاقتصادية، كما أن كل شيء يشير إلى أن هذه الأزمات آخذة في التزايد عاماً بعد عام وعقداً بعد عقد.
ولا شك أن بروز أزمات العصر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وانتشارها وشمولها العالم المتقدم والعالم النامي على حد سواء، جديرة بأن تجند أقلام الكتاب وأفكار المنظرين في سبيل البحث عن سبل الخروج منها. وقد فعل ذلك كثير من الكتاب والباحثين والعلماء في مختلف الأمصار، ومن شتى ميادين المعرفة، وأدى ذلك إلى مراجعات «أيديولوجية» متباينة المنازع.
الأيديولوجيا الناعمة:
غير أن ثمة منزعاً – هو قصدنا في هذه الكلمة – أخذ في الشيوع والذيوع، لا سيما خلال الثمانينيات، يثير كثيراً من التساؤل والعجب، بل والاستنكار. وهو على الرغم من غرابته منزع شائع لدى كتاب ومفكرين عديدين في الغرب(1). بل يكاد يكون هو المنزع الشائع لدى كثرة كاثرة من الشبان هناك، وهذا ما دفعنا إلى الحديث عنه وتفنيده، لا سيما أنه منزع لا يخلو من إغراء، وأن أشعته بدأت تسري إلى عالمنا النامي نفسه، وأن تربة الواقع العربي – كما سنرى – مهيأة لغزوه. إنه المنزع الذي يواجه الأزمات مواجهة تبدو إيجابية، لكنها في أعماقها تعبر عن استسلام للواقع وخضوع له، ذلك أنه يدعو إلى ما سماه «هويج» و«باريس» في كتاب لهما حديث (ظهر في تشرين الثاني/نوفمبر 1987) باسم «الأيديولوجيات الناعمة» إن صحت الترجمة (Soft Ideologie).
ومن العسير تلخيص أفكار أصحاب هذا الاتجاه (وهي أفكار مبثوثة على نحو غير منظم في كتابات العديد من المفكرين في الولايات المتحدة وأوروبا)، وحسبنا أن نقول – بلغة
برقية – إنه اتجاه ينكر المشروعات النظرية الكبرى (أي الأيديولوجيات) التي تحاول بناء المجتمعات بناء جديداً، ويرى أن عهد هذه المشروعات الاجتماعية عهد قد مضى وانقضى، وفي مقابل ذلك يدعو إلى «أيديولوجيات متواضعة» وفي حدودها الدنيا، همها أن توفر حداً أدنى من الوفاق الاجتماعي الشامل في أي مجتمع. ومن هنا نرى أنه اتجاه يقبل بالواقع، ويخضع لقوة الأشياء، ولا يحمّل الأيام غير طباعها، ويرى أن أزمات هذا الواقع وصعوباته (وهي أزمات لا ينكرها) لا سبيل إلى مغالبتها، بل لا سبيل إلى مغالبتها بوجه خاص عن طريق «أيديولوجيات» كبرى هي في نظره عاجزة، بل هي عنده أدهى وأمر، إذ تزيد في الداء وفي تعقيد الأمور، وتؤدي إلى أخطر نتيجة فيما يرى، يعني التسلط والتحكم والبربرية. وكل شيء عند أصحاب هذا الاتجاه أفضل من الرؤى «الرومانتيكية» والرسالات الفكرية الحالمة، تلك الرؤى والرسالات التي عانت الإنسانية منها الكثير. وفي مقابل تمجيد أصحاب الرؤى والرسالات والمناضلين في سبيلها، يمجد أصحاب هذه «الأيديولوجيا»
(أو اللاأيديولوجيا) الفرد اليائس القانع الرقيق الناعم في آن واحد. وفي مقابل المجتمع الذي تسيطر عليه قيم «الذكورة» الصارمة يرسمون صورة لمجتمع حر «أنثوي» رفيق رقيق.
الفرد قبل المجتمع:
ذلك أن الفرد وسعادته ومتعته وحريته أهم أهداف أصحاب هذه «الأيديولوجيا». إنهم يدعون إلى «الفردانية» في حالها النقية الصافية المجردة من كل مشروع رسالة، فلقد انقضى في زعمهم عصر الصراعات والتمرد والثورات والأوهام والمشروعات الاجتماعية الطوباوية، وجاء عصر اللامبالاة، وعدم الاكتراث والحياد، بالإضافة إلى عصر المتعة الفردية والتفتح الفردي الكامل. و«الأيديولوجيات» التقليدية منبوذة عندها، لأنها فاسدة منحرفة في قلبها وجوهرها، ولأنها عائق دون المتعة الفردية.
و«الأيديولوجيا» الجديدة هذه ترفض التأزم والمأساوية وترقُّب الحلول المعجزة. وهي حين تدعو إلى ذلك دعوة آنية، ولا تقبل التأجيل، فلا حاجة عندها إلى المرور أولاً «بالمطهر» – مطهر المشروعات الاجتماعية الكبرى – من أجل تحقيق السعادة الفردية، ولا حاجة من أجل العثور على السعادة لانتظار قيام الثورة الاجتماعية أو زيادة الدخل القومي، بل علينا أن نقطف السعادة والمتعة الآن وههنا.
«الأيديولوجيا» الناعمة والأخلاق:
ومع ذلك لا تهمل هذه «الأيديولوجيا» الناعمة القيم الخلقية، بل تعني بها، لكن عنايتها تتم من منظور خاص، فالأخلاق عندها تستند إلى الخوف أولاً وقبل كل شيء، ومطمحها الوحيد في عالم تقر بأنه ناقص وغير كامل هو الحيلولة دون الشر والسوء، ذلك السوء الذي نجده أولاً وقبل كل شيء في البربرية والعرقية والفاشية ونظائرها. إنها تهتز لمساعدة الحبشة مثلاً، وكل ما يتصل بالإحسان والصدقة يغريها، وهي تشعر بآلام الإنسانية، وتدرك أن العالم قاس ومرعب وظالم، لكن حسبها، وهي الناعمة الرقيقة، أن تعلن أن هذا العالم غير مقبول، وأن تدعو مع ذلك إلى الحياة فيه ومعه. والبطولة الخلقية غير غائبة عن نظرها، غير أن قوامها هو ذلك الثالوث: النجاح والرياضة والمال. قوامها تلك القدرة على المغامرة والكسب والنجاح، أما النواح وشكوى الزمان والتبرم من فراغ الحياة أو من مجتمع فاسد مفسد، فتلك مواقف بالية. ومن البلى كذلك أن يحمل المرء المجتمع مسؤولية مآسيه ومصائبه، وكل ما يتصل بالصحة والجسد يحمل المرء لدى أبناء هذه «الأيديولوجيا» قيمة خلقية خاصة، فالجسد هو في آن واحد مصدر للمتعة ورأسمال ينبغي (تثميره) وإخصابه.
في عالم الاتصال:
على أن أوضح ما في هذه «الأيديولوجيا» الناعمة إكبارها الخاص للاتصال، ولوسائل الاتصال الحديثة، والنظر إليها كأنها اللغز الذي سيغير وجه الخليقة. ودخول وسائل الاتصال والمعلوماتية وسواها إلى مجتمعاتنا واتساع نطاق استخدامها من أهم ما يوحي لها بالأمل. ويزداد شأن هذه الوسائل بعد ولادة الجيل الثالث ثم الرابع من الحاسبات الإلكترونية. والأمل معقود على هذه الوسائل من أجل خلق عالم إنساني موحد يسوسه العقل. والعالم في سبيله إلى الانتقال من المجتمع الصناعي المستهلك للموارد الطبيعية إلى المجتمع المعلوماتي المبدع للمنتجات المادية المطور للملكات الإنسانية.
ويشط بنا القلم إن نحن حاولنا أن نفصل الحديث عن أهم قسمات هذه «الأيديولوجيا الناعمة». ولعلنا ندرك من خلال هذا العرض الخاطف ومن خلال هذه اللقطات العاجلة لأهم معالمها، أنها في خاتمة المطاف دعوة إلى الخروج من «الأيديولوجيات» والمشروعات الاجتماعية الكبرى، وقبول بالواقع مهما تكن مساوئه، واتفاق على الحد الأدنى من الإصلاح، وتمجيد للفرد والحياة الفردية، وجنوح إلى السعادة والمتع الآنية، ورفض للسياسة بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة، واصطناع لبعض المواقف الخلقية الإنسانية التي تصدر عن الشفقة والتعاطف، وإكبار لمجتمع المعلوماتية والاتصال وما يولده من لقاء ووفاق على مستوى كل مجتمع، وعلى مستوى الإنسانية، وابتعاد عن كل ما يثير العنف والسلطة، وأخذ بالحلول المؤقتة والجزئية والناعمة. لعلنا ندرك من خلال ما عرضنا أن «الأيديولوجيا الناعمة» لا تنكر أن ثمة أزمة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، غير أن ذلك كله في نظرها لا يحول دون البحث عن ضروب صغيرة من السعادة، ذلك أن البحث عن الخير المطلق كان وما يزال وهماً، وقد آن الأوان لكي نتحرر من الأوهام كلها.
«أيديولوجيا» النهاية:
وقد يعجب القارئ لوجود مثل هذه «الأيديولوجيا»، بل قد يحسب أننا غلونا في وصف قسماتها وصفاتها. والحق أنها «أيديولوجية» ذائعة – كما سبق أن ذكرنا – لدى الكثير من الكتاب والباحثين والمفكرين، ولدى عدد كبير من الشبان في المجتمعات الغربية، بل لعل القارئ يدرك أن السير في مثل هذا المنزلق في الغرب أو في سواه أمر متوقع، بوصفه رد فعل عاجز، لكنه متجلبب بجلباب الحداثة والتجديد، على الأزمات الكبرى التي تعصف بالعصر، والتي لا تبدو قريبة الزوال، ولا يتبين أبناء الإنسانية بوضوح حتى الآن أين مستقرها، وأيان موعد انحسارها، وما السبيل إلى مغالبتها. إن هذه «الأيديولوجيا» تذكرنا (ولكن بلغة أحدث وأعمق) بالنزعات التي ظهرت وتظهر بين الحين والحين، والتي تدعو إلى النكوص عن الحضارة العالمية والعود إلى حياة الطبيعة، فراراً من مآسي الحضارة. ولئن كان القضاء على مآسي الحضارة لا يكون إلا بالإيغال فيها من أجل تقويمها من داخلها، فكذلك لا يتم التخلص من عجز «الأيديولوجيات» بإنكار «الأيديولوجيات» جملة وتفصيلاً، بل يكون بتطويرها وتجديدها. ومثل هذه «الأيديولوجيات» الداعية إلى زوال «الأيديولوجيات» لا تعدو في واقع الأمر أن تكون فراراً من الواقع ومن الجهد ومن التفكير الجاد في مصير الإنسانية، إنها كما يقول بعضهم ليست سوى وضع مسيرة الإنسانية بين حاصرتين (معترضتين) لابد أن تزولا بعد حين، وهي بذلك لا تبرهن على نهاية «الأيديولوجيات» بمقدار ما تفصح عن كونها «أيديولوجيا» النهاية، نعني «الأيديولوجيا» التي تعلن نهاية السعي من أجل تغيير الإنسانية، وذلك الوجه الضاحك الذي تحاول أن تصطنعه لن يقنع أحداً أمام تفاقم المشكلات العالمية والأزمات الحقة الكبرى التي ستواجهها الإنسانية فيما يبدو.
على أن من الإنصاف أن نقول أن ثمة منطلقاً إيجابياً يدفع القائلين بهذه «الأيديولوجيا»، نعني حرصهم الشديد على الحرية الفردية، وعلى الديمقراطية، ذلك الحرص الذي يصل بهم إلى حد رفض «الأيديولوجيات» ما دامت تعني دوماً في نظرهم حق أصحابها في التسلط والتحكم، وممارسة الظلم والطغيان باسم المجتمع المنشود، وما دامت الأفكار والمبادئ قد تنقلب أحياناً – كما حذر من ذلك ماركس نفسه – إلى تتويج رائع للبربرية (على حد تعبيره). غير أنه لا حاجة إلى القول أن سبيل التغلب على مزالق «الأيديولوجيات» هذه ليس سبيل رفضها، بل سبيل البحث الجاد الذي هو ضالة الإنسانية دوماً وأبداً، عن الدمج العضوي المتكامل بين حرية الفرد وحرية المجتمع، بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية كما يقال.
«الأيديولوجيا الناعمة» والمجتمع العربي:
وبعد، قد يقول قائل أين نحن من هذه «الأيديولوجيات» التي هي نتاج التأنق الفكري المفرط الذي نجده في المجتمعات الغربية، ووليدة طراز الحياة التي يعيشها أبناء تلك الجماعات. والحق أن الأرضية التي ولدت مثل «الأيديولوجيا» الناكصة الهاربة ليست غريبة كل الغرابة عن الأرضية التي يسرح فوقها مجتمعنا العربي وسائر المجتمعات النامية، فالأزمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية التي تعاني منها هذه المجتمعات النامية، والتي هي في أحد جوانبها انعكاس للأزمة العالمية، هي عندنا أيضاً، كما هي في الغرب، أزمات ترمقنا شذراً، ونرمقها شذراً، دون أن ندرك بوضوح سبل الخلاص منها، ودون أن نقوى على توليد مشروعات مجتمعية قادرة على تجاوزها. ومن هنا فالتربة صالحة عندنا كذلك لولادة مثل هذه المواقف التي وجدناها في تلك «الأيديولوجيا» التائهة، نعني المواقف التي تغلف استسلامها وعجزها بمنازع جديدة تدعو إليها، لا تخلو من إغراء ويسر،
ولا يعوزها التحليل المتأنق الحديث، غير أنها في أعماقها تبرير لانصراف طاقات أبناء المجتمع نحو مصائرهم الفردية ومتعهم الذاتية، ودفع لهم نحو اللامبالاة وعدم الاكتراث. ولن نتهم بالغلو إن قلنا إن بذور مثل هذه المواقف أصبحت منبثة لدى الكثير من أبناء الجيل الشاب بوجه خاص في سائر أرجاء المجتمع العربي، بل لعلها أدركت جيل الكهول والشيوخ. ولئن كان المجتمع الغربي قادراً بفعل تقدمه وآليات بنيانه الذاتي المتطور على امتصاص مثل هذه الاتجاهات، بله مقاومتها،، فإن مجتمعنا العربي الناشئ قد يصاب في قلب حركة تقدمه كلها حين تغزوه مثل هذه المواقف اللامبالية، وهو في ريعان حياته الجديدة.
من أجل «أيديولوجيا» عربية حية:
الحق أن معالجة مشكلات مجتمعنا العربي والبحث في مصيره لابد أن يأخذا بعين الاعتبار حصاد التجربة العالمية وانعكاساتها، وأن يجنبا هذا المجتمع في الوقت نفسه مخاطر هذه التجربة. والمنظرون الطامحون لبناء مشروع المستقبل العربي لا يمكن أن يهملوا مثل هذا التواصل والتآخذ بين التجربة العالمية والتجربة العربية، ولابد أن يضعوا هذا المشروع في موضعه الصحيح، وموقعه الصحيح، من حياة العصر كلها. ومن هنا كان البحث عن معالم «الأيديولوجيا العربية المدركة للعصر والعالمة بواقع الوجود العربي وبموقعه في العصر والمتطلعة نحو المستقبل فضلاً عن اتصالها بالماضي، أهم ما ينبغي أن تشحذ له أقلام المفكرين العرب في أيامنا هذه. وقد أزف الحين من أجل بناء «أيديولوجيا» حية تجنب المجتمع العربي مزالق العصر، عن طريق وعي هذا العصر، ووعي الواقع العربي في آن واحد، وتقوى على مغالبة أزمات حاضره وصياغة صورة مستقبله.