تجربة الوحدة العربية المصرية السورية (1958-1961)

مجلة شؤون عربية التي تصدرها جامعة الدول العربية
عدد خاص عن الوحدة العربية: العدد 43 تاريخ أيلول/سبتمبر 1985

تجربة الوحدة العربية المصرية السورية (1958 – 1961)
د. عبد الله عبد الدائم

أولاً – مقومات الوحدة
لنبدأ بولادة الوحدة المصرية السورية، فليس كالبحث في المخاض مفصح وكاشف عن جوهر أي حدث أو أي فكرة.
منذ شباط/ فبراير 1954 بدأت العلاقات تنضج ويشتد ساعدها بين مصر وسورية: مصر التي استلم فيها القيادة جمال عبد الناصر بعد استبعاد محمد نجيب، وسورية التي عادت إليها الحياة الديمقراطية بعد خلاصها من حكم العقيد أديب الشيشكلي. وكان حلف بغداد، فاشتدت أواصر الحلف المصري – السوري. وكان مؤتمر باندونغ حيث التقت قيادتا البلدين، وكانت اتفاقات مصرية – سورية اقتصادية وعسكرية، بل كانت هناك قيادة عسكرية مشتركة بين البلدين.
وبعد آب/ أغسطس 1956، أي بعد تأميم قناة السويس، كان عبد الناصر في أوج تألقه، قائداً تحررياً مناضلاً ضد الاستعمار وآثاره، وزعيماً قومياً تهتف الجماهير باسمه في كل سهل وواد من الأرض العربية الممتدة. وبعد قرابة عام حشدت تركيا جيوشها – بتحريض من الولايات المتحدة – فجاءت قوات مصرية إلى اللاذقية تعبيراً عن التضامن المصري – السوري الذي غدا مؤيداً بخطوات عملية وواقعية. وجاء وفد من مجلس الأمن المصري يرأسه أنور السادات، ورد الزيادة وفد سوري برلماني يرأسه إحسان الجابري رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب.
وكان حزب البعث العربي الاشتراكي يتابع عن كثب مسيرة الثورة في مصر. وتمت لقاءات عديدة بينه وبين بعض رجال الثورة والمسؤولين في القطر المصري. وعندما شارك الحزب في حكومة التجمع الوطني في سورية عند عودة الديمقراطية إليها بعد الانقلاب على حكم أديب الشيشكلي، جعل العمل للوحدة مع مصر هدفاً أساسياً وعاجلاً من أهداف مشاركته في الحكم، وطرح هذه الفكرة في أكثر من مناسبة على الأحزاب المشاركة في الحكم، إلى أن قبلت حكومة التجمع الوطني فكرة البدء بمفاوضات من أجل قيام اتحاد فدرالي بين مصر وسورية، كما جاء في بيان رئيس الوزراء صبري العسلي آنذاك.
كان هذا كله فرصة سانحة لطرح فكرة الوحدة بين مصر وسورية، ولاسيما من الجانب السوري. وقد قابلها الجانب المصري إذ ذاك، وعبد الناصر نفسه، بالكثير من التحفظ، خوفاً من أن تقوم الوحدة ويقوم الجيش السوري بانقلاب، وتصبح سورية لغماًً في كيان مصر كما قيل إذ ذاك، أو خوفاً من تعجّل الخطى بدلاً من التمهيد للوحدة عن طريق خطوات متدرجة مستأنية، كما قال ويقول الكثيرون.
وفجأة، دون استئذان رئيس الجمهورية السوري آنذاك شكري القوتلي، استقل الطائرة أربعة عشر ضابطاً سورياً لمقابلة عبد الناصر. عند ذاك أصرّ وزير الخارجية صلاح الدين البيطار ومعه حزب البعث العربي الاشتراكي المشارك في حكومة التجمع الوطني على أن تبدأ المفاوضات الجادة من أجل قيام الوحدة، وأوفد رئيس الجمهورية صلاح الدين البيطار نفسه للقيام بهذه المهمة، كما اتخذ مجلس الوزراء قراراً يفوضه فيه بإجراء تلك المفاوضات الموعودة. وقد حمل البيطار معه مشروعاً لمبادئ دستور وحدة اتحادية، أعدّه مع قيادة الحزب. وكان الحزب، كما ذكرنا منذ مشاركته في حكومة التجمع الوطني عام 1954، يعمل ويناضل من أجل قيام هذه الوحدة، ودخل حكومة التجمع الوطني بعد أن وافق الحزب الوطني وحزب الشعب على قيام اتحاد فدرالي بين البلدين. وفي حزيران/ يونيو 1956 كاد يتم تشكيل وفد من الأحزاب للدخول في مفاوضات مع مصر من أجل «إقامة اتحاد فدرالي بين سورية ومصر» كما جاء في البيان الوزاري، لولا أن جاءت أزمة السد العالي وأزمة تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي، فكانت سبباً في تأجيل المفاوضات.
اجتمع صلاح الدين البيطار بعبد الناصر الذي عبر عن إعجابه بالضباط السوريين الذين وصلوا قبل يوم واحد، والذين طمأنوا الرئيس حول نياتهم، وأكدوا له استعدادهم لبذل كل غال ورخيص في سبيل الوحدة، ولو أدى ذلك إلى بقائهم في سيناء أو إرسالهم ملحقين عسكريين في الخارج. وقد طرح هؤلاء الضباط أمام عبد الناصر فكرة الوحدة الشاملة (الاندماجية)، واقتنع الرئيس بوجهة نظرهم هذه.

أما مفاوضات الوحدة التي قام بها البيطار مع عبد الناصر فتناولت، فيما تناولته، الاتفاق على قيام تنظيم حزبي واحد في مصر وسورية. وقد تريّث عبد الناصر خلالها عند منطلقين اعتبرهما أساساً لقيام وحدة صحيحة، أولهما وحدة القيادة التي تقتضي تنظيماً واحداً، وثانيهما إبعاد الجيش عن الاشتغال بالسياسة. وكان في مصر تنظيم واحد هو الاتحاد القومي، وكان في سورية بالإضافة إلى حزب الشعب والحزب الوطني والحزب الشيوعي، الحزب الذي قاد عملية الوحدة، حزب البعث العربي الاشتراكي. وقد تم الاتفاق على حل التنظيمين من أجل قيام تنظيم واحد جديد.
هكذا، وبعد استفتاء شعبي في القطرين، أعلنت الوحدة في 22 شباط/ فبراير 1958، تلك الأمنية الغالية التي ألهبت نفوس الجماهير، وحركت نضالها منذ عقود كثيرة بل منذ عهود تاريخية بعيدة.
ثانياً – دروس المخاض
من خلال هذا التاريخ المقتضب لولادة الوحدة السورية، لعلنا ندرك بعض بذور الضعف التي رافقت تلك الولادة، والتي أَنْتَشَت بعد ذلك وحملت وأَتْأَمَت وولدت العديد من الصراعات والمشكلات.
وفي رأينا أن في وسعنا أن نرد ثغرات الولادة هذه إلى ثغرتين كبيرتين أساسيتين: أولاهما التأويل الذي أول الكثيرون من خلاله الأسباب التي دفعت عبد الناصر ومعه مصر إلى قبول الوحدة، الوحدة الكاملة الاندماجية، بعد تخوف وتلكؤ وحذر، وما يكمن وراء هذا التأويل من فهم خاطئ لدوافع الضغط السوري العنيف من أجل قيام الوحدة. وثانيهما الإدراك المتباين لكل من القيادة المصرية والقيادة السورية لمعنى القيادة الموحدة والتنظيم السياسي الموحد.
1 – دوافع قيام الوحدة:
ولنبدأ بالثغرة الأولى، نعني دوافع قيام الوحدة.
من السرف أن نغفل، بين العوامل التي دفعت عبد الناصر إلى قيام الوحدة، الدور الذي كان في ذلك لإيمانه القومي العربي المكين ولروحه التحريرية النضالية ولإيمانه بضرورة النضال العربي المشترك ضد الاستعمار وإسرائيل. ولا أدل على ذلك من مبادرته إلى عون سورية أيام الحشود التركية، ومن تعاونه معها ضد حلف بغداد، ومن العلاقات الجديدة المتينة التي بدأ يقيمها بين مصر وسورية منذ استلامه الحكم، ومن التعاون الوثيق الذي نبدأ بينه حزب البعث العربي الاشتراكي والذي كان منطلقه اللقاء حول هدف كبير هو العمل العربي الموحد من أجل مقاومة مخلفات الاستعمار في الوطن العربي ومؤامرته الجديدة ومؤامرات ربيبته إسرائيل ومن أجل بناء كيان عربي جديد تقدمي متحرر سياسياً واجتماعياً.
غير أن بعض الأعوان والشارحين والمفسرين ممن صحب عبد الناصر وعمل معه وقعوا عن غير علم منهم – وكادوا يوقعون عبد الناصر نفسه – في حبال التفسير الذي روجته الصحف الأجنبية آنذاك، لغاية في نفس يعقوب، وقوامه أن سورية ألقت بنفسها في خضم الوحدة خلاصاً من مشكلاتها الداخلية المستعصية، لاسيما الشقاق الدائم بين الحزب الشيوعي وسائر أحزاب التجمع الوطني آنذاك، ومن بينها حزب البعث طبعاً، وانعكاس ذلك الشقاق على الجيش. وكثيراً ما وصفت هذه الصحف، وأيّدها في ذلك بعض الساسة والمفكرين في مصر خاصة، الوضع الذي كانت تعانى منه سورية قبل قيام الوحدة وصفاً يجعله على شفا جرف يكاد ينهار، حتى إذا جاءت الوحدة أنقذته من تردّيه بل من تفككه المحتوم.
وما نريد بهذا أن ننكر ما كان في سورية قبل الوحدة من صراعات داخلية، غير أن الصراعات وجدت في سورية منذ عهد ليس بقريب، وهي من شجون السياسة في كل عصر ومصر، والوحدة ليس السبيل الوحيد أو السبيل الأقرب لحلها.
يضاف إلى هذا أن جزءاً كبيراً من هذه الصراعات كان يتحلّق حول مسألة الوحدة، وكان الخلاف الأساسي في أعماقه خلافاً بين التيار العربي الذي تمثله الأحزاب القومية، لاسيما حزب البعث، وبين التيار الذي لم يكن يعطي للفكرة القومية مقام الصدارة.
وفوق هذا وذاك – وهذا قصدنا الأساسي من هذا التحليل – لم تكن الدعوة إلى الوحدة العربية في سورية حدثاً طارئاً أو ردّة فعل على أحداث سياسية تنذر بسوء العاقبة، بل كانت تعبيراً عميقاً عن تيار يضرب بجذوره في أعماق التاريخ العربي وفي ثنايا النضال الطويل الذي خاضته سورية وخاضته العديد من البلدان العربية من أجل الخلاص من السيطرة الأجنبية عامة والعثمانية خاصة، ومن التجزئة المصطنعة التي فرضها الاستعمار، وفي سبيل بناء كيان عربي موحد جدير بالأمة العربية ماضياً ومستقبلاً.
ولقد عبرت سورية في ذلك عن ضمير الوجود العربي كله، ولخّصت عصارة تجربة الأمة العربية منذ قرون بعيدة، ولاسيما منذ سقوط بغداد عام 1258 على يد أخلاط المغول والتتر ثم الأتراك، بل قبل ذلك في حقيقة الأمر، أي منذ أن أخذت الشعوبية تكيد عرب أيام الدولة العباسية نفسها وتندسّ من قبل في مفاصل الحكم الأموي وثناياه.
والحق أن علينا أن نبحث عن جذور الوحدة المصرية السورية في هذا الماضي العربي السحيق، فهو على تقادمه ولّد تجربة متراكمة متصلة، جعلت العروبة منذ وقت مبكر بعد ظهور الإسلام في صراع مع الشعوبية. وهنا نود أن نقول، عابرين، إن العروبة لم تعرف الصراع بينها وبين الإسلام يوماً ما، ولا يمكن أن يكون بينها وبين الإسلام سوى الالتحام والتكامل والتمازج العضوي. والصراع الحق كن دوماً وأبداً بينها وبين الشعوبية، تلك الشعوبية التي أرادت أن تركب مركب الدعوة الإسلامية وتشوّهها من أجل إبعاد سلطان العرب وقيادتهم لتلك الدعوة . وفي مقابل مخاطبة القرآن الكريم للعرب بقوله «كنتم خير أمة أخرجت للناس»، وقول الرسول الكريم عن نفسه أنه «خيار من خيار من خيار» وقوله «أحبوا العرب لثلاث: القرآن عربي، وأنا عربي، ولسان أهل الجنة عربي» (أخرجه البيهقي عن ابن عباس) وقول عمر بن الخطاب في وصيته لمن جاء بعده: «وأوصيك بالعرب خيراً فإنها مادة الإسلام» في مقابل هذا وذاك ردّدت الشعوبية أقوالاً تحطّ من شأن العرب وتعلّى من شأن سواهم ولاسيما الفرس، كقول مهيار الديلمي مخاطباً العرب:
فعودوا إلى أرضكم في الحجاز لأكل الضباب ورعى الغنم
وما نودّ أن نطيل في هذا الباب فهو ذو شجون وله غير هذا المجال(*). ولندع الشعوبية في عصر الإسلام المبكرة، ولندع انهيار الدولة العربية الإسلامية على يد أخلاط المغول والتتر والترك، بل لندع ما جربته الشعوب من تشويه للعقيدة الإسلامية عن طريق ما دسّته فيها من تراث ثقافي ديني دخيل. لندع هذا التاريخ البعيد كله، وهو محمّل بدروس جديرة بالتأمل. ولنمض إلى العصور الحديثة.
ولسنا في حاجة إلى الحديث عن نضال العرب، لاسيما في بلاد الشام، ضد الحكم العثماني. غير أن من الجدير أن نذكر – توضيحاً لما ستواجهه الوحدة المصرية السورية – أن الدعوة العربية أيام الدولة العثمانية تزعّمها أبناء الشام بوجه خاص، في حين أن معظم المفكرين في مصر آنذاك كانوا من أشدّ المؤيدين للمحافظة على «الدولة العلّية العثمانية» بل من القائلين بتفكير من يفعل غير ذلك. حسبنا في أن هذا نقارن بين موقف المفكر الحلبي عبد الرحمن الكواكبي ودعوته إلى الفكرة العربية في كتابه «أم القرى» وبين موقف الإمام محمد عبده ومصطفى كامل وعبد الله النديم وسواهم من مفكري مصر آنذاك. وفي مصر الحديثة، حسبنا أن نذكّر بمواقف بعض المفكرين المناوئين للفكرة العربية والداعين إلى الإقليمية والفرعونية، من أمثال أحمد لطفي السيد (أستاذ الجيل) ومحمد عبد الله عنان (عام 1930) ومحمد حسين هيكل في بداية عهده، وكثير من تلاهم بعد ذلك (1). نقول هذا لا لننتقص من شأن إيمان مصر بالعروبة، بل لنبيّن تباين الجذور التاريخية التي تثوي وراء اندفاع كل من القيادتين المصرية والسورية نحو تحقيق الوحدة. ومن سرف القول ألا نذكّر ما ظهر في مصر في العصر الحديث منذ فترة مبكرة بعض الشيء من تيار عربي قومي تجلى لدى أمثال محمد علي علوبة، ومكرم عبيد، وعبد الرحمن عزام، وأحمد حسن الزيات، وعبد القادر المازني، ثم تابع طريقه صعداً ونما ونضج وتوالد بعد ذلك، واشرأبّ بعد ثورة تموز/ يوليو 1952، بتأثير عبد الناصر بوجه خاص. غير أن الجذور التاريخية للفكرة العربية ظلب بالبداهة متباينة بين مصر وسورية، الأمر الذي لم يتح للكثير من الساسة المصريين بعد الوحدة أن يدركوا الأبعاد القومية العميقة للمبادرة السورية. وهكذا لجأوا إلى تفسيرات مصطنعة وسلبية، جعلت من مطلب الوحدة لدى القيادة السورية نوعاً من الهروب إلى أمام.
ومن عجب أن نقرأ للأستاذ محمود رياض، وهو من أبرز الذين عملوا من أجل الفكرة العربية، وممن أبلوا من أجل الوحدة المصرية السورية أحسن البلاء، كلمة حديثة بعث بها إلى الندوة التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بين 26 و29
تشرين الثاني/ نوفمبر 1979 «حول القومية العربية في الفكر والممارسة» يقول فيها – من خلال حديثة عن الحوار بين القيادتين المصرية والسورية من أجل قيام الوحدة وعن رغبة الجانب المصري في التريث «وفي السير في الوحدة بخطوات ثابتة وتدريجية» – :
«إلا أنه خلال هذا الحوار بين الآراء المختلفة حول طبيعة وشكل الوحدة، كانت الأمور تتطور بسرعة غير متوقعة في سورية. إذ اشتدت الخلافات بين الكتل العسكرية، ولم يجد قادة هذه الكتل حلا لمنع انشقاق الجيش السوري سوى الإسراع في إعلان قيام الوحدة وتسليم القيادة كاملة لجمال عبد الناصر. ووجد عبد الناصر نفسه فجأة أمام هذا الوضع، فلم تتح له الفرصة لمناقشة توقيت قيام الدولة الموحدة أو شكلها، وانتهى الأمر بإعلانها يوم 22 شباط/ فبراير 1958»(2).
ولا شك أن مثل هذا التفسير، الذي راود عقول كثير من الساسة منذ ظهور الوحدة، وضع الوحدة منذ البداية في إطار عملي مجدب قاحل، بدلاً من إدراك معانيها القومية العميقة وأصولها التاريخية وجذورها الراسخة في نفوس الجماهير. وشتان بين المنظارين، وشتان بين ما يمكن أن يصدر عن كل منهما من نتائج وسلوك بعد الوحدة وعند التعامل ومعالجة مشكلاتها.
في «فلسفة الثورة» يحاول عبد الناصر أن يبحث في أسباب قيام ثورة 23 تموز/ يوليو 1952 في مصر. ويبين، فيما يتبين، أن من غير الصحيح القول: أن ثورة 23 يوليو قامت بسبب النتائج التي أسفرت عنها حرب فلسطين، أو إن الثورة في نفس زملائه ولدت يوم فضيحة الأسلحة الفاسدة، أو ولدت يوم 16 مايو 1948 يوم بدأ حياته في حرب فلسطين، أو أنها ترجع إلى الفوران الذي عاشه يوم كان طالباً يعيش مع المظاهرات الهاتفة بعودة دستور سنة 1923، أو… وينتهي به التحليل إلى القول بحق بذور الثورة «ولدت في أعماقنا حين ولدنا، وأنها كانت أملاً مكتوباً خلّفه في وجداننا جيل سبقنا» ويعلق على هذا كله تعليقاً فيه العمق والوعي حين يقول إن الحديث عن فلسفة الثورة يلزمه أساتذة يتعمقون في البحث عن جذورها الضاربة في أعماق تاريخ شعبنا (3).
ومن هنا نقول: أو ليس البحث في عوامل ولادة الوحدة المصرية السورية يستلزم أيضاً وقبل كل شئ البحث عن جذور الفكرة العربية في أعماق التاريخ العربي كله، وفي نضال الشعب العربي في بلاد الشام وسواها من أجل التحرر من التبعية العثمانية والتجزئة التي فرضها الاستعمار، فضلاً عن البحث في آمالها ووعودها والآفاق المستقبلية الثرية التي تتبدى للشعب العربي من خلالها؟
لغتان متباعدتان إذن رافقتا ولادة الوحدة: لغة ترى فيها إنقاذاً لبلد عربي يحتضر، وتنظر إليها من خلال المعطيات السياسية الواقعية في المنطقة العربية ومستلزماتها ومن منظار السياسة الخارجية لمصر، بل تدركها من وراء ذلك مدى حيوياً لمصر و«توظيفاً» مصرياً جديداً للفكرة القومية العربية. ولغة تندّ عن فهم من لم يرتضع أفاويقها مذ ميعة الصبا، ترى فيها أول تجسيد عملي حديث لحلم الوحدة العربية العريق وأول ثمرة من ثمار النضال الطويل من أجله، وأول خطوة في طريق نهضة الوجود العربي بعد تخلفه الطويل، بل أول ردّ عصري على مؤامرة عمرها عمر التاريخ العربي، نعني المؤامرة على العرب والعروبة، باسم شتى الذرائع والمذاهب، بل باسم الإسلام نفسه في بعض الأحيان.
ومن خلال هاتين اللغتين المتباينتين ولدت، منذ البداية وعبر مسيرة الوحدة حتى آخرها، الإشكالية الأساسية في الوحدة المصرية السورية.
2 – التنظيم السياسي الشعبي:
ولنمض إلى الثغرة الثانية التي رافقت مخاض الوحدة في نظرنا: أنها الثغرة التي ولّده التصور الخاطئ للتنظيم السياسي الشعبي الذي ينبغي أن يتوافر لدولة الوحدة.
لقد كانت تجربة عبد الناصر في هذا المجال في مصر تجربة أوصلته إلى نتائج حاسمة
لا رجعة فيها. وقد تحدث عن هذه التجربة في «فلسفة الثورة» وفي «الميثاق» وفي أماكن أخرى، وأشار إليها في أكثر من خطبة. إنها التجربة التي انتهت عنده إلى رفض فكرة الأحزاب السياسية، وإلى المناداة بقيام اتحاد شعبي شامل يضمّ قوى الشعب جميعها. وقد قادته إلى هذه النتيجة معاناته للحكم بعد ثورة يوليو. لقد شهد تصارع الأحزاب والفئات السياسية بعد هذه الثورة التي قام بها الجيش، وآثار غضبه ما سمعه من مطاعن متبادلة بين رجال المصريين، وعزّ عليه أن تغيب كلمة «نحن» من أفواه الجميع، وأن يدور الحديث دوماً وأبداً عن «الأنا» البغيض على حد قول مشرّع الشعر الفرنسي «بوالو». ومن هنا لم يجد بديلاً من أن يستلم الجيش القيادة السياسية مباشرة، وأزاح محمد نجيب، وحرم أي نشاط حزبي. وزاد في إيمانه بسلامة هذا الخط، بل دلّه على طريق التنظيم الشعبي المرجو، ما حدث يوم العدوان الثلاثي على مصر، إذ شهد أبناء مصر في بور سعيد وسواها، على اختلاف منازعهم واتجاهاتهم السياسية، يداً واحدة أمام العدو الغازي. ومن هنا ولدت في مخيلة صحبه فكرة الاتحاد القومي. الذي يضم أفراد الشعب جميعاً في تنظيم واحد وحيد، ويجمع كلمتهم كالبنيان المرصوص.
وهكذا بحث جاهداً عن صيغة مستحيلة بالطبع والجوهر، صيغة يكون فيها للشعب صوت وكلمة وتمثيل، ويكون فيها هذا كله في الوقت نفسه في إطار واحد ومن منظار واحد أي بالضرورة من المنظار الذي تريده الدولة وتمليه. لقد كانت ضالّته تنظيماً شعبياً يكون كما يُراد له أن يكون، أي كما تصوغه إرادة الدولة، أو بكلمة أخرى تنظيماً شعبياً غير شعبي، ولا يكون مرآة لأفكار الشعب ومنازعه المتنوعة الغنية. لقد كان ما يرجوه مطلباً أجمل وأخطر من أن يتحقق في الواقع يوماً ما: أن يجتمع الناس جميعهم في تنظيم وحيد (الاتحاد القومي)، أي أن تعطّل طاقة الإنسان الأولى، نعني طاقته الفكرية التي من خلالها يبني ويرقى وينقد ويطور ويبدع الجديد.
وعندما فشلت فكرة الاتحاد القومي، واستبان أنه لا يعدو في النهاية أن يكون تجمعاً تستوي فيه شتى المنازع، ويُحشد القوم من كل حدب وصوب، دون أن يوحدهم سوى الانتماء لإرادة الدولة ظاهراً والكيد لها باطناً في كثير من الأحيان، أطلق عبد الناصر فكرة الاتحاد الاشتراكي في طور متأخر من حياة الجمهورية العربية المتحدة، ووضح أصولها في «الميثاق». ولم يتح لهذه الفكرة أن ترى النور في سورية قبل الانفصال، سوى أن طبقت في مصر بعد الانفصال. وعلى الرغم من أنها فكرة متقدمة إذا قيست بفكرة الاتحاد القومي، إذ طرحت على نحو واضح القول بتحالف القوى الممثلة للشعب في مقابل تحالف الإقطاع مع رأس المال المستغل، فإن مصيرها في مصر بعد الانفصال لم يكن أحسن حظاً من مصير الاتحاد القومي. وهذا ما اعترف به بيان 20 آذار/ مارس 1968 نفسه إذ ورد فيه: «ولم تكن المشاكل التي عاناها الاتحاد الاشتراكي ترجع إلى قصور أو عيوب في صيغه العامة. وإنما كانت أسباب القصور والعيوب ترجع إلى التطبيق(4)». ومن أهم عيوب التطبيق في نظره أن «عملية إقامة الاتحاد الاشتراكي لم تبن على الانتخاب الحر من القاعدة إلى القمة».
وفي مقابل التجربة الناصرية الحاسمة عند صاحبها والتي لا تقبل التطوير أو المراجعة، كانت هناك التجربة السورية. غير أن هذه التجربة السورية لم تكن حاسمة في نتائجها وفي الدروس التي استخلصتها من الواقع. صحيح أن مطلب الديمقراطية كان قد بدأ يشتد عوده بعد معاناة الانقلابات العسكرية الفاشلة، وبعد مرارة دكتاتورية حسني الزعيم وأديب الشيشكلي، وصحيح أيضاً أن إسقاط حكم أديب الشيشكلي من قبل الأحزاب السورية مجتمعة، مؤشر سليم على أن جذور اللاديمقراطية والحكم الفردي المستبد بدأ اقتلاعها من التربة السورية، إلا أن تجربة الأحكام الدكتاتورية والتسلطية في الوطن العربي لم تكن قد اتسعت من بعد. وكانت بعض الأحزاب السورية، ومن بينها أحزاب تقدمية، قد اضطرت إلى التعاون مع الانقلابات العسكرية، أملاً في أن تكون تلك الانقلابات مقدمة لحياة سياسية ديمقراطية حقة. بل لعل فكرة الديمقراطية السياسية لم تكن تحتل في أذهان كثير من أفراد الطليعة السياسية السورية مقام الصدارة بالقياس إلى الديمقراطية الاجتماعية ومطالب التغيير في البنية الاقتصادية الاجتماعية للبلد. ورغم تأكيد حزب البعث على أهمية الجمع المتوازن بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية (وهذا ما أكده عبد الناصر من بعد في «الميثاق») لم تسمح له حداثة نشأته وتدافع الأحداث السياسية العابرة أن يصوغ تصوراً واضحاً لنظام سياسي يتحقق فيه هذان المطلبان، فضلاً عن أن صياغة مثل هذا التصور لا تزال ضالة الكثير من الدول النامية بل المتقدمة، والعقبة الكأداء التي لا تزال ترتطم عليها جهود الإنسان في أكثر بقاع العالم.
ولعله في نهاية الأمر مطلب هو دوماً أمام الإنسان لا وراءه، يعدو نحوه ويسعى إليه ويبنيه يوماً بعد يوم. بل إن الشرط الأول من شروط الديمقراطية، نعني التعدد، تعدد التنظيمات والأحزاب والاتجاهات، لم يكن الإيمان به راسخاً ذلك الحين في أذهان الكثير من أفراد الكثير من أفراد الطليعة السياسية والفكرية.
ثم إن التجربة الحزبية في سورية كانت تجربة غنية ومتقدمة، وكانت هنالك أحزاب لها سمات الحياة الحزبية ومقامها، من مثل حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي والحزب القومي الاجتماعي، إلى جانب أحزاب تقليدية لا تتوافر فيها سائر صفات الحياة الحزبية الصحيحة من مثل الحزب الوطني وحزب الشعب، غير أنها لعبت دوراً كبيراً وأساسياً في حياة سورية وفي تحريرها من الاستعمار وفي بنائها بعد الاستقلال. وكانت تجربة هذه الأحزاب جميعها، حديثها وقديمها، في نمو ونضج موصولين. وكان يرجى لها أن تصل بعد المعاناة والنضال إلى صيغة من الحياة الديمقراطية مقبولة وسليمة. وكانت من أهم سمات تلك الأحزاب، ولاسيما الحديثة والتقدمية، أنها كانت تستند في نشاطها إلى إيديولوجية واضحة، كما تستند في تنظيمها إلى طليعة عميقة الإيمان قادرة على نشر إيمانها في صفوف الشعب عن طريق النشاط الفكري المستمر والدعوة الفكرية الجادة، يضاف إلى هذا كله أن بعض الأحزاب التقدمية الحديثة، ولاسيما حزب البعث، كانت تعتبر نفسها في مرحلة البناء والتكوين وشق الطريق وتعبيده أمام الأجيال القادمة، وكانت ترى أن موقعها الطبيعي هو موقع الجماهير وتوعيتها وقيادتها لا موقع السلطة والحكم. وكان حزب البعث بوجه خاص يرى أن الطريق شاقة وعسيرة وأن درب النضال من أجل بناء حركة قادرة على توحيد الأمة العربية وتحقيق تقدمها وبناء حضارتها درب طويلة مليئة بالنصب والعرق.
وفوق هذا كله، بل قبل هذا كله، لم يكن حزب البعث حزباً قطرياً سورياً، بل حزباً عربياً، في تنظيمه وأفكاره، في أنظاره وأساليب عمله ونضاله. وكان يرى في الوحدة الموعودة، وحدة مصر وسورية مقدمة رائعة لمدّ آفاق نضاله العربي ولنشر الفكرة العربية على أوسع نطاق ممكن في سورية ومصر وسائر البلاد العربية. وكان طبيعياً أن يرى أن الوسيلة الناجعة الفعالة لتحقيق هذا التغلغل الحار في أوصال الوجود العربي كله، هي وسيلة العمل مع الجماهير الشعبية لا وسيلة السلطة وحدها وأجهزتها, إنها الحوار الفكري الديمقراطي الحر ينمو يوماً بعد يوم على الساحة العربية، ويجذب الجماهير الشعبية إلى الوحدة وأهدافها، بحيث تضغط وتكافح من أجل الانضمام إلى عقد الجمهورية العربية المتحدة.
تجربتان متباينتان إذن تم اللقاء بينهما من خلال الوحدة من أجل تكوين تنظيم سياسي شعبي واحد. وطبيعي أن يكون الجمع بين التجربتين عسيراً وأن يكون مطلب الوصول إلى تكوين تنظيم سياسي موحد مطلباً محفوفاً بالغموض والتأويلات المتباينة والمعاني الخاصة المستقاة من تجربة كل من الطرفين المتعاقدين. وكان هذا الأمر بوجه خاص يحتاج إلى جلاء ووضوح الأيام منذ الأيام الأولى للوحدة، بل منذ ولادتها، من أجل تعميق تجربة كل من القطرين وإغناءها بتجربة القطر الآخر وسعياً إلى توليد صيغة لنظام سياسي سليم يحمي الوحدة ويكون الدرع الشعبي والفكري لها. ولكن شيئاً من هذا لم يحدث. ومن هنا اتسعت هذه الثغرة التي رافقت ولادة الوحدة، واتسع الخرق على الراقع، وكان من ذلك ما كان من صراعات الوحدة ومن مأساة الانفصال. على أن لنا عودا إلى هذا الموضوع الهام، موضوع التنظيم السياسي لدولة الوحدة وما يتصل به من مفهوم الديمقراطية.
3- الأخذ بفكرة الوحدة «الاندماجية الشاملة»:
إلى هاتين الثغرتين اللتين شكت منهما ولادة الوحدة، ثمة من يضيف ثغرة ثالثة هي الأخذ بفكرة «الوحدة الاندماجية» الشاملة بدلاً من الأخذ بصيغ أخرى كالكونفدرالية أو الفدرالية أو مجرد التنسيق الاقتصادي والثقافي والعسكري وسواه…
ولقد تضخم القول بهذا التأويل في السنوات الأخيرة، وسنوات التراجع في المد القومي، واتسعت أبعاده وكان يقود إلى توليد نظريات جديدة في الوحدة وأساليب بنائها. بل لعل الكثيرين قد رأوا أن العقبة الكأداء أمام تحقيق الوحدة العربية هي العقبة التنظيمية المتصلة بالصيغة المرجوة والشكل المنشود لتلك الوحدة. واعتقد غير القليل من المنظرين وأولى الرأي أن العمل العقلاني اللازب لبناء الوحدة يفترض أولاً وقبل كل شئ البحث في شكلها وإطارها.
أمام مثل هذه الآراء المتكاثرة في هذا الباب، نود أولاً أن نبدي بعض الملاحظات الأولية المتصلة بمنهج معالجة مثل هذا الموضوع:
أ- من مزالق التفكير أن يصدر أحكامه على الظواهر بعد تغيرها، بل بعد فشلها. والنظرة «إلى خلف» بعد مرور الأحداث نظرة فيها دروس إيجابية مفيدة ولكنها كثيراً ما توقع في مزالق عديدة.
ب- وراء هذا القول، القول بفشل الوحدة لأسباب منها ما تم من اختبار «خاطئ» لشكلها «الاندماجي»، موضوعة خطيرة قوامها أن الوحدة المصرية السورية كان مقدراً لها بالضرورة أن تفشل. وهي موضوعة خاطئة، إذ كان مقدراً للوحدة، رغم كل شئ ورغم أخطائها الكثيرة، أن تنجح وتتطور وتستمر، لولا أن تحركت القوى الانفصالية، ومن ورائها القوى الأجنبية وإسرائيل، فطوّحت بالوحدة، مفيدة من الأخطاء التي وقعت فيها.
ج- دروس التاريخ تحدثنا عن تجارب وحدوية عديدة أخذت الشكل «الاندماجي» منذ البداية، وتم لها النجاح رغم أن مظاهر التقارب بين الدول التي تم توحيدها لم تكن أكبر من مظاهر التقارب بين مصر وسورية، بل كانت في الواقع دونها بكثير في معظم الأحيان.
د- التاريخ العربي الماضي عرف الدولة العربية الواحدة، وعرف الاندماج بين أقطار عديدة من الوطن العربي. ولم يكن ما وقع بين الحين والحين من الانفصال بين أجزاء الدولة العربية وليد الشكل، بل كان وليد عوامل سياسية وصراعات عرقية أو دينية يحدثنا عنها التاريخ.
هـ- في مقابل ذلك عرف التاريخ العربي الحديث، في سنواته الأخيرة، وحدات سميت «فدرالية» ولدت ميتة منذ البداية ولم تكن «فدراليتها» ضماناً لصلابتها، بل كانت إيذاناً بعجزها وعطالتها وسقوطها.
و- من مباينة التفكير العلمي أن نضع قواعد صارمة حول شكل الوحدة تصلح الوحدة لكل زمان ومكان. ومن الخطأ أن نتبنى صيغاً (من الكونفدرالية أو سواها) نجحت في بعض البلدان الأجنبية غالباً لننقلها إلى بلدان أخرى وإلى البلدان العربية بوجه خاص، ضمن أوضاع مغايرة وأزمان متباينة، لاسيما إذا ذكرنا أن ما يتوافر من عوامل الوحدة ومقوماتها لدى الشعب العربي قلما توافر أو يتوافر لأي شعب آخر.
بعد هذه الملاحظات الأولية لنمض إلى صلب الموضوع:
وصلب الموضوع في نظرنا هو السؤال الآتي: هل التباين النسبي المحدود القائم بين الأقطار العربية (في البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وسواها) سبب يدعو إلى عدم تعجّل الوحدة، أم أنه نتيجة لغيابها؟ لاشك أن التجارب التي مرت بها الأقطار العربية منذ تداعي الدولة العربية حتى اليوم تجارب متباينة أدت بالتالي إلى توليد بنى متباينة. ولاشك أن تعميق هذا التباين في البنى قد تمّ على يد الاستعمار بوجه خاص. ولاشك كذلك أن عوامل التاريخ البعيد والقريب قد ولّدت في كل قطر بنى سكانية وعرقية ودينية متباينة إلى حد ما. ولكن من يستطيع أن يزعم أن هذه الضروب من التباين تتجاوز التنوع، التنوع المغني والخصيب غالباً، والمتكامل في معظم الأحيان، إلى التعدد المتصارع المتضارب؟ أفلا يصحّ القول إن ما نجده في هذه البنى المتباينة – والمتكاملة في جوهرها – هو من باب الكثرة في إطار الوحدة، والتنوع في إطار الاتساق، بل لعله بمثابة الألحان المتنوعة في سنفونية واحدة؟ إنه التنوع الذي نجده في كل عصر ومصر، ولا ينجو منه بلد في العالم، والذي هو في معظم الأحيان مصدر خصبه وإبداعه. أما الذي يقلب هذا التنوع إلى تصارع داخل الوطن العربي فهو واقع التجزئة نفسه. فالتجزئة بين أبناء الرحم الواحد تربة صالحة لتحويل التباين إلى شقاق ولقلب السمات واللونيات الخاصة بكل بلد حواجز وسدوداً، ولا حالة التكامل تنافساً وجشعاً. وما نشهد اليوم من تصارع بين بعض البلدان العربية هو في حقيقته نتيجة لغياب المدّ الوحدوي وانحسار التيار القومي الصاهر الجامع. إنه إرهاص بما يمكن أن يؤول إليه الوجود العربي وبما يمكن أن يترى فيه إن هو تنكّب الوحدة طريقاً.
وأياً كان الأمر فإن ضروب التباين بين أقطار الوطن العربي لا يمكن تجاوزها ضمن واقع التجزئة، بل التجزئة تزيد في حدتها وتقلبها في كثير من الأحيان تعارضاً وصراعاً. إنها الأوصال تزداد اضطراباً في حركاتها وتنافراً في جهدها حين يعتلّ الجهاز العصبي الناظم لحركتها المنسق لسعيها. وترقّب زوال الفوارق من غير تربة الوحدة خداع ووهم، وقد يكون أحياناً تبريراً مقصوداً لمنازع الانفصال. فأكثر الفوارق، كما ذكرنا، أشبه باللونيات والألحان الفرعية التي تغذي اللون الأصيل واللحن الأساسي وتغنيهما. والفوارق الأخرى التي حوّلها الزمن وألاعيبه عقبات وأمراضاً، تزداد وتتسع في أجواء التجزئة، ويستشري خطرها وشرها، وتربو وتفسد في الجو الآسن، في حين أنها تتضاءل وتذوب في حميا العمل القومي الوحدوي وفي حرارة السعي إلى بناء كيان حضاري مشترك.
ولننظر بعد ذلك في اللحظة التاريخية التي تمت فيها الوحدة بين مصر وسورية: بلدان عربيان بينهما أعمق أواصر الوحدة الثقافية، يعانيان من مشكلات اجتماعية واقتصاديو متشابهة إلى حد بعيد ويواجهان خطراً واحداً مسيطراً هو خطر الاستعمار وربيبته إسرائيل، ويضربان بجذورهما في ماض عرفا فيه النضال المشترك بل الحياة المشتركة. وفي القلب منهما قامت دولة عادية شطرتهما وباعدت بينهما أرضاً، وفصلت شمال الوطن العربي عن جنوبه ومشرقه عن مغربه. في هذين البلدين تقوم تجربتان تقدميتان متماثلتان في الأهداف والفلسفة السياسية، وتقوم زعامتان رائدتان، زعامة عبد الناصر بجلالها وواقعيتها وقوتها، وزعامة حزب البعث بأنظارها وإطارها الإيديولوجي المتكامل ونظرتها العربية الشاملة وتطلعها المشرئب إلى مستقبل عربي حضاري جديد. في مثل هذه اللحظة التاريخية من يستطيع الرهان على فشل الوحدة بين القطرين، ومن يستطيع أن يلجم حرارة الآونة وحميّا الظروف، وأن يأوي إلى تحليلات باردة يصفها بأنها عملية عقلانية؟ من يقوى في مثل تلك اللحظة على أن يغلّب الشكل على الجوهر والصورة على المضمون؟ وذلك الجمهور الهادر الذي اندفع في سورية كالسيل العرم بعد قيام الوحدة، يعيش نشوة النصر ويحقق حلم الأجيال، ويرهص بالمستقبل الكبير، هل يشفيه ويرضيه أن تُلْجَم التجربة وأن توضع في عقال الشكل وأن تخضع لتمحيص السائل عن جنس الملائكة؟
نقول هذا ولا ننكر أمر البحث في شكل الوحدة دوماً وأبداً، بل لنبيّن أن مثل هذه المسألة تحدّد الجواب عنها جملةُ الظروف المتوافرة في لحظة البحث في الوحدة. بل لعلنا لا نرضي الكثيرين من دعاة التعقل الجدب والتأني الحائر، إن نحن قلنا إن أحداثاً تاريخية عارمة كأحداث الوحدة بين قطرين أو أكثر أحداث لا تبحث وتدرس بقدر ما تعاش من خلال الظروف التي تفرض نفسها. وهل في وسعنا أن نتخيل بناء الوحدة بناء بارداً نضع فيه حجراً فوق آخر، وذرة من الرمل فوق أخرى؟ إن صورتها الحقة كتلة حارة منصهرة تحركها من داخلها يد صناع لتصوغها على نحو ما ترجوه. ونحن نؤكد هذا المنطلق، وقد نغلو فيه عن قصد، لندحض اتجاهات تسود وتغدو حقيقة ذائعة شائعة، قوامها الزعم بأن العمل للوحدة العربية ينبغي أن يكون عمل علمي طويل، ندرس من خلاله الواقع العربي ومشكلاته دراسة دائبة صبورة مدققة، ونبحث فيه طويلاً عن وسائلها وأشكالها، تمهيداً لبنائها يوماً ما. ولئن كَّنا
لا ننكر، بل نؤكد أهمية البحث العلمي في بنية الوجود العربي، فإننا ندرك، مع ذلك، أن هذا العمل العلمي الصبور البارد لا يؤتى ثمراته إلا إذا رافقه بل ولد من خلاله تيار يحرك الوعي العربي ويعبئه دوماً في سبيل قضية تتجاوز التباين والتشابه بين أجزاء الأمة العربية وما سوى ذلك من شجون الدراسات الاجتماعية، إلى قضية حياة ومصير، قضية بناء الوجود العربي المنيع، قضية الخيار بين أصول الحضارة العربية عبر الدويلات وبين بزوغها من خلال الجهد العربي المشترك والموحد. ومثل هذه التعبئة للوعي تفترض توليد شحنة انفعالية لدى الجماهير، شحنة لا تبنى من فراغ، بل تبنى من تحليل الواقع العربي والوجود العربي في شتى جوانبه تحليلاً ينتهي دوماً إلى النتيجة المحتومة والقدر المفروض: لا سبيل إلى نهضة هذا الوجود العربي وبنائه بناء حضارياً مكيناً غير سبيل تكامل طاقاته المختلفة عن طريق الوحدة. ولا طاقة لأي بلد عربي، مهما تعظم إمكاناته، على أن ينهض منفرداً وعلى أن يحل مشكلاته منعزلاً.
والحق بوجيز العبارة، عندما تتوافر الظروف العميقة لقيام وحدة بين قطرين أو أكثر، على نحو ما توافرت عند الوحدة المصرية الوسورية، وعندما يكون هنالك محرك فكري وسياسي وشعبي عميق يدفع إلى ولادة الوحدة، يغدو البحث في توفير الصيغ والأطر اللازمة لجعل الاندماج حقيقة واقعة راسخة أمراً ينبغي أن يتم بعد قيام الوحدة عن طريق التعهد والرعاية، أياً كان الشكل الذي صيغت عليه في البداية. والشرط الضروري الذي نود أن نؤكده في هذا المجال، أن قيام الوحدة في شكلها الاندماجي، نتيجة لظرف تاريخي نادر ومدّ سياسيي وشعبي عارم، ينبغي ألا ينسينا أهمية تعهد هذه الوحدة بعد قيامها، بحيث نوفر لها «الاندماج» الحق عن طريق جهد موصول في شتى جوانب الحياة، وعن طريق تعبئة مستمرة وتوعية دائمة للشعب. ولرب وحدة «اندماجية» من حيث الولادة تتردى إلى فرقة ونزاع فتجزئة حين لا تتوافر لها شروط رعايتها، ولرب وحدة «فدرالية»، بل دون ذلك، تنمو وتنضج إذا توافرت لها شروط الرعاية، وتغدو جديرة بأفضل أوصاف الوحدة «الاندماجية».
مسألة الوحدة «الاندماجية» أو غير «الاندماجية» مسألة زائفة إذن إذا نظرنا إليها في معزل عن جملة السياق التي تتم فيه. وشكل الوحدة يغدو ثانوياً إذا توافرت الظروف اللازمة لقيامها على نحو ما، وإذا تم تعهدها بعد ذلك وتطويرها بحيث تغدو أعمق فأعمق. ولعله ضرب من الهروب أن نحمل شكل الوحدة أخطاء تُسأل عنها أمور كثيرة عدا الشكل. وهل نلوم من قصّ الثوب وخاطه إن غدا خلاقاً بالياً على يد من فرّط في استعماله وأفرط في تسخيره؟
ثالثاً – مسيرة الوحدة
لندع المخاض وثغراته، ولننتقل إلى مسيرة الوحدة نرصد، من خلال نظرتنا العجلى إليها، ما رافقها من مزايا ومآثر وما أصابها من مثالب وأمراض.
1 – المآثر:
أما المآثر فلعلنا في غير ما حاجة إلى التريث عندها، ما دام قصدنا أن نبحث في المثالب التي ساعدت على انفصام الوحدة، متخذين من ذلك دروساً للمستقبل. ومع ذلك لابد من نظرة سريعة إلى أمهات أعطيات الوحدة وجناها:
أ- لا شك أن أكبر ما قدمته الوحدة المصرية السورية ولادة هذا الكيان القوي المنيع الذي قفز من فوق إسرائيل، وكاد يطوقها تطويق السوار للمعصم، والذي أوقعها بين فكي الكماشة كما يقال. ولعل إسرائيل، ومن ورائها الاستعمار، لم ترتعد فرائصها يوماً كما ارتعدت بعد قيام الوحدة. لقد غدت هنالك قيادة عسكرية موحدة في شمالي إسرائيل وجنوبيها، جاهزة للحركة في أي لحظة، ووراءها جماهير شعبية ناهزت عدتها ثلاثين مليوناً في القطرين، تمدها قوى وجماهير عريضة في الوطن العربي كله.
ب- والتفاعل القومي بين أكبر قطر عربي صغير يعد رائداً في ميدان العمل العربي، وفر للفكرة العربية دون شك قفزة جديدة هامة، إذ زاد في وعي المصريين لها، كم أطلع أبناء سورية على أبعادها ومسؤوليتها الأوسع، وعلى انعكاساتها العربية والدولية العريضة، كما عرّف القطرين على عوائقها وعقباتها والشروط السليمة لتنميتها وتطويرها.
ج- ولقاء بين التجربة الناصرية وبين الأيديولوجية البعثية، رغم ما أصابه من نكثات وأزمات، زود الحركتين بأبعاد فكرية إيديولوجية متقاربة، تجلت خاصة في «الميثاق» فيما بعد، وساعد الحركة الناصرية البراجماتية على تكوين إطارها النظري، كما ساعد الحركة البعثية على إدراك الأرضية الواقعية اللازمة لتحقيق أنظارها ونموذجها الفكري.
هـ- توافر الأعداد الكبيرة من الاختصاصيين في مصر في شتى المجالات، وفّر تفاعلاً بين هؤلاء وبين الاختصاصيين في القطر العربي السوري، أغنى هؤلاء بتجارب علمية وتقنية وثقافية أوسع، كما ساعد على إقامة بنى ومؤسسات ومشروعات اقتصادية واجتماعية وثقافية فيها حظ من التقدم. وفي الوقت نفسه انتقلت بعض التجارب المتقدمة في القطر السوري، في ميدان الاقتصاد والتجارة خاصة، إلى القطر العربية المصري وقام تفاعل خصيب في هذا الميدان.
و- تبادل الخبراء والموظفين بين القطرين وما أدى إليه من اتصال أعمق بين أبناء البلدين في كثير من مجالات النشاط، أدى في كثير من الأحيان إلى توحيد النظرة إلى الأمور القومية والفكرية، فضلاً عن الأمور التنظيمية والإدارية، على الرغم مما صاحبه أحياناً من قلق واضطراب وردود فعل سلبية.
ز- كثير من التشريعات المشتركة في شتى المجالات تمت في القطرين أثناء الوحدة وأدخلت تطويراً ملحوظاً على كيان الدولة الإداري والتنظيمي. ولا تزال هذه التشريعات والتنظيمات الموحدة قائمة مستمرة في القطرين تعبر عن أثر باق أهم من آثار الوحدة. وقد كان بودنا أن نتريث عندما تمّ من تشريعات ومن تنظيمات إدارية أيام الوحدة، لولا ضيق المجال.
ح- ولاشك أن أهم آثار الوحدة الخيّرة آثارها البعيدة الباقية، وهي آثار يصعب الكشف عنها وتحليلها. غير أن كثير من الدلائل تشير إلى أن التيار القومي الفكري، الذي ولّد الوحدة وولّدته الوحدة بعد ذلك وأغنته، تيار يزداد عمقاً وغوصاً في الذات يوماً بعد يوم، سواء في مصر أو في سورية، وإن عريكته تزداد صلابة ومتانة، وإنه يمتص التجارب المرة ليولد منها نظرة أعمق وإيماناً أبقى وأمضى.
2 – المثالب:
ولنمض الآن إلى المثالب علّها تضئ لنا طريق الوحدة من جديد. والحديث في هذا المجال شاق وطويل، وذو شجون، هيهات أن نستطيع أن نوفيه بعض حقه. وحسبنا إشارات عابرة نلجأ فيها غالباً إلى التلميح دون التصريح:
أ- في رأينا أن النقيصة الكبرى التي شكت منها الوحدة المصرية السورية عند إنفاذها هي التخبط في موضوع التنظيم السياسي اللازم للدولة الجديدة. وقد أشرنا إلى ذلك من قبل. ولا أدل على ذلك من أن التجارب الأربع التي عرفتها مصر وعرفت الوحدة إحداها، تجارب قد فشلت جميعها: تجربة تجمع الأحزاب المصرية بعد ثورة تموز/ يوليو 1952، وتجربة «حركة التحرير» وكلتاهما كانتا قبل تسلم عبد الناصر زمام الحكم من محمد نجيب، ثم تجربة «الاتحاد القومي»، وتجربة «الاتحاد الاشتراكي»، وقد عرف عهد الوحدة أولاهما.
ذلك أن وراء هذه التجارب جميعها عقدة الخوف من الديمقراطية الحقة، تلك العقدة التي ولدتها في نفس عبد الناصر تجربته مع الأحزاب المصرية، كما يحكي لنا فلسفة الثورة فضلاً عن تكوينه الشخصي. ولا نغلو إذا قلنا إن قوام السلطة لدى عبد الناصر هو الولاء لها، وإن أنصارها عنده هم الذين يدينون لها بالطاعة مهما تكن منازعهم الحقيقية.
وكلمة «شعب» كلمة لم يتمكن عبد الناصر من أن يفهمها فهماً يتجاوز معنى الجماهير التي تحتشد هاتفة له وللثورة، و«العمل الشعبي» عنده لا يعني العمل المستند إلى تعبئة الشعب تعبئة فكرية واعية حرة صادرة عن قناعة ذاتية راسخة، من أجل تحقيق أهداف الثورة، بل هو عنده حشد الجماهير «وراء» العمل الثوري ومباركتها له. ورغم أنه خطا في هذا المجال خطوات نظرية متقدمة في «الميثاق»، ظل مفهومه للديمقراطية مقصراً عن معناها الحقيقي، اعتقاداً منه بأنه «لا يمكن للديمقراطية السليمة أن تستقيم في مرحلة تحّولها الثوري إلا في إطار من الوحدة الوطنية الشاملة التي تجمع كل الشعب على أساس وحدة الهدف»(5)، ومن ثم فلا مجال في البناء السياسي الذي يرجوه للعمل الحزبي المتنوع، ولما يدعوه «بدعوات التفتيت التي يدفع ثمنها في النهاية النضال الشعبي»(6). وفي هذا كله ينطلق من تعريف الديمقراطية بعد أن يحمّله ما يريد، فيقول «أن الديمقراطية حتى بمعناها الحرفي هي سلطة الشعب، سلطة مجموع الشعب وسيادته»(7). وسلطة مجموع الشعب لا تتمثل عنده في التيارات الفكرية العديدة التي تعبّر عن إرادة هذا الشعب، بل في تيار جامع، أراد له في «الميثاق» أن يضم «قوى الشعب العاملة» من فلاحين وعمال وجنود ومثقفين ورأسمالية وطنية، وما هو في نهاية الأمر إلا التيار الذي يعبّر عن رأي الدولة وإيديولوجيتها ونظرتها إلى الأمور، إيماناً منه بأن تلك النظرة هي وحدها النظرة القويمة.
ونحن حين نتريث عند هذه النقيصة الأولى فلأنها في نظرنا هي العامل الأساسي الذي جعل التربة مهيأة لقيام الانفصال. فغياب الديمقراطية الحقة دون حماية الوحدة حال دون تصحيح أخطائها، وأدى إلى وأدها في نفوس كثير من الناس قبل أن تأتي الحركة الانفصالية الرجعية الاستعمارية فتوجه إليها طعنة الخلاص. لقد قاد أفول الديمقراطية في دولة الوحدة حكماً إلى تعطيل صمامات الأمان التي يمكن أن تنقذ الوحدة من التردي فالسقوط، والتي تحميها من كيد القوى المتآمرة ضدها، ومعظمها حالة في داخلها وصلبها.
ب- وتلحق بعلة التنظيم السياسي وغياب الديمقراطية، علة ثانية مكملة لها، نعني سيطرة الحكم البوليسي. فالوحدة التي استبشرت بها جماهير الشعب وعقدت عليها الآمال الكبار، كان يرجى لها أن تسهم هذه الجماهير في بنائها وإغنائها إسهاماً خصيباً مبدعاً، وأن تجند لاغنائها أقلام المفكرين واجتهادات المنظرين، وأن يكون لكل فرد فيها عطاؤه وسعيه وإبداعه. غير أن مثل هذا المطلب الحيوي ما لبث حتى تدعى أمام شراسة أجهزة القمع البوليسية، وما لبثت صبوات الجماهير والمفكرين وأولي الرأي أن انكفأت على نفسها شيئاً بعد شئ، وأن انطفأت وغابت، تاركة الساحة خالية لمن آمن بالوحدة بلسانه وزعمه وكفر بها بقلبه وحقيقته. ومن طبائع الأشياء أن الحكم البوليسي يصيب سيفه غالباً القوى الخيرة الصادقة التي تؤثر أن تُصدْق الحكم على أن تصدّقه، بينما ينجو منه الزبد الذي يطفو على سطح الفكر اللامّعة والولاء الماكر المداهن.
وهكذا أدى الحكم البوليسي الذي ساد أيام الوحدة – والذي عانت منه سورية للمرة الأولى في تاريخها الحديث – إلى أن ارتدت القوى الخيّرة البنّاءة إلى جحورها في معظم الأحيان، تنظر بمرارة إلى التردي المحتوم الذي سيواجه الوحدة، وإلى العواصف الهوجاء التي ستثور في وجهها، وإلى العقم الذي سيعطل طاقتها وقدرتها على الانتشار في الوجود العربي كله، دون أن يتاح لها أن تدقّ جرس الإنذار وأن تسهم في تقويم العوج. وهذا كله ولّد دون شك تربة صالحة تستطيع أن تعبث فيها الأيدي المجرمة من خارج الوحدة وداخلها من أجل تحطيم الوحدة والقضاء عليها.
ج- ولا شك أن الخلاف الذي وقع بين عمادي الوحدة ووتديها، نعني عبد الناصر وحزب البعث، كان من أهم ما شاب الوحدة وعجّل في تردّيها، لاسيما أن هذا الخلاف بلغ حداً من التوتر في الأيام الأخيرة من الوحدة جعل الصراع بين الطرفين صرعاً يتجاوز عداوة الأخوان وظلم ذوي القربى إلى هجوم كاسح أين منه الهجوم على أعدى الأعداء.
وليس المجال ههنا مجال فتح محكمة جديدة، وتحليل مواقف كل من الطرفين وأخطائهما، فمثل هذه المهمة تستلزم مجلداً برأسه. وحسبنا أن نقول إن من سوء طالع الأمة العربية أن هاتين القوتين المتكاملتين من قوى الوجود العربي آنذاك، قوة عبد الناصر وقوة حزب البعث، لم تستطيعا أن تتكاملا وتتعاضدا، رغم أن كلاً منهما في حاجة إلى عون الأخرى، وآثرتا التنافس الذميم على التعاون المبدع الخلاق. ولعل مكائد القوى التي يحركها الاستعمار، عن علم أو غير علم منها، والتي تحتل الكثير من مراكز القوة والسلطة في قلب حكم الوحدة، قد كان لها الدور الأكبر في الإيقاع بين هذين التيارين الحاملين لوعود الأمة العربية الكبرى. على ن مكائد هذه القوى قد لقيت كثيراً من الهوى لدى عبد الناصر، انطلاقاً من نظرته السيئة إلى الحياة الحزبية وإزرائه بها كما سبق أن ذكرنا، ومن إدراكه الخاص للديمقراطية والعمل الشعبي والتنظيم السياسي، كما استطاعت كذلك أن تحرك جروح الكبرياء لدى حزب البعث الذي كان يشعر – بحكم دوره في ولادة الوحدة وأصالة نضاله القومي وعمق تجربته وسمو نظرته إلى مستقبل الوجود العربي – بحقه في حماية الوحدة وضمان مسيرتها السلمية. ومهما يكن من أمر، فقد لا نسرف إن قلنا إن الفهم الصحيح المتبادل لم يتوافر بين الحركتين، الحركة الناصرية وحركة البعث، وأن كلاً منهما لم تقم بالحد اللازم من الجهد لفهم الأخرى ولعقد أواصر المتين معها. وقد تكون عظمة عبد الناصر من جانب سمو وأفكار البعث من جانب آخر، من عوامل القوة والضعف معاً في هذا اللقاء التاريخي الذي لم يقدر له الالتحام.

د- وبعد هذا وذاك، بل فوق هذا وذاك، لم يعط نظام الحكم أيام الوحدة الأولوية اللازمة لتوضيح الفكرة العربية وتعميقها ورسم إطارها النظري ثم بثّها بين جماهير الأمة العربية. ولم يستطع في الجملة أن يقدم إطاراً نظرياً كاملاً ومتكاملاً يحدد فيه تصوره الكلي لدولة الوحدة القائمة ولدولة الوحدة الكبرى المنشودة. إن المشروع العربي الحضاري المنشود لم يشغل أذهان القائمين على دولة الوحدة، كما لم ييسّر له أن يولد وينضج وينمو على يد المفكرين والمنظرين. وتلك الرؤية الساطعة التي تقوى على أن تشدّ الجماهير العربية إلى دولة الوحدة المتنامية المتسعة، رؤية الكيان العربي كما يرجى له أن يكون من نظرة قومية حضارية متكاملة، لم يقيّض لها أن ترسم معالمها وأن يلمع أفقها.
أي كيان تطمح الدولة العربية النواة إلى بنائه، وما هي قسماته في إطار التراث العربي والواقع العربي والواقع العالمي والمستقبل العربي والعالمي؟ ذلك هو السؤال الذي كان ينبغي أن تجنّد القوى المختلفة للجواب عنه. أما ما جاء في «الميثاق»، فقد جاء متأخراً عن الوحدة، فضلاً عن أنه لا يكوّن مشروعاً حضارياً بالمعنى العميق للكلمة، ولا يعدو أن يكون برنامج عمل سياسي مرحلي. وقد ندرك بعض أسباب هذا التقصير في إنفاذ هذه المهمة الأساسية، مهمة وضع نظرية عربية مستقبلية متكاملة، إذا ذكرنا أن الجانب الأكثر تأهيلاً للاضطلاع بمثل هذه المهمة، نعني حزب البعث ومعه سائر المفكرين القوميين في القطرين عامة والقطر السوري خاصة، لم يتح له أن يتولى هذه الرسالة، وأن يمد آفاق تفكيره إلى مصر والبلاد العربية، بل كاد أن يكون متهماً حين أومأ إلى حرصه على الاضطلاع بمهمة توسيع إطار التفاعل القومي العربي وتعميق فكرة الوحدة العربية. يضاف إلى هذا أن عبد الناصر، كما ورد في الميثاق، قد آثر أن يكون اكتشافه للعمل القومي العربي تجريبياً براغماتياً، ولم يحرص على أن تتضح مسبقاً صور الإطار النظري اللازم للعمل القومي. ومثل هذا الموقف، على ما فيه من نظرة واقعية ومقاربة تجريبية للأمور، تعوزه البصيرة العميقة. فلئن كان العمل خير هاد للفكر ومصحح له، فإن الفكر لابد أن يكون في أساس العمل ومنطلقه. والتجربة بدون الفكرة، كما يقال، عمياء، والفكرة بدون التجربة عرجاء.
وبعد، تلك أهم الثغرات التي شكت منها دولة الوحدة، وإلى جانبها ومن ورائها ثغرات أخرى تفصيلية كثيرة يندرج معظمها تحتها. ونخفّ إلى القول، قبل أن نختم الحديث عن أخطاء الوحدة، إن هذه الأخطاء تكوّن السبب غير المباشر في انفصام دولة الوحدة، وهي بمثابة التربة التي يسّرت وقوع الانفصال (في الثامن والعشرين من أيلول/ سبتمبر 1961)، وما هي بالتالي السبب المباشر في وقوع ذلك الانفصال. فالانفصال حركة رجعية استعمارية، ركبت النقمة الشعبية التي بدأت تذيع، واستغلت القوى التي نفّذت الانفصال فعلا، وعبأتها انطلاقاً من تلك النقمة، وتأسيساً على تلك الأخطاء، من أجل تحقيق الفرحة الكبرى للاستعمار وإسرائيل، فرحة تداعي ذلك الكيان المرعب الجاثم فوق إسرائيل، ومن ورائه تداعي آمال الوحدة العربية. لقد كانت الموضوعة الأساسية التي انطلقت منها إسرائيل منذ بداية وجودها، أن بقاءها سيكون دوماً مهدداً، وأن وجودها في خطر دائم، مهما تربح من حروب ومهما تصب من أسباب القوة، إذا ظل الوجود العربي وجوداً متلاحماً يضرب طوقاً محكماً حول إسرائيل، وإذا استطاع أن يوحد نضاله ضدها، وإذا تمكّن خاصة من أن يتحد فعلاً ويحقق دولته الشامخة المنيعة. ومن هنا جهدت دوماً لتقلب هذا الوجود المتضامن وجوداً متصارعاً، ولتحيله دولاً تختلف وطوائف تحترب وشيعاً تختصم. وجاء بذلك الظرف التاريخي النادر الذي أدى إلى قيام الوحدة بين قطرين أساسيين يحيطان بإسرائيل، فكذّب حسابات إسرائيل وظنونها وارتعدت فرائصها إشفاقاً منها، وعملت منذ البداية على تحطيمها، مؤيدة بذلك بالقوى الاستعمارية التي كانت في ذلك الحين ملتحمة معها التحاماً كاملاً.
رابعاً – نظرة إلى المستقبل
لا مراء في أن العمل من أجل بناء الأمة العربية المتكاملة الموحدة عمل دائب طويل النفس، لابد أن يكون فيه مدّ وجزر وإقدام وإحجام، وكرّ وفرّ. وتجربة الوحدة المصرية السورية حلقة في نضال لابد أن تتلوها حلقات. وأخطر ما يمكن أن نستخلصه من تلك التجربة أن نظن بأنها البداية والنهاية لتجربة الوحدة العربية، لاسيما تحليلها يبين لنا أنها لم تفشل بسبب عوامل من صلب فكرة الوحدة، بل فشلت لأنها ابتعدت عن العمل انطلاقاً من مستلزمات الوحدة. ولقد رأينا أن ثغرات الوحدة، يوم وُلدت، كان ينبغي أن تعالج بعد ولادتها بروح جريئة خلاقة، وأن الأخطاء التي صاحبت الوحدة عبر إنفاذها كان لزاماً أن تصححّ وتقوّم لو قيّض للوحدة المناخ الديمقراطي اللازم.
وبتعبير أدق، إن رعاية الوحدة وتعهدها وإنضاجها يوماً بعد يوم أهم وأبقى من مجرد قيامها. وقيامها – على أي شكل تم وأي صورة اتخذ – لا يعنى شيئاً إن لم نضع فيه ما يحتاج إليه من جهد وإيمان ونظرة قومية عميقة. «إن رب المعروف أشد من ابتدائه» على حد قول مسلم بن قتيبة.
ثم إن علينا في ميدان الوحدة العربية أن نفرق بين مستويات ثلاثة: الأول هو مستوى الوجود، وجود أمة عربية واحدة. والثاني هو مستوى الفكرة القومية، أو النظرية القومية التي تعمل على تحويل ما هو موجود بالقوة إلى وجود بالفعل، أي إلى تحويل الشعور بوحدة الأمة إلى إيمان فكري واضح ونظرة علمية بيّنة. والثالث هو مستوى العمل الفعلي على تحقيق الوحدة العربية، أي تحويل الفكرة القومية إلى وجود قومي موحد فعلي.
ومن الهام أن نذكر أن الأمة سابقة على القومية. إنها المشاعر الفعلية القائمة لدى أفراد الأمة، تلك المشاعر التي تحدثهم عن انتمائهم إلى هوية واحدة. وهذه المشاعر تستمد قوتها ووجودها من جملة من العوامل، لا حاجة إلى التفصيل فيها ههنا، ويصعب تحليلها غالباً، كالتاريخ المشترك واللغة المشتركة والثقافة والنضال المشترك والمصير المشترك وسواها، تجعلهم يؤمنون في النهاية بانتمائهم إلى كيان واحد. إن هذا الشعور بالانتماء إلى هوية واحدة هو المعيار الهام بل المعيار الأساسي لوجود أمة واحدة. إنه حقيقة علمية موضوعية وإن لم تكن ملامستها ميّسرة دوماً. وعندما يظهر الفكر القومي، يستند إلى هذا الأساس المكين، إلى وجود أمة تشعر بنسبها الواحد، فيحلله ويجلوه ويزيده وضوحاً وجلاء، ويخلق من ذلك كله نظرية قومية وحركة قومية واعية قادرة على تعبئة النفوس والأفكار في سبيل الوجود القومي كما ينبغي أن يكون. وتتخذ الفكرة القومية والنظرية القومية شأناً خاصاً إذا ذكرنا بأن الشعور بالانتماء المشترك والهوية الواحدة قد يخبو ويضعف بتأثير ظروف طارئة أو دسائس مقصودة أو مؤامرات مدبرة أو فرقة طويلة بين أبناء البلد الواحد. إن هذا الشعور ضرب من الإيمان يقوى ويضعف، ويشتد ويخفت. ومن مهام النظرية القومية أن تبعثه بعد ضعف، وأن تعيد إليه سلامته وصحته بعد محاولات الطمس والزيف. وفي إطار هذا العمل للفكرة القومية تندرج سائر الجهود الفكرية والعلمية الرصينة التي تحلل الوجود القومي، وتبرز عوامل وحدته، وتبين تكامله وتأخذه، وترسم الصور المستقبلية المشرقة التي تؤدي إلى وحدته.
وحين تكتمل التعبئة القومية، من خلال الفكرة القومية، وتصبح التربة مهيأة لتحقيق الوجود القومي الموحد بشكل من الأشكال، ينطلق العمل الفعلي لبلوغ الوحدة، من خلال ما يتوافر من ظروف مؤاتية وشروط متوافرة. أما شكل هذا العمل ومستواه، وشكل الوحدة ومستواها، فأمور يصعب رسمها، سلفاً، إذ هي وليدة جملة الظروف المحيطة، قطرية كانت أو عربية أو عالمية.
نقول هذا كله ونفتح هذه المعترضة الواسعة، لنبين، كما قلنا منذ البداية، أن العمل للوحدة القومية عمل مستمر متصل، مادام قوامه ومتكؤه قائماً حياً، نعني الوجود القومي العربي الموحد، المستند إلى شعور أبناء الأمة العربية بانتمائهم وهويتهم الواحدة. هذا الشعور لا تسقطه تجربة وحدوية فاشلة أو أكثر، بل هو حي دوماً، وإن طمسته أحياناً، كما ذكرنا، عوامل عابرة. وإيقاظ هذا الشعور وإنضاجه رأس مهام النظرية القومية العربية. واستمرار التجزئة بين البلدان العربية لا يعنى تعذر الوحدة، ولا يصدر عن عوامل عميقة محايثة لطبيعة الوجود العربي، وإنما هو نتيجة طبيعية لعلاقات القوة بين الأقطار العربية المجزأة وللتحديات الآتية من خارجها. إنه، بوجيز العبارة، وليد ظرف تاريخي معين.
بل لعلنا نشهد من خلال صراعات البلدان العربية ضرباً من لبرهان بالخُلف كما يقول المناطقة، يطلعنا على ما يمكن أن يصير إليه الواقع العربي من تردّ ولصوق بالتراب وحمأة المصالح الجشعة إن لم تصهره حرارة الإيمان برسالة مشتركة تستهدف بناء حضارة عربية أصيلة جديدة شامخة. وقد لا يكون من الغلو أن نقول إن ما نشهد من صراعات الوجود العربي هو نتيجة لغياب المد الوحدوي وليس برهاناً يبرر الأحكام عن الوحدة كما يحسب الكثيرون. إن ضروب لتجزئة والفرقة تستشري في الجو الراكد الآسن، وتتكاثر وتتوالد سرطانياً عندما يأفل السعي الجاد والحاد لرسالة جديرة بأن ترفع الإنسان العربي من مستوى العمل الغرزي البدائي إلى مستوى الحياة القومية المبدعة القمينة بالإنسان، القادرة وحدها على تعبئة جهده وطاقاته واستخراجها كاملة خيّرة. أو لم يحدث مثل هذا في سائر القوميات التي قيّض لها أن تبنى وجودها القومي؟ أو لم يحدث هذا قديماً في ألمانيا وإيطاليا وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وحديثاً في اليابان والصين؟
إنه إذن مركب مشبوه، مركب أولئك الذين يحاولون أن يستخرجوا من انفصال الوحدة المصرية السورية القول بتعذر الوحدة أصلاً بين الأقطار العربية. على أن ما هو أفدح خطراً موقف أولئك الذين يقولون بالوحدة وضرورتها، غير أنهم يخلصون من فشل الوحدة المصرية السورية ومن فرقة الواقع العربي الراهن إلى القول بأن صور التباين الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بين البلدان العربية عميقة متأصلة، وإنها تدعونا بالتالي إلى التريث في أمور الوحدة، ريثما يتم القضاء تدريجياً على عوامل الفرقة والتباين، واهمين أن تقليل الفوارق يمكن أن يتم في إطار التجزئة ناسين أن التجزئة أخصب تربة لنمو تلك الفوارق وترعرعها وأنها سببها وأصلها.
وإلى ما تم من تغريهم العوامل الاقتصادية ويؤخذون بسحر الأرقام والإحصاءات، نذكر بعد هذا، عابرين أن الوحدة المنشودة ليست لفظاً معلقاً بين الأرض والسماء، وإنما هي، إلى جانب كونها مطلباً قومياً وحضارياً وتاريخياً، مطلب اقتصادي مستقبلي هام لا مجال في التشكيك في أهميته. ولا نقول جديداً إن قلنا إن أي دولة عربية لا تملك منفصلة المقومات الاقتصادية والبشرية اللازمة لتقدمها الحقيقي واللحاق بركب العالم، في حين تتكامل الثروات المادية والبشرية في الوطن العربي كله وتكون أساساً متيناً لكيان علمي تكنولوجي متقدم.
ولنأت إلى بعض الأرقام لمن أحب ذلك:
يمتد الوطن العربي على رقعة مساحتها قرابة 14 كيلو متر مربع، أي حوالي ضعف مساحة الولايات المتحدة (عدا آلاسكا وهواي). وعلى الرغم من أن سكانه (حوالي 164 مليوناً) لا يجاوزون 3.8% من سكان العالم (وسوف يصلون في ناهية القرن إلى 285 مليوناً أي حوالي 4.6% من سكان العالم)، فإنه يملك ثروات طبيعية ضخمة، كالفوسفات الذي يملك منه ما يقدر بثلث الثروة العالمية، وكالنفط الذي يملك منه احتياطياً ضخماً، وكالغاز الطبيعي والكبريت والنحاس والتوتياء والبوتاس والمنغنيز والقصدير وسواها. هذا فضلً عن الثروات الزراعية الهامة، لاسيما الزراعات الصناعية، مثل القطن والخشب والقنب. ومع ذلك فالموارد الطبيعية في الوطن العربي غير مستغلّة استغلالاً كافياً. وعمر الموارد النفطية محدود. والأزمة الغذائية تنذر بالخطر. والناتج الإجمالي الداخلي للبلاد العربية، رغم ثرواتها البترولية، لا يتجاوز في مجموعه 25% من الناتج القومي الإجمالي لليابان و9% من الناتج الإجمالي للولايات المتحدة، و11% من الناتج الإجمالي لبلدان السوق الأوروبية المشتركة. بل إن معدل الناتج الإجمالي للفرد العربي الواحد – إذا استثنينا ناتج البترول – من أضعف المعدلات في العالم. وفي الزراعة تقوم مشكلات ثلاث أساسية: المعوقات الطبيعية، والإنتاجية الضعيفة، والنقص في النمو. ونصيب الصناعة والناتج الداخلي، رغم نموه في السنوات الأخيرة، لا يزال مقصراً عن الشأو المطلوب، فضلاً عن أن للتصنيع في البلاد العربية حدوداً لا يستطيع أن يتجاوزها. والصناعات في الوطن العربي تشكو خاصة من نقص التنوع في الصناعات ومن ضعف تنظيم التسويق والتوزيع داخل المنطقة العربية.
وفي الجملة، يظل التحدي الأساسي أمام المنطقة العربية هو تحدي التعاون والتكامل الاقتصادي. ومن أجل هذا لابد من طرح سؤال أساسي لا ثاني له: كيف يمكن دمج الموارد المتكاملة في البلدان العربية من أجل توليد تنمية سريعة ومن أجل تحقيق النمو العربي الذاتي المستقل؟ والجواب عن ذلك بيّن بذاته.

ومعنى هذا كله، يقول رودنسون في كتابه «العرب»(8): إن «الضرورات الاقتصادية ومستلزمات الرفاهية والثراء في المنطقة العربية تلتقي التقاء كاملاً مع الإيديولوجية العربية» المنادية بالوحدة.
على أن المسألة عندنا أوسع وأبعد من المسألة الاقتصادية ومستلزماتها. إنها مسألة حضارية كاملة، بل إنها مسألة حياة أو موت إذا ذكرنا الخطر الإسرائيلي القابع في قلب الوجود العربي، وإذا ذكرنا اتساع هوة التخلف بين البلدان العربية والبلدان المتقدمة اتساعاً مروعاً.
خامساً – خلاصة
وبعد، في كلمة له بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس مركز دراسات الوحدة العربية، يقارن المفكر والسياسي العربي منح الصلح(9) بين عبد الناصر ونهرو وتيتو، ويبين كيف لمع نجم عبد الناصر في البداية، ثم انتقلت الهالة بعد ذلك في أوساط السياسيين إلى الزعيم الهندي نهرو، وذلك بسبب نجاحه في «التعامل الديمقراطي مع واحد من أحفل بلدان العالم بالتنوع والتعدد والتباين الحضاري والثقافي والديني» ولأنه «صان بالعقلية المثقفة تثقيفاً ديمقراطياً رفيعاً وحدة الهند وتماسكها وطريقها إلى التقدم». ويستخلص من هذا درساً هاماً حين يقول: «منذ ذلك التاريخ – وخصوصاً بعد حدوث الانفصال وفشل محاولات العودة إلى الوحدة – انتشر الإحساس في دوائر الوحدويين العرب بان نبتة الوحدة لن تخضر من جديد إلا إذا اتصلت جذورها بالثقافة والديمقراطية. فأية قيادة عملاقة لن تقدر على صناعة الوحدة أو السير نحوها بغير وضع مركبتها على عجلتي الثقافة والديمقراطية».
أجل. لقد قتل الوحدة المصرية السورية غياب الثقافة الديمقراطية، كما بينا. والحياة الديمقراطية الغنية الحية قمينة وحدها بأن تبينها من جديد، لاسيما بعد كل ما قلناه عن رسوخ جذور المشاعر القومية المشتركة لدى أبناء الأمة العربية، وعن ضرورة بعثها وإحيائها وتعبئتها تعبئة منظمة عن طريق الدعوة القومية والنظرية القومية، ومن خلال جهد علمي عقلاني تغذيه وتشع منه شعلة انفعالية محركة، نسغها وجوهرها الإيمان بالوجود العربي الواحد والتطلع إلى ما يحمله الكيان العربي الموحد من قوى وطاقات حضارية خلاقة. ومثل هذا الجهد لا يتوافر إلا في مناخ ديمقراطي حر يتيح للفكر أن يمارس أنبل وظيفة جبل عليها الإنسان، وظيفة الارتقاء دوماً وأبداً فوق ذاته وفوق مجتمعه، عن طريق ارتقائه صعداً في آفاق الفكر المبدع، التي لا تعرف الحدود، مجدداً بذلك وجوده الإنساني، وبالتالي وجود مجتمعه. ومن هذا التفاعل بين التحام الفرد بمجتمعه وبين قدرته على تجاوزه وتجديده، تولد شرارة الرقي. ومن اللقاء الخصيب بين الفرد العربي، إذ يمتاح من مجتمعه ومن غايات وجوده القومي معنى جهوده وعطائه، وبين الفكر الحر الذي يعدو دوماً وراء أفق ما هو ببالغه، محلقاً في مصاف إنسانية يلتصق بها على نحو أكمل فأكمل، يرجى للأمة العربية أن يكون لها في بناء مستقبلها ومستقبل العالم شأن ونصيب.