صدمة الحضارة الغربية

جريدة الأسبوع الأدبي العدد /109/ – 24 آذار/مارس 1988
كلمة أولى
صدمة الحضارة الغربية
أيّ ثقافة، عندما تصطدم بثقافة أرفع منها شأواً، تهتز وتضطرب وتميد. وقد يكون حتماً عليها، في بداية الأمر، أن تتمزق بناها الاجتماعية والفكرية وتتداعى إلى حين. غير أن التطور السليم ينبغي أن يقودها في نهاية الأمر إلى أن تتجاوز مرحلة التفكك والضياع وأن تعاود توحيد ذاتها وكيانها، عن طريق إعادة تركيب بناها الاجتماعية من خلال التفاعل الحي بين ثقافاتها الأصيلة والثقافة الوافدة الغازية. والمدى الذي تستغرقه المرحلة الانتقالية اللازمة لعبور حال التمزق والضياع إلى حال التفاعل وبناء الهوية الذاتية من جديد، يختلف دون شك من بلد إلى بلد، غير أنه في نهاية الأمر المقياس الحقيقي لمدى حيوية الثقافة في البلد المعنيّ ولمقدار ما تمتلكه من قدرة على التجاوز والتحرر والإبداع والرؤية المستقبلية.
ولقد كان طبيعياً أن تعاني بلدان العالم جميعها من آثار الصدمة التي ولّدتها تلك القفزة الإنسانية الضخمة، نعني الحضارة الصناعية في الغرب منذ القرن التاسع عشر وما أعقبها من ثورة علمية تكنولوجية منذ منتصف القرن العشرين. غير أن مما لا شك فيه أن الصدمة كانت أقوى وأن الهزة كانت أعنف في البلدان التي لم تولد هذه الحضارة فيها، نعني البلدان المتخلفة والنامية، ومن بينها بلدان الوطن العربي.
ولا نقول جديداً إن تحدثنا عن الشرارة التي انطلقت في أرجاء الوطن العربي، منذ أكثر من قرن ونصف قرن، لدى التقاء الثقافة العربية بالثقافة الأوروبية الحديثة (ولا سيما بعد حملة نابليون)، بعد سبات دام نيفاً وثلاثة قرون. ولا نقول إلا مكروراً إن بيّنا أن الثقافة العربية قد تمزقت منذ ذلك الحين طرائق ومذاهب، بعضها مغرِّب وبعضها الآخر مشرِّق، وبعضها انتقائي موفِّق وبعضها رافض منغلق على ذاته. وقد عبر هذا التمزق الثقافي عن نفسه في كتابات المفكرين المتضاربة منذ ذلك الحين التي تتراوح بين أفكار سلامة موسى المفرط في الدعوة إلى الغرب والتغريب، وبين الدعوة السلفية المحافظة، مروراً بدعوات توفيقية عبّر عنها بوجه خاص أمثال رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده ورشيد رضا (في مصر والشام) والشيخ محمد بن الخوجة وعبد الحليم بن سماية في الجزائر، وخير الدين التونسي في تونس وسواهم.
ولقد كان مثل هذا التشتت الثقافي أمراً طبيعياً في البداية. غير أن مما يثير التساؤل العميق أن حركة التطور في هذا المضمار سارت بخطا السلحفاة بعد ذلك، بل كثيراً ما راوحت الأفكار والأنظار في مكانها رغم تعاقب السنين بل العقود. ولعلنا لا نغلو إن قلنا إن التمزق الثقافي ما يزال على أشدّه، وكثيراً ما نشهد في أنظار المفكرين العرب اليوم الصورة الفسيفسائية المتضاربة التي شهدناها لدى مفكري القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
هذا العجز عن إعادة تركيب الثقافة العربية وإعادة بنائها وتوحيدها، بعد التفكك الذي أصابها من جراء صدمة الحضارة الغربية، مدعاة للتساؤل والعجب، لا سيما عندما يتصل بأمة كالأمة العربية عريقة في ثقافتها وعريقة بوجه خاص في قدرتها على دمج الثقافات المختلفة وامتصاصها وجعلها جزءاً لا يتجزأ من لحمها الأصيل ودمها التليد.
لقد استطاعت أمة كالأمة اليابانية، منذ عصر (ميجي) الشهير (منذ عام 1868) أن تجعل من لقائها مع حضارة الغرب الصناعية منطلقاً لحضارة يابانية حديثة وأصيلة معاً. وكان ذلك بوجه خاص بفضل ما قامت به من جهد دائب من أجل امتصاص قيم الحضارة الحديثة الحية من خلال قيم اليابان التقليدية نفسها. وهي بهذا قد ابتعدت عن ردود الفعل الخاطئة تجاه الحضارة الحديثة والتي يمكن تلخيصها في مواقف ثلاثة: الانكماش والرفض، التبني المطلق، التوفيق الانتقائي الشكلي الذي يقود إلى ثنائية عقيمة. وفي مقابل ذلك، أخذت بالموقف السليم، موقف التفاعل الحي بين قيم الحضارة الحديثة الأساسية والفعّالة (كقيم العلم والتضامن والفعالية والمبادرة وسواها) وبين قيم الثقافة اليابانية العريقة (التي تؤكد بدورها على أهمية التعلم والتعليم، وتنمية الخلق، وروح التعاون والعمل المشترك، وتحريك الإرادة القومية المشتركة)، ذلك التفاعل الذي يؤدي في النهاية إلى مركّب جديد، يعيد بناء الثقافة اليابانية، ويضمن لها استمرارها المتجدد.
ومن هنا فإن جهد المثقفين العرب ينبغي أن ينصرف إلى البحث عن هذه الصيغة التي تحقق التفاعل الحي بين الثقافة العربية والثقافة الغربية، والتي تؤدي إلى توليد ثقافة موحدة متماسكة الكيان، بدلاً من الضياع في جهود زائفة، سواء اتصلت برفض الثقافة الغربية أو بتبنيها الكامل أو بالتوفيق الشكلي بين الثقافتين. فالمسألة ليست مسألة جمع بين ثقافتين، بل مسألة توليد ثقافة واحدة من عصارتيهما، ثقافة جديرة عند ذلك بأن تسمى أصيلة. أما سبيل ذلك فيحتاج إلى صفحات بل إلى أسفار برأسها.
عبد الله عبد الدائم