التربية وتنمية الموارد البشرية في الوطن العربي

نـدوة
تنمية الموارد البشرية في الوطن العربي
الكويت 28-29 نوفمبر 1987
التربية وتنمية الموارد البشرية العربية
بقلم
الدكتور عبد الله عبد الدائم
فهرست البحث
رقم الصفحة الموضوع
1 – مدخل
4 – (أولاً) الوضع الاقتصادي والاجتماعي العالمي في صلته بالموارد البشرية
13
– (ثانياً) انعكاسات الوضع الاقتصادي الاجتماعي العالمي على التجربة التربوية العالمية
20 – (ثالثاً) الواقع الاقتصادي الاجتماعي في الوطن العربي من خلال صلته بالثروة البشرية
36 – (رابعاً) الواقع التربوي في الوطن العربي ومدى استجابته لحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ولمطالب تنمية الموارد البشرية
36 1- مدخل
36 2- الوجه الكمي لتطور التربية في الوطن العربي
41 3- الجانب الكيفي النوعي للتربية في الأقطار العربية
50 – (خامساً) الاتجاهات اللازمة لتطوير التربية في الوطن العربي من أجل تنمية الموارد البشرية والاستجابة لحاجات التنمية الشاملة
50 1- مدخل: حدود التربية وقيودها.
53 2- حدود البحث.
54 3- التعليم الثانوي التالي للمرحلة المتوسطة.
56 4- التجربة العالمية في ميدان التعليم الثانوي التالي للتعليم المتوسط.
61 5- الاتجاهات المأمولة للتعليم الثانوي في الوطن العربي.
66 6- الاتجاهات المعاصرة في التعليم العالي.
69 7- الاتجاهات المأمولة للتعليم العالي في الوطن العربي.
74 – (سادساً) خاتمة وخلاصة.
80 – المراجع
التربية والموارد البشرية
في الوطن العربي
الدكتور/ عبد الله عبد الدائم
مدخل:
1- التربية في أي بلد عربي، في صلتها بسواها، أشبه ما تكون بتلك الدوائر المنداحة التي تتوالد عندما نلقي حجزاً في لجة الماء.
فهنالك في القلب النظام التربوي (الذي يضم بدوره نظماً فرعية) في البلد المعنى. وهنالك دائرة أساسية تتحلق حوله، هي جملة النظام الاقتصادي والاجتماعي في ذلك البلد. وثمة دائرة أخرى هي دائرة النظام التربوي في الوطن العربي، ومن حولها وفي صلبها النظام الاقتصادي والاجتماعي الشامل في ذلك الوطن في جملته. وهنالك دائرة كبرى تشمل النظام التربوي العالمي، سواء في العالم المتقدم أو النامي، ومن ورائها دائرة النظام الاقتصادي والاجتماعي العالمي.
والصلة بين هذه الدوائر ليست صلة خطية، وإنما هي صلة تأثر وتأثير متبادلين، بل صلة تكامل واندماج. ولعل الفصل بينهما، كما يقع غالباً في العديد من الدول المتقدمة والنامية هو العامل الأساسي في تردي هذه الدوائر جميعها أو عدم بلوغها الشأو المطلوب. ولعلّ الطريق الأمم لمعالجة أي منها معالجة صحيحة هي التواصل فيما بينها تواصلاً عضوياً، وإخصاب نتاجها عن طريق التفاعل المشترك.
2- وقد يكون هذا الكلام مكروراً ومعاداً، رغم أنه مما يسهل قوله ويصعب فعله، ورغم أن الاقتراب منه في الواقع ما يزال هدفاً بعيد المنال، بل لعله هدف سيظل دوماً أمامنا
لا وراءنا، ما دام ثمة تطور إنساني يصعب تحقيق التوازن بين جنباته، ويصعب السير فيه بخطى متوازية في شتى المجالات، لا سيما في عصر حُوّل قُلّب سريع كعصرنا هذا.
3- على أن هدفنا الأساسي من تأكيد هذه الحقيقة المكرورة هو أن نتخذها منطلقاً للمنهج الذي سنتصدى عن طريقة لمعالجة الصلة بين التربية وبين تنمية الموارد البشرية في الوطن العربي. فالهام عند الحديث عن الصلة، وقد كثر الحديث عنها، هو أن ننظر إليها من خلال موقعها من جملة الحقائق الاقتصادية والاجتماعية التي تحيط بها، وألا نقتصر في ذلك على الوطن العربي وحده، بل نمد بصرنا إلى ما هو أوسع وأرحب، إلى العالم وإلى العصر الذي نعيش فيه والذي تنعكس آثاره علينا، في التربية وسواها، شئنا أم أبينا.
4- ذلك أن تنمية الموارد البشرية، كما سنرى، مشكلة كبرى تواجه العالم كله، تنعكس عليها أصداء الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالعالم، كما ينعكس عليها حصاد التجربة العالمية، سلبها وإيجابها، في التربية وما وراءها. ولئن اختلفت مشكلات هذه التنمية وبالتالي حلولها بين بلد وبلد، وبين البلدان المتقدمة والبلدان النامية بوجه خاص، فإن هنالك اتجاهات مشتركة يفرضها الواقع العالمي، ولعله يفرضها على البلدان النامية على نحو أدهى وأمرّ. ولئن كانت العلاقة بين تنمية الموارد البشرية وتنمية التربية علاقة لا بد أن تتزيّى بزي الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية في كل بلد، فإن من الوهم أن نتخيل أن البلدان المختلفة تملك حقاً حرية الاختيار في ميدان المجال كاملة غير منقوصة. ثم إن للتجربة العالمية في ميدان الصلة بين التربية والموارد البشرية جهوداً إيجابية كثيرة لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار وأن تكون ماثلة أمام أعيننا قبل أن نختار نموذجنا الذاتي الخاص.
5- من هنا سوف يشتمل بحثنا في التربية والموارد البشرية في الوطن العربي على الجوانب المتداخلة المتشابكة الآتية:
أ- الوضع الاقتصادي الاجتماعي العالمي في صلته بالموارد البشرية، سواء في العالم المتقدم أو النامي.
ب- انعكاسات هذا الوضع على التجربة التربوية العالمية في مجال تنمية الموارد البشرية.
ج- الواقع الاقتصادي والاجتماعي في الوطن العربي من خلال صلته بالموارد البشرية.
د- الواقع التربوي في الوطن العربي ومدى استجابته للحاجات المتطورة المتجددة للنظام الاقتصادي الاجتماعي العربي.
هـ- الاتجاهات اللازمة لتطوير النظام التربوي في البلاد العربية تطويراً يستجيب لحاجات تنمية الموارد البشرية انطلاقاً مما يميله واقع العالم وواقع الوطن العربي في شتى المجالات.
6- وبدهي أن معالجة أي جانب من هذه الجوانب يحتاج إلى بحث مستقل بل إلى سفرٍ برأسه. ومن هنا سوف يكون حديثنا أشبه بلغة البرقيات، كما أنه سيكون «انتقائياً» يحاول أن يعالج المسائل المختلفة من منظار وحيد، هو منظار التربية في صلتها بتنمية الموارد البشرية. ومن هنا قد لا يشفى غليل من يتطلع إلى معالجة هذه المسائل كلها معالجة مستفيضة.
(أولاً) الوضع الاقتصادي الاجتماعي العالمي في صلته بالموارد البشرية:
1- منطلقنا ونحن نقبل على دراسة الوضع الاقتصادي الاجتماعي العالمي، مفردين له مكانة خاصة في معالجة ميدان هو في الأصل والجوهر ميدان التربية (في علاقتها بتنمية الموارد البشرية)، هو تلك الحقيقة التي أكدتها تجربة العصر، نعني أن مهمة التربية في عصرنا غدت مهمة ثلاثية الأبعاد: أولها أن تتكيف مع تطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وأن تستجيب لحاجاتها المتجددة. وثانيها أن تلعب دوراً في هذا التطور، وأن تعمل على تصحيحه وتقويمه إن لزم. وثالثها أن تعمل على تطوير طبيعة عملها نفسه، بسبب هذا التطور، وبسبب الوسائل الجديدة التي يضعها التقدم التكنولوجي، ولا سيما في مجال تكنولوجيات التربية، بين يديها.
2- وبتعبير آخر لم يعد من الممكن، في عصرنا العلمي التكنولوجي، في عصر الأتمتة والحاسبات الإلكترونية، أن يكون هنالك فراق بين التكنولوجيا والحياة المهنية والتربية،
ولا يجوز لهذه الميادين الثلاثة بعد اليوم أن تؤلف نظماً مغلفة، معزولة بعضها عن بعض. لقد أصبحت هذه الميادين، بحكم التطور الاقتصادي الاجتماعي العالمي، مظاهر متكاملة لنظام وحيد جديد. وسنرى تفصيل هذا فيما بعد، وحسبنا أن نضرب الآن مثالاً واحداً وهو أن العديد من مؤسسات الصناعة ومن الشركات الاقتصادية وضعت برامج للدراسة والإعداد في قلبها، وأن وزارت أو دوائر كثيرة غير وزارة التربية ودوائرها قد أصبح لها دورها المتزايد في رسم السياسات التي تضعها وزارة التربية وفي بنية النظام المدرسي.
3- ذلك أن التغيرات التي تحدث في عصرنا ليست كأي نوع من التغيرات، وإنما هي تغيرات جذرية أشبه بالقفزات بل بالثروات، سواء كان ذلك على المستوى العالمي أو على مستوى البلدان النامية.
وقد كُتب كثيرٌ عن هذه التغيرات الجذرية، في شتى مجالات الحياة الحديثة، وترَّيث عندها كتّاب شهيرون من أمثال “توفلر Toffler “ (في “صدمة المستقبل“ عام 1970، وفي الموجة الثالثة عام 1980 بل حتى في خرائط المستقبل عام 1983(1)) ومن أمثال «نيسبيت Naisbitt (2)» كما عنى بها أصحاب الدراسات المستقبلية منذ نشأتها حتى اليوم. وفي ميدان الحديث عن التغيرات في هياكل العمل وأدواته وما يلحق بذلك، برز منذ عام 1968 (منذ ربيع «براغ Prague» الشهير) ذلك السِفر الذي ضم حصاد عمل نيف ومائة وخمسين باحثاً في تشيكوسلوفاكيا(3)، مبيناً الفوارق الجذرية (في الطبيعة لا في الدرجة كما يقول) بين الثورة الصناعية وبين الثورة العلمية التكنولوجية، لا سيما فيما يتصل بعلاقات العمل وأدواته وحاجاته. وقد كان هذا السفر مصدراً سقت منه كثير من الأبحاث التالية وطورته. ومن أشهر المؤلفات التي حذت حذوة الكتاب «روجيه (رجاء) غارودى Garaudy» الشهير«المنعطف الاشتراكي الكبير»(4).
4 – التغيرات الاقتصادية الاجتماعية في العالم:
وليس المجال مجال الحديث عن الدراسات التي لا تحصى التي تحدثت عن التغيرات الكبرى التي انطلقت مغذّه في سيرها، نتيجة للثورة العلمية التكنولوجية. غير أن لابد من قوله هو أن الحديث بدأ ينصرف منذ سنوات إلى تحليل معالم الثورة الجديدة، الثورة الصناعية الثالثة كما يدعوها بعضهم، التي انبثقت من الثورة العلمية التكنولوجية والتي تتصف بوجه خاص بتزايد الاعتماد على الأتمتة وعلى وسائل الاتصال الحديثة (الحاسبات الإلكترونية وسواها).
وسنكتفي، ضمن حدود بحثنا، بلمحة خاطفة عن التغيرات ذات الصلة المباشرة بموضوعنا، موضوع التربية وتنمية الثورة البشرية.
4-1- ندرك مما سبق أن العالم يمرّ بمرحلة انتقال بين ثورتين صناعيتين(5):
الثورة الصناعية الثانية والثورة الصناعية الثالثة. ويعني ذلك الانتقال من الصناعات التحويلية «التقليدية» كالنسيج والفولاذ والسيارات والآلات والمواني، الخ.. (وهي صناعات يأفل نجمها) إلى صناعات جديدة متقدمة كالصناعات الإلكترونية وكل ما يتعلق بالاتصالات والمعلومات، وكحلول الآلة محل الإنسان robotique والصناعات النووية، والهندسة البيولوجية، وهي كلها صناعات في أوج انطلاقها.
4-2- وهنالك كثيرون يعزون الأزمة الاقتصادية العالمية (وما يرافقها من بطالة بوجه خاص) إلى ولوج الثورة الصناعية الثالثة هذه. ولا شك أن هذه الثورة كما سبق أن ذكرنا، قد غيرت بوجه خاص علاقة الإنسان بالآلة وبوسائل الإنتاج، كما غيّرت طبيعة المهن والأعمال، الأمر الذي يؤدي إلى انقلابات سريعة في نمط الطلب على القوى العاملة وفي نوعها وكمها وتوزعها على قطاعات النشاط الاقتصادي والمهن.
غير أن دخول الثورة الصناعية الثالثة، على أهميته، لا يكفي وحده دون شك لتفسير الأزمة الاقتصادية العالمية. وثمة أسباب عديدة أخرى يفصّل فيها المختصّون نكتفي بذكر أهم عناوينها:
أ- سياسات النمو، مهما يكن الثمن، التي اتبعت في البلدان المتقدمة خاصة بعد الحرب العالمية الثانية.
ب- تخصيص مبالغ مخيفة للتسلح.
ج- أزمة النفط منذ عام 1973.
د- التلكؤ في تبني نظام اقتصادي عالمي جديد.
و- الإنتاجية التي كادت تقف عند حدود ثابتة لا تتجاوزها.
ز- السياسات النقدية.
ح- ضعف التعاون الاقتصادي بين البلدان النامية.
ط- تعاظم دور الشركات الاحتكارية العالمية الكبرى.
ي- تقديم النمو الاقتصادي على التنمية الشاملة، وفقدان التوازن بين التنمية الاقتصادية من جانب وسائر جوانب التنمية من جانب آخر، وعلى رأسها التنمية الاجتماعية والثقافية والحضارية.
ك- الخ…
4-3- يضاف إلى هذا كله أن التصنيع أدّى إلى استغلال متسارع للموارد الطبيعية غير القابلة للتجديد. الأمر الذي أثار المخاوف، منذ الستينيات، حول إمكان نفادها. وبين هذه المواد التي كان يظن أنها وفيرة لا تنضب، موارد سيؤدي تضاؤلها المستمر إلى طرح مشكلات أساسية أمام تطور الاقتصاد العالمي في المستقبل. وعلى رأس تلك الموارد: التربة – الماء – الهواء – الطاقة – الغابات.
4-4- وهكذا نستطيع أن نقول في الجملة إن آفاق النمو الاقتصادي (وسواه) في العالم المتقدم والنامي لا توحي الطمأنينة إلى معظم المنظّرين الاقتصاديين. والنماذج الاقتصادية البديلة التي يطرحها العديد منهم، لا تعدو أن تكون في نظرهم، نماذج “واجبة“ دون أن تكون بالضرورة ممكنة عند التطبيق.
وأهم ما ينبغي أن يذكر في هذا المقام أن كثيراً من العوامل (وقد أشرنا إلى بعضها منذ حين) تجعل من الجمود النسبي أو الكامل في الاقتصاد جموداً “بنيوياً“ مرتبطاً ببنية الحياة الاقتصادية الحديثة كلها، بعد أن كان بعضهم وما يزال يذهب به الظن أو الأمل إلى الاعتقاد بأنه مجرد حادثة ظرفية طـارئة.
4-5- ونذكر فيما يلي – بإيجاز شديد – أهم مؤشرات الأزمة الاقتصادية العالمية، متخيرين تلك التي ترتبط ارتباطاً أوثق بالتربية والموارد البشرية.
أ- لقد هبط المعدل السنوي لنمو الاقتصاد العالمي من 7،5% خلال الفترة 1960-1964 إلى 6،2% فقط خلال الفترة 1978-1982. والجدول التالي رقم (1) يوضح ذلك:
جدول رقم (1)
نمو الناتج الداخلي الإجمالي من عام 1960 إلى عام 1982 بالنسب المئوية
1982 1981 1980 1973-1979 1960-1973 المنطقة
1.9
0.2 2
1 3
1.3 5.1
2.8 6
5 البلدان النامية
البلدان المصنعة
(المصدر: تقرير البنك الدولي عام 1983 عن النمو في العالم)
ب- ومن نتائج هذا الاقتصاد العالمي الراكد مشكلة «البطالة»، وهي مشكلة وثيقة الصلة بالتربية. وليس من المتوقع، إن استمرت الاتجاهات الحالية، القضاء على هذه المشكلة في السنوات القريبة الآتية، ولا سيما إذا ذكرنا (حسب تنبؤات منظمة العمل الدولية(1)) أن عدد الوظائف التي ينبغي إيجادها بين عام 1980 ونهاية القرن تبلغ زهاء (89) مليون وظيفة في البلدان المتقدمة و (662) مليون وظيفة في البلدان النامية. وهي مهمة صعبة يزيد في قسوتها أن العالم الثالث يشكو منذ سنوات من البطالة المقنعة فضلاً عن البطالة الكاملة.
ج- يضاف إلى هذا أن التبادل التجاري (باستثناء النفط) قد تدهور منذ عام 1979 على حساب البلدان المصدرة للمواد الأولية. ومنذ ذلك الحين عمّ التدهور التجارة العالمية جميعها: فالصادرات العالمية تزايدت بمقدار 1.5% فقط عام 1980، وظلت على جمودها هذا فيما بعد إلى حد بعيد. وقد تضاءل في الوقت نفسه نصيب البلدان النامية من الصادرات العالمية (من27.3% عام 1955 إلى21.4% عام 1980). وقد أدى ذلك فيما أدّى إلى بروز مشكلة ديون العالم الثالث (التي بلغت مع فوائدها أكثر من 700 مليار دولار عام 1984).
د- ويهمنا أكثر من هذا كله أن نشير إلى ما أصاب بنية القوى العاملة من تغير، نتيجة لهذا كله ونتيجة للتطور التكنولوجي بوجه خاص. والجدول التالي رقم (2) يبين هذا التطور الذي أصاب قوة العمل في العالم تبعاً لقطاعات النشاط الاقتصادي المختلفة (حسب تقديرات منظمة العمل الدولية).
جدول رقم (2)
تطور توزع القوى العاملة في العالم على قطاعات النشاط الاقتصادي بالنسب المئوية
الخدمات الصناعة الزراعة المنطقة
1981 1970 1950 1981 1970 1950 1981 1970 1950
–
56
21 26
44
18 19
32
12 –
34
20 23
38
16 16
30
8 –
10
59 51
18
67 64
38
79 العالم كله
المناطق المتقدمة
المناطق النامية
ويتضح من هذا الجدول أن النسبة المئوية لليد العاملة الزراعية، خلال الفترة من 1950-1981، قد تناقصت في العالم كله، بينما تزايدت بشكل واضح نسبة العاملين في قطاع الخدمات في البلدان المتقدمة.
وههنا لا بد أن نفتح معترضة صغيرة. وهي أن تناقص العاملين في القطاع الزراعي في البلدان المتقدمة قد كان معظمة بسبب دخول الآلة والتقنيات الحديثة في الزراعة، ولم يؤد بالتالي إلى تناقص الإنتاج الزراعي بل أدّى في الجملة إلى تزايده تزايداً كبيراً وسريعاً، بينما يرجع في البلدان النامية إلى أسباب أخرى كثيرة، لا تحمل معنى إيجابياً. كذلك فإن التزايد الكبير في القوة العاملة في قطاع الخدمات في البلدان المتقدمة يرجع إلى التغير الجذرى في وسائل الإنتاج وفي طبيعة المهن والصناعات. في حين أننا قد نجد في بعض البلدان النامية (ومن بينها كثير من البلدان العربية النفطية) نمواً في قطاع الخدمات يرجع إلى أسباب كثيرة تنبئ عن ضعف البنية الاقتصادية وضعف الإعداد والتدريب في القطاعين الزراعي والصناعي. وهكذا يغدو هذا القطاع (قطاع الخدمات) في بعض هذه الدول “مستودعاً” للعمالة الفائضة في كثير من الأحيان.
ومثال الولايات المتحدة مثال معبر في مجال تغيّر هياكل القوى العاملة وظهور مهن جديدة وبروز الحاجة بالتالي إلى تغيير جذري في بنية التربية لمواجهة مثل هذا التغير:
فلقد تم في هذا البلد إحداث 17 مليون وظيفة بين عام 1970، وعام 1980، وقد كان 90% من هذه الوظائف الجديدة في مجالات غير مجالات إنتاج البضائع المادية، إذ انصبت على مجالات الاتصال والإعلام ونقل المعرفة والخدمات بوجه عام. ومن المهن الجديدة كذلك، التي خلقت وتخلق وظائف جديدة، تلك المتصلة بالتكنولوجيا البيولوجية، وتطوير الطاقات الجديدة، واستثمار موارد الفضاء والمحيطات. ومما لاشك فيه أننا سنشهد في السنوات القادمة، في البلدان المتقدمة على أقل تقدير، اتساعاً في «القطاع الرابع» كما يسمى اليوم، ذلك القطاع الذي يضم صناعة المعرفة والبحث والتنمية والإبداع العلمي والفني.
5 – التغيرات الاقتصادية والاجتماعية في البلدان النامية:
وفي خضم هذا الكيان العالمي المعقد، إن نحن ألقينا نظرة خاطفة على البلدان النامية، مشيرين إلى أهم الملامح الاقتصادية فيها، واجهتنا الحقائق الآتية (التي تنطبق إلى حد بعيد على البلدان العربية أيضاً):
5-1- لقد تزايد خطر التبعية الاقتصادية في البلدان النامية. فهذه البلدان التي تمثل أكثر من ثلثي سكان العالم، تضم 91% من العاملين في الزراعة في العالم كله، ومع ذلك فهي لا تنتج إلا قرابة 44% من جملة المواد الغذائية. وبينما كانت تلك البلدان في الماضي بلداناً مصدّرة للمنتجات الغذائية، أصبحت تستورد اليوم أكثر من 50 مليون طن من القمح سنوياً.
5-2- أما في الصناعة، فنصيب البلدان النامية من جملة الإنتاج العالمي ما يزال أقل من 10%.
5-3- تزايدت البطالة الحقة (بمعنى التعطل الكامل عن العمل) في البلدان النامية في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى البطالة المقنّعة. وتشير تقديرات مكتب العمل الدولي(1) إلى أن النسب المئوية (المعلنة) للبطالة بالقياس إلى قوة العمل عام 1980 بلغت في بعض مناطق العالم الثالث 14.8% وهي آخذة دون شك في التصاعد المتزايد.
5-4- ولقد ولّدت التغيرات الأساسية في العالم خلال السنوات الأخيرة مزيداً من الترابط والعلاقات المتزايدة بين اقتصاديات البلدان المختلفة. وقد صاحب ذلك، من جانب، تزايد سيطرة الشركات العالمية الكبرى على اقتصاد البلدان النامية بوجه خاص، ومن جانب آخر الشعور بالحاجة لدى أبناء هذه البلدان إلى تنمية ذاتية وإلى إعادة النظر في النماذج المجلوبة. وقد كان من المأمول أن يؤدي ذلك كله إلى الأخذ «بنظام اقتصادي عالمي جديد». ورغم الجهود الكبيرة التي بذلتها هيئة الأمم وكثير من المنظمات الدولية في هذا المجال، ما تزال الخطى متعثرة في هذا السبيل.
5-5- وههنا يتساءل بعضهم (متفائلاً) أمام الهوة المتزايدة التي تفصل البلدان المتقدمة والبلدان النامية: هل يُرجى لهذه البلدان النامية التي تتدافع من أجل دخول الصناعة أن تقفز تواً إلى المرحلة التالية على الصناعة، مرحلة الثورة الصناعية الثالثة، أو أن تجتنب على الأقل بعض المراحل الأولى التي عرفتها البلدان المصنعة عند البداية؟ هل من سبيل إلى ضرب من «المقربة Shortcut» في هذا السبيل؟ إن كاتباً واقتصاديا فرنسياً معروفاً يرى في ذلك «الفرصة الأخيرة أمام العالم الثالث(2). أما جمهرة الاقتصاديين فيشيرون إلى مرور هذا العالم الثالث بمراحل من النمو متباينة في البلد الواحد، حيث تتعايش جنباً إلى جنب المرحلة السابقة على الصناعة والمرحلة الصناعية التكنولوجية المتقدمة (ولا سيما في المدن). بل نكاد نجد في بعض هذه البلدان تعايشاً بين شتى مراحل النمو في وقت معاً، من أدناها إلى أرفعها. ولكن لا بد أن نترك هذا الجانب الاقتصادي على أهميته فنحن لم نقصده لذاته بل قصدناه لما له من انعكاسات واضحة على التربية (وبالتالي على إعداد الموارد البشرية وتدريبها والاستخدام الأمثل لها) فلنمضِ إذن إلى ميدان التربية (في العالم).
(ثانياً) انعكاسات الوضع الاقتصادي الاجتماعي العالمي على التجربة التربوية العالمية:
1- واضح من العرض السابق أن العالم يشهد تغيرات جذرية في شتى جوانب حياته، وأنه يمر اليوم بمرحلة انتقال من الثورة الصناعية الثانية إلى الثورة الصناعية الثالثة (أو ثورة ما بعد الصناعة). ومن شأن هذا كله أن يخلق أزمات عسيرة، سواء في البلدان النامية أو المتقدمة، كما يخلق حاجات جديدة ومطالب جديدة بل متجددة دوماً.
ولئن كانت مواجهة هذا الموقف تستلزم القيام بجهود متكاملة في شتى ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فمما لا شك فيه أن دور التربية في هذا الشأن كبير، إذ تقع عليها مهمة الإعداد الجديد للثروة البشرية، بالتعاون والتكامل مع سواها دون شك، وعليها أن تضطلع بدور كبير في إعداد هذه الثروة البشرية إعداداً يستجيب لتلك الحاجات المتجددة ويصحح مسيرتها في الوقت نفسه، كما ذكرنا منذ البداية.
2- غير أنه ليس من الإسراف في القول أن نقرر الحقيقة البدهية الآتية:
وهي أن صناعة التربية (وقد غدت التربية من كبريات الصناعات بل من أكبرها) لم تكن معدّه لمثل هذه المهمة ولتحقيق مثل هذا الانتقال. والحق، إنها لم تصمَّم في الأصل لمواجهة صناعات اليوم، تلك الصناعات التي تستلزم المرونة والقدرة الدائمة على التكيف والمشاركة. ولقد رأينا فيما رأينا، أثناء حديثنا عن الوضع الاقتصادي، ما أصاب العمل من تغيرات في قطاعات النشاط الاقتصادي ومن تغيرات في المهن، وهي تغيرات تتسع يوماً بعد يوم، لا سيما في القطاع الرابع. وقد أدى هذا إلى تكون الحدود الداخلية بين المهن، والحدود بين عالم العمل القديم الشيخ وبين عالم العمل الجديد، حدوداً متموجة غير مستقرة.
3- ولمثل عالم العمل الجديد هذا، وهو في مرحلته الانتقالية، ينبغي أن تعد التربية أولئك الذين يتعلمون اليوم، لا سيما أن هذه المرحلة الانتقالية تزداد وتيرة سرعتها ويتزايد اتساعها ومداها بسبب الجيل الخامس من الحاسبات الإلكترونية التي أنتجتها اليابان منذ عام 1985.
4- ولا شك أن التطور التكنولوجي من أبرز مظاهر الحياة العصرية أثراً في التربية والإعداد، فضلاً عن سائر الميادين. وليس المجال مجال الحديث عنه، وقد أشرنا إلى بعض نتائجه فيما يتصل بالعمل، وبالتالي بالإعداد والتدريب. غير أن ما لابد من قوله أن مدى الاهتمام بالدراسات الموجهة نحو التكنولوجيا يختلف اختلافاً بيناً تبعاً لأوضاع كل بلد وتاريخها القريب والبعيد. غير أنه في الجملة مقصّر عن مداه، وكثيراً ما يغدو مجرد مادة مدرسية تدرس إلى جانب المواد الأخرى.
5- وفي الجملة، تستلزم التغيرات الحالية، في مجال الإنتاج أو الاتصال أو العلاقات الاجتماعية أو التربية والإعداد، ثورة أخطر مما كانت عليه الثورة الصناعية الأولى بالقياس إلى الحضارات الزراعية التي كانت سائدة قبلها.
6- يضاف إلى هذا كله أن التزايد السكاني من جانب، وتزايد أعداد الطلاب في شتى مراحل التعليم من جانب آخر، وبوجه خاص تزايدهم في المرحلة الثانية من التعليم الثانوي (المرحلة التي تلي المرحلة المتوسطة) وفي التعليم العالي، ظاهرة هامة سوف تستمر في الاتساع. وهي تفرض بالتالي – نتيجة لشمول التعليم الثانوي معظم من هم في سنه وشمول التعليم العالي نسبة كبيرة ممن هم في سن هذا التعليم – عناية خاصة بإعداد هذه الجماهير الطلابية إعداداً جديداً يستجيب لحاجات العمالة المتغيرة (فضلاً عن تحقيقه الأهداف الأساسية الثابتة للتربية) ويحول دون بطالة المثقفين بوجه خاص. الأمر الذي يطرح على التربية مسؤوليات جديدة (سنشير إليها) ما تزال تتلكأ في الاضطلاع بها في معظم بلدان العالم. فالتعليم حين يغدو مبذولاً للجميع مفتوحاً لهم جميعهم، لا يجوز أن يكون هو هو للجميع.
7- ولعلنا نستخلص من هذا كله أن الوضع الاقتصادي العالمي (بما فيه التقدم التكنولوجي) يستلزم تغيراً جذرياً في الإعداد والتدريب، أهم بواعثه:
أ- أن مفهوم النظام التربوي الثابت قد مات، كما ذكرنا منذ البداية.
ب- أن تحليل هياكل التربية تحليل ما يزال يغلب عليه الجانب الهندسي «المعماري» إن صح التعبير، بينما المشكلات المطروحة اليوم مشكلات بنيوية عضوية تمس جوهر التعليم من خلال هياكله.
ج- أن المؤسسات الصناعية وسواها من المؤسسات الاقتصادية قد دخلت ميدان التربية، ولا بد أن يتزايد دورها في صياغة هذه التربية وفي الاضطلاع بجانب منها.
د- أن الثورة الصناعية الحالية تستلزم تغيرات جذرية في إعداد التربية للقوى العاملة.
8- هذا الواقع يعني – إن توخينا المزيد من الإيجاز – الأخذ بالاتجاهات الآتية في ميدان التربية:
أ- المرونة المتزايدة في نظم التربية وبرامجها، والعزم على أن تستجيب لحاجات «الزبائن» المختلفة والمتجددة.
ب- انفتاح المدرسة على العالم وعلى عالم العمل بوجه خاص، وعلى العمل المنتج بوجه أخصّ.
ج- السير قدماً في مجال التنويع والتشعيب، ولا سيما في المرحلة الثانية من التعليم الثانوي وفي التعليم العالي، وإعادة النظر على نحو جذري في بنية التعليم العالي لمرحلة الإلزام وفي محتواه، كما سنرى.
د- التخفيف من التصلب الذي تبديه السلطات التربوية المركزية تجاه التجديد، والأخذ بالتالي بمزيد من اللامركزية في إدارة التربية.
هـ- ترسيخ مبدأ «التعلّم الذاتي» (تعلّم التعلّم) لمواجهة التغير السريع في العصر، سواء في ميدان العمالة أو سواها.
ز- القضاء على الحواجز بين التعليم النظامي وغير النظامي، وتحقيق التكامل بينهما، كما سنرى.
ح- ولا نغلو إن أضفنا إلى هذا كله أن على التربية، في عصرنا المتغير، أن تصبح تربية من أجل مواجهة «عدم اليقين» وعدم التأكد مما تحمله سوق العمل من مفاجآت.
ط- الاتجاه في كثير من البلدان نحو التقليل من أهمية الشهادات، وتبنى معايير جديدة من أجل اختيار المرشحين لسوق العمل.
ي- الاهتمام الكبير بنوعية التعليم وكفايته الداخلية، وهو مطلب ييسره استخدام التكنولوجيا التربوية الحديثة والطرائق المتقدمة في «التعلم» (الاقتصاد في الزمن اللازم للتعلم، شأن الاقتصاد في إنفاق المال).
ك- انتشار النظم التربوية التي توفر التناوب بين فترات الدراسة وبين فترات العمل في إطار تربية تعدّ «مستمرة».
9- ولا حاجة إلى القول أخيراً إن التطور الاقتصادي، وبوجه خاص التطور التكنولوجي وما رافقه من تزايد «الأتمتة» وتغير مؤهلات العاملين، وما صاحبه من انتشار البطالة، ولّد لدى الشبان وآبائهم شكوكاً جادة وريبة متزايدة فيما يتصل بمدى سلامة النظام التربوي ومدى كفاءته الخارجية وجدواه. وقد كانت هذه الشكوك وراء الحركات الطلابية التي عرفتها كثير من بلدان العالم في أواخر الستينيات. بل كانت وراء بعض الدراسات التي أخذت تنكر دور المدرسة أصلاً وتدعو إلى زوالها وإلى تخليص المجتمع منها، على نحو ما نجد في كتابات «إيليش Illich» وآخرين.
10- وفي الجملة نستطيع القول بأن التربية في بلدان العالم جميعها (على تفاوت بينها في الدرجة) تلقى عسراً في اللحاق بتطور هيكل العمالة ومضمون العمل. وفي البلدان النامية (ما عدا قليلها) ما يزال إعداد التقنيين والعلماء عاجزاً عن الاستجابة للحاجات المتزايدة لقطاع الصناعة، بينما تقصّر التربية في البلدان المتقدمة عن الوفاء بحاجات القطاع الثالث والرابع.
وتبين إحصاءات اليونسكو لعام 1981، أن نسبة الذين ينتسبون إلى التعليم التقني بالقياس إلى جملة عدد الطلاب في المرحلة الثانوية، تبلغ حوالي 21% في البلدان المتقدمة، و2،10% فقط (أي النصف تقريباً) في البلدان النامية.
11- ومن أهم انعكاسات ثورة العصر على التربية الاتجاه إلى العناية بوجه خاص بمن أصبح يطلق عليهم اسم “الراشدين الشبان“ الذين تتراوح أعمارهم بين 16-25 سنة، وبالتالي بمرحلتين أساسيتين من مراحل التربية كما سبق أن ذكرنا: المرحلة التالية للمرحلة الإلزامية ومرحلة التعليم العالي، وسنرى تفصيل ذلك فيما بعد. وفي هذا المجال لا بد من وضع تربية جديدة (تختلف باختلاف البلدان دون شك) لم ترد في الأدبيات التربوية للخمسينيات والستينيات بل بعد ذلك. والتجارب العالمية فيها ما تزال محدودة، وإن تكاثرت بعض الشيء في السنوات الأخيرة. وسوف نرى أمثلة لها، عندما نقبل على دراسة التربية في الوطن العربي. وحسبنا أن نقول الآن إن المرحلة التالية للإلزام (وفي قلبها المرحلة الثانية من المدرسة الثانوية) التي تكوّن جبهة حدود بين التعليم الثانوي والعالي، هي التي تنصب عليها معظم جهود التطوير والتغيير في الهياكل والمحتوى. وأهم ملامح هذا التغيير المرونة المتزايدة والانفتاح على عالم العمل، والجمع بين التعليم العام والتعليم التقني، وتوثيق الصلات مع المؤسسات الصناعية والاقتصادية المختلفة، وتنظيم برامج تلائم الحاجات والمؤهلات الخاصة للطلاب، …الخ.
12- وفي التعليم العالي لا تقتصر الحاجة على التنويع والتشعيب، بل تتناول تغييرات جذرية من أهم معالمها إعداد هذا التعليم لاستقبال فئات كثيرة جديدة من الدارسين لم يعهدهم من قبل (على رأسهم فئة الراشدين الذين يعودون إلى الدراسة أو يلجأون إلى التناوب بين الدراسة والعمل، أو يدرسون بعض الوقت، أو سواهم من الكبار أو من الراشدين الشبان الذين يطلق عليهم بعضهم اسم «غير المألوف من الطلاب»).
13- ولنا عودٌ إلى كثير مما ذكرنا عندما نتصدى للحلول اللازمة لمواجهة انعكاسات الوضع العالمي والوضع العربي على التربية في الوطن العربي، وحسبنا أننا قدمنا صورة سريعة للواقع العالمي وانعكاساته على التربية (وعلى تنمية الموارد البشرية بالتالي).
ولعل أهم نتيجة نخلص إليها من هذا العرض هي أننا أمام عالم جديد سريع التغير في بناه الاقتصادية والاجتماعية، وفي تقنيات الإنتاج فيه، وفي مطالب العمالة، وفي هياكل القطاعات الاقتصادية والمهن، وفي صلة الإنسان بالآلة، وفي عالم الاتصال والمعلوماتية، وفي مجال المعرفة والبحث، بل حتى في مجالات الثقافة والفنون المختلفة. ومثل هذا العالم المتغير يستلزم إعداداً للثروة البشرية ملائماً، لا يلبي حاجات العمالة الوليدة فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى تقديم تكوين علمي وتكنولوجي مرن، وقدرة ذاتية على التكيف، وتوليد أشكال عديدة من نظم التربية تتصف بالمرونة والقدرة على توفير التعليم والتدريب للفئات المختلفة عمراً وكفاءة وتفرغاً.
14- ولا شك أن هذا الواقع العالمي وما يمليه من اتجاهات تربوية، ينعكس على الواقع العربي. ولا شك كذلك أن كثيراً مما وصلت إليه التجربة العالمية فيما يتصل بتقديم بدائل جديدة في التربية وتنمية القوى البشرية قادرة على مواجهة الواقع، ينطبق إلى حد بعيد في اتجاهاته العامة على التربية في البلاد العربية. أما التفصيلات الخاصة بشكل تطبيق تلك الاتجاهات فهي متباينة دون شك بين بلد وبلد، سواء في العالم المتقدم أو النامي. ولا بد بالتالي أن تلبس في البلاد العربية حللاً متباينة، تبعاً للأوضاع السائدة في كل بلد، وتبعاً لنظمها التربوية القائمة وتاريخ تلك النظم.
15- هذه النتيجة التي خلصنا إليها من العرض السابق هي مبرر وجوده وهي التي ستكون لنا عوناً على تقديم التصورات اللازمة للتربية في الوطن العربي. ذلك أننا عزمنا منذ البداية على البحث في نظم التربية في الوطن العربي من خلال واقعين متآخذين، الواقع العالمي في شتى جوانبه، والواقع العربي في شتى جوانبه. وقد تعرضنا حتى الآن – بإيجاز نعتبره مخلاً – للواقع الأول. وعلينا أن ننتقل إلى الحديث عن الواقع الثاني، الواقع العربي، دون أن ننسى أن بين الواقعين تأثراً وتأثيراً متبادلين، وأن الواقع العالمي بوجه خاص ينوء بكلكله على العالم وعلى البلدان النامية بوجه خاص. ولا سبيل إلى مغالبة سلطانه (بالقدر اللازم) إلا عن طريق وعينا له ووعينا لواقعنا وتوليد واقع جديد من خلال ذلك. لا سبيل إلا سلوك النهج المؤدي للتنمية الذاتية سلوكا علمياً، وذلك بإعمال الفكر والإبداع من أجل توجيه معرفتنا بالواقع العالمي وبالواقع العربي وجهة تؤدى إلى تجديد التنمية في مجال هو أغلى ما يملكه الوطن العربي من ثروات، نعنى تنمية الثروة البشرية عن طريق اصطناع نظم في التربية والإعداد والتدريب جديدة، بالإضافة إلى القيام بجهد مواز في شتى مجالات التنمية الشاملة.
فلنمضِ إذن إلى الحديث عن الواقع العربي والواقع الاقتصادي والاجتماعي العام ثم الواقع التربوي، قبل أن نتحدث عن الحلول المرجوة لتنمية الثروة البشرية عن طريق تطوير التربية بوجه خاص (وهو موضوعنا) فضلاً عن الوسائل الأخرى التي ينبغي أن تتفاعل معها وتؤازرها في شتى ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
(ثالثاً) الواقع الاقتصادي والاجتماعي في الوطن العربي من خلال صلته بالثروة البشرية
1 – مدخل: التنمية والنمو:
1-1- البحث في الواقع الاقتصادي والاجتماعي في الوطن العربي وفي وسائل تنميته بحث مكرور أبداً وجديد دوماً. ولا حاجة إلى تكرار ذلك القول المعاد، وهو أن تنمية هذا الواقع ينبغي أن تكون شاملة لشتى جوانب الحياة العربية، سواء كانت اقتصادية
أو اجتماعية أو ثقافية أو غير ذلك.
غير أن الذي يحتاج إلى المزيد من التأكيد هو تلك الحقيقة التي توقف عندها كثير من الباحثين العرب والأجانب، وهي أن النمو الاقتصادي وحده لا يعني التنمية الحقة
ولا يقوى عليها، وأن ثمة بالتالي فرقاً بين التنمية والنمو. ومن التبسيط للواقع، بل من التعطيل للتنمية الحقة، الظن بأن التنمية لا تعدو تحقيق تقدم في الناتج القومي الفردي. ولم يعد جديداً أن نقول إن النمو في متوسط الدخل يمكن أن يتم مع تباطؤ التنمية وتعثرها. بل لا نغلو إذا قلنا إن التنمية في معناها الحق العميق تعنى بناء مشروع حضاري متكامل، يتوافر فيه التوازن بين الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ومن غير الجائز اليوم تجاهل المحتوى الاجتماعي والتاريخي والثقافي لكل من التنمية والتخلف. أو لم تنته التجربة العالمية، فيما انتهت إليه، إلى اعتبار الثقافة (بالمعنى الواسع للكلمة) وسيلة التنمية الأساسية وغايتها في آن واحد؟
1-2- ويهمنا من هذا المدخل ما يفصح عنه من علاقة جذرية بين التنمية الشاملة وبين تنمية الموارد البشرية بوجه خاص، بل بين تنمية الأشياء وتنمية الإنسان. وفي البلدان النامية بوجه خاص، وفي الوطن العربي بوجه أخص، لا سبيل للتنمية الحقة إلا إجزال عطاء الموارد البشرية وتفتيح إمكاناتها المختلفة، بالإضافة إلى الموارد الأخرى، من أجل تحقيق تنمية ذاتية مستقلة، تسعى إلى بناء حضارة جديدة، عن طريق إعداد إنسان جديد.
2 – الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السائدة في الوطن العربي:
ولا شك أن مثل هذا التصور للتنمية ما يزال بعيداً عن الواقع العربي، وإن تكن ثمة دراسات كثيرة تدعو إليه وخطوات خجولة نحوه. فلننظر إذن في هذا الواقع:
2-1- السكان:
إذا نحن بدأنا بالسكان والبيانات الديمغرافية وجدنا في هذا الواقع ما يستدعي اهتماماً خاصاً فريداً بتكيف نظم الإعداد والتدريب على نحو تستطيع معه أن تواجه الزيادة السكانية الكبيرة. ورغم اختلاف التقديرات عن عدد سكان البلاد العربية في الوقت الحاضر وفي المستقبل نستطيع أن نقول في الجملة إن سـكان الوطن العربي يبلغ حوالي (192) مليون نسمة عام 1985، ومن المتوقع أن يصلوا عـام (2000) إلى عدد يتراوح بين 280–310 مليون حسب تقديرات بعض الخبراء(1) ويلتقي «التقرير الاقتصادي العربي الموحد(2)» مع هذه التقديرات إلى حد ما فيرى أن سـكان المنطقة الـعربية يناهز (187) مليون عام 1984. وغنىّ عن البيان أن معدل النمو السكاني السنوي في الوطن العربي من أعلى المعدلات في العالم، إذ بلغ خلال الفترة 1980-1985، نسبة 24، 3 بالمائة مقابل 1.7% في العالم و 0.6% في الدول الصناعية المتقدمة (3). ولا شك أن هذا التزايد الكبير في أعداد السكان يلقى على التربية أعباء كبيرة ومشكلات لا تعرفها البلدان المتقدمة.
ولن نتحدث بالتفصيل عن الخصائص الديمغرافية للسكان في الوطن العربي، فليس موضوعنا. غير أننا نريد أن نذكّر بصفة هامة، لا سيما فيما يتصل بالتربية والإعداد، وهي فتوة السكان في البلاد العربية حيث يمثل من هم دون الرابعة عشرة من العمر حوالي 45% من مجموع السكان، وحيث نجد أن نسبة الذين دون العشرين من العمر تفوق 57% من مجموع السكان. ولا ننسى أن هذه الفئة الشابة هي التي يتولّى أمرها نظام التربية والإعداد. وذلك يعني الكثير فيما يتصل بضرورة تغيير النظام التربوي وتطويره وإدخال الجدائد التكنولوجية إليه بحيث يقوى على تربية هذه الأعداد الغفيرة. بل لعل هذا يطرح مرة أخرى ضرورة إسهام مؤسسات المجتمع الاقتصادية وسواها في مهمة التربية والإعداد والتدريب، فضلاً عن أنه يطرح على نحو حادّ مسألة فتح الأبواب بين العمل والمدرسة، أمام من يعملون بعض الوقت ويدرسون بعض الوقت، وأمام من يتركون الدراسة ليعاودوها، وأمام من يحتاجون إلى إعادة التدريب الذي تلقوه أو تجديده أو تغييره، … الخ. لا سيما إذا ذكرنا تلك الحقيقة الهامة وهي أن قوة العمل الفعلية في البلاد العربية (أي المشتغلين والمتعطلين الذين يبحثون عن عمل) لا تجاوز 26% من مجموع السكان!
2-2- القوى العاملة:
ومن هنا فإن ما يعنينا أكثر، لأغراض موضوعنا، أن ننظر في وضع القوى العاملة وبنيتها في الوطن العربي. وههنا نجد الخصائص الآتية:
أ- يبلغ عدد من هم في سن العمل وفق تقديرات عام 1985 حوالي (103) مليون فرد (1). وتدل بعض الإسقاطات على أن هذا العدد سوف يستمر في الزيادة بمعدلات تترواح بين
3-5،3%، خلال الربع الأخير من هذا القرن، وقد تستمر حتى منتصف القرن القادم (2). الأمر الذي يشكل تحدياً كبيراً للمجتمع العربي ويستلزم تدابير جذرية في مجال التخطيط الاقتصادي والاجتماعي الشامل وفي مجال التخطيط التربوي والتطوير التربوي. لا سيما أن الزيادة في قوة العمل الفعلية لن تقل، حسب هذه الإسقاطات عن معدلات الزيادة في من هم في سن العمل.
ب- يلاحظ تدفق نسبة كبيرة من الأطفال دون سن العمل (أقل من 15 سنة) على سوق العمل – وقد يبدأ سن العمل مبكراً جداً أحياناً (6سنوات).
ج- ما تزال معدلات مشاركة الإناث في القوة العاملة نسبة منخفضة، وهذا (بالإضافة إلى فتوة السكان) أحد أسباب تدنى النسبة العامة للقوى العاملة الفعلية.
د- أما توزع القوة العاملة على قطاعات النشاط الاقتصادي المختلفة فهو توزع ينبئ عن تخلف وخلل واضحين. والجدول التالي رقم (3) يبين نمط هذا التوزع:
جدول رقم (3)
توزع القوى العاملة في مجموع الدول العربية حسب القطاعات الاقتصادية 1970-1980
(بالنسبة المئوية)
الخدمات الصناعة الزراعة النشاطات الاقتصادية
1980 1970 1980 1970 1980 1970 السنة
35 30 21 18 44 52 النسبة المئوية
(المصدر: مكتب اليونسكو الإقليمي للتربية في الدول العربية).
ومعنى ذلك أن حوالي نصف القوة العاملة في البلاد العربية ما يزالون يعملون في قطاع الزراعة، وأن نسبة العاملين في الصناعة لا تجاوز 21%. وإذا نظرنا في مقابل ذلك إلى إسهام هذه القطاعات الثلاثة في الناتج المحلى الإجمالي وجدنا إن إسهام الزراعة هزيل رغم وفرة العاملين فيها، وأن الإسهام الأكبر هو لقطاع الصناعة يليه قطاع الخدمات. ويستبين ذلك من الجدول التالي رقم (4).
جدول رقم (4)
نسبة توزيع الناتج المحلي الإجمالي في الدول العربية حسب القطاعات الاقتصادية 1965-1984 (بالنسبة المئوية)
الخدمات الصناعة الزراعة النشاطات الاقتصادية
1980 1970 1980 1970 1980 1970 السنة
40 43 52 37 8 20 النسب المئوية
المصدر: تقرير البنك الدولي 1986.
2-3- الزراعة:
ولا حاجة إلى القول إن تراجع التنمية الزراعية على رأس المشكلات التي تواجه الوطن العربي، بل لعلها المشكلة الأم. فالتطور الصناعي، كما نعلم، ولا سيما في البلدان النامية، يستمد القدرة على نموه من نمو القطاع الزراعي نفسه، ذلك القطاع الذي يوفر له الإمكانات المالية اللازمة لانطلاقه. وقد كتب الكثير عن مشكلات الزراعة في الوطن العربي. والدراسات الكثيرة التي قامت بها بوجه خاص «المنظمة العربية للتنمية الزراعية» تكاد تغني عن سواها. وحسبنا من ذلك لقطات سريعة في حدود أغراض بحثنا(1):
– لا يستغل من الأراضي الصالحة للزراعة في الوطن العربي إلا ما يقرب من 25%.
– يتمتع الوطن العربي بثروة حيوانية ضخمة (تفوق مائتي مليون رأس من الأبقار والأغنام والإبل)، تذهب ملكية معظمها للقبائل الرعوية في السودان والصومال وموريتانيا والجزائر والمغرب، حيث تضغى عليها قيم اجتماعية تعلو على المعايير الاقتصادية.
– يبلغ إجمالي مخزون الثروة السمكية البحرية في المناطق الساحلية العربية نيفاً وسبعمائة مليون طن بينما يبلغ الإنتاج مائتي مليون طن (عام 1978).
– الإنتاجية في الزراعة منخفضة، سواء اتصلت بإنتاجية الأرض أو بإنتاجية العمل.
– يشكو القطاع الزراعي من ارتفاع أسعار المستلزمات الزراعية المستوردة. ويعنينا أكثر من ذلك أن نشير إلى أهم الملامح التي يتصف بها الوضع الحالي للقوى العالمة في القطاع الزراعي. وههنا أيضاً نكتفي بالومضات الآتية:
– سبق أن رأينا أن نسبة العاملين في القطاع الزراعي إلى مجموع السكان في الوطن العربي تتحلق حول 50%.
– ترتفع نسبة الأمية ارتفاعاً ملحوظاً لدى العاملين في هذا القطاع .
– يعانى الكثير من سكان الريف من سوء الحالة الصحية والغذائية.
– الأجور في القطاع الزراعي متدنية، وكذلك عائد الإنتاج الزراعي.
– لا تتوافر لدى العاملين في القطاع الزراعي الخبرة اللازمة ولا سيما فيما يتصل بالأساليب الحديثة في الإنتاج الزراعي. كما تسود فيه معتقدات وتقاليد ومواقف تعيق الجهود المبذولة.
– ثمة نقص واضح في الأطر المتخصصة والفنية، ولا سيما في مجال الإرشاد الزراعي (فضلاً عن الأطباء البيطريين والأخصائيين في كافة العلوم الزراعية بمعناها الواسع).
– ترتفع نسبة المسنين في التركيب الهرمي للمزارعين والعمال الزراعيين.
وواضح من هذا العرض أن مشكلة القوى العاملة في الزراعة وما يتصل بها من معوقات اجتماعية وما يرافقها من نقص في الخبرة هي المشكلة الأساسية التي تواجه التنمية الزراعية في الوطن العربي. لا سيما إذا أريد لهذا القطاع أن يمضي في طريق استخدام التقنيات الحديثة. ومن هنا عنيت “المنظمة العربية للتنمية الزراعية بمطالبة الدول العربية بإنشاء“ مركز قومي للتدريب“ في مجال الزراعة. وتبدو أهمية هذا المقترح إذا ذكرنا أن عدد العاملين الميدانيين في الإرشاد الزراعي في الوطن العربي لا يزيد عن 350 مرشداً، منهم 300 ممن حصلوا على تعليم جامعي أو فوق الجامعي.
ومن غير الجائز، ونحن نتحدث عن أزمة الزراعة في الوطن العربي، أن نغفل الإشارة إلى أهم نتيجة من نتائجها نعني الفجوة الغذائية المتزايدة، الناجمة عن فقدان التوازن بين العرض والطلب، وهي فجوة تشير التنبؤات إلى أنها سوف تتزايد اتساعاً خلال الفترة الباقية من هذا القرن. وتحدد زيادة الطلب عادة عوامل ثلاثة رئيسية: النمو السكاني، ونمو الدخل الفردي (وبالتالي القدرة الاستهلاكية)، ومرونة الدخل الموجة للطلب. وتطرح مسألة الفجوة الغذائية المتزايدة هذه، كما نعلم، ذلك الموضوع الخطير، موضوع «الأمن الغذائي»، لا سيما بعد أن أصبح الغذاء سلاحاً تستخدمه الدول، يزيد في خطورته، على حد قول بعضهم، خطر السلاح النووي. ولا حاجة إلى القول إن معظم البلدان العربية تعتمد اعتماداً أساسياً على استيراد المواد الغذائية، وعلى رأسها القمح، من البلدان الأجنبية. وقد قام بعضها بجهود طبية في هذا المجال، وأبرز مثال على ذلك المملكة العربية السعودية التي أصبح لديها فائض من القمح وغدت دولة مصدرة له، على الرغم من تكاليف إنتاجه العالية (ستة أمثال السعر العالمي للقمح)، ورغم ما أدت إليه العناية بالقمح إلى تناقص مساحات الشعير في الوقت ذاته، مما أدى إلى ارتفاع وارداتها من أغذية الحيوانات ارتفاعاً حاداً(1).
2-4- الصناعة:
ولا حاجة إلى التريث طويلاً عند مشكلات الصناعة في الوطن العربي. وقد سبق أن رأينا أن نصيب الصناعات التحويلية من إجمالي الناتج القومي ما يزال ضئيلاً، على الرغم من إحراز بعض التقدم منذ النـصف الثاني من السبعينيات. أمـا عدد العاملين في الصناعـة فقد تضاعف تقريباً بين عام (1975) وعام (1985) حيث بلغ حوالي 5.5 مليون عامل.
وأهم معوقات التنمية الصناعية في الوطن العربي هي أيضاً، في هذا المجال، شأنها في سائر المجالات، تلك الناجمة عن الموارد البشرية والقوى العاملة الحالية وخصائصها. ويمكننا إيجاز أهم العوامل التي تؤدى إلى عدم كفاية القوى العاملة في الصناعة كماً وكيفاً في النقاط الآتية:
– فقدان الترابط العضوي الوثيق بين التخطيط الصناعي والتخطيط التربوي، مما يؤدي إلى عدم الاتساق بين التخصصات والمستويات وبين المطالب الفعلية للصناعة حاضراً ومستقبلاً.
– الثغرات القائمة في تخطيط القوي العاملة في الصناعة سواء فيما يتصل بتقدير الحاجات،
أو بالعلاقة بين الموارد البشرية المتوافرة والأجهزة التعليمية وسياسات التصنيع.
– ضعف العناية برفع الكفاءة الإنتاجية ومعدلات الأداء لدى أفراد القوى العاملة حالياً في الصناعة ونقص الاهتمام بتكوين القوى العاملة الجديدة تكويناً ملائماً، وذلك بإدخال تغييرات مواتية وأساسية على هيكل التربية وعلى أنماط الإعداد والتدريب.
– انتشار الأمية بين أوساط العاملين في هذا القطاع أيضاً.
– ضعف تنسيق الإنتاج الصناعي بين الدول العربية (فضلاً عن قلة تنوعه)، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى عدم توافر الأسواق اللازمة لتصريف هذا الإنتاج.
– وأخيراً، وليس آخراً، التخبط في السير نحو إدخال التكنولوجيا الحديثة في الصناعة وسواها. ولا حاجة إلى القول إن استيراد التكنولوجيا الحديثة أو استيعابها أو إنتاجها من أمهات المشكلات التي تواجه التنمية في الوطن العربي، ومن هنا كانت جديرة بأن نفرد لها الفقرة الآتية.
2-5- التطور التكنولوجي:
تشير بعض الدراسات المستقبلية إلى أن العقود القادمة قد تشهد بعض التقدم التكنولوجي في البلدان العربية. وتشير كذلك إلى أن العقبة الرئيسية في طريق المزيد من التقدم التكنولوجي المتوازن عدم توافر حشد فعّال من الصناعيين أو من النخبة القيادية يلتزم بالتطور التكنولوجي ويقوده، وعدم توافر المستوى الضروري من القوة البشرية العلمية والتكنولوجية، وتقصير الموارد اللازمة لمثل هذا التطوير.
2-5-1- ويرى بعض الباحثين(1) أن ثمة متطلبات رئيسية أربعة لأي قطر يسعى إلى إحراز مستوى عال من التكنولوجيا: أولها وجود قوة اجتماعية (طبقة أو نخبة) قادرة على تحديد أهداف تكنولوجية واقعية، وتنظيم الموارد البشرية والمادية للقطر من أجل تحقيق هذه الأهداف. وثانيها الوصول إلى جمهرة فعّالة من العلماء ومن قوة العمل الماهرة، من أجل إبداع هذا المستوى المرغوب من التكنولوجيا والمحافظة عليه ثم تطويره. وثالثها أن يمتلك البلد موارد كافية على هيئة مواد خام أو رأس مال، أو أن يكون من السهل عليه الوصول إلى مثل هذه الموارد. ورابعها توافر سوق لمنتجات التكنولوجيا المتقدمة.
والنتيجة التي يخلص إليها الباحث من تطبيق هذه المعايير على الوطن العربي، هي أن أياً من الأقطار العربية لا يجمع العوامل الأربعة كلها. أما الوطن العربي ككل فيجمع معظمها، ما عدا توافر القوة الاجتماعية القادرة على تنظيم هذه الموارد في اتجاه أهداف تكنولوجية مشتركة، لأسباب أهمها افتقاد التكامل السياسي والاقتصادي الفعال بين الأقطار العربية.
2-5-2- ومعنى هذا أن التنظيم المؤسسي لتطوير العلم والتكنولوجيا في البلدان العربية مطلب أساسي (شأنه في سائر مجالات التنمية).
ويزيد الباحث الدكتور علي الكواري(1) هذه الحقيقة شمولاً في حديثه عن التنمية الشاملة بوجه عام، ويزيد في معناها وأبعادها، حين يبرز أهمية “بلورة إرادة اجتماعية للتنمية “، بحيث لا يقتصر الأمر على توافر هذه النخبة الرائدة والضاغطة، بل يعّم ليشمل إسهام سائر الفئات والقطاعات عن طريق التوعية والتوجيه واصطناع إدارة سليمة للتنمية تعنى بإحداث تحولات هيكلية في شتى جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية. والهدف من ذلك كله بناء طاقة مجتمعية متجددة من أجل إيجاد طاقة إنتاجية ذاتية. ذلك أن عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما يقول (وعلى رأسها التنمية التكنولوجية) «ليست مسألة عادية يمكن أن تبرز ضمن معطيات المجتمع المتخلف ومؤسساته، بل هي عملية جراحية إبداعية، تتجه أول ما تتجه إلى أحشاء المجتمع المتخلف من أجل استئصال عوامل تخلفه(2)». على أنه لا ينسى ضمن هذا البحث في الإرادة المجتمعية الشاملة للتنمية، أن يشير إلى أهمية العمل من خلال المؤسسات وبوساطتها. «فعندما توجد المؤسسات المسؤولة، وعندما يتحول عبء تحمل متطلبات التغيير من الأفراد بصفتهم الفردية إلى مؤسسات فكر وعمل، يبلغ المجتمع المعنى درجة الإدراك المؤسسي لضرورات التغيير المنشود(3)».
2-5-3- وإذا نظرنا إلى مسألة التقدم التكنولوجي من زاوية القوى العاملة وحدها واجهتنا الحقائق الآتية:
أ- لا شك أن النمو المستمر في المستوى الثقافي والفني للعاملين هو من أهم الشروط اللازمة لبناء القاعدة المادية والتكنولوجية لاقتصاديات الوطن العربي. ومثل هذا الجهد، الذي يفرض على نظام التربية وإلاعداد أعباء كثيرة، جهدُ ما يزال محدوداً. وبوجه خاص، لا بد، من أجل تكوين المهارات اللازمة، من دراسة العلاقة المتبادلة بين التطور في أساليب الإنتاج (التكنولوجيا) وبين برامج التعليم العام والتقني والمهني والمتخصص. وما تزال هذه العلاقة الحلقة المفقودة حتى اليوم.
ب- ويزيد المسألة تعقيداً أن الاستثمار البشرى والمالي في التعليم، على مختلف أنواعه ومراحله، وفي التدريب بأشكاله، لا يعطى مردوداً يتناسب وحجم ذلك الاستثمار على مستوى الوطن العربي.
ج- لا تتوافر ههنا أيضاً الأطر التنظيمية التي تربط العلوم والتكنولوجيا بباقي القطاعات لا سيما الإنتاجية منها.
د- وأهم من هذا وذاك، من أجل السير في طريق التقدم التكنولوجي، لا بد أن تتوافر القوة العاملة الرفيعة المستوى، نعنى العلماء المنخرطين في التطوير البحثي والتجريبي. ورغم تضاعف عدد هؤلاء في الوطن العربي من (1500) عام 1970 إلى (3400) تقريباً عام 1980 (تبعاً لإحصاءات حولية اليونسكو الإحصائية لعام 1984)، فإن عددهم كما نرى ما يزال صغيراً، لا سيما إذا أخذنا الأقطار العربية منفردة. وقد كان النمو في عدد ومستوى مؤسسات البحث العلمي المتخصصة في المجالات الفرعية للعلم والتكنولوجيا في أي من الأقطار العربية على صلة بتلك الزيارة في عدد العلماء والباحثين(1).
هـ- ويعد القدر المتدني من لتعليم ما بعد العالي في مجال العلوم، في الوطن العربي، مشكلة إضافية ذات شأن، لأن هذا النوع من التعليم ذو أهمية خاصة في تنمية المهارات البحثية.
و- وما يزال مجال التدريب المهني واحداً من مجالات الضعف التقليدي في الوطن العربي، رغم التطور الملحوظ في هذا الميدان خلال السنوات الأخيرة (إذ ارتفع عدد الطلاب الذين يتلقون تدريباً مهنياً إلى (1.030000) في الوطن العربي كله.
ز- ولا بد أن نضيف إلى هذا كله الحقيقة الهامة الآتية التي يتريث عندها الكثير من الباحثين: وهي أن التطوير العلمي والتكنولوجي لا يتطلب فقط تدريب نسبة عالية من القوة العاملة في هذا المجال، بل يتطلب حجماً ضخماً وحاسماً من القوى البشرية الماهرة(2). وإذا نحن أنعمنا النظر في الحولية الإحصائية لليونسكو (لعام 1984) لوجدنا أن البلدان النامية التي حققت طفرات تكنولوجية كانت تملك أعداداً كبيرة مطلقة من القوى البشرية العلمية والتكنولوجية بوجه خاص.
2-6- تنمية الموارد البشرية:
وليس من شأننا أن نتريث عند شتى جوانب الواقع الاقتصادي والاجتماعي في الوطن العربي. وما قدمناه لا يعدو أن يكون «خلفية» نستند إليها عند بحثنا في العلاقة بين التربية وبين تنمية الموارد البشرية.
ولعلنا ندرك من خلال هذا العرض السريع الترابط الوثيق بين مشكلات تنمية الموارد البشرية في شتى مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية وبين مشكلات التربية والإعداد والتدريب. ويشير العرض بوجه أخص إلى أن أي إستراتيجية توضع لتنمية الموارد البشرية في الوطن العربي لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار الاتجاهات الآتية (ومعظمها ذو صلة بالتربية والتدريب):
أ- تنمية الموارد البشرية تنمية مترابطة متكاملة في جوانبها الأساسية، كالسياسات السكانية والظواهر الديمغرافية، والخصائص الهيكلية للقوى العاملة، وسياسات التربية والإعداد والتدريب، وسياسات الاستخدام، على أن يتم ذلك كله في إطار الخطط الاقتصادية والاجتماعية الشاملة ومن خلال الأهداف الاستثمارية والإنتاجية.
ب- تحقيق التطور النوعي للقوى العاملة العربية ورفع كفاءاتها ومهاراتها في شتى قطاعات النشاط الاقتصادي وفي شتى المهن، على نحو ينسجم ومستلزمات تحقيق التنمية الشاملة. ويشمل ذلك فيما يشمل رفع إمكانات التدريب وتوسيع قاعدته بحيث يتناول مختلف أصناف المهن ومستويات المهارة والاختصاص.
ج- النهوض بمستوى القوى العاملة العربية من أجل تمكينها من استيعاب التكنولوجيا ومن أجل تيسير إسهامها في تطوير التكنولوجيا وابتكارها.
د- تحقيق الموازنة بين جانبي العرض والاحتياجات من القوى العاملة، بغية الوصول إلى الاستخدام الكامل لقوة العمل.
هـ- إشاعة أساليب الثقافة العمالية، ومكافحة الأمية التي تعيق النهوض بالموارد البشرية.
و- وتتطلب هذه الإستراتيجية إجراءات لا مجال للحديث عنها، كجمع البيانات والمعلومات، وتحديد الاتجاهات المستقبلية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ووضع صيغة علمية وعملية لانتقال قوة العمل بين الأقطار العربية، ووضع الحلول للحد من الهجرة خارج الوطن العربي، …الخ.
ز- هذا بالإضافة إلى توثيق عرى العمل العربي المشترك في مجال تنمية الموارد البشرية، باللجوء إلى شتى الوسائل الممكنة، كما أوصت بذلك كثير من المؤتمرات العربية، لا سيما مؤتمر القمة في عمان عام 1980 الذي أقر وثيقة العمل الاقتصادي القومي وإستراتيجية العمل الاقتصادي المشترك في عام 2000. وقد وجهت الوثيقة الكثير من عنايتها (ولا سيما في قسم الأهداف وفي قسم البرامج) إلى القوى العاملة البشرية والقوى العاملة وتنميتها.
2-7 خلاصة:
لا أدل على الارتباط العضوي الوثيق بين التربية وبين سائر جوانب الواقع الاقتصادي والاجتماعي العربي الذي تحدثنا عنه، من أننا لقينا عنتاً كبيراً، عند البحث في هذا الواقع، في تطبيق المنهج الذي رسمناه، نعنى معالجة الواقع الاقتصادي والاجتماعي العربي معالجة مستقلة إلى حدّ ما، قبل المضيّ في معالجة واقع التربية.
والحق إن هذا الترابط بين الجانبين، جانب التربية وجانب التنمية الاقتصادية والاجتماعية، يبدو أوضح ما يكون عند التصدي لموضوع تنمية الموارد البشرية. فههنا يغدو الترابط والتكامل اندماجاً واتحاداً بالمعنى الكامل للكلمة. والشرارة التي تنطلق منها تنمية الموارد البشرية هي في نهاية الأمر، تلك التي تتولد من التفاعل والاتحاد الكيمياوي (لا مجرد المزج والضم) بين عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبين نظم التربية والإعداد والتدريب. ولا نقول جديداً إن ذكرنا أن ثمة إجماعاً على تقدّم دور العوامل التربوية (بالمعنى الواسع لهذه الكلمة) على سائر العوامل المادية (من رأس مال، أو ثروات طبيعية أو سواها). بل إن تجربة الإنسان التاريخية دلّت وتدل دوماً على أن في وسع الثروة البشرية حين تنمو وتزدهر أن تتغلب على نقص الموارد المادية، بفضل العلم والتقنية بوجه خاص. وعلى سبيل المثال، ما تكاد تنفد طاقة حتى يُحل الابتكار البشري محلها طاقة جديدة. ولا نغلو إن قلنا إن أفضل استثمار هو الاستثمار في المادة الرمادية، في الدماغ البشري. ومن هنا نظر بعض الباحثين إلى الهوة بين البلدان المتقدمة والبلدان المتخلفة على أنها هوة في تنظيم استخدام العقل البشري وتوظيفه التوظيف المثمر.
وسنرى عند الحديث عن التربية في الوطن العربي وهمومها وشجونها، أن التربية ليست دوماً وأبداً توظيفاً مثمراً للأموال، وأنها قد تسير في عكس أهداف التنمية الشاملة وتعطلها، وأنها قد تؤدي في كثير من الأحوال إلى رفع البطالة من مستوى البطالة الجاهلة إلى مستوى البطالة المثقفة. أما التربية التي تستحق أن توصف بأنها توظيف مثمر للأموال حقاً، فلا بد لها من مواصفات معيّنة، أهمها أن تنعقد الصلة وثيقة بينها وبين أهداف التنمية بالمعنى الشامل، سواء في بنيتها أو محتواها أو طرائقها.
مثل هذه التربية هي ضالة الكثير من بلدان العالم، وهي ضالتنا في هذا البحث. وقبل أن نحدد أهم معالمها وقسماتها، لا بد أن نقدم صورة عن واقعها في الوطن العربي.
ولعلنا أرهصنا ببعض معالم هذا الواقع وثغراته خلال عرضنا هذا للواقع الاقتصادي والاجتماعي في الوطن العربي. بل لعلنا أدركنا البون بين واقع هذه التربية في الوطن العربي وبين ما يمكن ويجب أن تكون عليه، حين تحدثنا عن مشكلات العالم وأزمات العصر والوضع الاقتصادي الاجتماعي العالمي وانعكاساته على التربية.
لعلنا، بوجيز العبارة أخذنا نكشف شيئاً بعد شيء من خلال كل ما سبق، عن أزمة التربية العربية وعجزها عن اللحاق بمتطلبات العصر بوجه عام وبمطالب التنمية الحقة في الوطن العربي بوجه خاص. ولكن لابد من مزيد. لابد من فضل من التحليل والتنقيب في صورة الواقع التربوي في الوطن العربي، من خلال صلته بتنمية الموارد البشرية. فلنمض إلى ذلك.
(رابعاً) الواقع التربوي في الوطن العربي ومدى استجابته لحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومطالب تنمية الموارد البشرية
1 – مدخل:
سوف يكشف لنا التحليل التالي للواقع التربوي في البلاد العربية عن أن هذا الواقع، رغم ما أصاب من تقدم في العقود الأخيرة، ما يزال مقصّراً عن مداه كماً ونوعاً. كما سنرى أن الإسقاطات المتصلة بالعقود المقبلة حتى نهاية هذا القرن وبداية القرن الجديد، تشير إلى أن أزمة التربية سوف تستمر بل سوف تشتد خطراً، إن استمرت الاتجاهات الحالية في المستقبل. وحسبنا أن نقول على سبيل المثال إن هذه الإسقاطات تبيّن فيما تبيّن أن معدل أمية الكبار في المنطقة العربية لن يقل عن 40.2% من السكان عام 2000 (تبعاً لإحصاءات منظمة اليونسكو) وأن الوطن العربي سوف يعجز عن تعميم التعليم الابتدائي نفسه في نهاية هذا القرن، إذ لن تتعدى نسبة الملتحقين بهذا التعليم 81.6% بالقياس إلى عدد السكان في سن هذا التعليم (6-11)، أي أن هنالك نيفاً وثمانية ملايين طفل(1) من فئة العمر (6-11) سيظلون خارج المدرسة في الوطن العربي عند خاتمة هذا القرن، في عصر الإلكترون والاتصال وغزو الفضاء وكل ما تقذف به الثورة الصناعية الثالثة من جديد.
2 – الوجه الكمي لتطور التنمية في الوطن العربي:
فلنبدأ إذن بتقديم صورة عن الواقع التربوي من الوجهة الكمية. وههنا نسجل الحقائق التالية (بالاستناد إلى بيانات مكتب الإحصاء باليونسكو(2)):
أ- بلغ عدد السكان في سن الدراسة الابتدائية 20 مليون نسمة تقريباً عام 1970. والمقدر أن يصل حوالي 30 مليون نسمة عام (2000) ومن الهام أن نذكر أن تزايد نسبة القيد لفئة العمر 6-11 لم يتجاوز (بين عام 1970 وعام 1984) 2% تقريباً في المتوسط، وهي زيادة تقل عن نسبة الزيادة السكانية السنوية للسكان.
ب- أما في المرحلة الثانوية فقد كان النمو السنوي مرتفعاً نسبياً (8،7% في المتوسط) ويتجاوز بكثير معدل نمو السكان السنوي من فئة العمر 12-17 سنة. وهكـذا ارتفع معدل القيد سريعاً من 6،28% عام 1975 إلى 9،37 عام 1980 إلى 1،44% عام 1984. وسوف نرى أهمية هذه الظاهرة عند الحديث عن هياكل التعليم الثانوي وعن تشعيب هذا التعليم وتفريعه وربطه ربطاً أوثق بحاجات التنمية. وهذا ما ستوضح بعض جوانبه أيضاً البيانات الواردة في الفقرة الآتية:
ج- وتدل الإحصاءات كذلك أن طلاب التعليم الثانوي في الوطن العربي عام 1980 يتوزعون على أنواع الدراسة على النحو الآتي: 87.6% منهم في المدارس الثانوية العامة و 10.5% في المدارس التقنية والمهنية وحوالي 1.9% في معاهد إعداد المعلمين. أما توزع طلاب المدارس التقنية والمهنية فقد كان كما يأتي: 50% منهم في التجارة و الإدارة، ونحو 25% في المجالات الصناعية و 10% في الزراعة و 4% تقريباً في الاقتصاد المنزلي ومجالات أخرى. وهذه الأرقام كما هو واضح، ذات دلالة خاصة بالقياس إلى موضوع بحثنا.
د- وقد نمت المرحلة الثالثة من التعليم (مرحلة التعليم العالي) نمواً واضحاً خلال السنوات الأخيرة، إذ بلغ معدل النمو السنوي في الوطن العربي 7% في المتوسط (مقابل 2،7% في العالم النامي). وهكذا ارتفع إجمالي معدل القيد من 9،6% عام 1975 إلى 4،9% عام 1977 وإلى 3،12% عام 1984. وفيما يتصل بتوزع الطلاب في التعليم العالي (وهو موضوع ذو أهمية خاصة في بحثنا). نجد أن حوالي 16% من الطلاب، عام 1983، كانوا يتخصصون في العلوم الإنسانية، موزعين بين التربية (9%) والعلوم الاجتماعية (52%)، بينما كان يتخصص في العلوم الأساسية والتطبيقية 39% من الطلاب، موزعين على النحو الآتي: 17% في العلوم الطبيعية والهندسة، 11% في العلوم الطبية، 9% في العلوم الزراعية، 2% في مجالات أخرى.
هـ- وقد أصاب مشاركة الإناث في التعليم في المنطقة العربية بعض التحسن في السنوات الأخيرة، رغم التفاوت الواضح بين دولها في هذا المجال. وهكذا كان متوسط المعدل السنوي لتزايد الإناث – بين عامي 1977، و 1983 – 5.7% في المرحلة الأولى، 9.5% في المرحلة الثانية، و 11.7% في المرحلة الثالثة (أي حوالي 6.9% هي مجموع المراحل).
و- وفي مجال الأمية، يقدر معدل تعلم القراءة والكتابة في المنطقة العربية بـ 28% لفئة العمر من 15% سنة فما فوقها لعام 1970. وقد تحسنت هذه النسبة تدريجياً فبلغت 5،43% عام 1985. ومن المقدر أن تصل إلى 8،59% في نهاية هذا القرن، أي نحو اثنين من الأميين من كل خمسة إفراد يبلغون من العمر خمسة عشر عاماً أو أكثر. على أن هذا المعدل يتفاوت تفاوتاً واضحاً بين الدول العربية: من 4% إلى 70% عام 1970، ومن 5% إلى 76% عام 1980. كذلك يوجد تفاوت شائع في محو الأمية بين الذكور والإناث، وبين المناطق الريفية والحضرية، وبين مختلف فئات السكان الاجتماعية.
ز- أما التعليم السابق على المرحلة الابتدائية فما يزال ضامراً جداً، رغم أهميته في تكوين الاتجاهات والمواقف الأساسية منذ نعومة الأظفار، ولاسيما الاتجاهات العلمية والتكنولوجية.
ح- ومن المهام – في تقديرنا لمستوى التربية وجودتها وكلفتها – أن نشير إلى الهدر في التعليم في الوطن العربي. وتبين إحصاءات تدفق الطـلاب في الأقطار العربية خلال الفترة 1976-1981، أن المعدل السنوي المرجح لنسب المدخلات إلى المخرجات في التعليم الابتدائي يدل على وجود هدر مقداره 24% نتيجة للرسوب أو التسرب. أما في المرحلة التعليمية الثانية فقد تراوح معدل الرسوب بين 20.4% عام 1977 وبين 30.5% عام 1980، وتراوحت نسبة التسرب بين 9% و 14% للفترة ذاتها.
ط- هذا التعليم المقصّر في مداه والذي لم يستوعب بعد إلا شطراً من الأطفال والشبان في سن التعليم، يلقى على الأقطار العربية مع ذلك أعباء مالية ضخمة من أجل تمويله. وقد سبق أن رأينا أن فتوة السكان في البلاد العربية تزيد في أعباء التعليم زيادة ضخمة (بالإضافة إلى معدل النمو السكاني المرتفع). وقد شهدت الفترة 1977-1982 زيادة هائلة في الموارد المخصصة للتربية في الأقطار العربية، وارتفع الإنفاق العام، بالأسعار الراهنة، من (8436) مليون دولار عام 1975 إلى (17766) مليون دولار عام 1980. ويقدر معدل النمو السنوي الحقيقي (بدون التضخم) بنحو 6،8% وهو أعلى من معدل زيادة القيد في المعاهد التعليمية. ولهذا الارتفاع أسباب إيجابية وأخرى سلبية.
أما الإنفاق على التعليم بالقياس إلى إجمالي الناتج القومي للوطن العربي فقد بلغت نسبته 4.9% عام 1970 و4.7% عام 1980م، وواضح أن انخفاض النسبة المئوية لا يعني انخفاضاً في الإنفاق، لأن إجمالي الناتج القومي ينمو بمعدل أسرع. على أن التفاوت الكبير قائم بين الأقطار العربية في هذا المجال أيضاً: إذ تراوحت نسبة الإنفاق هذه (عام 1980) بين 1.5% في الإمارات العربية المتحدة و 8.3% في الجزائر، وخصصت سبع دول للتعليم نسبة تتراوح بين 5.2% و 8.3% من إجمالي ناتجها القومي، بينما خصصت ست دول أقل من 3% لهذه الغاية.
ي- وتدل الإحصاءات أن الإنفاق العام على التعليم كنسبة مئوية من مجموع الإنفاق الحكومي قد تراوح عام 1980 بين 8% (الإمارات العربية المتحدة) و 24.3% (الجزائر)، بينما خصص ثلثا من الدول العربية للتعليم أكثر من 12% من مجموع مصروفاتها.
ك- أما عدد الطلاب لكل مدرس بين 1970 و 1980 فقد انخفض من 34 إلى 30 طالباً في المستوى الأول للتعليم ومن 22 إلى 20 طالباً في المستوى الثاني. أما في المستوى الثالث للتعليم فقد انخفض عدد الطلاب لكل مدرس مستقراً خلال تلك الفترة، فتراوح بين 18 (عام 1970) و19 (عام 1985) و17 (عام 1980).
ل- وهكذا نرى أن جهوداً كبيرة بذلت في المنطقة العربية من أجل التوسع في الخدمات التعليمية وتحقيق ديموقراطية التربية. ومع ذلك فإن هذه الجهود الواضحة في توفير المدارس والمدرسين والإنفاق على التعليم، ما تزال مقصرة من وجهة النظر الكمية. على أن الأمر يختلف في هذا المجال بين قطر عربي وآخر. غير أن كثيراً من البلدان العربية التي
لا تعتمد اعتماداً أساسياً على واردات النفط. بلغت في الإنفاق على التربية وفي تنمية مؤسساتها وتوفير العمالة اللازمة لها حداً قد يصعب تجاوزه، رغم أنها لم تلبّ من حاجات التربية إلا بعضها. وفي مثل هذه البلدان، لا بد من طرح السؤال التالي طرحاً مباشراً حاداً:
كيف تستطيع هذه الدول ( ولا سيما الفقيرة منها) بمواردها المحدودة أن تعمم التعليم الابتدائي، وتتوسع في التعليم الثانوي والعالي، وتطور التعليم المهني والتقني، وتعني بتعليم الكبار وبسائر أشكال التربية غير النظامية، وتمنح التعليم المبكر والتعليم السابق على المرحلة الابتدائية حقه من الاهتمام؟ وما السبيل إلى الانتقاء بين حاجات التربية (وهي حاجات نامية لا حدّ لنموها) وبين الإمكانات المالية والبشرية المحدودة التي تتوافر لهذه البلدان.
ولن نقدم الجواب على هذا السؤال الكبير ههنا، ولنا إليه عود. وحسبنا أن نقول الآن بإيجاز إن إحدى السبل الهامة لمقارعة هذه الأزمة، البحث عن صيغ تربوية جديدة ومتنوعة، وعن طرائق تربوية في وسعها أن تقدم تعليماً أفضل لعدد أكبر من الطلاب بنفس الإمكانات المتاحة. ولا شك أن التكنولوجيات التربوية الحديثة يمكن أن تقدم عوناً كبيراً في هذا المجال، بالإضافة إلى تطوير تقنيات “عملية التعلّم“ وبالإضافة إلى هياكل التعلم، واللجوء إلى تعليم «مكثّف» قد يقصر أمده ولكنه يصيب هدفه مباشرة. كذلك لا بد أن يضطلع العمل العربي المشترك بدوره في هذا الميدان، ولا سيما في مجال تقديم العون الفني والمالي للبلدان الأشد فقراً.
م- وهكذا تقودنا معالجة الجانب الكمي للتعليم إلى ضرورة اللجوء إلى تجويد نوعيته والارتفاع بمستواه الكيفي. والحق إن الفصل بين الجانبين يظل صنعياً، وهو مقصود لتسهيل الدراسة. وبين هذين الجانبين تأثر وتأثير متبادلان، فكمّ التعليم يفرض على كيفه مهمات جديدة، وهذا الكيف بدوره عامل من عوامل التأثير في طراز نمو التعليم الكمي ووسيلة هامة لمعالجة مشكلات التزايد الكمي السريع والمفرط. فلنمض إذن إلى الحديث عن هذا الجانب الكيفي النوعي في التربية في الوطن العربي.
3 – الجانب الكيفي النوعي للتربية في الأقطار العربية:
الحديث عن هذا الجانب يلتهم المجلدات والأسفار(1). لذلك سوف نكتفي بالحديث عن أمهات معالم الواقع التربوي العربي في جانبه النوعي الكيفي، متخيرين الجوانب التي تتصل اتصالاً أكبر بموضوعنا، موضوع تنمية الموارد البشرية. غير أننا لن نغفل، في تحليلنا الانتقائي هذا، أن التربية نظام كامل متكامل، وأن أي مقوّم من مقوماتها لا يجوز أن يبحث في معزل عن المقومات الأخرى.
3-1 ولا بد من القول، قبل المضيّ في الحديث عن ثغرات التربية من الناحية الكيفية، إن النظم التربوية في الأقطار العربية شهدت في العقود الأخيرة، وفي العقدين الأخيرين بوجه خاص، تطوراً واضحاً في شتى مقوماتها ومكوناتها. بل إن كثيراً من ضروب التجديد التربوي سرت إلى هذه النظم وولدت فيها واحات شتيتة ولكنها محملة بالوعود. سوى أن الجهود في هذا المجال في حاجة إلى المزيد من الدراسة والتعمق، كما أنها في حاجة إلى أن تدمج بسائر مكونات النظام التربوي وتتكامل معها، بدلاً من أن تظل معزولة يلفظها في الغالب هذا النظام التقليدي في جملته.
3-2 وأول ما يجأر أمام الأعين عند تحليل واقع التربية العربية، الغموض في الأهداف الكبرى (الغايات التي توجه النظم التربوية)، ولا سيما فيما يتصل بارتباط هذه النظم بأهداف التنمية الشاملة. ومعنى ذلك أن ثمة نقصاً في الفلسفة التربوية الصريحة التي تحكم التربية. وهذا النقص تنعكس آثاره على سائر مقومات النظم التربوية ونشاطاتها، سواء اتصلت ببنية التربية أو إدارتها أو محتواها ومناهجها وطرائقها أو اتصلت بإعداد المعلمين والنشاطات اللاصفية والخدمات الطلابية وسوى ذلك. فالأهداف الواضحة الدقيقة (لا الأهداف العائمة اللفظية كما نجد غالباً) هي التي تنير العمل التربوي وتحكم شبكة نشاطاته.
3-3 ويتصل بهذه الثغرة الأولى الأساسية ثغرة ثانية لا تقل عنها خطراً، نعني عدم وضوح السياسات التربوية (فضلاً عن الإستراتيجيات التربوية) وكثيراً ما تكون السياسة التربوية في الأقطار العربية المختلفة سياسة غير مكتوبة وغير معروفة، ولا تعدو أن تكون اجتهاداً آنياً من قيادات الجهاز الإداري المشرف على التربية أو من رأس هذا الجهاز. نعني الوزير المسؤول. وقلما نجد في السياسات الضمنية أو المطبقة ما يشير إلى تكامل السياسة التربوية داخل النظام التربوي نفسه وشمولها مقومات هذا النظام جميعها شمولاً متآزراً، أو ما يشير إلى تكامل هذه السياسة التربوية مع سائر السياسات التي يأخذ بها القطر في مجالات النشاط الاقتصادي والاجتماعي الأخرى. ويرجع ذلك، فيما يرجع، إلى عدم وجود جهاز أعلى للتربية يتولى رسم سياستها ومتابعتها، ويضم بالإضافة إلى ممثلي وزارة التربية ممثلين عن سائر الوزارات المعنية بالتربية، فضلاً عن ممثلي المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الرئيسية.
3-4 وقد يقال إن مثل هذه السياسة التربوية ترسمها الخطط التربوية. وقد يكون في هذا القول بعض الصواب (لا سيما إذا وجد ذلك الجهاز الأعلى الذي يرسم للخطة التربوية أهدافها وسياستها). غير أن تقرّى الواقع العربي يبين أن التخطيط التربوي في معظم الأقطار، ما يزال يشكو ثغرات عديدة تحول بينه وبين أداء مهماته الحقة، وأنه انقلب في كثير من الأقطار إلى مجرد عملية حسابية لتقدير التوسع في التعليم ولتقدير النفقات اللازمة لذلك، ولاسيما النفقات الرأسمالية. أي أنه كاد يصبح أحياناً أشبه بميزانية توضع لعدد من السنين بدلاً من سنة واحدة. صحيح أن العناية بالجوانب النوعية قد برزت في بعض الخطط التربوية العربية في السنوات الأخيرة، غير أن هذه الجوانب على نحو ما ترد في مثل هذه الخطط ما تزال أقرب إلى «الأمنيات» التربوية منها إلى الواقع التربوي، كما أن الصلة بينها وبين الجوانب الكمية للتربية من جهة، وبينها وبين مطالب التنمية الشاملة من جهة ثانية صلة ما تزال ضعيفة.
أ- والحق أن من كبريات مشكلات التخطيط التربوي في معظم الأقطار العربية فقدان الصلة العضوية بين الخطة التربوية والخطة الاقتصادية الاجتماعية الشاملة. وحتى حين ترد الخطة التربوية في إطار الخطة العاملة للدولة، تلك الخطة التي تضعها وزارة التخطيط أو مجلس التخطيط أو غير تلك من التسميات للجهة المشرفة على وضع خطة الدولة الشاملة، تظل أهداف الخطة التربوية ومراميها بعيدة الارتباط بخطة التنمية الشاملة. ويرجع ذلك، فيما يرجع، إلى أن حلقة الوصل الأساسية التي تربط بين حاجات التربية وحاجات التنمية الشاملة ما تزال مفقودة. ونعني بهذه الحلقة الدراسات المتصلة بواقع القوى العاملة وحاجاتها (ولاسيما مؤهلاتها التربوية التي قلما نجد عنها بيانات كافية) والإسقاطات العلمية الخاصة بمطالب هذه القوى العاملة على المدى البعيد والمتوسط والقريب، انطلاقاً من أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة. وقد جهدت بعض البلدان العربية لسد هذه الثغرة، غير أن كثيراً من الصعوبات الفنية (فضلاً عن الاجتماعية) ما تزال تواجهها في هذا السبيل.
وبوجيز العبارة لم يصطنع التخطيط التربوي في معظم البلدات العربية الأسلوب العلمي المعروف، ولاسيما في مجال الربط بين حاجات القوى العاملة ونمو التربية كماً وكيفاً.
ب- ومن أهم ما يشكو منه التخطيط التربوي في الأقطار العربية إغفال التخطيط البعيد المدى، وهو تخطيط أساسي لازم سواء في ميدان التربية أو في ميدان التنمية جملة. والتخطيط البعيد المدى (لمدة عشرين عاماً أو أكثر) هو الذي ينبغي أن يكون منطلق التخطيط المتوسط المدى أو القصير المدى. أو، بتعبير آخر إن صورة المستقبل المرجوة هي التي ينبغي أن تقود عمل اليوم، وإن «تاريخ الغد» على حد تعبير بعضهم هو الذي ينبغي أن يقود الحاضر.
ج- ومن الجوانب الهامة التي ينبغي أن نتريث عندها لدى الحديث عن التخطيط التربوي في البلاد العربية أن هذا التخطيط، في أحسن أحواله، لا يشمل التعليم غير النظامي خارج مراحل التعليم التقليدية، رغم الأهمية الكبرى والمتزايدة لهذا النوع من التعليم وما يلحق به من «تربية مستمرة»، لا سيما من أجل تحقيق الارتباط الأوثق بين الإعداد ومتطلبات سوق العمل المتغيرة والمتجددة في عصرنا المغذّ في تقدمه، كما سبق أن رأينا. وسنرى أهمية ذلك عند الحديث عن الحلول اللازمة لتنمية التربية تنمية تستجيب للحاجات الاقتصادية والاجتماعية ولمطالب التغيرات التكنولوجية.
3-5 والحديث عن التخطيط التربوي ينقلنا إلى الحديث عن الإدارة التربوية، فهي والتخطيط التربوي وجهان لعملةٍ واحدة. ولا نغلو إذا قلنا إن الإدارة التربوية من دون التخطيط التربوي ضالّة عمياء وإن التخطيط التربوي من دون الإدارة التربوية مقعد عاجز.
أ- وأول ما يفجأنا عند التأمل في الإدارة التربوية في معظم البلاد العربية ضعف الصلة بينها وبين التخطيط التربوي. وكثيراً ما تنقلب الخطط التربوية إلى مجرد «مراجع» وتصبح هذه الخطط في واد والعمل الذي ينفذه الإداريون في واد آخر (رغم كل ما يقال ويكتب عن متابعة تنفيذ الخطة). ولا يرجع ذلك فقط إلى تأبّي الإداريين ومقاومتهم للتجديد في كثير من الأحيان، بل يرجع غالباً إلى عدم مشاركتهم الفعالة في إعداد الخطة التربوية.
ب- ولا يقوم الطلاق غالباً بين الخطة التربوية وبين عمل الإداريين فحسب، بل يقوم أيضاً وبوجه خاص بين واضعي الخطة التربوية من الإداريين الفنيين وبين أصحاب القرار السياسي في ميدان التربية. والمتهمون في هذا الشأن ليسوا السياسيين وحدهم، بل «التكنوقراطيون» الفنيون أيضاً. أو بتعبير أدق، المتهم الأول هو غياب الأخذ والعطاء بين أصحاب القرار السياسي والفنيين الذين يرسمون الخطط التربوية، أو عدم وضوح هذا القرار السياسي كما سبق أن رأينا. وقد أصبح الحديث عن الفراق بين التخطيط والتنفيذ (في التربية وسائر ميادين التربية) موضوع الساعة في السنوات الأخيرة. ومن أجله عقدت تلك الندوة الهامة بالكويت من 25-29 تشرين الأول (أكتوبر) 1986 “ندوة التنمية بين التخطيط والتنفيذ في الوطن العربي “ التي نظمها الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي بالاشتراك مع المعهد العربي للتخطيط بالكويت ومع الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية.
ج- وينجم عن هذا فراق آخر نلمسه بين التخطيط التربوي والإدارة التربوية في معظم الأقطار العربية. وهو أن الإدارة التربوية لم تستطيع أن تستجيب للمستلزمات التي يمليها دخول التخطيط التربوي إلى الميدان، بل ظلّت تعمل كأن شيئاً لم يكن.
ومن هنا نجد في كثير من الأحيان أن جهاز التخطيط التربوي لم يكن أكثر من وحدة إدارية أضيفت إلى جهاز إداري لم يتغير. وزاد في خطورة هذه العزلة (بل الجفاء أحياناً) بين الخطة التربوية والإدارة التربوية تقصير الإدارة التربوية غالباً عن إحداث التغييرات الجوهرية التي تستلزمها الاتجاهات التربوية الحديثة، ولا سيما تلك التي أكدت أهمية الربط بين التربية والتنمية. فكلنا يعلم أن هذه الاتجاهات ولّدت في العالم الاهتمام بالموارد البشرية وباقتصاديات التربية تمويلاً وكلفة وإنفاقاً، وبتطوير محتوى التربية (من مناهج وطرائق ونشاطات وسواها) بحيث يستجيب لحاجات التنمية الشاملة، وبتطوير سياسات الالتحاق والقبول في مراحل التعليم المختلفة تحقيقاً للربط بين مخرجات النظام التربوي وحاجات القوى العاملة، والعناية بالتربية غير النظامية والتربية المستمرة، وتعديل هياكل التعليم، … الخ. ومثل هذه المهمات تستلزم تحقيق تغييرات أساسية في بنية الإدارة التربوية وأساليب عملها، لم تيسَّر لكثير من البلدان العربية.
د- بل إن هذه الإدارة التربوية، في معظم البلدان العربية، قد قصّرت عن اللحاق بمستلزمات التطور التربوي السريع (ولا سيما التطور الكمي) الذي حدث بدءاً من الخمسينيات وقد عجزت معظم الإدارات التربوية عن الاستجابة لما يمليه هذا «التفجر الطلابي» الخطير من حاجة سريعة إلى تطوير أساليب الإدارة وإلى تطوير الجوانب النوعية بحيث لا يفسد نمو الكم جودة الكيف، وإلى الاستخدام الأمثل للموارد المالية والبشرية المتاحة، … الخ.
هـ- وطبيعي أن نشهد في مثل هذه الإدارات تقصيراً واضحاً في استخدام التقنيات الإدارية الحديثة، تلك التقنيات التي أخذت نعمّ سائر ميادين الإدارة في عصرنا، والتي لا تعني مجرد إدخال الأجهزة والأدوات التكنولوجية الحديثة، بل تعني أي أسلوب علمي يستخدم لحل المشكلات العلمية، حتى ليصحّ الحديث عن «تكنولوجيا آلية» وعن تكنولوجيا «عقلية» أو «منطقية». فجوهر التكنولوجيا الإدارية أساليب وطرائق علمية تطبق على العمليات الإدارية، والأدوات والآلات وسيلة من الوسائل التي قد تلجأ إليها من أجل تسهيل مهمتها. أفلا تنتسب معظم التقنيات الإدارية الحديثة إلى منهج “تحليل النظم “ وهو منهج منطقي عقلاني قبل أي شيء آخر؟
و- ويلحق بهذا إغفال الإدارة التربوية في الأقطار العربية لأهمية ما يعرف باسم «التنظيم العلمي للعمل» الذي ساد في ميدان تنظيم العمل الإداري بوجه عام. وهو يعني في الجملة، كما نعلم، عملية ترتيب مجموعة مركبة من المهام في وحدات متخصصة، وكذلك تحديد العلاقات التنظيمية فيما بين الأفراد الذين يوكل إليهم القيام بالمهام المختلفة. وواضح أن التنظيمات الهيكلية للإدارات التربوية وتحديد اختصاصات وحداتها، ورسم إجراءات العمل وتبسيطها، وتوفير الرقابة الإدارية، ووضع وسائل تقويم العمل الإداري، تفيد كبير فائدة من مثل هذا الأسلوب السائد في الإدارة بوجه عام، دون أن نغفل الطابع النوعي للتربية وخصائصها المباينة لسواها، ودون أن ننسى العلاقة التي ينبغي أن تقوم بين التنظيمات وبين البيئة الاجتماعية والعوامل الإنسانية.
ز- ولا بد أن نذكر بعد ذلك أن الإدارة التربوية في معظم البلدان العربية لم تصبح بعد إدارة مستقبلية، وأنها تقصر في الغالب عن مواجهة الحاجات الآنية. وهي تعمل في معظم الأحيان تحت وطأة الحاضر، يوماً بيوم كفافاً، وقلما تمدّ بصرها إلى آفاق خواتيم هذا القرن وتباشير القرن الجديد. وقد أبرزت التجربة العالمية في التربية مجموعة من الاتجاهات والمجالات الجديدة التي يبدو من التحليل أنها آخذة في الولادة والترعرع خلال العقود الآتية، سبق أن أشرنا إلى بعضها. ومع ذلك فما تزال الإدارة التربوية في الأقطار العربية في كثير من الأحيان، تصطنع ما يمكن أن نسميه «إدارة التسيير» بدلاً من «إدارة التطوير».
3-6 ولن نقف هنا طويلاً عند واقع هياكل التعليم وعند محتوى التربية، إذ سيكون هذا أهم ما نتطرق إليه عند التماس الحلول التربوية اللازمة لتنمية الثروة البشرية. وحسبنا أن نقول إن قدراً من التجديد قد حدث أحياناً في محتوى التربية (من مناهج وطرائق وسواها)، وفي العلاقة بين التعليم وعالم العمل، وفي إعداد المعلمين، وفي النهوض بتعليم العلوم والتكنولوجيا، وفي ربط التعليم بالذاتية الثقافية العربية وبالتربية الأخلاقية، وفي تكنولوجيا التربية … الخ. غير أن ما حدث لا يعدو أن يكون خطوات قلقة أحياناً، ومحاولات منعزلة يتيمة. ولا يقع اللوم كله في ذلك على عاتق الأقطار العربية، فالتجربة العالمية في هذه المجالات جميعها لم تكتمل بعد، فضلاً عن أن البحوث التربوية التي يقوم بها أبناء البلدان العربية أنفسهم من أجل البحث عن الحلول الملائمة لشتى مشكلات التربية في البلاد العربية ما تزال غضة العود، رغم وجود عدد من مراكز البحث التربوي في الوطن العربي.
6 – خاتمة:
ولا نزعم أننا استطعنا في هذه العجالة أن نحيط بملامح الواقع التربوي في الوطن العربي، كمه وكيفه، ولعلنا استطعنا أن نعرض لما يبدو لنا بمثابة أمهات المشكلات التي تتصدر بالتالي سواها.
6-1 والذي يعنينا أن ندرك من خلال هذا العرض السريع أن التربية في معظم الأقطار العربية، رغم ضخامة إعدادها وتكاثر مؤسساتها وارتفاع الإنفاق عليها ورغم ما تمتلئ به تقاريرها من صور مشرقة، ما يزال بينها وبين التربية التي تؤدي إلى التنمية البشرية وبالتالي إلى التنمية الشاملة بونٌ قد يغدو صراعاً وتعارضاً في بعض الأحيان. وما يزال الطابع التقليدي هو السائد فيها، وما تزال، بعد تطورها، أقرب إلى بداياتها منها إلى مستلزمات حاضرها ومستقبلها. لقد ولدت تلك النظم في مرحلة كان مجرد فتح أبواب التعليم فيها، أياً كان شكله ومحتواه، والقضاء على الأمية بالتالي، هو الهدف الغالب إن لم يكن الهدف الوحيد. ثم جاء حينُ من الدهر أصبحت فيه هذه النظم مصنعاً للشهادات من أجل سد الفراغ في الوظائف المختلفة التي كانت موفورة إلى حد بعيد. وعليها اليوم، لكي تكون توظيفاً مثمراً للأموال والجهود، بعد أن تكاثرت أعدادها تكاثراً هائلاً، وبعد أن أصبحت قدرة سوق العمل على امتصاص مخرجاتها قدرة محدودة، أن تحدث انقلابات أساسية في أهدافها وسياساتها وإدارتها وهياكلها ومحتواها، بحيث تغدو حقاً في خدمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشاملة، وبحيث ترهص بحاجات المستقبل ومفاجآت الغد.
6-2 على أننا لا نحمّل التربية وحدها هذا العبء الجسيم. ولا بد من إسهام سائر قطاعات المجتمع وتعاونها وتفاعلها وتنسيق جهودها، في سبيل هذا الهدف اللازم والعسير: نعني إعداد الناشئة لمختلف الوظائف التي تتطلبها تنمية المجتمع في جوانبه العديدة. ولا بد أن يقرّ في ذهننا دوماً وأبداً أن التربية، رغم دورها الكبير والهامش الواسع نسبياً المتروك لها، لا تستطيع أن تحل محل المجتمع بأسره: محل الأسرة والجماعة وعالم العمل. بل حتى لو افترضنا جدلاً أنها استطاعت أن تضطلع بخط وفير من هذه المهمة، يظل من الصحيح أن الإعداد السليم اليوم للناشئة لعالم العمل لا يمكن أن يكون إعداداً سليماً إذا هو تمّ داخل جدران المدرسة، ولم يتصل بالتجارب الغنية المختلفة التي تقدمها المؤسسات الأخرى المعنية بالقوى العاملة.
6-3 وهذا كله يقودنا بالضرورة إلى أن نطرح الموضوع الختامي، نعني ما هي أهم معالم التربية المرجوة في الأقطار العربية من أجل تنمية الثروة البشرية استجابة لحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية؟ وهذا ما سنتصدى لمعالجته في الجزء الآتي.
(خامساً) الاتجاهات اللازمة لتطوير التربية في الوطن العربي من أجل تنمية الموارد البشرية والاستجابة لحاجات التنمية الشاملة
1 – مدخل: حدود التربية وقيودها
قبل المضي في طرق هذا الموضوع الهام لا بد أن نستدرك منذ البداية لنبيّن الحدود والقيود المفروضة في مجال تنمية الموارد البشرية.
1-1 وأول هذه الحدود والقيود هو ما سبق أن ذكرناه منذ حين عندما بيّنا أن التربية، مهما يصلح أمرها، لا تستطيع أن تعالج لوحدها مشكلة الصلة بينها وبين تنمية الموارد البشرية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية بوجه عام. والعلاقة بين تنمية التربية وتنمية سائر جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية، كما قلنا ونقول، علاقة دائرية لا خطية. ويكفي أن نذكر على سبيل المثال أن تشعيب التعليم وما يصاحبه من عناية بالتعليم التقني والمهني، وهو مطلب لازب من أجل عقد الصلة بين النظام التربوي وحاجات السوق من القوى العاملة، يصطدم أول ما يصطدم، في معظم البلدان العربية والنامية، بنظرة المجتمع إلى العمل اليدوي وإلى الحرف والصناعات، وبذلك الإرث الذي يحمله المجتمع العربي منذ كان الفرزدق يعيّر جريراً بأنه «القين وابن القين»، ولئن كان للتربية دور في تغيير هذه النظرة التي تزري بالعمل والصناعة، وترى في العمل اليدوي والمهن مهانة وامتهاناً، فإن هذا الدور لا يمكن أن يؤتي أُكله إلا إذا صحبته جهود مختلفة خارج المدرسة، كالتوعية والإعلام وتعريف المجتمع بحاجات السوق وتعديل سياسة الأجور وغير ذلك. بل إن مثل هذا الموقف الاجتماعي لا تفلح معالجته إلا إذا دخل العمل اليدوي ودخلت المهنة إلى المدرسة في جميع مراحل التعليم وأنواعه، وإلا إذا انعقدت الصلة منذ وقت مبكر بين المدرسة والمؤسسات الإنتاجية المختلفة كما سنرى.
وإذا نحن عممنا هذا التحليل قلنا إن المدرسة لا تستطيع أن تضطلع بدورها في أي مجال من مجالات تنمية الموارد البشرية إلا إذا غدا النظام التربوي «شبكة» واسعة من النشاطات التربوية تتم داخل المدرسة وخارجها وتنساب بين المدرسة وعالم العمل من حولها، وكلاً متكاملاً من تعليم مرتبط بالمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية متعاون معها، ومن تربية غير نظامية منبثة في حياة الناس على اختلاف أعمارهم ومواقعهم، ومن عملية مستمرة من التدريب وإعادة التدريب وتجديد التدريب، … الخ.
1-2 على أن هذا الترابط العضوي بين التربية وبين سائر قطاعات النشاط الاقتصادي والاجتماعي، يفرض على التربية حدوداً وقيوداً قاسية. فهو يبيّن أوضح بيان أن أزمة التربية في الوطن العربي ليست أزمة التربية وحدها، ولكنها أزمة التنمية جملة. بل هو يبين أن هذه الأزمة التربوية ومن ورائها الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الشاملة في الوطن العربي ليست وليدة التربية العربية وحدها، بل هي جزء من الأزمة العالمية التي سبق أن تحثنا عنها.
وهكذا فإن ما تستطيع التربية العربية أن تصنعه، على شأنه وأهمية، سوف يقصّر عن المدى المطلوب، بسبب انعكاسات الأزمة العالمية في شتى الميادين، ولا سيما في ميدان العمل والاستخدام، على الوطن العربي. صحيح أن الكثير من الباحثين العرب ينادون بالتحدي العربي للأزمة الاقتصادية العالمية(1) ويبحثون في سبله ووسائله. غير أن كثيراً من نتائج مثل هذه البحوث أقرب إلى التشاؤم. ولا عجب في ذلك ما دامت أنظار الباحثين في العالم المتقدم نفسه أدنى إلى التشاؤم وإلى الشك في قدرة هذا العالم المتقدم على تجاوز أزمته في العقود القادمة. ولا يعني هذا أن مصير الواقع العربي هو بالضرورة مصير الواقع الغربي. وثمة عوامل ومقومات اقتصادية واجتماعية وسياسية قد تساعد الأقطار العربية على تجاوز بعض جوانب الأزمة على أقل تقدير، لا سيما إذا قام تكامل فعلي في العمل العربي المشترك، وإذا اجتمعت طاقات البلدان الغنية بمواردها البشرية مع طاقات البلدان الغنية بمواردها الطبيعية والمالية.
1-3 ومن الحدود والقيود التي لا بدّ من التنبيه إليها، أن الجهود الاستثنائية التي يتوجب على التربية أن تبذلها تحقيقاً لأغراض تنمية الموارد البشرية والتنمية الشاملة، جهودٌ لن تؤتي ثمراتها الكاملة إلا حوالي نهاية هذا القرن. ويرجع ذلك إلى طبيعة النظام التربوي من حيث المدة الزمنية اللازمة للدراسة، وهي مدة زمنية لا بد أن تطول. ومعنى هذا أن مستقبل التربية حتى بدايات القرن الحادي والعشرين قد تمّ تحديده بمقدار كبير من خلال السياسات والخطط التي رسمت للتربية في السنوات الأخيرة، وأن شبان القرن الحادي والعشرين هم اليوم على مقاعد الدراسة. ومع ذلك فالجهود الاستثنائية لا بد منها، من أجل المستقبل البعيد نسبياً، وحتى من أجل الحاضر والمستقبل القريب. ففي هذا المجال ثمة تدابير تربوية عديدة يمكن أن تعطي أُكلها سريعاً. والانعطاف بالتربية تدريجياً نحو تربية ألصق بالتنمية هو مهمة اليوم والغد القريب. ومن هنا كان قصدنا، حين بينا أن مستقبل النظام التربوي في البلاد العربية قد تحدد وارتهن إلى حد كبير حتى نهاية القرن من قبل السياسات والخطط التربوية التي رسمت في السنوات الأخيرة، أن نؤكد حقيقة هامة: وهي أن التغيير المنشود خلال السنوات القريبة الآتية في ميدان التربية، لا بد أن يكون تغييراً جذرياً وحاسماً وفي الاتجاه الصحيح، دون ما تلكؤ أو تباطؤ، إذا أراد النظام التربوي العربي أن يحرف مجراه وأن يقدم بعض الثمار المبكرة، فضلاً عن الثمار الآجلة.
1-4 ولا شك أننا لم نستنفد سائر القيود والحدود التي تحد من إمكانات العمل التربوي في سعيه نحو الارتباط العضوي بتنمية الموارد البشرية وبالتنمية الشاملة من ورائها وبوساطتها. وأياً كانت القيود، لِزامٌ علينا أن نستدرك فنقول إن من الخطورة بمكان أن يتم التذرع بهذه القيود من أجل تبرير العجز والقعود. والذي قصدنا إليه من بيان حدود العمل التربوي هو عكس هذا تماماً. فلقد كان همنا أن نبيّن أن مطلب ربط التربية بتنمية الموارد البشرية ليس مطلباً سهلاً، بل هو مطلب شاق يحتاج إلى جهود موصولة في شتى الميادين من أجل الوصول إليه. لقد كان همنا، بتعبير آخر، أن يدرك النظام التربوي أنه أمام تحديات كبرى تستلزم تغييرات سريعة وجذرية وشاملة. همنا ألا يطمئن الإداريون وسواهم إلى جمال الأرقام التي تنبئ عن نمو التربية، وألا يستهويهم ما يذكرون عن تطورها النوعي، وأن يدركوا في نهاية الأمر أن مسألة المسائل، نعني صلة التربية بتنمية الموارد البشرية وبالتنمية جملة، ما تزال بعيدة الحل، ولا بد من جهود استثنائية للاقتراب منها.
2 – حدود البحث:
وإلى جانب القيود المفروضة على التربية، التي سبق أن ذكرناها، ثمة حدود وقيود لا بدّ أن نفرضها على بحثنا، لضيق المجال ورغبة في التكثيف والتصويب نحو الهدف مباشرة.
2-1 صحيح أن كل مكون من مكونات النظام التربوي جديرٌ بأن يبحث، وله دور في ربط التربية بتنمية الموارد البشرية. ولكن الحديث عن مقومات النظام التربوي جميعها وعن مراحل التعليم جميعها حديث قد يقودنا إلى دراسة تربوية صرفة، تنأى عن أغراض بحثنا. ومن هنا، لن نتحدث عن بعض المقومات والمراحل في حد ذاتها، بل سنحاول أن نشير إليها عندما يستلزم موضوعنا ذلك.
2-2 وقلب الموضوع في نظرنا، تلك العقدة الصعبة، أو تلك الحلقة غير المطمئنة، نعني الأنماط اللازمة لتنويع التعليم وتشعيبه وربطه بحاجات القوى العاملة في المرحلة الثانية من التعليم الثانوي وما يليها حتى نهاية التعليم العالي.
ونحن إذ نركّز اهتمامنا على هذه المرحلة وعلى روّادها من «الراشدين الشبان» (من 16-25 سنة) كما يدعون اليوم، لا يعني أننا لا ندرك دور المراحل الأخرى في توجيه التعليم نحو العمل والتنمية، بدءاً من المرحلة السابقة على المدرسة الابتدائية وحتى نهاية المرحلة المتوسطة. فتكوين المواقف والاتجاهات اللازمة من عالم العمل ومن المهن اليدوية والتقنية بل من عالم العلم والتكنولوجيا، لا بدّ أن يتم منذ نعومة الأظفار. وممارسة بعض النشاطات العملية في التعليم الابتدائي وبوجه خاص في التعليم الإعدادي مدخلٌ
لا بد منه لنجاح الجهود التي تبذل في المراحل التالية لربط هياكل التربية ومحتواها بحاجات القوى العاملة وحاجات التنمية الشاملة. والتوجيه المدرسي المهني الذي يتم بوجه خاص في المرحلة المتوسطة، من العوامل الهامة التي تساعد الطلاب على اكتشاف قابلياتهم الحقيقية وتيسّر لهم الالتحاق بفروع الدراسة التي تهيئهم لها تلك القابليات.
3 – التعليم الثانوي التالي للمرحلة المتوسطة:
على أن بؤرة الضوء مسلطة في السنوات الأخيرة، في العالم المتقدم والنامي، على التعليم التالي للمرحلة المتوسطة (وهو في كثير من الدول التعليم التالي لمرحلة الإلزام). فهذا التعليم، الذي يمتد حتى نهاية المرحلة الثانوية المألوفة أو قد يتجاوزها قليلاً أو كثيراً، ما يزال تعليماً قلقاً في هياكله وأهدافه. وعلى الرغم من الإجماع على أنه يتولى مهمتين: مهمة الإعداد للجامعة ومهمة الانتهاء من الدراسة ودخول سوق العمل، فإن كلتا المهمتين، ولا سيما المهمة الثانية، ما تزال مقصرة عن مداها.
3-1 وفي الأقطار العربية تأخذ المشكلة طابعاً حاداً، نتيجة للتزايد السريع في أعداد الطلاب في التعليم الثانوي بمرحلتيه المتوسطة والثانوية، ذلك التزايد الذي سوف يستمر في السنوات القادمة كما رأينا (فهو سيضم حوالي 24947 ألف طالب عام 2000، يمثلون 60.7% من الـسن المقابلة (1)). وهذا التزايد الكبير في رواد التعليم الثانوي الذي بدأ أثناء العقد الأخير، يطرح على نحو حادّ مسألة الموازنة بين التوسع في التعليم الثانوي وبين حاجات العمالة من خريجي هذه المرحلة وما ترتبط به من حاجات اقتصادية واجتماعية وتكنولوجية. لا سيما إذا ذكرنا، كما بينا سابقاً، أن نسبة المقيدين في التعليم التقني والمهني إلى مجموع طلاب التعليم الثانوي في جملة الأقطار العربية لم تتجاوز 10.5% عام 1985، وقد تخصص أكثر من 50% من هذه النسبة الضئيلة في التجارة والإدارة، بينما اختار المجالات الصناعية 25% منهم واختار الزراعة 10%.
2-2 وقد حاولت العديد من الأقطار العربية أن تدخل بعض الجدائد على التعليم الثانوي. فاهتم بعضها بتجربة المدرسة الثانوية المتعددة الأغراض (المدرسة الشاملة)، واهتمت أخرى بإدخال نظام وحدات التقويم الدراسية ونظام المقررات، ولجأ فريق آخر إلى نظام تنويع الفروع التي توفر للطلاب إمكانية الاختيار داخل نفس المستوى بين عدد من المواد النظرية والمواد العملية. بل حاول بعض هذه الأقطار إدخال نظام العمل في التعليم الثانوي العام، والتأكيد على الطابع الإنتاجي للتعليم التقني، والاهتمام الأكبر بالتكنولوجيا،… الخ. ومع ذلك فما تزال معالجة هذه المشكلة الأساسية، مشكلة الربط بين هذا التعليم وحاجات الموارد البشرية ومتطلبات التنمية الشاملة، معالجة جزئية وخجولة، وما تزال هناك مشكلات كبرى أساسية: أهمها إعادة النظر في أنماط التعليم الثانوي، ومواقف الآباء والطلاب من أنواع التعليم المختلفة كما سبق أن ذكرنا، والتخلف الكبير في التعليم الثانوي الزراعي ثم في التعليم الثانوي الصناعي. ورغم نوايا المسؤولين وجهودهم الكبيرة، ما تزال هذه المرحلة في نظر الجمهرة الغالبة من الطلاب والآباء مجرد جسر ينبغي اجتيازه لدخول الجامعة. وعندما تكون الجامعة بدورها مصابة بمثل هذا الداء، نعني ضعف الارتباط بينها وبين حاجات العمالة وحاجات التنمية، فإن المعنى الحقيقي لعبور هذا الجسر ليس سوى تأخير البطالة عدداً من السنوات بالنسبة إلى عدد كبير من الطلاب.
3-3 والحق إن أم المشكلات في التعليم الثانوي التالي للمرحلة المتوسطة مشكلة هيكل هذا التعليم ومحتواه. ولعل مشكلة هيكله تحتل الصدارة في هذا المجال. ولكي نعالج هذه المشكلة، سنمضي أولاً إلى تحليل نتائج التجربة العالمية بهذا الصدد.
4 – التجربة العالمية في ميدان التعليم الثانوي التالي للتعليم المتوسط:
4-1 تنطلق التجربة العالمية، في ميدان التعليم الثانوي، من مبدأ أساسي هو تحقيق أكبر قدر من التنوع والمرونة في هذا التعليم، والابتعاد عن الهياكل الجامدة والأطر القاسية. فالحاجات المتغيرة في العصر لا تستطيع أن تواجهها إلا تربية مرنة قادرة على التكيف السريع مع الأحوال الجديدة والمتجددة دوماً.
4-2 غير أن التجربة العالمية في هذا المجال تومئ إلى حقيقة أخرى هامة، تنجينا من الإفراط في التفاؤل. وهي أن البنية الحالية للتربية التقليدية جزء لا يتجزأ من البنية الحالية للعمل ومن الأهداف الراهنة للمجتمع. حتى أن بعضهم يرى أن مهمة النظام التربوي لا تعدو أن تكون إعادة توليد النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي ولّدها. ومع ذلك، مهما تكن قوة البنية الاقتصادية والاجتماعية الحالية، ومهما تكن المقاومة التي يمكن أن يلقاها المجددون من قبل رجالات الإدارة التربوية وسواهم من الحريصين على بقاء الأوضاع على ما هي عليه، يظل الذكاء الإنساني قادراً على مغالبة تلك العقبات حين تتضح أمامه الرؤية ويستقيم لديه الهدف.
4-3 على أن التجربة العالمية في مجال تنويع التعليم الثانوي وتحقيق المرونة فيه خضعت وما تزال تخضع لكثير من المد والجزر. غير أن الاتجاهات الأساسية اللازمة في هذا المجال أصبحت أقرب إلى الاكتمال والتحديد والإجماع. وهذا ما يعنينا منها. ذلك أن التفصيلات المتصلة بهياكل التعليم الثانوي لا بد أن تتكيف مع أوضاع البلدان المختلفة، ولا يجوز نقلها من بلد إلى آخر نقلاً حرفياً. وقد سبق أن ذكرنا أهم الاتجاهات التي انتهت إليها التجربة العالمية والتي يمكن تلخيصها مرة أخرى كما يأتي:
أ- تحقيق أكبر قدر من المرونة.
ب- الانفتاح على العمل وعلى عالم العمل بوجه خاص وإشراكه في الجهود التربوية، ودخول المؤسسات الصناعية وسواها في التربية.
ج- الاهتمام بالتعليم الذاتي، لمواجهة العالم المتغير والحاجات المتغيرة.
د- التنوع والتشعيب.
هـ- التخفيف من المركزية الإدارية في التربية وإفساح المجال للمبادرات المحلية التي تلبي الحاجات الخاصة بالمناطق المختلفة.
و- التعليم لمواجهة ما في المستقبل من «عدم اليقين».
4-4 ونود أن نستعرض فيما يلي بعض نماذج التعليم الثانوي التي تمّ تطبيقها في عدد من البلدان المتقدمة. وهي كما قلنا ونقول، خضعت وما تزال لكثير من المد والجزر، كما خضع بعضها للنقد والتجريح. على أن الرأي قاطع وحاسم فيما يتصل بالحاجة إلى توليد مؤسسات تعليمية جديدة في المرحلة الثانوية، وليس ثمة من يماري اليوم في أن المؤسسات التعليمية المعزولة – ذات الأهداف الثابتة الجامدة، ومانحة الشهادات قبل أي شيء آخر، وما تعدّ له من مهن محدودة مرسومة سلفاً – لم تعد ملائمة لأغراض عالم العمل اليوم وفي المستقبل.
أ- ومن هنا نرى بلداً مثل «السويد» يجمع بين عدة اختيارات في المرحلة الثانوية التالية للمرحلة المتوسطة، في إطار مؤسسة واحدة متعددة الأغراض. كذلك نجد هذا البلد ينشئ كثيراً من المؤسسات المجددة، من بينها ما يعرف باسم «جيمناز يسكولا Gymnasieskola». ومن الجدير بالملاحظة أن خمس الطلاب المسجلين في هذه المؤسسات هم ممن كانوا يعملون ثم عادوا إلى الدراسة. والهدف الرئيسي من هذه الجدائد في السويد (وبعض البلدان الأخرى) تحقيق اندماج أكبر بين مختلف المؤسسات التعليمية في المرحلة الثانوية، وتعدد أغراض المؤسسة الواحدة بالتالي.
ب- أما في الولايات المتحدة فقد حصل رد فعل عكسي في البداية ضد هذا النوع من المدارس الشاملة، أحد أسبابه معدل القيد العالي جداً في التعليم الثانوي (80% من فئة العمر المقابلة). وقد وجهت الانتقادات، بين عام 1970 وعام 1980، إلى عدم توافر التنوع اللازم وإمكانية الاختيار الحقيقية نتيجة لاحتكار التعليم في هذه المرحلة من قبل المدرسة المتعددة الأغراض. ومع ذلك وبعد تجربة ما يعرف «بالمدارس الموازية» أو البديلة (Alternative Schools)، خَفَتَ صوت الناقدين لهذه المدرسة المتعددة الأغراض حتى أننا لا نجد في أي من التقارير الكبرى الهامة التي صدرت عن التعليم في الولايات المتحدة (وأشهرها التقرير المعنون: أمة في خطر) أي نقد للمدرسة المتعددة الأغراض. بل إن الأمر قد أخذ اتجاهاً معاكساً، إذ ينصب معظم النقد اليوم على التنوع المفرط القائم في قلب المؤسسة التعليمية الواحدة (المؤسسة المتعددة الأغراض).
ج- أما في اليابان فخلافاً لما جرى في الولايات المتحدة، ليس هنالك نقد موجه إلى تجربة المدرسة المتعددة الأغراض، والسياسة التربوية الحالية تحرص بوجه خاص على تشجيع التنوع داخل المؤسسة وعلى مرونة أنواع التعليم. ويؤيد ذلك اتجاه الدولة إلى تقليل عدد المواد الإجبارية وزيادة عدد المواد الاختيارية، وإلى تحقيق مرونة في ساعات الدراسة.
د- وفي النروج صدر قانون عام 1974 حول المرحلة الثانية من التعليم الثانوي، وهو قانون يعتبر من القوانين المجددة والجريئة. وفيه نجد أن الهياكل الثلاثة الأساسية للتعليم الثانوي التالي للمرحلة الإلزامية تشتمل على تسعة اختيارات أساسية، وتتيح الفرصة للانتقال من فرع إلى آخر.
هـ- وفي بريطانيا حيث لا مركزية التعليم واسعة، مُنحت السلطات المحلية (وعددها 104) صلاحيات واسعة تخولها تحديد هياكل التربية وطبيعتها في مناطقها. وقد استطاعت هذه السلطات المحلية أن تجد عدداً من الحلول الرائعة في إطار قانون التربية العام. وفيما يتصل بالمدرسة المتعددة الأغراض، حدث تحول تدريجي في التعليم الثانوي، منذ ظهور قانون «بتلر Butler» الشهير عام 1944، وكان هذا التحول في اتجاه إنشاء مدارس متعددة الأغراض. ومنذ عام 1968، تبنى عدد متزايد من السلطات التربوية المحلية نظام المدرسة المتعددة الأغراض حتى الحصول على شهادة التعليم المتقدمة (في سن السادسة عشرة)، وتتلو ذلك دراسات في مؤسسة أخرى يمكن أن تكون من طراز مختلف، ولكنها متعددة الأغراض كذلك، ولكن على شاكلتها وبشكل آخر. ولما كان الاسم المعروف للسنتين الأخيرتين أو السنوات الثلاثة الأخيرة من الدراسة الثانوية في بريطانيا هو «كلية الصف السادس». احتفظت المؤسسات الجديدة بهذه التسمية، رغم التغيير الكبير في محتوى الكليات الجديدة وهياكلها.
وقد أدى هذا كله إلى ما يشبه انعدام شكل المدرسة الثانوية نتيجة للتعدد المفرط. ومن هنا وجه الكثيرون النقد إلى تلك المتاهات أو الأدغال التي انقلب إليها التعليم الثانوي في بريطانيا.
و- وأبرز ما في التجربة السويدية وتجربة الولايات المتحدة والتجربة البريطانية، تلك العناية الموجهة «للراشدين الشبان» (16-25 سنة) بل للراشدين إجمالاً، في إطار المرحلة الثانوية. فالكثير من مؤسسات التعليم الثانوي تعد الشبان خلال مرحلة تتجاوز المرحلة الثانوية المألوفة سنة أو سنتين وأحياناً أكثر. كما أن الكثير منها يستقبل الشبان الراشدين الذين تزيد أعمارهم عن السن المألوفة والذين سبق لهم أن تركوا الدراسة من أجل العمل. صحيح أن مؤسسات التعليم العالي هي التي تعنى بالدرجة الأولى بفتح الأبواب أمام الراشدين الشبان والراشدين الكبار الذين فاتهم قطار الدراسة. ولكن التعليم الثانوي نفسه شهد ويشهد اهتماماً بالراشدين الشبان على أقل تقدير.
ز- ونجد في ألمانيا الاتحادية أيضاً، ولا سيما بعد وضع الخطة الشاملة للتربية عام 1973، اتجاهاً نحو نظام مدرسي متعدد الأغراض في التعليم الثانوي.
ح- وفي الجملة نجد في كثير من بلدان العالم تجارب عديدة تتصل بتجديد هيكل التعليم الثانوي التالي للتعليم المتوسط (أو لمرحلة الإلزام). وتتلون هذه التجارب بلون كل بلد بل بلون كل منطقة أحياناً. غير أنها في الجملة تسير نحو أهداف متشابهة إلى حد بعيد:
أولها الأخذ بشكل من أشكال المدرسة الثانوية المتعددة الأغراض.
وثانيها إفساح المجال أمام الراشدين الشبان الذين تجاوزا السن المألوفة في الدراسة الثانوية.
وثالثها إتاحة التناوب بين الدراسة والممارسة المهنية (وإن بكن هذا الهدف أبرز في التعليم العالي منه في التعليم الثانوي كما سنرى).
ورابعها تيسير الانتقال بين الفروع المختلفة للمدرسة الثانوية، فضلاً عن تيسير التفاعل بينها ووجود قاسم مشترك من مواد التعليم والخبرات فيما بينها.
ط- وفي الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية نجد تجارب أقدم وأوسع في هذا المجال، ولا سيما فيما يتصل بربط المدرسة بعالم العمل. ففي الاتحاد السوفياتي نجد أن خطة قبول الطلاب الذين ينهون السنة الثامنة من الدراسة في مختلف المعاهد الثانوية وتوزيعهم على فروعها، خطة توضع انطلاقاً من الظروف الواقعية لكل منطقة أو جمهورية. وهي تستند بالتالي إلى ميزان الطلب على القوى العاملة الشابة. والتعليم المهني والتقني يتم في المدرسة المهنية والتقنية الثانوية، حيث يتعلم الشبان مهنة خلال ثلاث سنوات أو أربع، في نفس الوقت الذي ينهون فيه دراساتهم الثانوية العامة. مع أن المدرسة المهنية والتقنية ليست هي وحدها التي تعدّ العمال المؤهلين، بل تشاركها هذه المهمة المؤسسات الاقتصادية المختلفة. وفوق هذا وذاك تختص كل مدرسة مهنية وفنية بإعداد العمال لقطاع معين من الاقتصاد القومي، وتقوم بعملها عن طريق التعاون الوثيق مع المؤسسة اقتصادية تدعى بالمؤسسة “الراعية“ التي يتوجب عليها، بحكم القانون، أن تضع مجاناً تحت تصرف المدرسة التجهيزات والمواد والأدوات اللازمة للتعليم.
بالإضافة إلى هذه المدارس المهنية والتقنية التي تعدّ العمال المؤهلين بالدرجة الأولى، ثمة معاهد أخرى تعني بتلبية حاجات الاقتصاد القومي من «الأخصائيين» على مستوى التعليم الثانوي، في شتى مجالات النشاط. ويتولى هذه المهمة عدد كبير من المدارس التي تعرف باسم «التكنيكوم Technicum»، بالإضافة إلى مؤسسات أخرى. وقد كان لفئة الأخصائيين هؤلاء دور كبير في تجاوز الاتحاد السوفياتي لشتى مراحل النمو الاقتصادي والاجتماعي. ولا حاجة إلى القول إن أعداد المقبولين في هذه المؤسسات وتوزعهم على فروع الاختصاص يبنى على أساس التقديرات البعيدة المدى التي تضعها خطة التنمية وتحدد فيها مقدار الحاجة.
5 – الاتجاهات المأمولة للتعليم الثانوي في الوطن العربي:
سبق أن ذكرنا أن الاتجاهات الأساسية التي انتهت إليها التجربة العالمية في مجال تنويع التعليم الثانوي اتجاهات يمكن أن تأخذ الأقطار العربية بروحها وجوهرها، بصرف النظر عما تلبسه من أشكال وصيغ تتلون بلون كل بيئة.
ومن عرضنا السريع لبعض تجارب الدول المتقدمة في مجال تطوير هياكل التعليم، ومن تقرّينا للواقع العربي، يمكن أن نحدد بعض الاتجاهات التي نرى أن في وسع الأقطار العربية أن تتبناها.
5-1 وأول هذه الاتجاهات هو تحقيق الربط بين التعليم الثانوي العام والتعليم الثانوي المهني والتقني والسير نحو مدرسة موحدة تجمع بين التعليمين. ولقد قام عدد من الأقطار العربية منذ سنوات بتبني نظام “المدرسة الشاملة“ (أو المدرسة المتعددة الأغراض) غير أن قيام هذا النظام وتعميمه يستلزمان توافر كثير من الشروط التي لا بد منها، وعلى رأسها إعداد المعلمين اللازمين لمثل هذه المدارس، وتحقيق الارتباط بينها وبين المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية، وإدخال العمل المنتج إليها بوصفه وسيلة تربوية وبوصفه أسلوباً من أساليب ربط التعليم العام بالتعليم المهني والتقني.
5-2 ومن البدائل الممكنة للمدرسة المتعددة الأغراض، في انتظار توفير الشروط اللازمة لقيامها على أسس سليمة، يمكن اللجوء إلى نظام قوامه إدخال قدر من التعليم المهني والفني في التعليم الثانوي العام وإدخال قدر من التعليم العام في مناهج الإعداد المهني.
5-3 كذلك يمكن اللجوء إلى صيغ تؤدي إلى قيام نظام من التناوب بين فترات من الدراسة وفترات من العمل.
5-4 وقد سبق أن ذكرنا أكثر من مرة أن كل شيء في نمو العصر وتجدده، وفي تجدد هياكل القوى العاملة ومطالبها، يملي البحث عن هياكل تربوية مرنة، تيسر الانتقال من طراز من التعليم إلى آخر وتهجر الفروع الدراسية «المسدودة» التي لا مخرج لها، وتيسر التكامل بين الخدمات التربوية المدرسية والخدمات التربوية خارج المدرسة. وطبيعي أن الأخذ بمثل هذه المرونة مطلب أساسي ينبغي أن تتجه نحوه الأقطار العربية، لا سيما أنها تشكو غالباً من تصلّب الهياكل التربوية وجمود النظم التعليمية.
5-5 ولئن كانت التربية في التعليم الثانوي في البلاد العربية تشكو نقص التنوع وضعف التشعب، فمن المفيد مع ذلك أن نذكّرها، حين تتجه إلى مزيد من التخصص والتفريع، بما كشفت عنه التجربة العالمية من بعض نقائص التخصص المبكر وبعض مشكلات الإفراط في التنويع. والتجربة في العديد من الدول تفصح عن النقائص هذه (في الاتحاد السوفياتي سابقاً، وفي الولايات المتحدة بوجه خاص، وفي اليابان وسواها). ومعنى هذا أن التعليم المهني والتقني في المرحلة الثانوية، لا بدّ أن يحقق التوازن بين الإعداد العلمي الأساسي وبين الإعداد المهني والتقني. ومعنى ذلك أيضاً أن يتم اجتناب الإفراط في التنوع داخل المدارس الثانوية (سواء كانت عامة أو مهنية أو تقنية)، والإفراط في حرية الاختيار بين وحدات الدراسة المختلفة إفراطاً يؤدي إلى بعض الفوضى (كما يقول منتقدو هذا النظام في الولايات المتحدة) والذي قد يؤدي إلى نظام في التعليم أشبه بنظام «الكافتيريا» على حدّ الوصف الذي أطلقه عليه ذلك التقرير الهام عن التربية في الولايات المتحدة «أمة في خطر».
5-6 وبدهي أن مشكلة الهياكل والبنى في التعليم الثانوي لا تنفصل عن مشكلة المستوى والمحتوى. بل إن القصد من تغيير الهياكل هو تجديد المحتوى. ومحتوى التعليم الثانوي في الأقطار العربية، ولا سيما إذا كان تعليماً مهنياً تقنياً، ما يزال مقصّراً عن حاجات العمالة وحاجات التنمية تقصيراً مثيراً للقلق. ولا أدل على ذلك من أن العدد المحدود جداً من الطلاب الذين تخرجهم المدارس المهنية والتقنية لا تمتصه سوق العمل في كثير من الأحيان، بحيث نجد أنفسنا أمام المفارقة الصارخة الآتية: الأقطار العربية في حاجة ماسة إلى أعداد كبيرة من المهنيين والتقنيين، ولكنها مع ذلك عاجزة غالباً عن أن تستوعب في سوق العمل العدد الضئيل الذي يتم تكوينه منهم! والأقطار العربية، شأن سائر الأقطار النامية، تشكو من ضآلة تلك الحلقة التي تقع بين العمال غير المؤهلين وبين أصحاب الاختصاص العالي، نعني ما يسمى بالأطر الوسطى. ومع ذلك فهي غالباً عاجزة عن امتصاص قليل القليل من تلك الأطر! ولا شك أن أهم أسباب هذه المفارقة عدم الارتباط بين محتوى الإعداد الذي يقدم للدارسين في المعاهد المهنية والفنية وبين حاجات سوق العمل المتطورة. كذلك من أسبابها البديهية قلة فرص العمل في نظام اقتصادي واجتماعي ينمو نمواً بطيئاً. وهكذا يصبح موضوع التنسيق بين نمو التعليم الثانوي (ولا سيما المهني والتقني) وبين مستلزمات نمو العمالة ونمو القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، رأس الموضوعات عند البحث في هياكل التعليم الثانوي ومحتواه في الوطن العربي. ولا سيما أن بين الجانبين ترابطاً حتمياً. فمخرجات التعليم الثانوي (ولا سيما المهني والفني) لن تجد لها مكاناً كافياً في سوق للعمل راكدة، وتنمية فرص العمل رهنٌ بتنمية اقتصادية واجتماعية يلعب فيها التعليم الثانوي دوراً أساسياً.
5-7 ويتضح من عرضنا لواقع التربية في الوطن العربي ومن عرضنا لواقع الوطن العربي بوجه عام أن التعليم المهني والفني في المرحلة الثانوية يحتاج إلى عناية خاصة بنوعين أساسيين من التعليم: التعليم الزراعي والتعليم الصناعي. ولا حاجة إلى تكرار القول بأن عقدة التنمية العربية الكبرى ومركز اختناقها يكمنان في الزراعة، وبأن من أهم أسباب خمودها انتشار الأمية بين المزارعين، وانخفاض مستوى الوعي والخبرة بالأساليب والتقنيات الحديثة في الإنتاج الزراعي، وضآلة الاختصاصيين العاملين في الزراعة (من مرشدين زراعيين ومن اختصاصيين في كافة العلوم الزراعية بالمعنى الواسع لهذه الكلمة). كذلك لا حاجة إلى تكرار القول بأن التعليم الصناعي مطلب بدهي في عصر الصناعة والتكنولوجيا، وأن التغيرات التي تحدث في العصر تحتاج إلى العناية بوضع مناهج مرنة تستجيب لتلك التغيرات، لا سيما في أدوات العمل وفي هيكل الصناعات.
5-8 وبعد هذا، بل قبل هذا، لا بد عند صياغة التعليم الثانوي، هياكل ومحتوى، من أن يضع المعنيون نصب أعينهم ما حدث من انقلاب في دور التعليم النظامي عامة نتيجة لانتشار «التربية المستمرة». فالتربية المستمرة، بما فيها من إعادة للإعداد والتدريب وتجديد لهما، يمكن أن تعفي المدرسة الثانوية من بعض مهماتها، حين تأخذ هذه المدرسة بعين الاعتبار أنها أمام تعليم سوف يستمر ويتابع بشتى الأشكال بعد التخرج بحيث يلتحم التحاماً أوثق فأوثق بحاجات العمل وحاجات التنمية. بل إن ثمة من المربين من يدعو، بسبب ذلك، إلى «تقليص» دور المدرسة النظامية، واقتصارها على تقديم أساسيات المعرفة وأدواتها.
5-9 على أن علينا ألا ننسى، ونحن نؤكد على أهمية ربط التعليم الثانوي (والتعليم بوجه عام) بحاجات سوق العمل وحاجات التنمية الشاملة، الدور الثقافي الأساسي لهذا التعليم. وقد سبق أن قلنا إن التنمية الثقافية أصبح ينظر إليها اليوم على أنها غاية التربية ووسيلتها. ومن ضيق الأفق، حتى إذا نظرنا إلى الأمر من الناحية الاقتصادية المحضة، أن نقصر حاجات المعرفة في عصرنا الحديث على اختصاصات محددة مرسومة. بل لا بد أن يكون للتعليم الثانوي، أياً كان نوعه، دور أساسي في بناء سمات الشخصية الأخرى غير السمات المعرفية، وفي التكوين العقلي والخلقي للشبان. لا بد له، ولا بد للتربية بوجه عام، أن تكون وسيلة من وسائل تنمية الوعي، ولا سيما وعي القيم الخلقية والروحية والجمالية، التي هي غاية الإنسان الحقة. ومن هنا لا بد أن تحتل تنمية الثقافة الذاتية والهوية الثقافية الخاصة بالوطن العربي دوراً بارزاُ في التكوين الذي يقدمه التعليم الثانوي وسواه (ولا سيما التعليم العالي).
5-10 ومعنى هذا كله أن التعليم الثانوي (والتربية جملة) ينبغي أن تؤكد على بعدين متكاملين: البعد المتصل بحاجات القوى العاملة، والبعد المتصل بالثقافة بالمعنى الأنثروبولوجي الواسع لهذه الكلمة، وما وراءها من وعي للهوية القومية ومقوماتها وخصائصها. غير أن بعداً ثالثاُ لا بدّ أن تعنى به التربية ويعنى به التعليم الثانوي، نعني البعد الفردي، ونعني بذلك تمكين الفرد من استخراج كامل طاقاته، ومن تفتيح قوى النقد والإبداع لديه، بحيث يستطيع أن يجدّد ثقافة قومه ويقدم لحنه الذاتي للعمل التنموي الذي يقوم به المجتمع بأسره. ويعني ذلك أن تهتم التربية، في هذه المرحلة وسواها، بتكوين القدرة على النظرة المستقلة لدى الفرد اهتمامها بدمجه بمجتمعة وأهدافه، وأن تساعده على أن يعرف ذاته ويعيد بناء ذاته بغير حد، وأن يكتشف مركز النظرة إلى الحياة الخاصة به. يعني ذلك، بوجيز العبارة، أن يكون «من هو» على حد تعبير «نيتشة».
5-11 ولكن لا بد أن نضع حداً لحديثنا عن الاتجاهات التي يمكن أن تأخذ بها الأقطار العربية في ميدان التعليم الثانوي، فالبحث في هذا المجال يطول، لا سيما أنه المجال الذي تسلّط عليه الأضواء اليوم. ولعل ما أومأنا إليه من اتجاهات نراها جديرة باهتمام الأقطار العربية، يصلح لأن يكون موضوع تفصيل وإثراء من قبل المعنيين.
وقد أشرنا منذ البداية إلى أن الميدانين الأساسيين الذين سنتوقف عندهما في بحثنا، هما ميدان التعليم الثانوي التالي للمرحلة المتوسطة (أو لمرحلة الإلزام)، وميدان التعليم العالي، بوصفهما أكثر ارتباطاً من سواهما بموضوع تنمية الموارد البشرية وموضوع التنمية وحاجات القوى العاملة بوجه عام. فلنمض إذن إلى الميدان الثاني، ميدان التعليم العالي، دون أن نزعم أن في وسعنا أن نوفيه ولو جانباً يسيراً من حقه في مثل هذه العجالة.
6 – الاتجاهات المعاصرة في التعليم العالي:
كثير من الاتجاهات التي سبق أن أشرنا إلى بروزها في العالم فيما يتصل بالتعليم الثانوي، تصدق على التعليم العالي، ولا سيما الاتجاهات الكبرى منها، كالمرونة والتنوع والانفتاح على عالم العمل، والتناوب بين الدراسة والعمل، والعودة إلى الدراسة بعد فترة من العمل، … الخ. سوى أنها في التعليم العالي أوضح وأقوى، بحكم طبيعة هذا التعليم ومهمته. لذلك لن نعود إلى التفصيل في هذه الاتجاهات، ونكتفي بإبراز الملامح الخاصة التي تأخذها في التعليم العالي.
6-1 وأول مظاهر الاتجاهات الجديدة في هذا المجال، التنوع في الغايات النهائية للتعليم العالي وفي الآمال المعقودة عليه. وأبرز فسمات هذا التنوع في الغايات تزايد الاهتمام بالجدوى المباشرة للتعاليم التي تقدم وللمؤهلات التي يتم تكوينها. وسبب ذلك بالدرجة الأولى النقص المتزايد يوماً بعد يوم في فرص العمل المتاحة لحاملي شهادات التعليم العالي. ولهذا الاتجاه فوائده الكثيرة، غير أن له محاذيره إن هو أهمل تحقيق التوازن المطلوب، كما سبق أن ذكرنا، بين تقديم برامج متخصصة وبين تقديم إعداد أساسي لمختلف المهن ونشر المعلومات والمعارف الجديدة. ويقدم بعضهم دليلاً على هذا المحذور، ما جرى في الولايات المتحدة الأمريكية من تأكيد على التنوع وعلى الطابع العلمي للتعليم العالي، أدّى إلى ضرب من تأكيد من التنافس التجاري الذميم بين بعض مؤسسات هذا التعليم. وقد يعوض عن ذلك، ما يشهده التعليم العالي في الولايات المتحدة من تغييرات إيجابية كثيرة – كاتجاهه إلى أن يكون أكثر مرونة وأكثر انفتاحاً وأكثر ديموقراطية، ومن عزمه على التجديد وحثّه عليه.
6-2 ومن الاتجاهات الجديدة البارزة في هياكل التعليم العالي وفي سياسة الالتحاق بمؤسساته، التغير الذي حدث في «زبائن» هذا التعليم. فلقد فتح الأبواب واسعة أمام التحاق فئات جديدة من الطلاب، يطلق عليهم اسم «الطلاب غير المألوفين». ويضم هؤلاء بوجه الخاص فئة الراشدين الكبار الذين يعملون، أو الذين عملوا وعادوا إلى الدراسة، أو الذين يرغبون في استكمال دراستهم أو تعديل دراستهم أو تجديدها بعد انقطاع قد يطول وقد يقصر، … الخ. وهذه الفئة الجديدة من الطلاب أوجدت الحاجة الماسة لتغيير هياكل التعليم العالي ولتعديل سياسات القبول. ويمكن إدراك بواعث التحاق هؤلاء الراشدين الكبار بالتعليم العالي، عن طريق تصنيفهم في فئات أربعة:
أ- أولئك الذين يرتادون أو يعاودون الدراسة لمتابعة مناهج عادية تؤدي إلى الحصول على درجة تعليم عال أولى أو على دبلوم.
ب- أولئك الذين يعاودون الدراسة ليجددوا معلوماتهم المهنية أو ليحصلوا على مؤهلات إضافية تساعدهم على تغيير مهنتهم أو على الحصول على ترقية.
ج- أولئك الذين لم يسبق لهم أن قاموا بدراسات عالية، والذين ينتسبون إلى التعليم العالي لأسباب تتعلق بمهنتهم، لا سيما في الدورات الدراسية القصيرة.
د- أولئك الذين لم ينتسبوا من قبل إلى التعليم العالي ويرغبون في متابعة بعض الدراسات من أجل تفتحهم الشخصي وثقافتهم العامة المحضة.
ولا شك أن الأعداد المتزايدة من هؤلاء الراشدين الكبار الذين ينتسبون إلى التعليم العالي، تؤثر في التعليم الذي يتلقاه الطلاب العاديون، سواء من حيث هياكل الدراسة أو مناهجها أو طرائقها.
6-3 على أن التجربة العالمية تدل على أن دمج الراشدين الكبار داخل التعليم العالي ليس الحل الوحيد لمشكلة تعليم هؤلاء الراشدين تعليماً عالياً وملائماً لحاجاتهم. فهنالك جهود أخرى تبذل من أجل التنظيم المنهجي لبرامج في التربية المستمرة ملائمة للحاجات المحددة لبعض الفئات، مثل البرامج القصيرة أو الدورات الخاصة التي تتم بالتعاون مع الاتحادات المهنية والنقابات والمؤسسات الاقتصادية والهيئات الرسمية وسواها. ومن صيغ هذا التعليم العالي الذي يقدم للراشدين (غير صيغة دمجهم بالتعليم العالي العادي) المعاهد المتخصصة التي تنظم دورات من الدراسة قصيرة المدى أو تنظيم برامج تدور حول محور معين، أو تقدم تعليماً بعض الوقت، أو تعليماً «عن بعد».
ومثل هذه المعاهد التي تقدم تعليماً «عن بعد» أصبحت منتشرة في العديد من البلدان. ومن أبرز الأمثلة عليها «الجامعة المفتوحة» في بريطانيا، التي ولّدت تجارب مماثلة في كثير من البلدان، ولا سيما ألمانيا وفرنسا واليابان وهولندا.
6-4 وفي شتى هذه المعاهد، سواء استقبلت طلاباً «مألوفين» أو «غير مألوفين»، ثمة اتجاه متزايد نحو تسهيل الانتساب للتعليم العالي «بعض الوقت»، ونحو إيجاد صيغ تسمح بالتناوب بين الدراسة وبين العمل المأجور.
6-5 وههنا أيضاً قد تؤدي الاتجاهات الحالية، التي تحرص بوجه عام إلى المزيد من أحكام الصلة بين التعليم العالي وبين حاجات القوى العاملة، إلى بعض الانحرافات التي لا بدّ من الإشارة إليها.
أولها الإفراط في إهمال الدراسات الإنسانية وتقليص حجمها، وتقليل العناية بقطاع البحث، إذ تبدو هذه الدراسات وكأنها لا تستجيب إلى الحاجات المباشرة لسوق العمل. ولا حاجة إلى القول إننا في عصر التضامن بين جوانب المعرفة الإنسانية، وأن قطاعات النشاط الاقتصادي متكاملة وفي حاجة إلى تنمية شاملة، على أن تكون تلك التنمية متوازنة وملبية لمطالب المجتمع في فترة النمو التي يمر بها.
وثانيها إهمال التوفيق بين مطلبين متكاملين من مطالب نظم التعليم العالي، كما سبق أن رأينا: نعني تقديم إعداد أساسي للمهن المختلفة والعناية بنشر المعارف الجديدة من جانب، ومن جانب آخر تقديم برامج متخصصة ومتنوعة تلبى الحاجات المتعددة والمتجددة للطلب على القوى العامة، ولا سيما الحاجات الخاصة بالراشدين وبالطلاب «غير المألوفين».
7 – الاتجاهات المأمولة للتعليم العالي في الوطن العربي:
لا شك أن الاتجاهات العالمية الجديدة في التعليم العالي، التي أتينا على الحديث عن بعضها، اتجاهات لا بد أن تستمد الأقطار العربية روحها وما تومئ إليه، وأن تبني بعد ذلك تجربتها الخاصة من اللقاء بين تلك الاتجاهات وبين الواقع العربي ومطالبه الخاصة.
ولعل أبرز ما يجدر بالأقطار العربية أن تعني به مجال التعليم العالي، انطلاقاً من التجربة العالمية والواقع والمستقبل العربيين، وفي ضوء حاجات تنمية الموارد البشرية، أمور كالآتية:
7-1 رأينا، عند استعراضنا للواقع العالمي، أن العلم، بالمعنى الحصري لهذه الكلمة، أصبح أداة الثورة العالمية الجديدة، تلك الثورة التي تتم «بالعلم» لا «مع العلم» فقط. وهذا يعني أن المستوى التقني للإنتاج يحدده تقدم العلم. والحق إن كل ما شهده العالم من ولادة ميادين صناعية جديدة، كان نتيجة مباشرة لتقدم العلوم والاكتشافات العلمية، بل نتيجة لتغير المبادئ والأسس التي كانت تقوم عليها العلوم، ولا سيما العلوم الرياضية والفيزيائية. ومن هنا تأتي أهمية الإعداد العلمي العام في مرحلة التعليم العالي (ولا سيما في المرحلة الأولى)، فضلاً عن الاهتمام بتعليم العلوم في مراحل التعليم الأخرى.
7-2 ثم إن تزايد دور العلوم الأساسية في التعليم العالي يدفع الكثير من الدول المتقدمة اليوم إلى الأخذ بمفهوم الاختصاصي ذي الصفات العديدة، دون أن يعني ذلك تكوين أناس
لا اختصاص لهم. كذلك يستلزم إعداد الاختصاصيين الفنيين في العصر الحديث، في ضوء هذه الحقائق، التعمق في العلوم الاجتماعية والإنسانية من قبل الطلاب الذين ينتسبون إلى الدراسات العلمية والتكنولوجية، والتعمق في المواد العلمية، ولا سيما الرياضيات، من قبل الطلاب الذين يدرسون دراسات إنسانية واجتماعية. هذا فضلاً عن الاتجاهات نحو الدراسات الجامعية «المتعددة المواد».
7-3 غير ما هو أهم من هذا كله، في الأقطار العربية بوجه خاص، المراجعة المنهجية المنظمة للائحة الاختصاصات والاختصاصيين، وذلك من أجل تلبية حاجات العمالة والتنمية بل من أجل تجديدها. ويتبع ذلك تحديد عدد الطلاب الذين يمكن قبولهم في فروع الاختصاص المختلفة. لا سيما إذا ذكرنا أن نسبة المسجلين في العلوم الطبيعية والهندسة والطب والزراعة لا تصل إلى ما يقرب من 50% من جملة المسجلين في التعليم العالي إلا في بضع أقطار عربية. ومعنى هذا أنه لا بد من إجراء تعديلات أساسية في سياسة الالتحاق والقبول في الجامعة. ومن الاختصاصات التي تحتاج إلى عناية فريدة “الزراعة “لا سيما أن مؤسسات التعليم العالي في الوطن العربي ما تزال عاجزة (كماً وكيفاً) عن توفير الاختصاصيين الزراعيين اللازمين للزراعة ولمشروعات التنمية الريفية المتكاملة. كذلك تلزم العناية بكثير من الاختصاصات التي ولدتها الثورة العالمية الثالثة، ولا سيما في مجال الاتصال والطاقة وعلوم الفضاء والبحار وعلوم الحياة وهندسة النسل، … الخ. ولعل أبرزها وأهمها علم المعلومات وتطبيقاته الواسعة وتكنولوجيا البيولوجيا وتطبيقاتها العديدة في مجال الزراعة والتغذية والصحة والطاقة وسواها.
7-4 ولابد بالإضافة إلى ذلك من تكثيف الجهود في الوطن العربي من أجل إقامة أنواع جديدة من مؤسسات التعليم بعد الثانوي، من أجل تدريب اليد العاملة الماهرة والفنيين على المستوى المتوسط. وقد حققت بعض الدول العربية تقدماً في هذا المجال، غير أن ثمة الكثير من الجهد الذي ينبغي أن يبذل لتستجيب تلك المؤسسات استجابة فعّالة لحاجات القوى العاملة.
7-5 ولا حاجة إلى تكرار القول هنا أيضاً، إن مؤسسات التعليم العالي العربية، وهي تسعى إلى أداء مهمتها في تنمية الموارد البشرية، لا بد لها أن تتعاون تعاوناً وثيقاً لهذه الغاية مع مختلف المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية، ومع مؤسسات الدولة المعنية، من أجل القيام بهذا الدور على نحو يستجيب لحاجات الإعداد والتدريب الفعلية. وبوجه عام، فإن الربط بين تعليم العلوم والتكنولوجيا وبين العمل المنتج أو النافع اجتماعياً، مطلبٌ لازب لتحقيق التكامل العضوي بين التعليم العالي في الوطن العربي وبين حاجات تنمية الموارد البشرية.
7-6 ومن المطالب التي يفرضها تطور العصر على التعليم العالي (وسواه) في الوطن العربي إدخال «تكنولوجيات التربية» بأشكالها المختلفة في التعليم العالي. وتشمل هذه التكنولوجيات نمطين أساسيين: نمط الوسائل السمعية البصرية وما يتبعها، ونمط تكنولوجيات الاتصال، ولا سيما الحاسب الآلي والحاسب المصغر. ودور النمط الأول من التكنولوجيات كبير في تجويد العملية التعليمية، أما دور النمط الثاني فعام، يشمل العملية التعليمية كما يشمل إدارة التعليم العالي والبحث العلمي وسوى ذلك.
7-7 ومهمة البحث الملقاة على عاتق التعليم العالي في الوطن العربي مهمة أساسية في إسهام هذا التعليم في التنمية. وما يزال هذا الميدان في حاجة إلى جهود استثنائية، وإلى ربط مؤسسات البحث في الجامعات بسواها من مؤسسات البحث خارج التعليم. ولا شك أن ضعف التوسع في الدراسات العليا في التعليم العالي في معظم الأقطار العربية من الأسباب التي لا تساعد على نمو هذا البحث. ومن أهم أهداف تنمية البحث العلمي في التعليم العالي في الوطن العربي قيام هذا التعليم بتعزيز التنمية العلمية الذاتية وبناء القدرات التكنولوجية القومية. وقد تريثت عند أهمية التنمية العلمية الذاتية كثير من المؤتمرات والحلقات والندوات. وجديرٌ بالذكر أن المؤتمر الثاني لوزراء التعليم العالي العربي الذي عقد تحت رعاية «الأليكسو» في مدينة تونس (من 20-23 تشرين الأول/ أكتوبر 1983) وافق على اقتراح خاص بإنشاء جامعة عربية للدراسات العليا والبحث العلمي وطلب من الأليكسو إعداد دراسات الجدوى للبدء بهذا المشروع.
7-8 والحديث عن التنمية العلمية التكنولوجية الذاتية يقودنا بالضرورة إلى الحديث عن الدور الذي ينبغي أن يضطلع به التعليم العالي في الوطن العربي فيما يتصل بتنمية الثقافة العربية وتأكيد الهوية الخاصة للوطن العربي. ومن أهم الجهود التي ينبغي أن تبذل لهذه الغاية تعريب التعليم العالي.
7-9 وقد يكون من نفل القول أن نذكّر بأهمية الإعداد الملائم للهيئة التدريسية في الأقطار العربية. وحسبنا أن نقول إن التعليم العالي هو المرحلة الوحيدة التي لا يتم فيها إعداد الهيئة التدريسية إعداداً ملائماً، وأن معظم أعضاء هذه الهيئة التدريسية أعدوا (علمياً وليس بالضرورة للتعليم العالي) في مؤسسات أجنبية، وأن الارتباط بين المجالات التي تخصصوا فيها وموضوعات البحث التي اختاروها بين حاجات الوطن العربي ارتباط ضعيف غالباً. يضاف إلى هذا أن نمو أعضاء الهيئة التدريسية لا يمكن أن يتم إذا لم يتوفروا على إجراء البحوث العلمية اللازمة وإذا لم يربطوا الربط اللازم بين تدريسهم وحصيلة بحوثهم.
7-10 وإن ننسَ لا ننسَ أهمية وضع معايير جديدة لالتحاق الطلاب بالتعليم العالي وفروعه المختلفة، غير المعايير الحالية المستندة فقط إلى مجموع المعلومات في الشهادة الثانوية. وههنا يلعب التوجيه المدرسي والمهني، منذ المرحلة المتوسطة حتى نهاية المرحلة الثانوية، دوره في توجيه الطلاب نحو الدراسات التي تؤهلهم لها قابلياتهم الحقيقية. كما يلعب الإعلام عن واقع العمل وفرصه في المجتمع دوراً في توجيه الطلاب نحو اختيار الدراسات الملائمة لمطالب السوق. هذا بالإضافة إلى حلول أخرى، منها إحداث مرحلة انتقالية بين نهاية المدرسة الثانوية والجامعة، مدتها سنة أو سنتان، يتم فيها اختبار قابليات الطلاب وقدراتهم، كما يتم فيها تقديم المعارف العلمية الأساسية اللازمة لأي تعليم جامعي. ومنها إجراء اختبارات متخصصة في شتى ميادين التعليم العالي تساعد على معرفة مدى صلاح الطالب لفرع من فروع هذا التعليم ومدى حظه من النجاح فيه.
7-11 ولا بد في النهاية أن نستدرك فنقول إن معظم الدول العربية أدخلت كثيراً من الاتجاهات السابقة على نظم التعليم العالي فيها، وأن تجديدات تربوية ذات بال شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة. وقد أكدت المؤتمرات الثلاثة لوزراء التعليم العالي العرب (الأول في الجزائر في شهر أيار/ مايو 1981 والثاني في تونس من 20-23 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1983 والثالث في بغداد من 22-25 تشرين أول / أكتوبر 1985) أهمية الكثير من هذه الاتجاهات ودعت إلى المزيد منها.
(سادساً) خاتمة وخلاصة:
1- رأينا في الأقسام السابقة كيف تلتقي مجموعة من العوامل المترابطة لترشدنا إلى الطريق المأمول لتنمية التربية في الوطن العربي على نحوٍ تحقق معه أغراض تنمية الموارد البشرية وأغراض التنمية الشاملة جملة. فالتربية المرجوة تنبثق صيغتها من تحليل الواقع التربوي في الوطن العربي، وما وراءه من واقع اقتصادي واجتماعي وثقافي شامل، ومن تحليل الواقع التربوي في العالم وما يحيط به من واقع عالمي شامل جديد.
2- ولعل أبرز العوامل التي ينبغي أن تحدد مسيرة التربية في الوطن العربي، من أجل ربطها بتنمية الموارد البشرية، على نحو ما استبانت من هذا التحليل، هي العوامل الآتية:
أ- التغير الجذري والسريع في عصرنا في شتى ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية ذلك التغير الذي يملي على القوة العاملة مطالب سريعة وجديدة، ويملي على التربية صيغاً مرنة ومتجددة قادرة على الاستجابة لذلك التغير.
ب- أزمة البطالة التي تجتاح العالم والتي تفرض على التربية أن توائم مواءمة سريعة بين الاختصاصات والدراسات التي تقدمها وبين الحاجات الجديدة من القوى العاملة ومن المهن التي يفرضها تغير وسائل الإنتاج (بسبب انتشار الأتمتة بشكل خاص)، وما يقتضيه ذلك من عناية خاصة بمهن «القطاع الرابع»، قطاع الاتصال والمعلومات والأبحاث والإدارة العلمية للإنتاج وسوى ذلك. ويتطلب هذا بوجه خاص العناية بتنويع التعليم الثانوي وتغيير هياكله، وبالتعليم العالي وتطوير بناه واختصاصاته ومحتوى التعليم فيه.
ج- الأزمة الاقتصادية العامة، التي يواجهها العالم بوجه عام والتي يواجهها الوطن العربي وسائر البلدان النامية بوجه خاص، وما تفرضه على التربية من دور إيجابي، لا يقتصر على الاستجابة لحاجات سوق العمل القائمة، بل يتعدى ذلك إلى حمل سوق العمل هذه على إحداث التغيرات العلمية والتكنولوجية اللازمة لها، بفضل ما تيسره التربية من أبحاث ومن اختصاصيين ومن نخبة قادرة على توليد بنى اقتصادية جديدة. وفي البلدان العربية ينبغي أن ينصب دور التربية، في هذا المجال، على تطوير البحوث والدراسات والاختصاصات التي توجه عناية خاصة إلى تطوير الزراعة، فضلاً عن تطوير الصناعة، وفضلاً عن الاهتمام المركز بإدخال العلم والتكنولوجيا في حياة المجتمع.
د- المرونة الكبيرة في هياكل الصناعة والعلوم والوسائل التكنولوجية في عصرنا، تلك المرونة التي تستلزم مرونة مقابلة في هياكل التعليم ومحتواه، لا سيما فيما يتصل بالتعليم الثانوي التالي للمرحلة المتوسطة (أو لمرحلة الإلزام) وبالتعليم العالي، فضلاً عن أشكال التعليم النظامي والتربية المستمرة.
هـ- دخول المؤسسات الاقتصادية والمؤسسات العامة دخولاً متزايداً في عملية التربية، سواء اتصل ذلك بسياستها أو هياكلها أو محتواها. الأمر الذي يفرض تنسيقاً بين تلك المؤسسات وبين النظام التربوي، بل تعاوناً فعالاً بينهما، ينبغي أن يؤدي إلى أنماط من الإعداد والتربية تتم في مواقع العمل نفسها.
و- ما يفرضه واقع القوى العاملة وواقع الاقتصاد من دخول فئات جديدة متزايدة من الطلاب إلى معاهد التعليم، لاسيما في مرحلة التعليم العالي. وتشمل هذه الفئات الراشدين الراشدين الكبار. الأمر الذي يتطلب تغيير هياكل التعليم، وطرائق التعليم بل وسنوات التعليم، تغييراً يتسع لهذه الفئات العاملة الراغبة في إكمال تعلمها واختصاصها أو في تجديده، أو في اللجوء إلى ضرب من التناوب بين الدراسة والعمل، أو في العودة إلى الدراسة بعد فترة من العمل.. الخ.
ز- تزايد أعداد طلاب المرحلة الثانية من التعليم الثانوي في الوطن العربي، ذلك التزايد الكبير الذي يفرض أن تتولى المدرسة إعدادهم إعداداً يمكنهم من العمل عمالاً ماهرين وأطراً متوسطة، بدلاً من تخرجهم مثقفين عاطلين أو دخول بعضهم التعليم العالي دخولاً كثيراً ما يؤدي إلى مجرد رفع المستوى الثقافي لبطالتهم.
ح- تزايد الأعباء المالية على عاتق التربية في معظم الأقطار العربية تزايداً تنوء بحمله إمكاناتها. ويرجع ذلك إلى التزايد السكاني الكبير، وإلى فتوة السكان، وإلى نمو الرغبة في التعليم، وإلى السياسات التي اتبعتها الدول من أجل تحقيق ديمقراطية التربية وتكافؤ الفرص التربوية، … الخ. كما يرجع إلى الاتجاه نحو أنماط في التعليم مكلّفة (كالتعليم المهني والفني والتعليم العالي). الأمر الذي يستلزم تخفيض كلفة التربية (دون الهبوط بمستواها)، لا سيما عن طريق القضاء على الهدر الناجم عن التسرب والرسوب، وتوليد صيغ تربوية جديدة (بفضل تكنولوجيات التربية العديدة) من شأنها أن تعلّم عدداً من الطلاب تعليماً أفضل بنفس الإمكانات المتاحة. ولا شك أن للعمل العربي المشترك في ميدان التربية دوراً أساسياً في معالجة أزمة نقص الموارد المالية هذه.
ط- المشكلات التي تواجه التربية العربية، والتي سبق أن أشرنا إليها في الفصل السابق، فيما يتصل بغموض غاياتها وفلسفتها، وعدم وضوح سياستها، ونقائص التخطيط لها، وتخلف الإدارة التربوية فيها، وسوى ذلك. وهذه المشكلات التي تبدو تربوية خالصة، وثيقة الاتصال في واقع الأمر بسائر مشكلات تنمية الموارد البشرية والتنمية بوجه عام. ولا بد من أجل معالجتها أن تكون هنالك خطة تنمية شاملة، للمدى البعيد والقريب، تنبثق من فلسفة اجتماعية اقتصادية شاملة واضحة. وانطلاقاً من ذلك يمكن وضع الفلسفة التربوية والسياسة التربوية والخطط التربوية السليمة، على هدى تلك الأهداف والخطط الاقتصادية. وفي هذا المجال تشكو معظم الأقطار العربية من عدم توافر الخطة التي تربط بين حاجات القوى العاملة على المدى البعيد والقريب وبين حاجات التربية. ومن أهم أسباب ذلك عدم توافر البيانات اللازمة عن القوى العاملة، لا سيما من حيث مستواها التعليمي (في كل قطاع من القطاعات وفي كل مهنة من المهن).
ي- ما تستلزمه الاستجابة لحاجات القوى العاملة، من عمل «انتقائي» تربوي، يؤدي إلى العناية بتقديم الإعداد في الاختصاصات المختلفة إلى من يملكون القابليات الحقيقية لها، وإلى من تؤهلهم مواهبهم وقدراتهم إلى الإبداع في مجالها. وهذا يوجب العناية بجانب هام ما يزال مهملاً هو جانب التوجيه التربوي والمهني بأبعاده المختلفة، ذلك التوجيه الذي ينبغي أن يبدأ منذ المرحلة المتوسطة حتى نهاية المرحلة الثانوية وبداية دخول التعليم العالي.
ك- ولا شك أن للعوامل الثقافية (بالمعنى الواسع لكلمة ثقافة) وللعوامل الاجتماعية شأناً أساسياً في تيسير دور التربية في تنمية الموارد البشرية أو في عرقلة ذلك الدور في الوطن العربي. ولا يقتصر ذلك على مواقف أبناء المجتمع واتجاهاتهم وقيمهم، ومعتقداتهم، بل يمتد ليشمل أهمية التضامن، في عصرنا، بين العلوم الإنسانية وسائر العلوم، الأمر الذي يفرض على النظام التربوي ألا يقع في وهم إنكار هذا الدور، شريطة أن يتكامل ويتفاعل مع دور الدراسات العلمية والتكنولوجية وسواها. وبدهي أن تشتمل العناية بالعوامل الثقافية الاهتمام بتكوين الثقافة الذاتية والهوية القومية الأصيلة، فضلاً عن التكوين الخلقي والروحي، وتنمية الوعي الفردي، والقدرة على النقد، وروح التجديد والإبداع.
3- وقد سبق أن فصّلنا الحديث بعض الشيء، في الأقسام السابقة وفي القسم الأخير بوجه خاص، عن هذه الاتجاهات المختلفة التي تمليها على التربية اتجاهات العصر ومشكلات الواقع الاقتصادي والاجتماعي العربي ومشكلات التربية العربية.
غير أنه لا بد من التأكيد، ههنا أيضاً كما فعلنا من قبل، على أن هذه المهمات التي نوكلها إلى التربية من أجل أن تضطلع بدورها في تنمية الموارد البشرية وفي التنمية الشاملة، مهمات لا بد أن تسعفها فيها سائر ميادين التنمية. ومن الوهم أن نحمّل التربية وحدها أعباءها. وقد قلنا في أكثر من موضع أن التربية جزء من نظام أشمل، بل من نظم أشمل وأوسع. وما خصصنا به التربية من مهمات ما هو إلا الجانب التربوي من خطة لتنمية الموارد البشرية لا بد أن تكون شاملة، ولابد أن تكون مكوّناتها متآزرة تسير بخطى متوازنة متناسقة. وتلك هي مهمة التخطيط الشامل للتنمية، وما وراءه من أهداف اقتصادية واجتماعية بعيدة المدى وقريبة المدى.
4- وقد حرصنا في هذا البحث على اقتراح الاتجاهات المأمولة للتربية في الوطن العربي، ولم نمض إلى أبعد من ذلك، أي إلى اقتراح صيغ محددة. ذلك أن من المتعذر أولاً وضع صيغ واحدة في شتى المجالات للأقطار العربية المختلفة ولابد للاتجاهات أن تتلون بلون واقع كل قطر عربي ومشكلاته التربوية وسواها، وأحياناً بلون بعض المناطق ذات الطابع الخاص في القطر العربي الواحد. كذلك، ليس في التجربة العالمية، كما رأينا، صيغٌ نستطيع أن نعتبرها نهائية وصالحة لمختلف البلدان، غير أن فيها اتجاهات تكاد تصبح قدراً لا بد منه بحكم طبيعة العصر وتطوره وبحكم حاجات المستقبل، كما رأينا. ولئن كنا قد دعونا إلى المرونة داخل النظام التربوي، فحريّ بنا أن ندعو إلى مرونة أكبر عندما نتحدث عن تطبيق الاتجاهات المختلفة على أقطار عربية مختلفة. على أن في الأقطار العربية بعض الجدائد التربوية الذائعة في هذا القطر أو ذاك، يمكن أن تفيد منها أقطار عربية أخرى.
5- ولعلنا أدركنا من عرضنا السابق، أن التجربة التربوية في الأقطار العربية مدعوّة، بحكم حاجات العصر المتغيرة ومطالبه المتنوعة وبحكم الحاجات المتعددة والمتعارضة أحياناً في شتى جوانب الحياة العربية، إلى أن توفق في داخلها بين مفارقات عديدة بل تعارضات كثيرة. من أبرزها التوفيق بين مزيد العناية بالإعداد المهني والتقني وبين تقديم المعارف الأساسية وأدوات المعرفة الأساسية. ومنها التأليف بين الاهتمام بالدراسات العلمية والتكنولوجية وبين الاهتمام بالدراسات الإنسانية. ومنها التوفيق بين إحداث فروع من التعليم المهني والتقني والعلمي والتكنولوجي ذات تكاليف عالية، وبين الإمكانات المالية (والبشرية) المحدودة. غير أن العمل التنموي، في أي ميدان، هو في النهاية التأليف بين العوامل المتباينة والأهداف المختلفة، وتوحيد الأضواء، وإيجاد المثلى من التوازن بين عوامل الجذب المختلفة.
6- وأخيراً قد نلخص جملة الآمال التي رجونا أن تضطلع بها التربية في الأقطار العربية من أجل تنمية الموارد البشرية والتنمية بوجه عام، بقولنا إنها كلها تنطلق في نهاية الأمر من وجود قيادة تربوية واعية وفعّالة.. وإذا كانت إدارة التنمية أهم مستلزماتها وأبرز ما يعوزها في الوطن العربي (وسواه) فإدارة التربية إدارة واعية قادرة، رأس ما تستلزمه التنمية التربوية وأبرز ما تفتقده.
أهم مراجع البحث
1- مركز دراسات الوحدة العربية ومركز الدراسات العربية المعاصرة (جامعة جورجتاون): العقد العربي القادم: المستقبلات البديلة، بيروت، 1986.
2- منظمة العمل العربية: ندوة إستراتيجية تنمية القوى العاملة العربية (بغداد 4-6 ديسمبر/ كانون الأول 1982) الجزء الأول.
3- مركز دراسات الوحدة العربية: التنمية العربية، الواقع الراهن والمستقبل. بيروت 1984.
4- اليونسكو: التجديد وديمقراطية التعليم في الدول العربية. وثيقة العمل الرئيسية لاجتماع كبار المسؤولين عن التربية والتعليم في الدول العربية (عمان، 22-26 يونيو / حزيران 1987).
5- عبد الله عبد الدائم: التربية في البلاد العربية. دار العلم للملايين، الطبعة الثانية (مزيده) بيروت 1982.
6- عبد الله عبد الدائم: الثورة التكنولوجية في التربية العربية. دار العلم للملايين، بيروت 1973.
7- عبد الله عبد الدائم: التخطيط التربوي. دار العلم للملايين، الطبعة السادسة بيروت، 1985.
8- عبد الله عبد الدائم: التعليم العالي والجامعي في مواجهة التغير الجذري السريع في البني الاقتصادية والاجتماعية للعالم الحديث اليوم وفي مواجهة وعود المستقبل. بحث مقدم إلى مؤتمر اتحاد الجامعات العربية الخامس (عدن 19-21 فبراير شباط 1985). وقد نشر في مجلة اتحاد الجامعات العربية، العدد العشرون، أيلول/ سبتمبر 1985.
9- عبد الله عبد الدائم: التربية وإستراتيجية تنمية القوى العاملة. بحث مقدم إلى ندوة إستراتيجية تنمية القوى العاملة العربية، التي عقدتها المنظمة العربية ببغداد (من 4-6 ديسمبر/ كانون الأول 1982). وقد نشر ضمن المجلد الذي ضمّ أعمال الندوة المذكورة، والذي سبقت الإشارة إليه في (2).
10- UNESCO: International Yearbook of Education، Volume XXXVII – 1985.
11- UNESCO: Contents of Education، 1987.
12- UNESCO، IIPE: L’Education en URSS: Planification et development récent، Paris، 1981.
13- O.E.C.D.: Education in Modern Society، Paris، 1985.
14- O.E.C.D.: Education and Training after Basic Education، Paris، 1985.