“التربية بين وعودها وحدوها”

1-1- هنالك ميادين من النشاط الإنساني تجللّها هالة من السحر والقدسية، على رأسها ميدان التربية. لقد حمّل هذا الميدان منذ قديم القدم ما يحتمل وما لا يحتمل من قدرة على بناء النفوس وبناء الأمم. وإليه كانت تشخص الأعين دوماً في عهود الرخاء واليسر بحثاً عما يضفيه على حياة الناس من متع نفسية وتأنق لذّ، ونحوه كانت تهرع المجتمعات في الشدائد وحين الضنك والعسر، لتجد في بلائه وعطائه المنقذ والمخلّص.
وارتياد مثل هذه الميادين المحملة بما يشبه الطاقة الصوفية أو الغيبية، مغامرة لا تخلو من مخاطر. فكثيراً ما يكون استصراخها والاطمئنان إلى إعجازها صنيع من لا يريد أن يواجه الواقع بأوجهه المختلفة وعقده المتآخذة المشتبكة. والنظرة الأحادية في معالجة الأمور، تخفي وراءها دوماً قصوراً في النظرة الكلية الشاملة، ونزوعاً إلى التبسيط المريح والتعليل المفرد الذي لا يقبله منطق الواقع المعقد ذي الأوجه الكثيرة، وذي الأسباب المتعانقة في إطار صلة دائرية متكاملة.
1-2- ولندع التلميح ولنمض تواً إلى التصريح. ولنطرح منذ البداية، على نحو فجّ صارخ، السؤال الآتي:
هل في وسع التربية حقاً أن تصوغ العباد والبلاد؟ هل تقوى على تغيير الواقع وتطويره بفضل ما تقدمه من زاد ثقافي ومن دربة وإعداد؟ وهل أدواء المجتمع – كما يتبادر إلى كثير من الأذهان – وليدة علل التربية ونقائصها؟ هل التربية هي المتهم الأول عندما تتردّى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في بلد من البلدان؟
أسئلة لا بد من الإجابة عليها إجابة علمية ناضجة، إذا أردنا أن نضع التربية في موضعها الصحيح من مشكلات أي مجتمع ومن بناء حياته والإرهاص بمستقبله. ولا يجدي هنا – كما لا يجدي في أي مجال – أن يكون التصور الذي نحمله ملفّعاً بالضباب والغموض، كما لا تجدي المواقف الصوفية التي تخشى على حرم التربية أن يدنّس حين تثار حولها الشكوك.
1-3- ولعلكم واجدون – فيما سبق من تساؤلات – ضرباً من التشكيك في شأن التربية، بل لعلكم واهمون أننا نزري بهذا الميدان الإنساني الرفيع. وما الأمر كذلك. ذلك أن منطلقنا الأساسي هو أن إدراك دور التربية إدراكاً حقيقياً واقعياً هو القمين بأن يرفع من مكانتها ويجزل عطاءها. منطلقنا أن ندرك بوضوح الساحة التي تعمل فيها التربية، والشبكة المتآخذة التي تنتسب إليها، لنتبيّن مكانها في هذا كله ولنعلم كيف تنطلق إذا هي أرادت أن يكون لها في تلكم الساحة والشبكة دور واقعي جاد تضطلع به.
1-4- ولسنا في حاجة إلى فتح أبواب مفتوحة وإعادة أقوال مكرورة، تبين شأن التربية ودورها الكبير على مرّ الدهور. ولسنا في حاجة إلى إيراد الأمثلة الكثيرة التي تشهد بما كان للتربية من دور حاسم في نهضة الشعوب قديماً وحديثاً، وأبرز الأمثلة على ذلك في العصور الحديثة اليابان والدانمارك. بل لسنا في حاجة إلى أن نعيد إلى أذهانكم تلكم الحقائق التي شاعت وذاعت بعيد الحرب العالمية الثانية بوجه خاص، والتي بينت، عن طريق الدراسات الاقتصادية والإحصائية الكثيرة، ما يؤدي إليه توظيف الأموال في التربية من ثمرات وعائدات اقتصادية ضخمة، وما للموارد البشرية وإعدادها من قدح معلّى في زيادة الدخل القومي. بل لسنا في حاجة إلى أن نذكركم بالأبحاث والدراسات المختلفة التي بينت دور التربية في تكوين القدرة على التكيف لدى الأفراد والجماعات، وهي قدرة تحتل مكان الصدارة في أي تنمية اقتصادية واجتماعية، كما بينت دورها في تعهد روح الخلق والإبداع، تلكم الروح التي هي منطلق التجديد لا سيما في الثورة الصناعية الثانية، الثورة العلمية التكنولوجية.
1-5- تلكم حقائق بدهية نفضتها الأقلام وطوتها الصحف وملأت من الورق ما يكاد يفضي إلى الغرق. وهمنا نحن أن نطرح أمامها وأمام أمثالها من الحقائق التي تكشف عن دور التربية الذي لا يتنازع فيه اثنان، السؤالين الآتيين:
السؤال الأول: أي تربية تلك التي نرجو أن تكون توظيفاً مثمراً يؤدي إلى التنمية الشاملة في مجتمع من المجتمعات؟
والسؤال الثاني: إن نحن حددنا طراز التربية التي نرجو من ورائها التنمية الشاملة والتقدم المتكامل، فهل في وسع التربية أن تحقق ذلك الطراز أم أنها تواجه عقبات ليست من جنسها، خارجة عن سلطانها، تحول بينها وبين تحقيق النمط الأمثل من التربية المنشودة لمجتمع من المجتمعات؟ وما السبيل إلى مغالبة تلك العقبات إن وجدت؟
2- معالم التربية المؤدية إلى التنمية الحضارية الحقة:
ولنبدأ بالسؤال الأول: ما هو طراز التربية القمين بأن يجعل منها أداة ناجعة من أدوات التقدم الشامل والتنمية الشاملة؟
ونبدأ بالقول إن وراء هذا السؤال حقيقة نود أن نجلوها بوضوح. وهي أن التربية المؤدية إلى التقدم والتنمية ليست أي طراز من التربية، بل هي تربية نضع مسبقاً في بنيتها ومحتواها ووسائلها ما يجعلها قادرة على أداء هذا الدور. وقد يبدو هذا القول ضرباً من تحصيل الحاصل ومن تفسير الماء بالماء. وليس الأمر كذلك: فكم من تربية تصبح عبئاً على التنمية الاقتصادية والاجتماعية حين تسير في عكس أهدافها، وكم من نظام تربوي لا يعدو أن يرفع البطالة الجاهلة إلى بطالة مثقفة، وكم من تعليم يكاد يجعل هدفه المضمر تكوين حشد من أصحاب الياقات البيضاء حتى في ميادين عملية كالعلوم والهندسة! أو لم تبين بعض الإحصاءات الحديثة أن حوالي 30% من حملة الشهادات الجامعية في أمريكا اللاتينية عاطلون عن العمل، وأن هؤلاء العاطلين من حملة الشهادات العليا يبلغون 12% في إفريقيا، بل يبلغون ثلث حملة الشهادات العليا في الفلبين؟ أفلا نجد في بلد كسريلانكا أن 72% من العاطلين عن العمل هم من خريجي التعليم الثانوي أو العالي؟ ولو كانت التربية، أي تربية، تؤدي إلى التنمية الحقة سهواً رهواً، فلماذا نجدها مقصّرة في معظم البلدان النامية، ومن بينها البلدان العربية، عن أن تخلق التقدم العلمي التكنولوجي، على الرغم من الأعداد الهائلة التي تختلف إلى المدارس والجامعات وعلى الرغم من ضخامة ما ينفق على التربية؟ أفلا يصل الإنفاق على التربية في بعض البلدان النامية إلى حوالي 6% من الدخل القومي، وهي نسبة لا تكاد تبلغها أكثر الدول تقدماً؟
وفوق هذا وذاك، كيف تولّد التربية الإبداع والابتكار والتجديد في بعض البلدان، بينما تطفيء ومضات الابتكار في بلدان أخرى وتطمس صبوات التجديد تحت وطأة قيم التسلط والمحافظة والتقليد؟
ذلكم قليل من كثير من التساؤلات والحقائق التي تبيّن أن التربية المرجوة للتقدم والتنمية الشاملة وبناء الحضارة الحقة ليست أي نوع من التربية، بل هي تلكم التربية التي وضعنا فيها سلفاً ما نود أن نستخرجه منها. إن فتح أبواب المدارس على مصراعيها ليس وحده معيار ديمقراطية التربية فضلاً عن أن يكون معيار التنمية. وإن تعميم التعليم الابتدائي بل والثانوي شرط لازم ولكنه ليس كافياً لتكافؤ الفرص التعليمية، من جانب، ولتوفير التربية المنتجة المثمرة، من جانب آخر. وإن توسيع الالتحاق بالتعليم العالي لا يقود بالضرورة إلى توسيع وقعة الثقافة وساحة الإنتاج في بلد من البلدان. ومما يؤسف له أن معظم النظم التربوية في البلدان النامية، بل وفي بعض البلدان المتقدمة، سارت في توسعها التربوي منقادة غير قائدة، وعملت غالباً تحت وطأة التزايد السكاني، وتزايد الطلب الاجتماعي على التعليم وحدهما، دون ما التفات إلى تخطيط يمسك بزمام الأمور ويحيل التوسع الوحشي، إن صح التعبير، توسعاً منظماً محملاً ببذور التنمية والتقدم.
وما دام الأمر كذلك، وما دامت التربية الواعدة تربية من طراز معين، فما هي إذن القسمات والسمات الخاصة لمثل هذه التربية؟ سؤال كبير ضخم هيهات أن نقوى حتى على لمسه لمساً رقيقاً:
2-1- التربية وحاجات العمالة:
ولعل أول ما يخطر على البال في هذا المجال، القول بأن التربية الحقة ينبغي أن تلبّي حاجات سوق العمل، وأن تكون بينها وبين مطالب العمالة صلة عضوية مكينة.
وهذا قول سديد، وإن يكن مكروراً. ولكننا نقيّده بأربعة قيود أساسية:
2-1-1- أولها أن حاجات سوق العمل ينبغي أن تفهم على أنها تلك الحاجات المتجددة المتطورة التي تجري في عصر سمته التحرك السريع والتغير السريع في بنية الأعمال وأدواتها. ومن غير الجائز أن تكون إسقاطات العمالة والإعداد التربوي لها مستندة بالتالي إلى بنى العمالة وحاجاتها الحالية أو حاجاتها القريبة المدى، ولا بد من دراسات تحسبية طويلة الأمد، تأخذ بعين الاعتبار انقراض العديد من المهن وبزوغ مهن جديدة، وتحيط علماً بالتحولات الجذرية السريعة في العلم والتكنولوجيا وحاجاتهما. وعلى رأس ما ينبغي أن يعار أهمية خاصة في هذا المجال، ظهور الثورة الصناعية الثانية، ثورة العلم والتكنولوجيا المختلفة في الطبيعة لا في الدرجة عن الثورة الصناعية الأولى كما يقول ثقات المحللين، وما يلحق ذلك من حلول الآلة محل الإنسان في معظم المجالات، وإلى انتقال نشاط الإنسان من مرحلة الإنتاج نفسها إلى المرحلة السابقة على الإنتاج وما يصاحبها من بحث ودراسة وتخطيط، إلى المرحلة التالية للإنتاج وما تحتاج إليه من إدارة وتسيير. ولعل الفرصة الأخيرة السانحة للدول النامية، على حد تعبير الكاتب الفرنسي «موريس غيرنييه M. GUERNIER» هي في أن تدخل تواً وبضرب من المقربة دروب الثورة الصناعية الثانية، دون أن تتريث طويلاً عند الثورة الصناعية الأولى. ولا شك أن هذا يستلزم إرهاصاً بالعمالة من طراز جديد وإعداداً لها مر طراز جديد أيضاً. أفلا يحدثنا الباحثون عن التغيرات الجذرية في هياكل حياتنا بوجه عام وفي ميدان الأبحاث العلمية والتكنولوجية والاجتماعية بوجه خاص؟ أفلا يحدثوننا عن التغيرات الكبيرة المذهلة التي توميء إليها الأبحاث في ميدان الطاقة، حيث تصل التطلعات إلى تحويل النور إلى كهرباء وإلى إنتاج الكهرباء من المنابع الحرارية في جوف الأرض؟ أفلا يطنبون في الحديث عن التبدلات الجذرية في أدوات الصناعة، وإلى استبدال علم الإلكترون الكوانتي ونظرية المعلوماتية والبيولوجيا الجزيئية وعلم البحار وعلم البيئة وعلم الفضاء بالأدوات الصناعية التقليدية التي كانت تستند إلى «الكهروميكانيك» و«الإلكتروديناميك»؟ ونرد المستزيد في هذا المجال إلى كتاب «توفلر TOFFLER» الشهير «الموجة الثالثة». والذي يعنينا من هذا كله انعكاسات هذه التغيرات الجذرية في العلوم المختلفة على إعداد القوى العاملة وعلى مناهج التربية بوجه عام ومناهج التعليم العالي بوجه خاص.
2-1-2- وثاني القيود أن الربط بين التربية وحاجات العمالة ليس مسألة نبوءات وحسابات وإسقاطات كمية فحسب، ولا هو مجرد توازن بين حاجات سوق العمل المختلفة وبين اختصاصات خريجي النظام التربوي، بل هو عمل ينبغي أن يصحبه جهد هائل في تطوير التربية تطويراً كيفياً نوعياً. ومحتوى التربية في هذه الحال ينبغي أن يكون موضع عناية خاصة. أفلا نجد هذه المفارقة الغريبة في كثير من البلدان النامية: وهي أن خريجي التعليم الثانوي المهني والفني، على قلتهم، لا تمتصهم سوق العمل، رغم حاجة هذه السوق نظرياً إلى كثير الكثير منهم؟ ولا ترجع المفارقة إلى عدم نمو سوق العمل نفسها نمواً كافياً، بمقدار ما ترجع إلى عدم امتلاك هؤلاء الخريجين الخبرة اللازمة للعمل فيها.
وخلافاً لما يمكن أن نتصور، لا يعني تطوير محتوى التربية تحقيقاً لأهداف العمالة مجرد العناية بذلك المحتوى في المدارس المهنية والفنية وفي الكليات العلمية والعملية، بل يعني فوق هذا العناية به في سائر أنواع التعليم وبمراحله، ولا سيما في مرحلة رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية والمرحلة المتوسطة والثانوية. فالاتجاهات السليمة نحو العمل والمواقف اللازمة من الإنتاج، وروح الإبداع والابتكار، أمور تتكون جميعها منذ نعومة الأظفار، وتزداد رسوخاً أو ضموراً في مراحل العمر التالية. واكتشاف فضائل استعمال الأصابع الخمس وما في اليد من عقل يفوق العقل الذي في الرأس، على حد تعبير غاندي، عمل موصول ينبغي أن يبلّل النظام التربوي كله. واعتياد العمل المنتج وألفة حياة العمل والعمال، مواقف لا بدّ أن تنبث في جنبات التربية في شتى مراحلها وأنواعها. ومحتوى التربية كثيراً ما يكون طارداً بطبيعته لقيم الإنتاج والعمل، بل نابذاً لروح الخيال نفسها على كونها من عمد الابتكار وصلب الصناعة الحديثة بوجه خاص والتطور العلمي التكنولوجي بوجه عام. ومن هنا حقّ لكاتب مثل «مونتيني MONTAIYNE» أن يسائل: لماذا نجد ذلك العدد الكبير من الأطفال الأذكياء، وذلك العدد الهائل من الراشدين الأغبياء؟ وأن يجيب على تساؤله قائلاً: لا شك أن التربية مسؤولة عن ذلك.
2-1-3- وثالث القيود أن التربية التي نحكم ربطها بحاجات العمالة تحقيقاً للتنمية الشاملة، ينبغي ألا تقتصر على التربية النظامية، بل لا بد أن تشمل التربية غير النظامية بل العارضة العفوية. فنظام التربية لم يعد مقصوراً على مراحل التعليم المألوفة التقليدية، بل غدا شبكة واسعة من النشاطات التربوية تشمل مراحل العمر جميعها وتتمّ في مواقع شتى، ويكون كل إنسان فيها معلماً ومتعلماً معاً. ومن مكرور القول أن نؤكد على أهمية التربية غير النظامية، التي تتمّ بشتى وسائل التدريب وتجديد التدريب في مواقع العمل نفسها، في تحقيق الربط العضوي الحيّ بين التربية وبين حاجات سوق العمل. غير أن ما لا بد من قوله هو أن دور التربية غير النظامية لم يعد دوراً «تصحيحياً» محضاً، يصلح آثار التربية النظامية ويتعهدها بإعادة التدريب وتجديده تبعاً للحاجات المتطورة للقوى العاملة وتبعاً لتغير وسائل الإنتاج، بل غدا فوق هذا وقبل هذا دوراً «مكملاً» للتربية النظامية لا تحقق أهدافها كاملة بدونه. وعلى هذه التربية النظامية أن تغير من بناها ومحتواها بل من أمدها، في ضوء مثل هذه التربية غير النظامية.
يضاف إلى هذا أن النبوءات المتصلة بحاجات القوى العاملة وبما يقابلها من مخرجات التربية، نبوءات ناقصة لا تخلو من بعض الرجم بالغيب، على الرغم من تطور أساليبها وتقنياتها، لا سيما في عصر حوّل قلب، سمته الأولى التغير والتغير السريع، وفي بلدان نامية يصعب فيها بالضرورة تقدير حاجات العمالة في ظل التكنولوجيا المجلوبة بل المفروضة. ومن هنا كان لا بد من تربية موصولة لقوة عاملة متجددة وسط حاجات لسوق العمل ما تكاد تستقر على حال. لا بد من تربية مستمرة، تربية من المهد إلى اللحد. أو لم يرد عن «علي بن أبي طالب» كرم الله وجهه: يظل المرء عالماً ما طلب العلم فإذا ظن أنه علم فقد جهل؟ أو لم يجب «عمرو بن العلاء» من سأله عن حدّ العلم، قائلاً أنه الحياة؟
2-1-4- ورابع هذه القيود وآخرها أننا حين نجعل من أهداف التربية المحملة بالوعود أن تربط بين حاجات التربية وحاجات العمالة، ينبغي ألا نعني بحاجات العمالة هذه المعنى الضيّق الشائع، الذي يكاد يردّ هذه الحاجات إلى ما تتطلبه القطاعات الاقتصادية المنتجة، كالصناعة والزراعة والمؤسسات التجارية وسواها. فتلبية حاجات العمالة لا يجوز أن تعني تلبية الحاجات الاقتصادية بالمعنى المباشر لهذه الكلمة. وحاجات العمالة بالتالي ينبغي أن تشمل الحاجات في المهن الاجتماعية والثقافية والإنسانية، كما تشمل الحاجات في المهن الاقتصادية المحضة. والتنمية لا تعني مجرد النمو الاقتصادي بل تعني ما هو أبعد وأعمق نعني النمو الاجتماعي والثقافي والحضاري. وليست مهمة التربية أن تخلق الإنسان الاقتصادي، بل مهمتها أن تخلق حضارة الإنسان. وسنتريث عند هذا الجانب بعد حين.
تلكم إذن، بلغة برقية مخلّة، سمة أساسية من سمات التربية الواعدة المؤدية إلى التنمية الحقة. وواضح من عرضنا الخاطف أن دون تحقيق هذه السمة أهوالاً وأهوالاً.
2-2- التربية والعوامل الاجتماعية الثقافية:
2-2-1- على أن تلبية حاجات العمالة، وإن شملت العمالة في الميادين الاجتماعية والثقافية والإنسانية، لا تعبّر عن سائر سمات التربية المرجوة لتحقيق التنمية الحضارية الحقة. والوفاء بحاجات العمالة، كما قيل وقيل خلال العقود الأخيرة، شرط لازم غير أنه غير كاف لتحقيق دور التربية كاملاً. ولا ننسى أن ربط التربية بحاجات العمالة فكرة أطلقها رجال الاقتصاد، ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، حين استبان لهم أن النمو الاقتصادي لا يحقق أغراضه إذا لم يصحبه نمو في الموارد البشرية. وقد تلقّف التربويون هذه المقولة التي قال بها رجال الاقتصاد، بل غلوا فيها أحياناً. ولسنا ممن ينكر أهمية الربط بين حاجات التربية وحاجات العمالة، لا سيما في مثل بلادنا النامية. غير أننا لا بد أن نؤكد في الوقت نفسه أن للتربية أهدافاً ثقافية محضة، تتجاوز حاجات العمالة، ولو كان بعض تلك الحاجات اجتماعياً وثقافياً وإنسانياً كما ذكرنا. لا سيما أن آثار التربية الثقافية تؤدي حتماً على المدى البعيد إلى غنى في شتى جوانب الحياة، يرتد على الجوانب الاقتصادية نفسها. والتوظيف في الإنسان، لا يعني مجرد إعداده المباشر ليمتهن مهنة، بل يعني تفجير طاقاته الخلاقة وتيسير انطلاقه في معارج الإبداع بأنواعه المختلفة، بفضل الثقافة بالمعنى العميق والأصيل لهذه الكلمة. فالثقافة عروج وصعود بالإنسانية، لا يعرف حداً، من خلاله يبتدع الإنسان وجوده المتجدد على الأرض ورسالته فيها، ويسعى نحو هدف كالأفق يبتعد عنه كلما اقترب منه، هدف بناء الحضارة الجديرة بالإنسان، هدف يشدّه وما هو ببالغه.
2-2-2- ولندع معارج الثقافة وأخيلتها المجنحة، ولنمض إلى الواقع البسيط، لنقول إن التربية الحقة لا يمكن أن تهمل مثلاً تربية ربات البيوت، وإن كنّ خارج القوة العاملة، ولا تستطيع أن تغفل شأن الفن بأشكاله المختلفة وإن تعذّر أن يقاس عطاؤه الاقتصادي، ولا يجوز لها أن تتناسى العناية بالقيم، قيم الحق والخير والجمال، وإن يكن عطاؤها لا يزان بميزان ولا يقاس بمقياس. بل حسبنا أن نقول إن ظهور موسيقي عبقري كبيتهوفن أو قصّاص ضخم كدوستويفسكي أو شاعر فذ كشكسبير أو رسام مبدع كبيكاسو، أو سواهم من كبار المبدعين في شتى جوانب الحياة، أحداث ضخمة في حياة الأمم وفي حضارة الإنسان، يقف المردود الاقتصادي أمامها مذعناً عيّاً.
2-2-3- ثم أن التربية الحقة مدعوة، إلى جانب تلبية حاجات العمالة، إلى تحقيق العدالة والديمقراطية الحقيقية. والديمقراطية في التربية لا تعني مجرد فتح أبواب التعليم للجميع. فهنالك عوائق اقتصادية واجتماعية تجعل من العسير دوماً على أبناء الطبقات الفقيرة، وعلى أبناء العمال والفلاحين، أن يرتادوا مؤسسات التعليم، ولا سيما في مراحل التعليم العليا. والدراسات المتصلة بالمنشأ الاجتماعي للطلاب، سواء في التعليم الثانوي أو التعليم العالي، أصبحت متكاثرة في بلداننا وسواها، تشير جميعها إلى أن المدرسة ما زالت مفصّلة في معظم بلدان العالم على قدّ أبناء الطبقات الموسرة. ومن أجمل ما كتب في ذلك كتاب عنوانه «رسالة إلى معلمة مدرسة». والحديث ذو شعاب إن نحن أردنا أن نعرض بشيء من التفصيل إلى «الانشطار الطبقي» في اللغة. وقد كان من أول من أشار إلى هذا الموضوع العلامة «ابن خلدون» نفسه. أو ليس من الصحيح أن توزع العمالة يكرّس التمايز الطبقي في كثير من الأحيان؟ وهذا التمايز في توزيع العمالة انعكاس بدوره لمخرجات النظام التربوي، وهي بدورها انعكاس لمدخلاته، ومدخلاته كما ذكرنا لا يتحقق فيها مبدأ تكافؤ الفرص إن لم يتخذ النظام التربوي تدابير محددة لتيسير انتساب أبناء الطبقات المحرومة إلى مراحله وأنواعه المختلفة. أو لم يبيّن أمثال «بورديو BOURDIEU» و«باسرون PASSERON» في فرنسة، إن المدرسة الفرنسية نفسها تعيد توليد النظام الرأسمالي الذي ولّدها، على الرغم من تقدم النظام الفرنسي في مجال ديمقراطية التربية عن نظائره في كثير من البلدان المتقدمة، ولا سيما الولايات المتحدة؟ أفلا يؤدي الإصلاح التربوي الجديد في الولايات المتحدة، كما بيّن ثقات المحللين، إلى نبذ الاتجاهات الاجتماعية التي سادت الإصلاح التربوي في الستينيات، والتي أكدت على أهمية العناية بالأقليات ومشكلاتهم وبالمسائل العرقية والفقر وسوى تلكم من مشكلات المجتمع الأميركي؟
2-2-4- وبعد، بعد أن ساد خلال العقدين اللذين أعقبا الحرب العالمية الثانية، الاهتمام بالربط بين التربية والتنمية الاقتصادية بوجه خاص، أخذت العناية تتجه في العقود الأخيرة إلى الربط بين التنمية وبين الثقافة، لا سيما إذا فهمنا الثقافة بمعناها الواسع، المعنى الأنثروبولوجي، وعرّفناها بأنها أنماط السلوك الخاصة السائدة في مجتمع من المجتمعات سواء كانت مادية أو معنوية. ولقد غدا من المكرور والمعاد اليوم أن يقال أن الثقافة وسيلة التنمية وغايتها في آن واحد. ولقد انطلق الباحثون في السنوات الأخيرة نحو توجيه عناية خاصة إلى الدور الذي تلعبه العوامل والمفاهيم الثقافية في التنمية: من مثل مفهوم الهوية الثقافية للشعوب، ونظرتهم الخاصة إلى الكون والأشياء، وقيمهم التي يؤثرونها، ومواقفهم واتجاهاتهم المتصلة بالعلم أو العمل أو الإنتاج، وإدراكهم للزمن ومعناه، وطراز تربية الأطفال، ونمط الحياة الأسرية، بل حتى أنماط حياتهم المادية من مأكل ومشرب وملبس، وآداب سلوكهم في التحية أو المخاطبة وسوى ذلك كثير. ولم يقف الباحثون عند هذا الحدّ بل خطوا خطوة أخرى هامة حين انطلقوا إلى القول بأن الثقافة ليست عاملاً هاماً من عوامل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بل هي هدف هذه التنمية وغايتها البعيدة. ولا يعني هذا أن تتقوقع كل ثقافة حول ذاتها، بل يعني أن يكون الهدف النهائي للتنمية لدى كل أمة تكوين ثقافتها الذاتية، بحيث تكون من هي، وبحيث تدمج التجربة العالمية في كيانها الذاتي. مولّده مركباً أصيلاً فريداً. فالغربة الثقافية والاستلاب الثقافي، والنقل والتقليد، والاستهلاك من دون الإنتاج، والذوبان في ثقافة واحدة وحيدة تغزو العالم اليوم، عوامل سلبية تحول دون التنمية الحقة كما أنها تنأى عن هدف التنمية النهائي، نعني بناء الحضارة ذلك البناء الذي لا يكون ولا يستقيم إلا إذا قام به أبناؤه. وأي تنمية حقة ترجوها البلدان النامية اليوم وسط تلك الهجمة الشرسة للثقافات الغريبة، بل لنموذج ثقافي يكاد يغزو العالم المتقدم والمتخلف، نعني نموذج الثقافة الأميركية؟ أو لم يتحدث المتحدثون عن أخطار «تسطيح» الثقافة، أخطار خضوعها كلها لنموذج وحيد يعتبر هو الأمثل ويعتبر البعد عنه تخلفاً؟ أو لم يُشر أمثال «إيف أود IVES EUDES» إلى مخاطر «غزو العقول» في كتاب له شهير يحمل هذا العنوان، صدر عام 1982؟ أو لم يحدثنا «هربرت شيللر HERBERT SCHILLER» عن «المتلاعبين بالعقول THE MIND MANAGERS» في كتاب له يحمل هذا العنوان صدر عام 1974، وترجم إلى العربية حديثاً ونشر في سلسلة عالم المعرفة؟ أو لم يوجه وزير الثقافة الفرنسي في المؤتمر الثقافي العالمي الذي عقدته منظمة اليونسكو في المكسيك عام
1982، ذلك النداء الصارخ الذي جاء فيه «أن الإبداع الثقافي والفني هو اليوم ضحية للنظام المالي الذي تسيطر عليه الشركات المتعددة الجنسية»؟ أو لم يناد بحرب مقدسة ضد تلك الإمبريالية المالية والفكرية التي تغزو العقول وتمتلك أنماط التفكير وأساليب الحياة؟
2-2-5- ويطول بنا الحديث إن نحن حاولنا أن نقتحم هذا الميدان الكبير والخطير، ميدان تأكيد الهوية الثقافية للشعوب، بوصفه وسيلة وغاية للتنمية. وقد يقودنا ذلك إلى تحليل شائك وصعب لنماذج الحضارة العالمية السائدة. وأمامنا فيما يتصل بشأن النموذج الثقافي الذاتي تجربتان مفيدتان رائدتان: تجربة اليابان التي حققت التجديد والتطوير المذهل في حياتها عن طريق الجمع بين طرفين: أحدهما الإمساك بأحدث أدوات التقدم العلمي والتكنولوجي ووسائله، وثانيهما الحفاظ على خصوصية المجتمع التقليدي الياباني القائم على فكرة الوفاق الاجتماعي وروح العمل القومي المشترك. والتجربة الثانية تجربة الصين التي كانت ثورتها ثورة قومية تحريرية شعبية شاملة شاركت فيها قطاعات المجتمع كافة، باستثناء القليل من الطبقات الرأسمالية التابعة للاستعمار. وهذه المشاركة القومية الشاملة أنبتت البعد الثقافي القومي للاشتراكية الصينية، وكانت من أهم أسباب ابتعادها عن الاتحاد السوفياتي ما دامت قد رفضت «فكرة الحضارة الاشتراكية العالمية».
وفي الجملة ظهرت منذ مطلع السبعينيات بوجه خاص في العديد من البلدان النامية فكرة «الاعتماد على القوى الذاتية» وفكرة «الخصوصية» ونتج عن ذلك ظهور مفهوم «الإبداع الذاتي» في شتى المجالات. وقد تبنت هذا المفهوم، بعد صياغته عام 1978، مؤسسات وهيئات عالمية ودولية عديدة. والحق، أن آسيا كلها، الوسطى والشرقية، التي تدور حول المحور الصيني – الياباني، تشهد تجربة هامة في ميدان تعددية الفكر والفلسفة. وهي تجمع جمعاً واضحاً – على اختلاف نظمها السياسية – بين التراث الحضاري وبين التجديد أو الثورة.
2-3- التربية وتنمية طاقات الفرد:
ولكن، لا بد أن ندع هذا الاستطراد الذي قادنا إليه حديثنا عن دور الثقافة في التنمية، لنعود أدراجنا إلى قسمات التربية المرجوة للتنمية الحقة. وههنا نجد – بعد البعد المتصل بحاجات القوى العاملة وبعد البعد المتصل بالثقافة وما وراءها من عوامل اجتماعية – بعداً ثالثاً هاماً، هو ثالثة الأثاني في الموقد التربوي الذي يغل لنا التنمية. هذا البعد هو البعد الفردي.
2-3-1- ذلكم أن تنمية الفرد واستخراج كامل طاقاته، من عوامل التنمية الأساسية، التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة. ولا يجزي في تنمية الفرد هذه أن نكوّنه منتجاً، أو أن ننمي ثقافته بالمعنى الواسع للكلمة وأن نربطه بالقيم الثقافية والحضارية التي نرجوها لمجتمعه، كما لا يكفي لتفتيح طاقاته أن نربطه بدوره الاجتماعي. صحيح أن الفرد يزكو من خلال ارتباطه بثقافته وأمته، ومن خلال اضطلاعه بتحقيق أهداف مجتمعه. وصحيح أن التربية القومية والاجتماعية هي المنبت الملائم ليكون الفرد من هو، أي ليحقق ذاته ووجوده على أكمل وجه. غير أن أي حضارة حية هي الحضارة التي يتم تمثلها من قبل أبنائها من أجل تجاوزها وبنائها بناءً جديداً. والتجاوز لا يعني النقض والهجران. وأي ثقافة وأي أهداف اجتماعية تتصلب وتصاب بأمراض «التكلّس» والعقم، إذا لم يدفع بها أبناؤها إلى الأمام، عن طريق امتلاكهم القدرة على فهمها من أجل نقدها وتجديدها. وهذا لا يتم إلا إذا تحققت لهم الأوبة إلى ذاتهم، من خلالها يرون ويمحصون ويحكمون.
2-3-2- وبتعبير آخر، لا شك أن الاندماج بالمجتمع وقيمه وأهدافه يحرر الإنسان من حياته الغرزية ويرقى به إلى مستوى حضاري جدير بالإنسان، يدرك من خلاله تراث مجتمعه وتراث الإنسانية. غير أن هذا الاندماج، حين يكون اتباعاً خانعاً، كما نجد في بعض المجتمعات البدائية والقديمة التي يحدثنا عنها «برغسون BERGSON» في وصفه لما يدعوه بالمجتمعات المغلقة، ينقلب من جديد إفقاراً للذات ودوراناً في فراغ. ولا بد أن يرافق هذا الاندماج، إن نحن أردناه خلاّقاً، توليد نظرة نقدية، تضع أهداف المجتمع موضع التساؤل، وتسلّط عليها ما شدأته من الاتصال بعالم القيم الإنسانية، وما جنته من التواصل مع التجربة الإنسانية أنّى كانت.
ومعنى هذا أن التربية المرجوة لأغراض التنمية، لا بد أن تعنى بتكوين القدرة على النظرة المستقلة لدى الفرد عنايتها بدمجه بمجتمعه وأهدافه، ولا بد أن تكون عوناً للفرد على أن يؤوب إلى ذاته ويمتلك حريته عن طريق وعيه بمصيره الحق، بمصير الإنسان وقيمه. وإذا أردنا أن نستخدم لغة الدراسات النفسية الخاصة «بالإبداعية CREATIVITY» قلنا أن مثل هذه التربية ينبغي أن تكون لدى الفرد «الذكاء المجانف» مستخدمين هنا الترجمة التي يقدمها الصديق الدكتور فاخر عاقل لكلمة DIVERGENT، وليس مجرد «الذكاء المقارب»، بحيث يقوى على تفتيق دروب متعددة للمشكلة الواحدة، وبحيث يستطيع أن يطلق، من خلال بحثه في أي موضوع، أشعة متباعدة غنية بالتصورات المتباينة للمسألة وبالحلول المتكاثرة لها: وهو إذ ذاك يملك الخيال المجدد، ويملك النظرة النقدية المبدعة، ويستطيع أن يجدد ذاته ومجتمعه. ولا يتأتى له ذلك إلا إذا كان على رأس مهمات التربية أن تساعد الكائن على أن يعرف نفسه ويعيد بناء ذاته بغير حد، وأن تعينه على أن يكتشف مركز النظرة إلى الحياة الخاصة به. ففي كل كائن سر، على حد تعبير «فولييه FOUILLEE»، هو سر حريته الخلاقة الخاصة به. ومن هنا حقّ «لأوبير HUBERT» أن يقول: «ليس النضج العضوي ولا الاندماج الاجتماعي ولا الاندماج المهني ولا الحضارة نفسها أموراً ينبغي أن تقصد لذاتها.. فمثل ذلك يعني أن الكائن ليس سوى جسد أو ليس سوى عضو في زمرة أو مستودع لحضارة».
2-3-3- والجوانب التي يتناولها إعداد الفرد إعداداً ذاتياً وتفتيح كامل طاقاته جوانب عديدة، حدثنا عنها علماء النفس أحاديث مطولة، كما حدثتنا عنها المدارس التربوية المختلفة. غير أننا نقول – عابرين – إن علم النفس وعلم التربية ما يزالان يتخبطان في هذا الميدان الصعب الشائك، وليست هنالك حقاً مدرسة قائمة بذاتها قدّمت جواباً كافياً حول هذه المسألة، ولكن هنالك مجموعة من الحقائق تجمعت من خلال المذاهب والمدارس النفسية والتربوية المتباينة، يمكن الانطلاق منها في مجال تكوين الفرد أمثل تكوين واستخراج كامل طاقاته وجعله من هو. وعندنا، أن البلاد العربية ما تزال تنتظر في هذا المجال ولادة نظرية خاصة بها، تبنى من خلال واقعها وثقافتها، مستعينة بحصاد التجربة العالمية.
2-4- خاتمة حول التربية المرجوة لتحقيق التنمية الحقة:
تلكم لمحات خاطفة عن سمات التربية المرجوة للتنمية الحقة، بأبعادها المتعددة. ولسنا ندعي أننا أحطنا بسائر قسمات مثل هذه التربية، كما لا نزعم أننا وفينا القسمات التي تريثنا عندها بعض حقها من البيان والتبيين، وجل ما نطمح إليه أن تكون الومضات التي أطلقناها مؤشرات تبين في خاتمة المطاف أن وعود التربية ليست سهلة التحقيق، وأن دون بلوغها نصباً مرهقاً ينوء بحمله المربون. بل لعل هذه المؤشرات تبيّن كيف أن توفير الدور الموعود للتربية في تحقيق التنمية الشاملة لا يكون بجهود المربين وحدهم، بل لا بد أن تنضاف إليه جهود سائر قطاعات النشاط. وتلكم نتيجة بدهية إذا ذكرنا أن التربية ليست سوى نظام فرعي من نظام كلي، هو النظام الاقتصادي والاجتماعي العام.
على أننا نطمح فوق هذا كله وقبل هذا كله أن يحمل ما قدّمناه من رسم متكامل لملامح التربية المرجوة النتيجة الأساسية التالية التي نود التأكيد عليها: وهي أن هدف الأهداف لأي تربية تنشد التنمية الحقة أن تحقق الانتقال إلى نموذج ذاتي للتنمية يتخذ مركزه من بلد يرعاه بالصيانة الذاتية ويأخذ بعين الاعتبار الاستغلال العقلاني لموارده البشرية والطبيعية. والنتائج التربوية التي تلزم عن مثل هذا الهدف الكبير نتائج تند عن الحصر.
ومعنى هذا أن التربية المحملة بالوعود تربية تعنى بتكوين سائر عناصر القدرة على تحقيق ذلك النموذج الذاتي للتنمية، إنها التربية التي لا ترضى التقليد الذي لا يكون فيه «مستقبلنا إلا ماضي الآخرين» على حد تعبير «كي زربو» مؤرخ فولتا العليا. إنها التربية التي تمكننا من أن نصنع مستقبلنا بأيدينا، وأن نكتب تاريخ الغد بجهودنا الذاتية. أنها بوجيز العبارة التربية التي تمكن الأجيال العربية من بناء المشروع الحضاري العربي الذاتي.
ومثل هذه النظرة ينبغي أن تكون حاضرة في كل جهد تربوي نقوم به. إنها النور الذي ينبغي أن يهدينا عبر مسيرة التطوير التربوي.
أو ليس مما يحمل على الدهشة والألم معاً أن أي قطر عربي لم يستطع أن يفعل ما فعلت كورياً أو تايوان أو المكسيك أو بلغاريا حين أرست على دعائم وطيدة نموذجاً لبناء القدرة الذاتية وتسخير العلم لخدمة جهد التنمية؟ ومع ذلك فالبلدان العربية عريقة في نظمها التربوية، تحدثنا دوماً عن التقدم الكبير الذي تمّ فيها، وتباهي بما تضمه مؤسساتها التربوية من أعداد متزايدة متعاظمة تنوء بحملها، وتتشدق بالحديث عن ميزانيات التربية الضخمة التي تبلغ في بعضها حوالي 20% من جملة ميزانية الدولة. فأين هو إذن مكمن الداء؟ هذا السؤال الصعب ينقلنا تواً إلى الجزء الثاني من محاضرتنا، نعني إلى التساؤل الثاني الذي طرحناه منذ البداية حين تساءلنا عن العوائق والعقبات التي تحول دون تحقيق طراز التربية القمينة بأهداف التنمية الحقة، على نحو ما بيناها. ولا نخفي أن الإجابة على هذا التساؤل دونها خرق القتاد. ولكن لا بد من اجتراحها.
3- عوائق التنمية التربوية الخارجة عن سلطانها:
أجل قد تصح خطة التربية، وقد تدرك إدراكاً واضحاً مهماتها إن هي أرادت أن يكون لها في التنمية الحضارية الحقة شأن ونصيب، ومع ذلك قد تظل خططها أمنيات طيبة ويظل إدراكها لواجبها محبوس الأنفاس مشلول القدرة، لأسباب خارجة عن سلطانها إلى حد بعيد.
لقد أومأنا من حين إلى تلك الحقيقة المعادة، نعين القول بأن التربية نظام فرعي من نظام كلي، هو النظام الاقتصادي والاجتماعي الشامل. وهذا كلام له خبيء على حد قول أبي العلاء المعري. فأبعاد هذه الحقيقة ونتائجها ضخمة وهامة. وحسبنا أن نشير إلى أهمها إشارات عابرة أيضاً:
3-1- التربية والموارد المالية:
3-1-1- التآخذ بين النظام التربوي وبين النظام الاقتصادي والاجتماعي، والتأثر والتأثير المتبادلان بينهما، والصلة الدائرة القائمة بين ميادينهما، أمور تعني بوضوح أن النظام الاقتصادي والاجتماعي الشامل يملي على النظام التربوي حدوداً وقيوداً، كما تعني أن النظام التربوي بدوره يملي على النظام الاقتصادي والاجتماعي حدوداً وقيوداً حين يحول قصور نموه دون تكوين الثروة البشرية اللازمة لهذا النظام.
وأول ما يتبادر إلى ذهننا من أواصر التواصل بين النظامين، ومن الحدود التي يمليها النظام الاقتصادي والاجتماعي على التربية، الجوانب المتصلة بتمويل التربية. فمن البدهي أن تمويل النظام التربوي في أي بلد يخضع لما يفرضه النظام الاقتصادي العام من توزيع للموارد المالية على قطاعات النشاط المختلفة. ومهما يكن مبلغ اهتمام بلد من البلدان بتنمية التربية، لا بد له أن يوازن بين ما يخصصه للتربية وبين ما يخصصه لسواها من قطاعات النشاط. وههنا تواجهنا حقائق ثلاث:
3-1-2- الأولى أن أي بلد من البلدان، مهما تكن ثروته المادية، لا يملك كل ما يلزم لوفاء التربية كامل حقها ولتحقيق مطالبها كاملة. لا سيما أن مطالب التربية لا تعرف حداً، وليس من هدف للتربية إلا المزيد من التربية، مستعيرين قولة «ديوي» الشهيرة. ولا أدل على ذلك من أن الإصلاح التربوي الجديد في الولايات المتحدة نفسها أضطر، تحت تأثير الأزمة المالية، إلى تقليص كثير من جوانب النشاط التربوي الهامة التي أعارها في الماضي كثيراً من العناية، من مثل العناية بالمعوقين والمتفوقين، وتأهيل المعلمين، والعناية بالجوانب الاجتماعية، وتيسير أماكن وساحات وأدوات النشاط المدرسي، لا سيما بعد أن خفضت حكومة «ريغان REAGAN» المساعدات الاتحادية المخصصة للتربية بمقدار الربع.
3-1-3- والثانية أن الموازنة بين ما يمكن أن يخصص للتربية وما يمكن أن يخصص لسواها من موارد الدولة هي غالباً في غير مصلحة التربية. فمهما يكن إيمان القيمين على موارد الدولة بالتربية كبيراً، تظل المطالب العاجلة تشدهم، ولا سيما في الميادين الإنتاجية المباشرة، والتضحية بالآثار البعيدة المدى غالباً للتربية تبدو لهم أولى من التضحية بالمطالب القريبة المدى، والعناية بالمشروعات المشخصة التي تجأر أمام الأعين مفضلة لديهم غالباً على التوظيف الخفي للأموال في عمل تربوي قلما تبدو آثاره، وإن بدت فعلى نحو غير مباشر وعلى المدى البعيد.
3-1-4- والثالثة أن عهود الضنك الاقتصادي والتقشف، تصيب آفاتها الإنفاق على الجوانب التربوية والثقافية والاجتماعية قبل سواها. ولا يقتصر الأمر على هذه الآفة، بل يتجاوز ذلك إلى مسألة خطيرة: وهي أن خفض الأموال المخصصة للتربية وتقصيرها عن مداها، يطرحان قضية الأولويات في النظام التربوي طرحاً حاداً لا مفرّ منه. وههنا قد يتخذ المسؤولون قرارات خطيرة تعرّض مصائر التنمية الاقتصادية والاجتماعية لمخاطر جسيمة. فقد يؤثر بلد – في إطار تحديده للأولويات – أن يقصّر خطى التطوير في التعليم الابتدائي، رغم أهميته في تحقيق ديمقراطية التربية وفي بناء القاعدة الصلبة للنظام التربوي. وقد يرى أن يضيق الخناق على التعليم المهني والفني، نظراً لتكاليفه الباهظة التي تناهز أربعة أضعاف تكاليف التعليم العام. وقد يبدو له أن يرجيء أمر مكافحة الأمية وتعليم الكبار إلى أجل غير مسمّى، بل قد يضطر إلى زيادة الكم على حساب النوع والجودة، معرضاً مستوى التعليم ونتائجه للخطر. وسوى ذلك كثير. وواضح أن تحديد الأولويات على هذا النحو لا يعرض المستوى الثقافي عامة للخطر فحسب، بل ما يلبث حتى تنعكس آثاره على النمو الاقتصادي نفسه وعلى شتى جوانب الحياة. وههنا نستشهد مرة أخرى بالإصلاح التربوي الأخير في الولايات المتحدة. فلقد أعطى هذا الإصلاح أولوية كبرى لمفهوم «التفوق التربوي» من جهة، ولإعداد الأطر اللازمة للقطاعات الاقتصادية، ولا سيما القطاعات الصناعية والتجارية من جهة أخرى. وكاد يقصر دور التربية على أن تكون عماد الاقتصاد في حروب التنافس التجاري العالمي التي سوف تستشري خلال التسعينيات. وكأن الإصلاح يستهدف أولاً وقبل كل شيء خلق مجتمع من التكنوقراطيين، دونما التفات إلى مستوى الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية. ولا غرابة في ذلك فاللجنة الأساسية التي قادت الإصلاح واللجان العديدة التي أسهمت في نتائجه، تضم، بالإضافة إلى ممثلي عدد من الجامعات الكبرى، نسبة كبيرة من ممثلي الجمعيات التجارية ولا سيما تلك المعنية بالتجارة عبر الدول، فضلاً عن بعض المؤسسات الاقتصادية الخاصة، كمؤسسة «كانرجي CANERGIE» ومؤسسة «روكفلر» ومؤسسة «سبنسر SPENCER» وسواها.
3-1-5- ولسنا ههنا في معرض الحديث عن وسائل معالجة مشكلات التطور التربوي في عهود العسر والتقشف. وحسبنا أن نقول عابرين: إن الحل يكمن في إعادة النظر في النظام التربوي بكامله، بل في النظام الاقتصادي والاجتماعي الشامل، من أجل توليد صيغ جديدة، تؤدي إلى الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة، أهم ما فيها، بالقياس إلى التربية، توليد بنى وطرائق تربوية قادرة على أن تعلّم عدداً أكبر تعليماً أفضل بنفس الإمكانات المالية والمادية والبشرية المتاحة. وفي هذا المجال، بيّنت الدراسات العالمية أن تجديد هياكل التربية وطرائق التربية، لا سيما بعد انتشار التقنيات التربوية بأشكالها المختلفة، من شأنه أن يستجيب لجانب من هذه المسألة، وأن يعوّض عن نقص الموارد المادية والمالية وحتى البشرية. وقد طاب لبعض الباحثين أن يطلق على هذا العطاء الذي تقدمه تقنيات التربية اسم «القيمة التربوية المضافة».
3-1-6- وما نقوله عن مسالك التربية اللازمة في عهود التقشف والأزمات الاقتصادية، يجعلنا نعود إلى مسالك التربية جملة حتى في أيام الرخاء والبحبوحة، لنذكّر بأن الإنفاق الكبير على التربية ليس معيار التربية الناجحة، وأن حسن توزيع الموارد والاستخدام الأمثل لها مطلب لازب في أيام اليسر كما هو لازب في الشدائد. لا سيما أن مثل هذا الهدف يفرض على المربين تجديد نظام التربية نفسه وابتداع صيغ أكثر جودة فضلاً عن كونها أقل كلفة. ولا ننس أننا أولاً وآخراً في مجتمع ما بعد الصناعة مجتمع الإعلام والمعلوماتية والحاسوب. على أن علينا ألا ننسى في الوقت نفسه أن هذه التقنيات التي ييسرها لنا مجتمع ما بعد الصناعة، لن تكون لها آثار غير مرذولة عندنا إلا إذا امتلكنا ناصيتها وعنينا بإنتاجها. ومن قبيل المثال، لئن عزّ علينا إلى حين أن ننتج الحاسوب نفسه، فعلينا أن ننتج برامجه. على أن حسن توزيع الإمكانات المالية المتوافرة للتربية لا يقل شأناً عن استخدامها استخداماً أمثل. وتظل المسألة الأم في التربية مسألة الأولويات ومسألة تحديدها تحديداً سليم الأهداف.
وفوق هذا وذاك، في عهود الضنك والعسر المالي، ينبغي أن نوجه اهتمامنا، فيما نتخير من أولويات تربوية ومن إصلاحات تربوية، نحو توظيف الأموال القليلة المخصصة للتربية في «ميادين مستقبلية». ولعل مناخ التقشف يدعونا إلى التفكير تفكيراً أعمق في مسيرة التطور الاجتماعي والاقتصادي بحيث نصحح هذه المسيرة عن طريق تجديد نظام التربية.
وفي الجملة، لقد قلناها أكثر من مرة ونقولها اليوم، لا بديل لندرة المال سوى التوظيف في العقل البشري، في المادة الرمادية. وقد علمنا تاريخ الإنسانية أن الإنسان استطاع دوماً أن يتغلب على ندرة بعض الموارد الطبيعية عن طريق اكتشاف سواها أو ابتداع ما يحل محلها.
3-2- التربية والقيود السياسية:
3-2-1- على أن ثمة قيوداً أقسى من قيود المال وإن خفيت أحياناً، تفرض على التربية حدوداً وسدوداً. على رأسها القيود السياسية. فالتربية شأن سياسي، شئنا أم أبينا، لا سيما إذا عرّفنا كلمة سياسة تعريفاً إجرائياً فقلنا مع بعض الباحثين إنها تعني أن نحدد من يأخذ ماذا وفي أي وقت يأخذ ذلك وعلى أي شكل؟ ولأي نظام تربوي قطبان: أولهما صانعو السياسة التربوية والقرار السياسي التربوي على مختلف المستويات. والثاني الفنيون الذين يخططون للنظام التربوي ويديرونه. والانفصام بين هذين القطبين يعطل العمل التربوي ويحول دون بلوغ أهدافه. وبوجه خاص، لا بد لصانعي السياسة التربوية والقرار التربوي أن ييسروا مهمة الفنيين، عن طريق توضيحهم لأهداف التربية وبيان غاياتها، وعن طريق وضع الخطط التي يرسمها الفنيون موضع التنفيذ. كذلك لا بد للفنيين أن ييسروا عمل صانعي السياسة التربوية، عن طريق ما يقدمون من دراسات وأبحاث وبدائل تساعد أولى الشأن في التربية على اتخاذ قراراتهم. غير أن مثل هذا التواصل قلما يتوافر، ومثل هذا الأخذ والعطاء بين صانعي السياسة التربوية من جانب وبين صائغيها ومنفذيها من الفنيين والإداريين من جانب آخر، مطلب قلما يلقى الاستجابة المرجوة. وقد يكون القصور في هذا المجال صادراً عن صانعي السياسة، حين لا يرسمون على النحو المطلوب غايات التربية وأهدافها من خلال غايات المجتمع وأهدافه، أو حين لا يلتزمون بتنفيذ قرارات ارتضوها، أو حين يؤثرون العمل اليومي كفافاً على العمل المُنهَّج البعيد المدى، أو حين لا ييسرون مشاركة الفنيين والإداريين في اتخاذ القرارات، وغير ذلك كثير. كما قد يكون ذلك القصور صادراً عن الفنيين لأسباب مختلفة وعديدة: منها أنهم كثيراً ما يقدمون مقترحات وخططاً ومشروعات لا تخلو من قدر كبير من المغالاة. ومنها أنهم يحاولون أن يفرضوا في مقابل تحكم واضعي السياسة التربوية نوعاً جديداً من التحكم، هو تحكم التكنوقراطيين الذين ينسبون لعلمهم وفنهم عصمة ليست لهما. ومنها أنهم كثيراً ما يضعون خططهم ومشروعاتهم في ميدان التربية في معزل عن البنية العامة للمجتمع، ودون ما دراية كافية بمقوماته وديناميته. وقد يكون القصور – وهذا هو الغالب – صادراً عن كلا الطرفين. وعند ذلك لا نعجب حين نلمس فراقاً بين التخطيط والتنفيذ، بين القرار والتطبيق. ولا نعجب حين يصبح العمل الفني أشبه بالزينة، وحين تتحرك عجلات القطار في معزل عن البخار المتصاعد منه.
3-2-2- ولا شك أن هذا القيد من أقسى القيود التي تفرض على التربية ومن أكثرها ذيوعاً في الوقت نفسه. أما كيف يتم الحوار والتواصل بين صانعي السياسة التربوية وبين مخططيها ومنفذيها، فالحديث عنه يلتهم الأسفار، وله غير هذا المقام.
وحسبنا أن نخلص من هذا إلى القول بأن اكتمال تحقيق هذا المطلب يستلزم أولاً وقبل كل شيء قيام تكامل عضوي كامل بين مشروع البلد التنموي بل الحضاري وبين ما يلزم عنه من فلسفة تربوية وسياسة تربوية وخطط وبرامج تربوية. وكل من القرار السياسي في ميدان التربية، ومن الخطة التربوية والبرامج التربوية، يخبطان خبط عشواء إن لم ترشدهما الغايات الكبرى التي يضعها البلد لبناء مستقبله، وإن لم تترجم تلك الغايات الكبرى إلى أهداف ومرام تربوية وإلى برامج ومشروعات وإجراءات. وقد تكون هذه النتيجة بدهية، ولكن أشكل المشكلات تحقيق البديهيات.
3-3- القيود الثقافية الاجتماعية:
وفوق هذه القيود جميعها قيود من طراز آخر لم تول ما تستحقه من عناية واهتمام، رغم شأنها الخطير، نعني القيود التي تمليها البنية الاجتماعية للبلد وقيمة الاجتماعية ومواقفه واتجاهاته وسائر ما ينتسب إلى الثقافة بالمعنى الأنثروبولوجي الواسع لهذه الكلمة. لذلك أستأذنكم بالتريث بعض الشيء عند هذه القيود، وإن يكن الحديث عنها تقصّر عن الوفاء به المجلدات الضخمة:
3-3-1- لا شك أن بين التربية وبين العوامل الاجتماعية الثقافية أخذاً وعطاء. وقد يبرز أمام أعيننا بوجه خاص أثر التربية في المجتمع والثقافة، بينما لا يتضح في أذهاننا دوماً أثر المجتمع والثقافة في التربية، أو بتعبير أدق الحدود والقيود التي يمليانها على التربية.
لقد قلنا منذ حين وكررنا القول بأن التربية جزء من نظام كلي شامل تؤثر فيه وتتأثر به. وهذا النظام الشامل يشمل فيما يشمل بنية المجتمع وقيمه واتجاهاته وأنماط سلوكه المادي والمعنوي. وفي البلدان النامية، ومنها البلدان العربية، يلعب هذا العامل دوراً أساسياً في تشكيل نظام التربية وفي تيسير عطائه حيناً ولجم ذلك العطاء حيناً آخر. إن الفرد الذي يدخل النظام التربوي ليس صفحة بيضاء نشكلها على الشاكلة التي نهوى. ومهما يكن صغير السن يحمل معه منظومة من القيم والتقاليد والاتجاهات، لا بد للتربية أن تحدّد شأنها معها وأن تتفاعل وإياها تفاعلاً سليماً، اجتناباً للصراع بينها وبين ما تحاول أن تمليه المدرسة جاهلة لها أو متجاهلة.
3-3-2- ولقد قيل الكثير وكتب الكثير عما يصح أن يسمّى باسم المعوقات النفسية والاجتماعية للتنمية بوجه عام. وبينت دراسات في بلدان مختلفة أن الكثير من المشروعات الصناعية أو الزراعية أو سواها فشلت ولم تحقق أغراضها السليمة، بسبب موقف الناس منها. ويصح هذا بوجه خاص خاص على المشروعات التي تحاول نقل التكنولوجيا الحديثة المجلوبة، لا سيما في بعض الميادين المحافظة بطبعها، كميدان الزراعة.
أما أثر المواقف والاتجاهات والقيم الاجتماعية الثقافية في إعاقة المشروعات التربوية فلم يتم الالتفات إليه التفافاً كافياً. ولعل أبرز الجوانب التي جرّت المعاناة اليومية إلى الحديث عنها في هذا المجال، هو أثر المواقف النفسية والاجتماعية على التعليم المهني والفني. فنظرة المجتمع إلى العمل المهني كانت وما تزال عائقاً يذكره الباحثون المعنيون بتطوير التعليم المهني والتقني. وهي نظرة يحملها المجتمع في البلدان العربية بوجه خاص بتأثير الإرث الثقافي القديم، إرث مجتمع البداوة، فضلاً عن عوامل أخرى.
أما إذا تجاوزنا هذا الميدان، فقل أن نلقى عناية كافية بأثر العوامل الاجتماعية الثقافية في تيسير أو مغالبة الاتجاهات والقيم التي يود أن يغرسها النظام التربوي.
والحق أن دراسة المجتمع العربي المعاصر وما يحمله من إرث العادات والتقاليد والقيم تكشف عن حقائق هامة ينبغي أن تأخذها التربية بعين الاعتبار، وتكشف بوجه أخص عن وجود معوقات اجتماعية وثقافية عميقة تغالب ما تسعى إليه التربية من تطوير للأفراد والجماعات، ومن بناء لمستقبل جديد.
ولا يتسع المجال للحديث عن هذه الحقائق. ونكتفي بالإشارة السريعة إلى بعضها:
3-3-3- هنالك، إلى جانب القيم والمواقف الإيجابية التي يحملها المجتمع العربي من إرثه الثقافي والاجتماعي، ومن تراثه الغني المشرق، قيم سلبية كثيرة، هي غالباً من حصاد فترات الركود والانحطاط التي مرت بها الحضارة العربية الإسلامية، أو من آثار بعض مخلفات العهود الاستعمارية الحديثة. من هذه القيم والمواقف أمور كالتالية: مفهوم التواكل والاستسلام – نفى فكرة التقدم والاعتقاد بأن العالم يسير من سيئ إلى أسوأ – سيطرة العقلية السحرية والتفكير الخرافي في مقابل العقلية العلمية – مفهوم الزمن – سيطرة الثقافة اللفظية على الثقافة الموضوعية وتغليب المبنى على المعنى وقيم الشكل على قيم المضمون – سيطرة الروح الفردية في مقابل روح العمل المشترك – سيطرة الرجل على المرأة – عقدة الغريب والأجنبي – سيطرة نزعات الاستهلاك في مقابل نزعات الإنتاج – شيوع روح النقل والاتباع وإنكار روح التجديد والابتداع – الصراع بين القيم التقليدية والقيم المستقبلية – وغير ذلك كثير.
3-3-4- بل أن كثيراً من القيم الثقافية الإيجابية الثمينة التي أكدها التراث العربي الإسلامي منذ القدم، كثيراً ما شوهت مقاصدها وانحرفت عن معانيها الأصلية بتأثير عوامل كثيرة، أهمها تأثير فترات الركود والانحطاط. يصدق هذا بوجه خاص على قيم كالآتية: المسؤولية الفردية، مسؤولية كل إنسان عن نفسه وغيره مسؤولية مباشرة – التضامن الاجتماعي – الحرية والشورى – العدالة والمساواة – تقديس العلم – تقديس العمل – مساواة المرأة بالرجل – وغير ذلك كثير.
ولا نريد في هذا المقام أن نمضي إلى ما هو أعمق من هذا في تحليل النموذج الثقافي الاجتماعي الذي ينتسب إليه المجتمع العربي، وأن نغوص في أعماق النظريات الكثيرة التي ظهرت في هذا المجال منذ القرن التاسع عشر في الغرب بوجه خاص. كما لا نريد أن نتوقف عند تحليل وتفنيد بعض ما انتهت إليه تلك الدراسات من تصنيفات خاطئة غريبة، جعل بعضها المجتمع العربي ينتمي إلى نموذج الجمود الآسيوي على نحو ما وصفته كتابات أبناء عصر التنوير في أوربا وأصحاب نظرية المنفعة ثم نظرية ماركس وأنجلز، وجعل بعضها الآخر ذلك المجتمع العربي ينتمي إلى المجتمع المفصلي الرعوي ثم الاستبدادي الأبوي، كما نجد عند ماكس فيبر وسواه. غير أن مثل هذه الدراسات الخاصة وسواها من الاتجاهات الخاطئة في تحليل البنية الثقافية الاجتماعية للمجتمع العربي – وهي دراسات أخطر ما فيها وأدهى ما فيها أنها تعتبر هذه الخصائص الثقافية الاجتماعية ضرباً من الثوابت – تبين لنا مدى الحاجة إلى تفسير بنائي ثقافي للمجتمع العربي، وتشير إلى أهمية العمل على توليد علم اجتماع عربي يجعلنا ندرك حقيقة المجتمع الذي ننتمي إليه، ذلك المجتمع الذي نتحدث عنه غالباً حديثاً منطلقاً من الاستقراء الناقص أو الأبحاث المبعثرة غير المجزئة(1).
ولكن لندع هذه الاستطراد الذي يقودنا بعيداً، ولنعد أدراجنا إلى ما كنا بصدده حول الثقافة والتربية.
3-3-5- وههنا قد يكون من المفيد أن نخص بالذكر في مجال القيود التي تمليها العوامل الثقافية الاجتماعية على التربية أثر عوامل خاصة تكوّن جزءاً أساسياً من الثقافة والقيم الثقافية والاجتماعية الذائعة لدى المواطن العربي، ولها دورها الإيجابي والسلبي معاً في تكوين مواقفه واتجاهاته. ونعني بتلك العوامل المعيّنة الأقوال المأثورة والأمثال القديمة والشعبية والشعر. وقد لا يكون من الغلو أن نقول إن الثقافة الذائعة لدى المواطن العربي، والتي كثيراً ما تشكل سلوكه وتوجهه في حياته، هي الثقافة النابعة من هذه المجالات التي ذكرناها، بالإضافة طبعاً إلى المنبع الرئيسي الذي يتجلى في القرآن الكريم والسنة الشريفة أو في الكتب المقدسة عند غير المسلمين. وأثر مثل هذه الأقوال المأثورة والأمثال والشعر أثر ملتبس، إذ نجد في هذا الضرب من التراث الثقافي ما يؤيد المواقف السلوكية السليمة حيناً والمواقف السلوكية الذميمة حيناً آخر. وغني عن البيان أن المواطن العربي يتشبع منذ ميعة الصبا بأجواء هذه الثقافة يسقيها من المنزل والمجتمع ويمتاح منها الكثير من مواقفه واتجاهاته. أما التربية النظامية فلا تعنى بها إلا عناية عارضة، وقلما تهتم بتخير ما هو إيجابي منها وبتفنيد ما هو سلبي. صحيح أن هذا الضرب من التراث سجل غني لتجربة الشعب العربي عبر العصور، ولكن تجربة أي شعب تجربة فيها المد والجزر، وفيها التقدم والنكسات، وفيها الخضوع والخنوع حيناً والإباء والشمم حيناً آخر، ومن هنا كان مثل هذا التراث متناقضاً في كثير من الأحيان، يبرر الخير كما يبرر الشر، ويمجد مكارم الأخلاق كما يجيز رديئها، ويزيد في تفتيت الشخصية الفصامية غير الموحدة لدى أبناء الشعب. أفلا نقع فيه على أحكام كالآتية: «الناس ذئاب على أجسادهن ثياب»؟ «الظلم من شيم النفوس»؟ «إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب»؟ «العبد يقرع بالعصا»؟ «الأقارب عقارب»؟ «البغض بين الأقارب والحسد بين الجيران»؟ ومثلها كثير.
أمثلة كثيرة تشير إلى مواقف سلبية في مثل هذا التراث. صحيح أن هذا التراث في معظمه يحمل قيماً إيجابية ثمينة. ولكن هذا الازدواج في زيّه هو الذي يتيح لكل فرد أن يستعير قيمه تبعاً لهواه وحسب مقتضى حاجته. أفلا نجد فيه: «زيادة الخير خير» ونجد في المقابل: «من طلب الزيادة وقع في النقصان» و«الزايد أخو الناقص»؟ أفلا يشيع فيه القول «جنة بلا ناس ما بتنداس» في مقابل شيوع قول آخر «البعد عن الناس غنيمة» و«مصايب الناس من الناس»؟ أفلا نسمع: «بنت العم ولو بارت»، ونسمع من جانب آخر: «خذ من الزرايب ولا تأخذ من القرايب» ؟ أفلا تردد الألسنة: «أبعد عن الشر وغن له»، وفي الوقت نفسه: «الساكت في الحق مثل الناطق بالباطل»؟
وآية هذا كله أن الثقافة الذائعة في حال تناقض وصراع فضلاً عن أنها في حال تغير وصيرورة، وأن الفرد أمامها نهب لاتجاهات قيمية متناقضة. ومثل هذا التكوين الممزق لشخصية الفرد لا ييسر بالبداهة مهمة التربية، ويضع أمامها عقبات أقسى مما نتصور.
3-3-6- ويستبين دور العوامل الاجتماعية الثقافية على نحو أشد، إذا نحن عنينا بالبنى والمؤسسات الاجتماعية التي تفرز الثقافة بالمعنى الواسع للكلمة. والحديث عن هذه البنى والمؤسسات الاجتماعية في الوطن العربي يحتاج إلى سفر برأسه بل إلى أسفار. وقد تمت حوله بعض الدراسات المحدودة. إن هذه البنى والمؤسسات تشمل فيما تشمل العائلة والحياة الدينية والطبقات الاجتماعية والمذاهب السياسية. وحسبنا أن نشير عابرين إلى دور واحدة منها، هي بمثابة النواة الأساسية للتنظيم الاجتماعي، نعني العائلة. لا سيما أن العائلة هي المؤسسة التي تتمحور حولها حياة الناس، وتشكل الوسيط بين الفرد والمجتمع، وتمثل الكيان الذي يتوارث فيه الأفراد والجماعات اتجاهاتهم الثقافية إلى حد بعيد، فضلاً عن انتماءاتهم الدينية والطبقية.
والتحليل السريع لهذه المؤسسة العائلية في وطننا العربي يكشف عن سمات لها آثارها الواضحة في تكوين طراز الثقافة السائدة، بالمعنى الواسع للكلمة. فالعائلة العربية ما تزال إلى حد كبير وحدة اجتماعية إنتاجية، العضو فيها مسؤول عن سائر الأعضاء. وهي عائلة أبوية يحتل فيها الأب رأس الهرم، وتحتل فيها هالته، على حد تعبير «فرويد»، مكانة أساسية في التنشئة. وفي هذه العائلة تحتل المرأة في معظم الحالات موقفاً دونياً ومثلها الصغار. ويذهب الدكتور هشام شرابي إلى حد القول مغالياً: «إن الاضطهاد في مجتمعنا هو ثلاثة: اضطهاد الفقير واضطهاد الطفل واضطهاد المرأة». أما الزواج فما يزال يعتبر شأناً عائلياً ومجتمعياً أكثر منه شأناً فردياً. وما يزال هنالك نزوع إلى الزواج الداخلي بين الأنسباء وضمن الجماعة الواحدة. أما أنماط التنشئة التقليدية في العائلة العربية فما تزال إلى حد بعيد تركن إلى العقاب الجسدي والترهيب والترغيب. وما يزال سلوك الطاعة والامتثال هو السلوك المفضل.
ولا يعني هذا أن صفات العائلة العربية صفات ذميمة كلها أو أن ما ذكرنا من قسماتها حظ مشترك نجده في العائلة العربية أنى كانت. فهنالك صفات إيجابية هامة جديرة بأن يتعهدها النظام التربوي بالرعاية. بل إن بعض ما ذكرناه من نقائص التنشئة في العائلة العربية ظاهرة تختلف من بيئة إلى بيئة، ولا سيما بين المدينة من جانب والريف والبادية من جانب آخر. كذلك من الظواهر التي لا تنكر نزوع خصائص الأسرة التقليدية نحو التغير والتطور. وهنالك باحثون يميزون بين أمائر تنشئة العائلة العربية للفرد في طور الطفولة المبكرة، حيث نجد الكثير من الحنان والتسامح والدفء العاطفي والانطلاق، وبين تنشئته في مرحلة الطفولة المتأخرة والمراهقة حيث يواجه التحكم والتسلط(1).
وأياً كانت الحال يظل المناخ الثقافي الذي تولده العائلة مصدراً أساسياً، ييسر عمل التربية النظامية في بعض الأحيان إن هي أجادت الإفادة منه وتوجيهه، ويعرقل هذا العمل في كثير من الأحيان، ويضع في وجه التربية بالتالي قيوداً وحدوداً لا يسهل تجاوزها.
3-4- العوامل الاجتماعية البنيوية:
وإذا نحن تركنا جانباً العوامل الاجتماعية الثقافية، ألفينا العوامل الاجتماعية البنيوية أو المورفولوجية التي تفرض بدورها على التربية قيوداً وحدوداً أخرى.
وعلى رأس تلك العوامل الاجتماعية البنيوية التركيب السكاني، وكلنا يعلم في هذا المجال أن للبنية السكانية في البلدان العربية سمات خاصة تملي على التربية جهوداً خاصة وتفرض عليها أحياناً حدوداً صارمة يصعب تجاوزها. أهمها معدل النمو السكاني الكبير الذي يتحلق حول 3% في العام، وفتوة السكان التي تتجلى في كون نسبة الذين دون العشرين من العمر تتجاوز 57% من السكان، وما يتبع ذلك من ارتفاع معدلات الإعالة، ومن التضخم الكبير في أعداد الأطفال والشبان الذين هم في سن التعليم. ولا تقتصر آثار هذه البنية السكانية الخاصة على ما تمليه من أعباء على التربية تنوء بحملها، بل تتجاوز ذلك إلى ما هو أدهى إذ تؤدي إلى ظاهرتين سلبيتين خطيرتين: أولاهما الحاجة المتزايدة لأعداد هائلة من المعلمين تضطلع بتعليم هذه النسبة الكبيرة من السكان الذين هم في سن التعليم. ويقدر بعض الباحثين أن مقدار ما يحتاج إليه النظام التعليمي في مثل هذه البنية السكانية قد يبلغ ربع القوى العاملة الفعلية. والظاهرة الثانية ضآلة نسبة قوة العمل بالقياس إلى مجموع السكان، إذ لا تتجاوز في البلدان العربية 26%. ويرجع هذا الانخفاض في نسبة قوة العمل إلى فتوة السكان من جانب وإلى ضعف اشتغال المرأة من جانب آخر. ومعنى ذلك أن الدور الذي تجنح التربية إلى الاضطلاع به في التنمية الشاملة دور مقصوص الجناح: فمن العسير عليها في مثل بلداننا النامية أن تقوم بتعليم هذه الأعداد الكبيرة المتدافعة من الأطفال والشبان ولا بد أن تنوء إمكاناتها المالية والبشرية بحملها. ومخرجات النظام التربوي لسوق العمل ستظل بعد ذلك وفوق ذلك مقصّرة كماً عن حاجات تلك السوق، نظراً لضآلة نسبة قوة العمل، وعاجزة، نتيجة لضآلتها الكمية، عجزاً كيفياً أيضاً عن أن تتوزع بين قطاعات النشاط الاقتصادي والاجتماعي توزعاً أمثل.
ثم تنضاف إلى هذه العوامل السكانية الخاصة بمعدلات النمو وبنية الهرم السكاني، عوامل سكانية من نوع آخر تضع بدورها أمام التربية وأمام دورها في التنمية قيوداً جديدةً. على رأس تلك العوامل الهجرة الداخلية من الريف إلى المدن والهجرة الخارجية من البلد وإلى البلد، ومن أبرز مظاهرها هجرة الأيدي العاملة. على أن أخطر أنواع الهجرة وأفتكها بالنظام التربوي ووعوده هجرة الأدمغة، وما ترانا في حاجة إلى التريث عند هذه المشكلة التي قيل عنها الكثير.
4- خاتمة حول معوقات التربية وأساليب معالجتها:
ولا نزعم بعد هذا أننا وفينا الحديث عن أثر العوامل الثقافية والاجتماعية في قيام التربية بدورها بعض حقها. كما لا نزعم أننا أحطنا بسائر العوامل التي تملي على التربية حدوداً أو سدوداً. لا سيما أننا أهملنا، لضيق الوقت، عاملاً هاماً، وهو ما تقدمه التربية العارضة العفوية عن طريق وسائل البث الجماعية وأدوات الثقافة الجماهيرية. وجلّ ما فعلنا أننا قدمنا أبرز الأمثلة في نظرنا على ما يواجه التربية من عقبات خارجة عن سلطانها، على رأسها العقبات المالية الاقتصادية، والعقبات السياسية، والعقبات الثقافية الاجتماعية.
4-1- ولا نقصد من وراء ذلك، كما قد يتبادر إلى الأذهان، أن نجد للتربية أعذاراً، وأن نغفر لها بعض قصورها، وأن نسلك سلوك من لا يريد أن يفلح على حد تعبير الجاحظ، فنقول ما ترك الأول للآخر، وما غادرت القيود والحدود الخارجة عن سلطان التربية الكثير مما في وسع هذه التربية أن تفعل. بل نهدف على العكس إلى أن تعي التربية تلك القيود والحدود وعياً موضوعياً واقعياً، كيما تجيد التعامل معها، وكيما تضطلع بمهماتها على بيِّنة من أمرها، بحيث تقوى على أن ترسم سبل نشاطها وسط تلك الشبكة الواسعة المحدقة بها. فالمعرفة هي القوة، وإدراك قوانين الأشياء هو سبيل التأثير فيها عن طريق تشكيل الظروف تشكيلاً جديداً يساعد على تغييرها.
السؤال الأكبر المطروح إذن أمام أي نظام تربوي: ما هي الصيغة المثلى التي في وسعه الحصول إليها في مرحلة معينة وسط ظروف محددة، من بينها العوائق والقيود المختلفة التي تحدّ من عمل التربية؟
قد يكون من السهل أن نطوّر نظاماً تربوياً لا تقف في وجهه العقبات، وأن يكن افتراض وجود مثل هذا النظام ضرباً من الخيال. غير أن ما يحتاج إلى جهد وتدبير وابتكار أن نستخرج من جملة الظروف التي يقذف بها الواقع أفضل نظام تربوي ممكن في فترة زمنية معينة. وأن نعد العدة لنجعل النظام التربوي قادراً على تطوير تلك الظروف ومغالبتها في أقرب مستقبل ممكن.
4-2- وفوق هذا وذاك، من أهداف معرفتنا بالقيود التي تفرضها على التربية عوامل خارجة عنها إلى حد بعيد أن تتعاون التربية مع سائر جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية في سبيل التغلب على تلك القيود يوماً بعد يوم. ورائدنا في هذا كله، أن التنمية إما تكون شاملة كاملة وإما ألا تكون، وأن معالجة مشكلات المجتمع المختلفة، من تربوية واقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية وسوى ذلك، ينبغي أن تنطلق من النظرة الكلية لتلكم المشكلات. فنحن في شؤون التقدم والتطوير في شتى جنبات الحياة أمام «نظام» بالمعنى الذي منحه هذه الكلمة منهج «تحليل النظم». وفي هذا النظام، ينبغي البحث عن أمثل شكل تتفاعل فيه مقومات هذا النظام تفاعلاً يؤدي إلى أكبر قدر من المردود والفعالية للنظام بأسره.
4-3- على أن رأس الهرم في هذا النظام غايات المجتمع وأهدافه الكبرى، منها تستمد سائر مقومات النظام روحها وحرارتها وحياتها. وإذا لم تستبن أو تستقم تلكم الغايات والأهداف الكبرى، ضلّ السعي في أي مجال، وغاب الخيط الرائد الذي يجمع مكونات النظام ولحمة الشبكة، وانفرط العقد الناظم الذي يهب لكل شيء معناه ومكانه. بل فوق هذا وذاك، إذا لم تسفر تلك الغايات والأهداف عن وجهها الواضح المبين، غدا من العسير التحقيق الفعال والمجدي لأي منهج فرعي يضعه هذا القطاع أو ذاك من قطاعات النشاط الاقتصادي والاجتماعي، وذلك لعجز أي نهج عن بلوغ كامل أهدافه إذا لم تتوافر لدى أفراد المجتمع جميعهم بوجه عام، ولدى منفذي النهج بوجه خاص، حرارة العمل لأهداف كبرى يعونها ويجهدون لتحقيقها. إن إرادة العمل المشترك، كما دلت وتدل تجارب الأمم، وعلى رأسها تجربتا اليابان والصين كما سبق أن رأينا، هي التي تحرك عجلات التنمية والتقدم في أي مجتمع. وهذه الإدارة لا يكوّنها لدى أبناء الأمة إلا الإيمان بأهداف كبرى مشتركة يدركونها حق إدراكها ويقدرونها حق قدرها، ويثقون بأنها طريقهم الصحيح إلى التنمية والتقدم والسعادة بل والحضارة.
وفي وطننا العربي، لا يمكن أن تكون الأهداف المشتركة التي يؤمن بها أبناء شعبنا إلا الأهداف القومية التي تتجلى من خلال صياغة مشروع حضاري عربي تجمع عليه القوى الفعالة في الأمة العربية.
وأستميحكم العذر إن استطردت هنا بعض الشيء:
4-3-1- يجمع الاقتصاديون اليوم على أن التجارب القطرية في التنمية الاقتصادية قد فشلت في البلدان العربية جميعها. تلكم حقيقة لم تعد في حاجة إلى دليل بعد أن قتلها الاقتصاديون وسواهم بحثاً. ومع ذلك فأين نحن من العمل العربي المشترك في مجال الاقتصاد، فضلاً عن المجالات الأخرى؟ إليكم بعض ما جاء في التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 1985 الذي تم إعداده بالتعاون بين الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وصندوق النقد العربي، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، ومنظمة الأقطار العربية المصدرة للنفط:
«إن الاقتصاد العربي لم يخرج بعد من طور الكساد. ويبدو أن هذا الوضع لن يتغير كثيراً خلال العامين القادمين دون جهد عربي مشترك».
وجاء فيه أيضاً: «إن الحاجة أصبحت أكثر إلحاحاً إلى أن يتجه العمل العربي المشترك نحو إجراءات محددة تهدف إلى حماية مسيرة التنمية العربية».
ويشير التقرير إلى أهم الخطوات اللازمة في هذا الاتجاه، ويذكر من بينها «تنشيط التعاون الاقتصادي العربي في مجالات التنمية والتكامل».
وفي تقويمه لاتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية، بعد مرور ثلاثين عاماً على توقيعها من بعض الدول العربية لا كلها، يقول الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية المكلف بالشؤون الاقتصادية: «لسوء الحظ، بعد مرور ثلاثين عاماً على توقيع هذه الاتفاقية، ما تزال الأنماط التنموية للدول العربية تسودها النظرة القطرية الانعزالية.. كما أن التوجه القومي نحو إيجاد الخطط القومية للعمل العربي المشترك أصابته انتكاسة». ويضيف قائلاً: «وفي محيطنا، نلاحظ أن المجموعات الاقتصادية للدول المتقدمة والنامية – التي ولدت بعد مولد المجموعة العربية – تحقق الكثير مما نفتقده نحن في المجموعة العربية، رغم ترابطنا القومي والحضاري والثقافي والطموح المشترك والمخاطر المشتركة». ولعل من أهم المداخل المرحلية نحو التكامل الاقتصادي العربي والوحدة الاقتصادية العربية توجيه جهد خاص إلى المشروعات الاقتصادية العربية المشتركة والاستثمارات العربية المشتركة، والابتعاد بالتالي عن الأسلوب التبادلي التجاري وحده في سبيل الاقتراب من منهج يسعى إلى إنشاء اقتصاد عربي مشترك. هذا فضلاً عن مغالبة ذلك الاتجاه الذي ذر قرنه في معظم البلدان العربية منذ منتصف السبعينيات، ونعني به الاتجاه نحو مزيد من الاندماج مع السوق الرأسمالية العالمية، ولا سيما عن طريق الشركات عابرة القارات.
4-3-2- ذلكم أن تكامل التنمية الاقتصادية العربية شأن لا يمكن فصله عن تكامل سائر جوانب الحياة العربية. وكما يقول المرحوم الدكتور محمد لبيب شقير في كتابه الضخم الفذ عن «الوحدة الاقتصادية العربية»(1). «إن مستقبل الوحدة الاقتصادية العربية أو توقعاتها هو المستقبل نفسه للوحدة العربية بمعناها العام وتوقعاتها». ويفسر المؤلف سيطرة الاتجاهات القطرية منذ حلول الاستعمار أرض الوطن العربي ويقول: «إن محصلة ما شاب التطور الاجتماعي – السياسي لأقطار الوطن العربي من تشويه، بسبب الهيمنة الغربية خلال القرنين الأخيرين، ينعكس بشكل أو بآخر على بنيانها وهياكلها في الوقت الحاضر، وهو الذي يجعل ارتباط كل منها بالعالم الخارجي، في علاقة تبعية اقتصادية وثقافية ونفسية وعضوية، أقوى من تلقائية تكاملها وتوحدها بعضها مع بعضها الآخر، اقتصادياً وسياسياً». ويزيد في توضيح موضوعه قائلاً: «لا يمكن فصل مستقبل الوحدة الاقتصادية العربية عن مستقبل الوحدة العربية بصفة عامة، فالأولى جزء من الثانية يرتبط بها، وتتوقف حركته على حركتها، ويتوقف مستقبله على مستقبلها. فلا يمكن أن تزدهر حركة التكامل الاقتصادي العربي إذا كانت حركة الوحدة العربية في جميع المجالات في حالة تراجع وتقهقر، والعكس بالعكس».
4-3-3- وما يصدق على التنمية الاقتصادية يصدق على التنمية التربوية وسواها. وإلى جانب مطلب التكامل الاقتصادي بل في صلبه، يبرز مطالب التكامل والتكافل التربوي. والعمل المشترك في ميدان التربية مطلب لازب لتطوير نظم التربية المختلفة في أقطار الوطن العربي ولتجديدها ولتمكينها من بلوغ أهدافها وتجاوز أزماتها المتباينة. ويطول الحديث لو أردنا أن نضرب الأمثلة على ذلك. وقد سبق لنا أن حددنا أهداف العمل العربي المشترك في مقال لنا بمجلة شؤون عربية في أهداف أربعة: التفاعل والتكامل والتكافل والتماثل.
4-3-4- وفي معرض التأكيد على أهمية هذا التكامل العربي في شتى مجالات الحياة، نرى من المفيد أن نورد مثالاً أجنبياً ذا دلالة:
منذ فترة قريبة كنا نقرأ في الصحافة الأجنبية عن المحاضرة التي ألقاها الرئيس الفرنسي «ميتران Mitterand» أمام «المعهد الملكي للشؤون الدولية Royal Institute for International Affairs» بتاريخ 15 كانون الثاني/ يناير 1987، «حول مستقبل السوق الأوربية المشتركة». وبعد أن بين تاريخ نشأة هذه السوق، وكيف ولدت صدفة من مصادفات الحرب العالمية الثانية ومن علاقات القوى بين الامبراطوريتين الجديدتين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، أكّد على ضرورة تجاوز تلك المرحلة اليوم والعمل على بناء كيان أوروبي تفرضه ضرورات الحاضر والمستقبل على أوروبا، دفعاً لأفولها وتحريراً لها من ضروب الوصاية أو التأثير التي يفرضها الماردان. ويذهب الرئيس الفرنسي في محاضرته إلى حد القول: أن بقاء أوروبا «ضعيفة» تعمل كل دولة فيها من أجل ذاتها، أمر يهددها بالزوال، بل يمضي – في رسالة تليفزيونية وجهها إلى الفرنسيين في نهاية كانون الأول 1986 – إلى ما هو أعمق من هذا فيقول: «إن فرنسة وطننا، ولكن أوروبا مستقبلنا». وفي تصوره لبناء أوروبا المستقبل يتوقف عند منطلقين هامين في نظره: الأول اللجوء في هذا البناء إلى العناد الصابر الذي يمثله أصحاب النظرة الواقعية، «بناة الكاتدرائيات» على حد تعبيره، وليس إلى الحماسة الحارة التي يمثلها الاتحاديون النزقون. والثاني توافر إرادة سياسية نزّاعة إلى بناء مجموعة أوروبية حقة.
ونحن إذ نورد مواقف الرئيس الفرنسي من الوحدة الأوروبية، وهي ليست عنده جديدة، نطمح إلى أن ندرك دور الكتل العالمية الكبيرة في عصرنا، دون أن ننسى أن بواعث الوحدة العربية أبعد بكثير وأعمق بكثير من روابط المصلحة التي تربط مثل هذه الكتل التي تعد مصطنعة إذا قيست بعمق جذور الوجود العربي الموحد. بل لعل مثال المجموعة الأوروبية يلقننا درساً أساسياً وهو كيف أن إدراك الهدف المشترك من جانب، والدأب والصبر والنفس الطويل في سبيل إنفاذه من جانب آخر، كفيلان بتوليد الكيانات العصيّة. أو ليست العبقرية – لدى الشعوب والأفراد – صبر طويل، على حد تعبير باسكال، صبر معاند مغالب للعقبات، لا صبر مستسلم ذليل؟
على أن من الجدير بالتأمل أنه على الرغم من أن التجربة الأوروبية تستند أساساً إلى المصلحة المشتركة، فقد حاول كثير من مفكريها أن يضيفوا إلى هذا البعد الاقتصادي المصلحي فيها بعداً قومياً. وعلى الرغم من استحالة الحديث عن «قومية أوروبية»، درج هؤلاء المفكرون على الاتفاق على نوع متميز من «الهوية الأوروبية» تعود جذورها إلى الحضارة الإغريقية والرومانية والمسيحية والليبرالية المعاصرة. والحق أن تجربة المجموعة الأوروبية بشتى أوجهها وأبعادها جديرة بالتأمل – رغم تباين الظروف بينها وبين مجموعة البلدان العربية(1). كذلك من الجدير بالتأمل – بالإضافة إلى ما تعلمناه إياه دروس المجموعة الأوروبية – تلك المعلومة التي تقدمها لنا الدراسات المستقبلية، حين تنبئ أن أي مجموعة جغرافية – اجتماعية – اقتصادية (جيو – سوسيو – اقتصادية كما يقولون) يقل سكانها عن مائة أو مائة وخمسين مليوناً لن نستطيع أن تعيش في بداية القرن الحادي والعشرين، وهي منا قريب.
على أنه لا بد من قطع هذا الحديث الذي يوشك أن يجرّنا كالسيل إلى شعاب لا نهاية لها، فهو ليس موضوع حديثنا. وقد أوردنا ما أوردنا من لوحات صغيرة خاطفة حول شجون العمل العربي المشترك وآفاق الوحدة العربية، طمعاً في أن نثري ما قلناه عن أهمية الغايات والأهداف الكبرى بوجه عام، وعن أهمية بناء مشروع حضاري عربي مشترك والإيمان به والعمل له بوجه خاص، في تهيئة المناخ السليم والأداة الفعالة لنجاح التربية في دورها التنموي.
5- خاتمة:
وبعد، لعلنا استطعنا في هذه الأمسية أن نبين تعانق النظام التربوي مع جملة من العوامل، بعضها يملي عليه مزيداً من اليقظة والأحكام، وبعضها يفرض حدوداً وقيوداً عليه أن يأخذها بعين الاعتبار وأن يصوغ ذاته صياغة تستخرج أفضل النتائج الممكنة في إطارها.
ومعنى هذا أن ما انتهينا إليه يحمل التربية أعباء جديدة، وهيهات له بالتالي أن يضعف من شأنها أو أن يشكك في أمرها.
أجل، عن طريق إدراك التربية لمكانتها في ساحة التنمية الشاملة العامة، تقوى التربية على أن تضطلع بدور فعال مؤثر بل رائد. وليس المهم أن تفعل التربية كل شيء، فهذا مطلب محال، بل المهم أن تفعل أفضل ما يمكن فعله ضمن ظروف معينة وفي إطار جملة من العوامل التي تشترك معها في تحديد مسيرة التربية، تؤثر فيها وتتأثر بها.
نقول هذا كله إيماناً منا بأن العمل الحضاري جهد عقلاني منظم. وأن الإمكانات – مادية كانت أو بشرية – ليست وحدها التي تسعف حركة التقدم. وأهم منها إدارة هذه الإمكانات إدارة عقلانية رشيدة. وهل أخطأ من قال بأن الهوة بين البلدان المتقدمة والبلدان المتخلفة ليست هوة فكرية بمقدار ما هي هوة إدارية تنظيمية؟ وهل غلى من سمى عصرنا عصر الثورة الإدارية؟ وهل نحن في حاجة إلى إثبات هذه الحقيقة البينة بذاتها في عصر الحاسوب والمعلوماتية والتقنيات الإدارية الحديثة؟
ويتخذ هذا الجهد العقلاني المنظم شأناً خاصاً في وطننا العربي الذي يواجه التحدي الحضاري الصهيوني، بأبعاده المختلفة. إن هذا التحدي يفرض علينا أولاً وقبل كل شيء ألا نفرط بطاقاتنا المادية والبشرية، وأن نستخرج منها أقصى مراتب عطائها. ومثل هذه المهمة هي مهمة العمل المتآخذ المتكامل الذي تضطلع به التربية مع سائر مقوّمات التنمية الشاملة، من أجل توليد صيغة حياة مثلى، تضاعف الثروات المادية وتجزل عطاء الثروات البشرية بفضل العمل الولود المتئم الذي ينبثق من شرارة اللقاء الخصيب بينهما.
إن من واجبنا القومي أن نطرح في أرجاء الوطن العربي كله هذا السؤال القاسي: لماذا لم تولّد أنظمتنا التربوية – ومعظمها عريق متطور – قدرات علمية وتكنولوجية ذاتية؟ ولماذا لم تؤد الأموال الضخمة التي أنفقت هنا وهناك في أرجاء الوطن العربي إلى بناء حضارة منتجة؟ ولا يجدي أن نهرب من الإجابة الحقيقية، متحدثين عن أثر العوامل الخارجية والظروف السياسية وسواها من الأسباب التي لا ننكرها. إذ يظل السؤال مطروحاً يتحدانا جميعنا، ويظل الجواب عليه واحداً لا ثاني له: هل انطلقنا في نظمنا التربوية ونظمنا الاقتصادية والاجتماعية وسواها من رؤية واضحة لنموذج الحضارة التي نود أن نبنيها؟ وبوجه خاص هل وضعنا في هذه النظم من الأهداف والوسائل ما هو كفيل حقاً بتوليد طاقة علمية تكنولوجية ذاتية؟
فوق وعود التربية وحدودها إذن وعود الرؤية الحضارية للمجتمع. ولقد ظهرت قرزمات عديدة في أرجاء الوطن العربي لتحديد ملامح تلك الرؤية. غير أن الأمر ما يزال في حاجة إلى جهد جماعي منظم.
ليس في حياة المجتمعات قيود أزلية. لا سيما أن الكثير من هذه القيود من صنع المجتمعات نفسها ومن نتائج تقصيرها. وليس أمام السعي الدائب المنظّم العقلاني «ممتنع» على حد تعبير شوقي. إن القيود قائمة في عقول الناس، ومن أجل هذا نؤمن بأهمية وعينا لها من أجل التحرر منها.
شجون كثيرة يثيرها الحديث عن وعود التربية وحدودها. إنها شجون تمسّ في أعماقها شجون المجتمع العربي بأسره. ولا نغلو إن قلنا أن هذه الشجون تحرّك الوطن العربي كله، وتجعل منه ساحة للبحث والمدارسة. وفي مجال التربية، تتكاثر النشاطات العربية المشتركة، فضلاً عن النشاطات القطرية، تكاثراً كادت تضيق به النفوس. غير أنها ما تزال شتاتاً أو عوداً على بدء.
ومن هنا تأتي أهمية مؤتمركم هذا، حين يطمح إلى معالجة مشكلات التربية في القطر العربي السوري معالجة شاملة متكاملة، وحين يبدأ البداية الصحيحة: نعني النظرة الكلية التي تنبثق عنها سائر المعالجات الجزئية.
ونرجو لهذا المؤتمر أن يكون لبنة في صرح بناء التربية العربية، بل في صياغة المستقبل العربي.
وفي الختام نقول: وسط الوجود العربي المتخبط، نرنو جميعاً إلى التربية، التربية الحقة الجديرة بالتنمية، آملين أن يكون تجويد طرح مشكلاتها من قبل أربابها فرصة ثمينة لإعادة النظر في شتى جوانب حياتنا، ولشق الطريق الأمم نحو بناء المستقبل العربي.