د. عبد الله عبد الدائم: الفلسفة التربوية تحدد أي إنسان يريده نظامنا التربوي

– التطور الكمي في التعليم لم يرافقه تطور في هياكل التعليم وفي الإدارة التربوية.
– أزمة القيم تثير القلق والتساؤل.
الفلسفة التربوية تحدد أي إنسان يريده نظامنا التربوي:
الدكتور عبد الله عبد الدائم واحد من أبرز التربويين العرب، وأكثرهم صلة بالمنظمات القومية العربية والمنظمات الدولية العاملة في حقل التربية. وهو – قبل ذلك وبعده – مفكر ذو توجّه قومي أصيل، وباحث تتصف مؤلفاته بالأصالة والدقة، ومترجم تمكّن ورصيفه الدكتور سامي الدروبي – رحمه الله – في منتصف السبعينات من ترجمة كتابي هنري برغسون (الضحك) و(منبعا الأخلاق والدين) بأسلوب عربي رائق بدلاً من أسلوب صاحبهما الصعب، مما ساعد القراء العرب على تعرُّف هذا الفيلسوف وفهمه. وهذا الحوار محاولة للاستفادة من تعدُّد جوانب الدكتور عبد الدائم، كما أنه سعي إلى التذكير بقضايا رئيسة في التربية العربية، وهو – على إيجازه – كاف لمن يجيد القراءة بين السطور.
1- أستاذنا الكريم.. تؤرقني قضية القيم، وأكاد أقلق للتناقض الذي يتحلى به سلوك الإنسان العربي، المتعلم خاصة. وهذا الأمر يدفعني إلى التساؤل عما إذا كانت القيم التي تطرحها التربية العربية هامشية، لا تمس القيم الإيجابية الأصيلة التي تبني شخصية الإنسان العربي بناءً سليماً، كالحرية واحترام الرأي والاعتراف بالآخر.. بدلاً من قيم التصفيق والتهليل والرضوخ والصمت.. كيف ينظر الدكتور عبد الله إلى هذا الأمر؟..
* الموضوع شائك فعلاً ومتسع الأبعاد، ولعله موضوع الساعة، ليس في الوطن العربي وحسب وإنما في العالم كله. فأزمة القيم غدت في عالمنا المعاصر أزمة تثير القلق والتساؤل، وتحمل المنظّرين والمفكرين على التأمل ملياً في الواقع العالمي والعربي لاستخلاص الوسائل الناجعة القادرة فعلاً على تجاوز هذه الأزمة. أما جوابي عن هذه المشكلة فيمكن أن ألخصه في أبعاد ثلاثة:
الأول: إننا لا نستطيع أن نبحث في أزمة القيم في بلادنا إلا إذا بحثنا، في الوقت نفسه، في أزمة القيم في العالم.
والثاني: إن التربية وحدها، على شأوها وقيمتها، ليست العصا السحرية التي تستطيع أن تعالج أزمة القيم هذه. ولابدّ من التفاعل والتكامل بين جوانب الحياة المختلفة – اقتصادية كانت أو اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو تربوية – من أجل معالجة هذه المسألة.
والثالث: إن معالجة أزمة القيم في نظرنا شرط لازب لأي مشروع حضاري نريد أن نبنيه في الوطن العربي، وإن التقدم في أي أمة لا يمكن أن يبلغ مداه إلا إذا انضافت إلى الجهود التي تُعنى بتكوين المهاد العلمي والتكنولوجي والأرضية الاقتصادية الضرورية، جهود متكاملة معها، قوامها التكوين الخلقي والقومي السليم للمواطنين، وتعبئة إرادة العمل المشترك بينهم، وتحريك مشاعر التضامن والتعاون من أجل بناء مصير مشترك.
ودون أن أدخل في تفصيل الحديث عن كل بعد من هذه الأبعاد الثلاثة، إذ يحتاج مثل هذا التفصيل إلى أسفار برأسها، أقول بإيجاز فيما يتصل بالموقف اللازم لمعالجة مشكلة تردي القيم في الوطن العربي:
أولاً: لابد أن نأخذ بعين الاعتبار أن التغيرات الضخمة التي حدثت في العصر، وعلى رأسها التغيرات العلمية والتكنولوجية التي قلبت بنية المجتمعات رأساً على عقب، واقع يملي علينا أن نبحث في نظام للقيم يأخذ بعين الاعتبار مستلزمات هذه التغيرات وانعكاساتها.
ثانياً: هنالك في تاريخ الإنسانية تجارب ناجحة جديرة بأن نتأملها حين نبحث مسألة القيم في وطننا، من مثل التجربة اليابانية منذ أيام الإمبراطور الشهير ميجي عام 1868. هذه التجربة اليابانية تشير إلى حقيقة، هي أن التقدم السريع في أي بلد من البلدان لا يمكن أن يتم إلا إذا توافر شرطان متلازمان:
أولهما تمثل التجربة العلمية والتكنولوجية الحديثة وتبنيها، والعزم الجماعي الملتزم على السير فيها، وتوفير كتلة ضخمة من العلماء والباحثين القادرين على تحقيق الثورة التكنولوجية والعلمية المنشودة.
وثانيهما الدمج العضوي، لا مجرد الإضافة والضم، بين القيم التي يفرضها التقدم العلمي والتكنولوجي، من مثل قيم النجع والفاعلية والديناميكية والمثابرة والمبادرة وسوى ذلك، وبين جذور هذه القيم في تراث الأمة. ولقد استطاعت اليابان حقاً منذ ذلك العصر، عصر ميجي، حتى اليوم، أن تحقق هذا الدمج العضوي، وأن تجعل من الارتباط بالتراث الياباني وبالقيم الروحية اليابانية المتمثلة في التعاليم البوذية والكونفوشيوسية وفي التقاليد العريقة الشائعة في المجتمع الياباني ولا سيما في المجتمع الياباني الزراعي منطلقاً ومتكأ، وأن تحيل مثل هذه القيم التاريخية إلى تراث حي يمنح اليابانيين طاقة جديدة في سيرهم نحو نشر التقدم العلمي والتكنولوجي. والأمة العربية مدعوة في نظرنا إلى مثل هذه التجربة. إنها مدعوة أولاً وقبل كل شيء إلى أن تجعل من قيمها التراثية قيماً حية ترتبط بقيم العصر وتغدو محركاً فعالاً لعملية التقدم.
ثالثاً: لابدّ أن تلعب التربية دورها في تجاوز أزمة القيم هذه إلى جانب الميادين الأخرى. وثمة أمور عديدة يمكن أن تقال فيما يتصل بوسائل نهوض التربية بمثل هذا الدور لا مجال للتريث عندها جميعها، وحسبنا أن نقول: لعل رأس هذه الوسائل إشاعة روح العمل المشترك والتعاون والتضامن في الحياة المدرسية من جانب، والعمل على تفتيح القدرات والطاقات الخلاقة لدى الطلاب منذ نعومة الأظفار وفي مراحل الدراسة المختلفة من جانب آخر.
رابعاً: لابدّ في معالجة أزمة القيم من معالجة موازية للمشكلات العديدة القائمة في الوطن العربي، وعلى رأسها المشكلات الاقتصادية والمشكلات الإدارية والمشكلات المتصلة بالديمقراطية والحرية وسوى ذلك.
2- كنتُ في السبعينات، قرأت كتابك «التربية في البلاد العربية، حاضرها ومشكلاتها ومستقبلها». وأود أن أسألك عما إذا كانت المشكلات التي تحدثت عنها في هذا الكتاب قد لقيت الحلول الملائمة لها، أو أن عددها زاد عما ذكرت، أود أن أشير إلى أن المستقبل الذي صيغ في أهداف محددة لم يتحقق منه شيء بعد عقد ونصف العقد على صدور كتابك؟ وأين الخلل؟.
* إن أي اتجاه من الاتجاهات التي نريد أن نكوّنها لدى الأطفال والطلاب عن طريق التربية، سواء اتصل بالقيم أو سواها، لابدّ في نهاية الأمر أن ينبغ من فلسفة تربوية واضحة متكاملة تنعكس في شتى مقومات العمل التربوي، سواء اتصلت هذه المقومات بالمناهج أو بطرائق التدريس أو بإعداد المعلم أو بالتقويم المدرسي والامتحانات
أو بالنشاطات اللاصفية أو بالإدارة التربوية أو بالتخطيط التربوي أو بغير ذلك.
والمسيرة من أجل تجويد أي مقوّم من هذه المقومات التربوية تظل مسيرة عمياء ضالة إذا لم تهد خطاها فلسفة تربوية تحدد لأهداف الكبرى والغايات النهائية للتربية. أي تحدد في نهاية الأمر أي إنسان نريد أن نكون عن طريق نظامنا التربوي.
ومن المؤسف أن مثل هذه الفلسفة التربوية العربية الواضحة ما تزال ضالة النظم التربوية في الوطن العربي. ورغم القرزمات الأولية التي تمت في هذا المجال لا نسرف إن قلنا إن الأهداف التربوية في الوطن العربي ما تزال تتصف بالغموض وبعدم التحديد وبالتناقض في بعض الأحيان. يضاف إلى هذا كله أن الأهداف المرسومة والتي نجدها مكتوبة لدى كثير من النظم التربوية في البلاد العربية قلما تتبعها جهود جادة من أجل ترجمتها إلى أهداف سلوكية ومناهج وطرائق، ومن أجل الربط العضوي الوثيق بينها وبين السياسات والاستراتيجيات والخطط التربوية. على أننا حين ننادي بأهمية توضيح الفلسفة التربوية في البلاد العربية وبأهمية ترجمتها إلى واقع حي في مسيرة العملية التربوية، ينبغي ألا ننسى أن مثل هذه الفلسفة التربوية العربية لا يمكن أن تتوافر لها الشروط الضرورية والمنطلقات السليمة إلا إذا كانت بدورها انعكاساً لفلسفة تعلو عليها، هي الفلسفة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أي الفلسفة الشاملة للبلد الذي تنتمي إليه.
ومثل هذه الفلسفة الشاملة التي تتضح من خلالها سائر أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية أي بلد من البلدان العربية ما تزال – أيضاً – متعثرة، وما يزال التفاوت في شأنها قائماً بين البلدان العربية المختلفة.
3- تضع كل دولة من الدول العربية لنفسها أهدافاً عامة للتربية.. فإذا نظرنا في الوطن العربي نظرة كلية خُيّل إلينا أن التربية السائدة فيه تتجه إلى الفردية وتعمل على ترسيخها تبعاً لتباين الأهداف وتناقضها بين الأقطار العربية. أين العمل التربوي الذي يرسخ الاتجاه القومي إذن؟.. وقد ذكّرني كتابك (تاريخ التربية) الذي درست فيه التربية عن الغزالي وابن خلدون، بسؤال آخر هو: هل تستطيع تربيتنا الحديثة الاستفادة من التراث التربوي العربي؟..
* ما قلناه قبل قليل ينقلنا إلى سؤالك المتصل بدور العمل العربي المشترك في بناء تربية عربية موحدة في اتجاهاتها الأساسية. والحق أن الجهود العربية في طريق التعاون التربوي جهود كبيرة وقديمة، ترجع على أقل تقدير إلى المؤتمر التربوي الأول الذي عقدته جامعة الدول العربية الناشئة عام 1945. وقد تابعت هذه الجهود، كما نعلم مؤسسات تربوية عربية مشتركة، على رأسها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، واتحاد الجامعات العربية، واتحاد نقابات المعلمين العرب وسواها.
كما أن جهوداً أخرى موازية تمت في طريق التعاون العربي في مجال التربية لم تنطلق من المنظمات العربية المشتركة، وإنما انطلقت من التبادل الثنائي والتعاون المباشر بين الأقطار العربية المختلفة، وما تبعه من تبادل المعلمين والطلاب والمناهج والكتب والبحوث وسوى ذلك..
غير أن هذه الجهود كلها، وهي جهود كما ترى عديدة وقديمة العهد، لم تؤت كامل الثمرات المرجوة منها عبر هذه المسيرة الطويلة وخلال تلك الحقبة الممتدة. يتجلى ذلك في تقصير التربية في الوطن العربي ككل عن بلوغ المستوى الكمي المطلوب، وفي تقصيرها بوجه خاص عن بلوغ المستوى الكيفي النوعي اللازم. أما الكم فالحديث عنه يطول، وحسبنا أن نذكر أن الذين يرتادون رياض الأطفال في جملة الوطن العربي ممن هم في سن هذه المرحلة لا يجاوزون عشرة بالمائة، وأن نسبة الذين يرتادون التعليم الابتدائي إلى فئة السن المقابلة لهذا التعليم لا يجاوزون ثمانين بالمائة في جملة الوطن العربي، وأن نسبة الذين يختلفون إلى التعليم الثانوي لا يجاوزون أربعين بالمائة من فئة السن المقابلة، وأن الذين يلتحقون بالتعليم العالي لا يجاوزون اثني عشر بالمائة من فئة السن المقابلة. هذا فضلاً عن نسبة الأمية المرتفعة حتى اليوم. ومما يؤسف له أن تشير الإسقاطات المتصلة بأعداد الطلاب المتوقعة في الوطن العربي عام ألفين إلى أن بعض البلدان العربية كاليمن الشمالي والسودان وموريتانيا وجيبوتي والصومال سوف تعجز عجزاً واضحاً عن تعميم التعليم الابتدائي حتى في نهاية هذا القرن وبدايات القرن المقبل. أما القصور النوعي الكيفي في التربية العربية فهو أدهى وأمرّ، لا سيما أن التطور الكمي السريع الذي حدث في معظم البلدان العربية في مراحل التعليم المختلفة لم يرافقه تطور مماثل في هياكل التعليم وفي الإدارة التربوية والمدرسية، وفي المناهج وإعداد المعلمين وسوى تلك من عناصر العملية التربوية.
على أن الدرس الأساسي الذي تقدّمه لنا التجربة التربوية في البلاد العربية فهو أن أي عمل قطري محض منغلق على نفسه في مجال التربية عمل مخفق، وأن التربية في أي بلد عربي مهما تعدّ إمكاناته البشرية أو المالية سوف تقصّر عن مداها إذا لم يقم تعاون عربي حق، ولا سيما في المجالات الأساسية التي تحتاج إلى كتل بشرية ضخمة، وإلى أموال وافية، كمجال التقدم العلمي والتكنولوجي، ومجال البحث العلمي، ومجال تطوير الدراسات العليا بوجه خاص في التعليم العالي، ومجال التعليم التقني والمهني وربط مخرجات التربية بحاجات العمالة والتنمية الشاملة. وكما دلت الدراسات التي قام بها الاقتصاديون العرب والأجانب على أن التجربة القطرية في البلاد العربية في مجال الاقتصاد تجربة مخفقة، فقد دلت الدراسات الكثيرة التي قام بها المربون العرب على أن التجربة القطرية في ميدان التربية، شأنها في أي ميدان آخر، تجربة لابدّ أن تكون عاجزة.
وقد فصّلت الحديث عن ذلك كله في مناسبات عديدة ولا سيما في كتابي الذي أشرت إليه: «التربية في البلاد العربية» الذي صدرت طبعته الثانية المزيدة المنقحة عام 1982.
4- يدفعني كتابك «الثورة التكنولوجية في التربية» إلى سؤالك عن موقع تربيتنا الحديثة من العصر؟ أين نقف في هذا العصر الموّار بالحركة.
* الإشارة السابقة إلى كتابي (التربية في البلاد العربية) تنقلنا إلى تساؤلك الذي تستمده من كتابي (الثورة التكنولوجية في التربية العربية). وقد طرحت في هذا الصدد سؤالاً في محله، هو علاقة تربيتنا بالعصر الحديث. والجواب عن هذا السؤال يلتهم الصفحات الكثيرة أيضاً، ولكن الذي لابدّ من قوله هو أننا ما نزال حتى اليوم في معظم أنظمتنا التربوية في البلاد العربية نعمل ونجهد وكأن شيئاً لم يكن.
كأن الثورة العلمية التكنولوجية في ميدان التربية لا تعنينا. ما تزال بتعبير آخر، نلجأ إلى الوسائل التقليدية في التربية، وقوامها معلم وسبورة وعدد واسع غالباً من الطلاب، في حين أن ثمة ثورة تكنولوجية في التربية انتشرت وذاعت في العالم منذ عقود عديدة، وفي حين أننا أحوج ما نكون لاصطناع هذه الثورة التكنولوجية التربوية، لأسباب عديدة على رأسها مواجهة أزمة التزايد الكمي والتفجر العددي السريع في أعداد الطلاب. هذه الأزمة ينبغي أن تدعونا كما دعت سوانا إلى التفكير في بنى تربوية جديدة وطرائق تربوية حديثة من شأنها أن تُعلّم أكبر عدد ممكن من الطلاب تعليماً أفضل بنفس الإمكانات المادية والبشرية المتاحة. وهذا يدعونا إلى التنبيه إلى أمر قد يغفله بعض المتحدثين عن تكنولوجيا التربية، هو أن تكنولوجيا التربية لا تعني مجرد استخدام الآلات والأدوات، ولا تعني مجرد إدخال الوسائل السمعية والبصرية إلى المدرسة على شأنها وقيمتها، ولا تعني حتى مجرد إدخال الحاسبات الآلية إلى الحياة المدرسية، بل تعني فوق هذا وقبل هذا إحداث تغييرات عقلانية علمية في بنية النظام المدرسي وفي مناهجه وإدارته والتخطيط له. وإلى جانب التكنولوجية التي يمكن تسميتها آلية ينبغي أن يقر في ذهننا أن ثمة تكنولوجية عقلية، بل ثمة تكنولوجية خلقية.
على أن هذا الجانب المتعلق بإدخال التكنولوجية إلى ميدان التربية ليس وحده الكفيل بالربط بين تربيتنا وبين العصر. ولابد أن تنضاف إليه جوانب أخرى، على رأسها الاهتمام بتكنولوجية الإدارة التربوية، والعناية بالأساليب العلمية السليمة في التخطيط التربوي، وإدخال التكنولوجية في التعليم، وبوجه أخص الربط الوثيق بين تطور التعليم المهني والتقني وبين حاجات سوق العمل المتغيرة بتغير وسائل الإنتاج وأساليبه المتطورة بتطور الاكتشافات العلمية والمبدعات التكنولوجية.
5- ما الهموم التي تؤرق الدكتور عبد الله عبد الدائم في هذه الأيام؟
* قد يكون في الجواب عن هذا السؤال عود على بدء. فالذي يؤرقني في التربية وسواها أزمة القيم من جانب، وضعف الارتباط بين النظام التربوي وحاجات سوق العمل من جانب آخر. وبين هذين الجانبين جذع مشترك. فالتربية التي لا تُعنى بإعداد المتعلمين من أجل الإنتاج ومن أجل مهن يتطلبها التطور الحاضر والمستقبلي لسوق العمل تربية تؤدي في نهاية الأمر إلى تخريج مثقفين عاطلين، وكثيراً ما يكون هدفها تأجيل البطالة بضع سنوات، أو رفع البطالة من بطالة جاهلة إلى بطالة مثقفة. فمن قبيل المصادفة أنني استمعت بالأمس إلى أغنية فرنسية جاء فيها أن الإنسان في هذه الأيام لكي يكون عاطلاً ينبغي أن يحمل شهادة. وتخريج مثقفين عاطلين تربة خصبة لتوليد مشكلات نفسية واجتماعية خطيرة، ولإصابة القيم الخلقية والقومية إصابة تكاد تكون قاتلة.
والحق أن أكبر أزمة يواجهها العالم اليوم، نتيجة عوامل كثيرة على رأسها العامل الاقتصادي والأزمة الاقتصادية العالمية، هي أزمة الطلاق المتزايد بين مخرجات النظم التربوية وبين الحاجات الفعلية لسوق العمل. وهذه الأزمة في البلدان النامية وفي البلدان العربية أدهى وأمرّ. ومن هنا تقوم الجهود تترى من أجل إعادة النظر في هياكل التعليم ومحتوياته وبوجه أخص في أنواع التعليم وفروعه وتخصصاته. كما تقوم جهود جادة للتزاوج في ميدان إعادة وتدريب القوى العاملة في شتى المجالات بين المؤسسات التربوية وبين المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والشركات وعالم العمل بوجه عام. كما تقوم جهود دائبة من أجل تحقيق أقصى حد من المرونة في بنية التعليم الثانوي ومناهجه وفروعه، وفي بنية التعليم العالي ومحتواه واختصاصاته بحيث يتم اللقاء بين ما تنتجه التربية وما تحتاج إليه عجلة التقدم ومستلزمات التطور والتجديد في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. لقد فات الزمن الذي كانت التربية تعتبر فيه أي تربية أداة من أدوات التقدم. ولرب تربية اليوم تسير في عكس أهداف التنمية وفي عكس أهداف التقدم. والتربية لا تكون توظيفاً مثمراً واستخداماً منتجاً للموارد البشرية إلا إذا وضعنا فيها سلفاً، في بناها وفي محتواها وفي إدارتها، الأهداف المؤدية إلى العمل والإنتاج، والقادرة على التنمية. ولابدّ أن نقول إن فتح أبواب التربية للجميع، لأكبر قدر ممكن تحقيقاً لديموقراطية التربية، يستلزم بالضرورة ألا نقدّم تربية من نوع واحد للجميع.
وجملة القول في خاتمة المطاف إن همي وشاغلي تكوين نظام تربوي عربي قادر على تحقيق التنمية الشاملة السريعة والتقدم العلمي والتكنولوجي الجدير بالعصر، والبناء البشري الذي يمتلك القيم والاتجاهات والمواقف التي تفجر قدرات العطاء من أجل بناء مجتمع عربي متقدم، ومن أجل صياغة مشروع عربي قادر على توليد الوجود العربي الذي يواجه التحديات الكبرى.