ضرورة التواصل بين المدرسة النظامية وبين أجهزة البث الجماهيرية

د. عبد الله عبد الدائم لـ الوطن: (2)
ضرورة التواصل بين المدرسة النظامية وبين أجهزة البث الجماهيرية
علاج مشكلات التربية يستلزم نظرة مجددة ونقلة نوعية

أجرت اللقاء: غالية قباني

تنشر الوطن اليوم الجزء الثاني من الحوار مع المفكر التربوي د. عبد الله عبد الدائم خبير اليونسكو سابقاً وخبير لجنة تقويم النظام التربوي في الكويت. وقد تحدث في الجزء الأول عن أهمية التخطيط التربوي وإلى مشكلة غلبة التعليم النظري على التعليم المهني الفني في البلدان العربية، كذلك انحدار المستوى الكيفي للتعليم بسبب التزايد الكمي.
وفيما يلي تتمة الحوار:
هناك فجوة في العمل ما بين المؤسسات التربوية والإعلام، فما يتعلمه التلاميذ في المدرسة تناقضه برامج التلفزيون مثلاً.. ما رأيك بصفتك وزيراً سابقاً للإعلام والتربية؟.
من أهم جوانب التطور التي تمت في التربية في العهود الأخيرة إنها لم تعد مقصورة على التربية النظامية أي التربية التي تتم في مراحل التعليم التقليدية بل أخذت تشمل مجالاً آخر فسيحاً يتعاظم دوره يوماً بعد يوم هو مجال التربية التي يمكن أن نسميها عفوية. أما التربية النظامية فتعني عادة كل أشكال الإعداد والتدريب التي تتم خارج النظام التعليمي المألوف سواء في مراكز التدريب أو في مواقع العمل. وأما التربية التي يمكن أن نسميها عفوية والتي تسمى أحياناً باسم التربية الموازية فيقصد بها كل المؤثرات التي يتلقاها المرء من خارج النظام التربوي التقليدي بشكل عفوي ودائم. وتشمل وسائل البث الجماهيرية بأشكالها المختلفة كالصحافة والإذاعة والتلفزيون وتشمل السينما والمسرح وسائر المؤسسات الثقافية وتشمل الكتاب ومنتجات الصناعات الثقافية المختلفة.
وواضح أن أثر هذه الوسائل أثر متزايد يفوق في كثير من الأحيان أثر التربية النظامية. ومع ذلك فهذه التربية النظامية ما تزال تعمل وكأن شيئاً لم يكن.. متجاهلة هذه المدرسة الموازية في معظم الأحيان.
ومن هنا لا بد من إقامة تواصل بين الخبرات التي تقدمها المدرسة النظامية وبين الخبرات التي تقدمها المدرسة الموازية. وهذا التواصل يفترض جهوداً تقوم بها المدرسة وجهوداً تقوم بها أجهزة البث الجماهيرية. ويزيد في خطورة الأمر أن وسائل البث الجماهيرية في عالمنا هذا غدت معروضة للغزو الثقافي من البلدان الأجنبية بل أصبحت لكثير من الدول الكبرى خطتها في هذا الغزو الثقافي الذي تعتبره عملاً موازياً ومعززاً للعمل السياسي. وغزو العقول ظاهرة عالمية لا تنجو منها حتى البلدان المتقدمة فضلاً عن النامية. ويكاد العالم في هذا كله يتعرض لنوع من تسطيح الثقافة وتشكيلها على شاكلة واحدة على غرار تلك التي تدعي أنها أكثر الثقافات تقدماً.
من خلال خبرتك في المجال التربوي ما هي الحلول الممكنة لتصحيح العملية التربوية في البلدان العربية؟.
للحديث عن الحلول لا بد من تشخيص المشكلات ومشكلات التربية في البلدان العربية تكاد تكون متشابهة رغم وجود بعض السمات الخاصة ببلد دون بلد. وإذا نظرنا إلى التربية في البلدان العربية مجتمعة وجدنا أنها مقصرة عن الشأو المطلوب كماً وكيفاً.. رغم ما أصابته من تقدم كبير في العقدين الأخيرين بوجه خاص. وحسبنا أن تقول بلغة برقية فيما يتصل بالمشكلات الكمية أن نسبة المسجلين في التعليم الابتدائي في البلاد العربية مجتمعة هي 81% من فئة السن المقابلة عام 1980 وأن نسبة المسجلين في التعليم الثانوي 37% من فئة السن المقابلة وفي التعليم العالي 7% للعام نفسه. وإن نسبة الأمية في جملة البلاد العربية ما تزال تتحلق حول 60% من السكان. بل حسبنا أن نقول أن التنبؤات دل على أنه إذا استمرت الاتجاهات الحالية في المستقبل، فسوف يظل 8 ملايين طفل في البلاد العربية خارج التعليم الابتدائي عام ألفين.
وستكون هناك عشر دول عربية تصل نسبة المسجلين في التعليم الابتدائي فيها إلى 90% بينما لا تتجاوز هذه النسبة في أربع دول 50-60%. حسبنا أن نقول كذلك أن نسبة المسجلين في التعليم الثانوي عام 2000 إن استمرت أيضاً الاتجاهات الحالية لن تتجاوز ثلث فئة العمر المقابلة وسيظل كذلك حوالي 2/1 12 مليون طفل خارج هذا التعليم. وفي التعليم العالي لن تتجاوز النسبة 9% أما فيما يتصل بالجانب النوعي الكيفي.. فهناك مشكلات تكاد تكون حظاً مشتركاً بين البلدان العربية: على رأسها ضعف التعليم المهني والفني كما أسلفنا وضعف العناية بالتخطيط التربوي، وضعف الارتباط بين التربية والعمل المنتج، وفقدان الصلة العميقة بين محتوى التربية وبين حاجات التطور العلمي والتكنولوجي، وعدم توافر القيادات التربوية المتخصصة في ميادين التربية المختلفة. وسوى تلك من المشكلات التي غدت معروفة.
ويعنينا هاهنا أن نشير إلى أمر أساسي وهو أن أي دولة عربية غير قادرة بإمكاناتها المادية والبشرية وحدها على تحقيق التنمية التربوية المنشودة كماً وكيفاً، ولا بد من اجتماع القدرات العربية الكثيرة من أجل مواجهة مشكلات التربية في الوطن العربي بأسره.. وفي كل بلد عربي على حدة. والتعاون العربي في هذا المجال لا يجوز أن يقتصر على مجرد تبادل الكفاءات والخبرات أو العون المادي بل لا بد من مؤسسات عربية مشتركة ذات مستوى رفيع تسهم في إنشائها وتغذيتها بالمال والرجال البلدان العربية مشتركة وذلك من أجل تكوين المراكز الطليعية القادرة على معالجة أمهات المشكلات التربوية المشتركة. ومن الأمثلة على ذلك أن تقوم مؤسسة على مستوى قومي عربي رفيه تعنى بتكوين القيادات التربوية العليا التي تمس الحاجة إليها في البلدان العربية قاطبة ولا سيما في التخصصات الفنية النادرة من مثل التخطيط التربوي واقتصاديات التربية، والخارطة المدرسية، وتطوير المناهج، وتكنولوجيا التربية، والتعليم عن طريق الحاسبات الإلكترونيات وغير ذلك..
ومن الأمثلة على ذلك أيضاً تكوين مؤسسة رفيعة المستوى تعنى بإعداد الأساتذة الجامعيين في البلاد العربية، إعداداً يلائم حاجات المجتمع العربي.
– التجديد التربوي:
ألا ترى أن الآراء التربوية الحديثة المطروحة كحلول لا يمكن أن تطبق في ظل البنية التقليدية للمؤسسات التعليمية العربية؟..
بدهي أن كل ما أشرنا إليه فيما يتصل بعلاج مشكلات التربية في البلاد العربية يستلزم نظرة مجددة إلى التربية ونقلة نوعية في تحديد دور التربية في المجتمع، وإحداث تغييرات جذرية في النظم التربوية بنى ومحتوى وطرائق. غير أن هذا كله كثيراً ما يصطدم ببنية قائمة عصية على التجديد على رأسها البنية الإدارية. ومقاومة الإداريين للتجديد أمر أشار إليه الأدب التربوي في البلدان المتقدمة والنامية. أضيف إلى هذا أن التربية محافظة بطبعها، وكثيراً ما قيل أن مهمتها المضمرة في كثير من الأحيان أن تعيد بناء المجتمع على غرار ما كان لا على غرار ما ينبغي أن يكون. على أننا لا نحمل القائمين على نظم التربية وحدهم مسؤولية رفض الجديد، فالجديد لا بد أن يكون قائماً على أسس علمية متينة لا على مجرد الهوى، ولا بد أن يدرك المسؤولون صلاحه وفلاحه، كيما يقدم على تبنيه، وإلا آثروا الاحتماء بالقديم على بلاه بدلاً من الخوص في مغامرة تجديدية لا يدركون أبعادها ومداها. ومن هنا تقع المسؤولية في هذا الميدان على القيادات العليا الواعية، وعلى المؤسسات التربوية الجادة، فعليها أن تقدم الدراسات والبحوث وأن تقوم بالتجارب التي تعين أولي الأمر على تقبل الجديد، وركوب مركب المحدث.
– عزل عن الواقع:
هناك ظاهرة أخرى ملموسة هي جهل كثير من الطلبة للمعلومات الحياتية خارج أسوار المدرسة رغم أنه يتلقى دروساً ومنهاجاً يومياً.. أي مدارسنا عاجزة عن ربط مناهجها بالمجتمع؟..
الطلاق بين المدرسة وبين الحياة مشكلة أشار إليها المربون منذ مطلع هذا القرن، وتريث عندها بوجه خاص المربي «ديوي» وأكدها من بعده سائر المربين المحدثين. وقد قدم «ديوي» لأنظاره حول أهمية ربط المدرسة بالحياة وبالمجتمع أمثلة بعضها طريف من مثل حديثه عن طلاب مدرسة كانوا يقرؤون في كتبهم عن نهر المسيسبي. وعندما قاموا بزيارته يوماً ما، وكان بالقرب من مدرستهم، ذهلوا حين أدركوا أن هذا النهر هو الذي تتحدث عنه كتبهم. على أن العلاقة بين المدرسة والحياة يتجاوز مثل هذه الأمثلة الطريفة إلى ما هو أخطر: فالمدرسة كثيراً ما تعزل الطالب عن مجتمعه وعن التعامل مع واقعه.. وكثيراً ما تقوم بمهمة عكسية حين تطفئ تطلعاته وتساؤلاته حول ما يرى ويشهد من حوله.. وتلقي به يوماً بعد يوم في غياهب الدراسة التلقينية والمجردة، الأمر الذي دعا كاتباً مثل ألكسندر دوما صاحب كتاب الفرسان الثلاثة إلى التساؤل لماذا نجد هذا العدد الكبير من الأطفال الأذكياء وذلك العدد الكبير من الكبار الأغبياء..
ويجيب على هذا التساؤل بقوله لا شك أن المدرسة مسؤولة عن ذلك..
فمن بدهي الأمر أن أي إنسان لا يملك القدرات النظرية المجردة فحسب، بل يملك إلى جانبها مقررات عملية، ومواقف واتجاهات انفعالية وجمالية وحسية واجتماعية. غير أن المدرسة في معظم الأحيان تعنى بجانب من جوانب شخصيته عناية ليست دوماً ناجحة ونعني بهذا الجانب النظري المجرد. وهذا يردنا إلى ما سبق أن قلناه عن أهمية تكوين المواقف الإيجابية تجاه العمل اليدوي والعملي والمهني منذ نعومة الأظفار.. كما ينقلنا إلى الجهود التي تكاثرت في السنوات الأخيرة والتي استهدفت ربط المدرسة بالحياة وربط المدرسة بالعمل المنتج وإقامة الجسور بين المدرسة وبين مؤسسات العمل واللجوء أحياناً إلى نظام من التناوب بين الدراسة والعمل، وذلك كله من أجل القضاء على هذه الفرقة بين ما هو مدرسي وما هو واقعي، بين ما هو نظري وما هو عملي، ما هو محسوس وما هو مجرد.. ومن أجل تكوين الإنسان المتكامل في نموه الفكري والجسمي والعاطفي والخلقي والاجتماعي. فالمدرسة
لا تستهدف تكوين أناس مشوهين نمت ذاكرتهم على حساب الجوانب الأخرى في شخصيتهم، ولا تستهدف تكوين مجرد إنسان علامة يحفظ الكثير من فنون عمله غير أن الجوانب الأخرى في شخصيته ما تزال في مرحلة الطفولة، فالإنسان إما أن ينمو كلاً متكاملاً وإمّا ألاّ يكون.