رسالة باريس

الثقافة العالمية – العدد /24/ – سبتمبر 1985
رسالة باريس
/2/
بقلم: الأستاذ الدكتور عبد الله عبد الدائم

لا أدري لماذا ترهقني رسالة باريس: لعلي أشعر عند تحريرها أن ما أهمل وأدع أكثر مما أختار وأُبقي. أو لعل الموازنة بين الأحداث، أدبية كانت أو فنية أو فكرية أو علمية، تظل موازنة قلقة غير مطمئنة: ومن ذا الذي يقوى على أن يقوّم شتات الإبداع الإنساني؟ إن لكل نتاجاً طعماً فريداً ورائحة فذة. والتباين بين ضروب العطاء تباين في الطبيعة لا في الدرجة. ثم من ذا الذي يستطيع أن يميز حقاً النتاج الأدبي من الفني أو الفكري؟ أولسنا في عصر تضامن المعرفة؟ أوليس نبع الإبداع واحداً في النهاية؟ قد تصلح القسمة والتجزئة عندما ننظر إلى النتاج بعد أن يتكون ويغدو صلداً. أما عندما نمضي عميقاً إلى المواقد الملتهبة التي تصهر النتاج وتنثه، فلا نجد إلا الأحاسيس والأخيلة والصور والتأملات مجتمعة مؤتلفة يخرج منها نبات مختلف ألوانه متحد قصده ومعناه.
مع ذلك لابد مما ليس منه بد. لابد من التقسيم والتبويب والتجزئة. لابد من النظر إلى الحمم البركانية بعد أن تتجمد.
أحداث فكرية هامة:
1- وفاة الفيلسوف «فلاديمير جانكليفيتش» «Vladimir Jankélévitch»:
في العاشر من شهر حزيران / يونيو، أطلق الفيلسوف الفرنسي «جانكليفيتش» أنفاسه الأخيرة عن عمر ناهز أربعة وثمانين عاماً.
لقد كان يأبى أن يسمي نفسه كاتباً، وكان حسبه أن يكون أستاذاً بارعاً في الإلقاء، لحديثه روعة وسحر قلما أتيحا لسواه. ومع ذلك فقد ألّف وكتب الكثير. صحيح أن أسلوبه في الحديث كان فريداً جذاباً مما جعله جديراً بأن يطلق عليه لقب «راقص الفكر». وصحيح أنه كان يؤثر المذهب السقراطي، مذهب من يتحدث إلى تلاميذه ويحاور الناس قائماً وقاعداً ومشّاء. غير أن ما خطه على السطور لا يقل سمواً عما نقشه في الصدور.
ينتسب الفيلسوف إلى تيار فلسفي نلقى أصوله وجذوره لدى هرقليطس وسقراط ويمتد حتى برغسون (وقد كتب كتاباً عنه كما أنه كان تلميذه عام 1931) ماراً بأفلاطون (ولا سيما في «المائدة») و«مونتيني Montaigne» و«ديكارت» و«باسكال» معرجاً على «لابرويير La Broyère» ومونتيسكيو وفلسفة عصر الأنوار و«شلنغ Schelling» فضلاً عن «كيركجارد Kigkegard» و«نيتشه». وهو فوق هذا ذو اهتمام خاص بالفلسفة الإسبانية والفكر الروسي، سوى أنه متشكك في الفكر الجرماني الجاد وكثيراً ما يقف منه موقف المتحدي.
وهكذا نرى أنه لا ينتمي إلى الفكر الفلسفي المتمذهب حيث نجد كل فيلسوف حريصاً على أن تكون له فلسفة كاملة متكاملة، مغلقة على نفسها، وإنما ينتمي إلى تيار فلسفي مفتوح، تيار ساخر وشخصي وخلقي. إنه يحرص على تعرية الأصنام، وعلى كشف الحجب وراء الصور، وعلى تحطيم القصور الواهية. إنه يعنى بتاريخ الأفكار والأذواق، ويبرز تنوع أنماط الحياة ونسبية العادات والتقاليد. ولا يعني هذا أنه ريبي يحطم وينتهي إلى بطلان كل شيء. ذلك أن وراء تساؤلاته مقاصد فكرية أساسية: أن يكون صادقاً، وأن يكون متحمساً دون أن يكون مخدوعاً، وأن يكون بريئاً دون أن يكون أبلهاً، وأن يكون فوق ذلك كله عادلاً، ينشد ولكنه يعدل إذ ينشد.
وفوق هذا وذاك، وقبل هذا وذاك، يتصف فيلسوفنا بالإبداع والطرافة والتفرد. تفرد في الأسلوب بوجه خاص، ذلك الأسلوب الذي يذكرنا بكتابات «بروست» وهو أمرٌ قلما نلقاه في ميدان الفلسفة. إنه أسلوب يمضي بنا من لمسة إلى لمسة حتى يبلغ بنا الاقتناع الكامل. إنه يمضي بقارئه حيث يريد، دون أن يتظاهر بذلك، ويقودنا معه في دروب وشعاب غير مطروقة، تمتاح كثيراً من جمالها من الموسيقى، الموسيقى الفرنسية خاصة، ولا سيما موسيقى «دوبوسي Debussy» و«فوري Fauré». وتفرد بعد ذلك في زاوية الرؤية، إذ يقدم فكراً لا ينطلق من الفرد وحده أو من مجتمع صنعي، بل ينطلق من التآخذ والتفاعل بين الذوات الفردية، حيث تبرم الأشياء وتقال، وحيث تولد الأحاسيس والعواطف، وهكذا ينطلق «جانكليفيتش» من الألفاظ البسيطة ومن الأطر العقلية المألوفة: الكذب والسخرية وما «لا أدري ما هو» (وهذا عنوان لأحد مؤلفاته).
إن ضالة فلسفته هي النفس، أو كما يقول أحياناً «الروح والقلب»: «روح بريئة وقلب ملهم»، هذا ما ينبغي أن نجهد لإصلاحه وبنائه، عن طريق فكر فلسفي، أي عن طريق فكر ساخر.
ولئن لقي الفيلسوف في السنوات الأخيرة اهتماماً جديداً لدى الشباب، بعد أن خبا نجمه بضع سنوات، فلا شك أن مرد ذلك إلى أن هؤلاء الشباب يجدون في أفكاره ملجأ يأوون إليه فراراً من التفاهة والزيف، فبين العقل الذي يعقل ويحاكم والصوفية التي تشطح وتنأى، يجد الشبان لدى جانكليفيتش رجلاً يتحدث عن الحياة، الحياة الواقعية، حياة العواطف والمشاعر والانفعالات: ماذا علينا أن نفعل لننافح الظلم؟ كيف نرسي قواعد السلم؟ وكيف نعرف المبدعين الحقيقيين؟ والجميل ما هو؟ والحب، هل يوجد؟ وهل يستطيع الإنسان أن يحيا حياته دون أن يخدع؟ إنها حقاً أسئلة يطرحها شاب العشرين ويظل المرء يطرحها طوال حياته. إن فيلسوفنا، شأن سائر الفلاسفة الذين من طينته، راق يشفي الشباب، وقراءة ما كتب تتيح لنا أن نكنس ما توضع لدينا من بدهيات خائفة، وأن تنتابنا الدهشة أمام الوضاعة، وأن نطرب للربيع ولكل ما يجعلنا نقاوم الشر.
ولقد امتد نتاج الفيلسوف على مدى نصف قرن، بدءاً من كتابه عن «برغسون» عام 1931 حتى كتاب «مفارقة الأخلاق Le Paradoxe de la Morale» عام 1982 وكتب نيفاً وعشرين كتاباً. وقد درس في «بيزانسون» و«تولوز» قبل أن يصبح أستاذاً في السوربون بباريس. وظل يعطي ويعطي لتلاميذه وقرائه، حتى أطلت عليه غيوم الشيخوخة واقتربت أشباح الموت فأضلته. وفي هذا يقول: «الموت أقوى من الحب، ولكن الحب أقوى من الموت». ويظل يسخر في جد طوال حياته، يسخر تلك السخرية التي قال عنها إنها جادة أكثر من الجد، والتي تعلمنا أن «الجزر ليست قارات وأن البحيرات ليست محيطات».
2- ذكرى ولادة الفيلسوف الهنغاري «جورج لوكاس Georges Lukas»:
تحتفل بلدان كثيرة ومن بينها فرنسا بذكرى مرور مائة عام على ولادة الفيلسوف الهنغاري «لوكاس» الذي عاصر كبريات الأحداث الفكرية والسياسية في هذا القرن. وقد عرف مختلف الأطوار التي يمر بها المفكر المنخرط في الحزب الشيوعي، عرف الوزارة وعرف السجن وطرد من الحزب الشيوعي طوال أحد عشر عاماً (1956 – 1967) ثم أعيد إليه اعتباره بعد موته. غير أن الذي خلده قبل ذلك هو نتاجه الفكري: «هيجل الشاب Le Jeune Hegel» الذي أنجز تأليفه عام 1938 في الاتحاد السوفياتي، غير أنه لم يطبع إلا بعد عشر سنوات في سويسرا (وهو كتاب يشكل منعطفاً هاماً في الدراسات الهيجلية): وكتاب «علم الجمال Esthétique» الضخم في مجلدين (عام 1963) وفيه يقوم بمحاولة جريئة لبيان خصوصية الفن بين سائر النشاطات الفكرية الإنسانية. و«أنية الكائن الاجتماعي L’Ontologie de L’Etre Social» (الذي كتبه بين عام 1964 وعام 1970) وفيه يعيد بناء الأسس الفلسفية لفكر كارل ماركس مستخدماً الفكر الميتافيزيقي الذي دان به «هارتمان Nicolas Hartman» ضد الفكر الأنتولوجي الذي قال به «هيدجر Heidegger»، و«تحطيم العقل» (1954) وهو كتاب لقي من التجريح الشيء الكثير، غير أنه أول محاولة للكشف عن الأسس الفكرية والفلسفية للنازية.
وهذه الكتب الأربعة لا تمثل فقط الإسهام الكبير الذي قدمه «لوكاس» لفلسفة عصره، بل هي تفرز عقاراً نظرياً ناجعاً ضد الممارسة العملية والفلسفية للستالينية.
ولقد امتاز تأويله للماركسية منذ البداية من التأويل الذي كان شائعاً في عصره: فقد ضمن ذلك التأويل ما يراه في النظرية الجدلية من معانٍ خاصة سقاها من قراءاته للمعلم «إيكارت Maître Ekhart» و«كيركجارد» و«دستويفسكي» دون أن ينسى «هيجل» طبعاً، ولا شك أن هذا الفكر الخاص الذي حمله «لوكاس» والذي كان محملاً بروح المناهضة والبعد عن التفسيرات الجامدة الدوغماتية للماركسية، هو الذي أدى إلى إهماله ورفضه من قبل الفئة البورقراطية الحاكمة.
ولقد تركت مؤلفاته الأولى أثرها وطابعها على الجيل الشاب من المفكرين الذين خرجت منهم مدرسة فرانكفورت: من أمثال «آدورنو Th. W. Adorno» و«ماركوز Herbert Marcuse» و«بينجامان Walter Benjamin» و«لوفنتال Lev Loewenthal». وأول كتاب ماركسي له، نعني «التاريخ والوعي الطبقي» (1923) كان ما يزال يحمل طابعاً هيجيلياً بارزاً. وكانت له أصداء لم يعرفها أي مؤلف فلسفي ماركسي آخر في القرن العشرين. ولقد شرح هذا الكتاب وعلق عليه مفكرون كبار أمثال «سارتر» و«ميرلوبونتي» و«بلوك Erest Bloch» و«هنري لوفيفر» و«هابرماس» وماركوز، بل حتى «ألفريد فيبر Alfred Weber» و«كارل مانهايم Karl Manneheim». وكلهم تريث عنده باهتمام بالغ وكثيرهم أطراه وامتدحه.
وفي عام 1929 كتب لوكاس مشروع برنامج سماه «أطروحات بلوم» أراده بمثابة منهاج للحزب الشيوعي الهنغاري. وفيه يدافع عن فكرة «الديكتاتورية الديمقراطية للعمال والفلاحين» مميزاً لها من النهج السوفياتي، نهج «ديكتاتورية البرولتاريا». وقد أدى ذلك إلى محاكمته وكاد يؤدي إلى إبعاده، لولا أن قام بنقد ذاتي عابر.
ثم بدأ تحوله الفكري واضحاً منذ بداية الثلاثينات، وبدأ نتاج مرحلة النضج يظهر وينمو. وفي هذه المرحلة كتب دراساته العديدة عن النقد والتاريخ الأدبي لفرنسة وألمانيا وروسيا. وقد كان لكتاباته عن «بالزاك» و«ستاندال» و«زولا» صدى لدى الأدباء الفرنسيين أنفسهم. ويجمع الكتاب الألمان على إفراد مكانة خاصة لدراساته المتصلة بالكتاب الألمان في القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين.
ولد «لوكاس» في 13 نيسان / أبريل 1885 في مدينة «بودابست». وأصبح مفوضاً شعبياً للتعليم العام في حكومة «بيلاكون Bélakun» عام 1919. وبعد ثلاثين عاماً غدا وزيراً للثقافة في حكومة «ناجي Imre Nagi» إذ حملته إلى السلطة الحركة المناهضة التي قامت ضد الديكتاتورية الستالينية إذ ذاك. وخلال ذلك غدا نزيل السجن الموسكوي الشهير سجن «لوبيانكا». وبعد سحق الثورة الهنغارية عام 1956 أبعد مع سائر أعضاء حكومة «ناجي» إلى رومانيا، وقد أتاح له ذلك فيما يقول بعض النقاد أن يكتشف عظمة «كافكا Kafka». ثم عاد إلى بودابست وظل فيها حتى وفاته عام 1971. وقد رفض الفرص التي سنحت له لمغادرة البلاد. ذلك أنه كان يشعر بأنه مسؤول عن الشكل الذي أخذته الحركة الاشتراكية في بلاده، وأن عليه بالتالي أن يناضل من داخل المعسكر الاشتراكي ليصحح أخطاءه وليسير به نحو ديمقراطية اشتراكية حقيقية. وبعد أن أبعد عن الحياة السياسية عام 1956 كما ذكرنا، فرغ إلى العمل الفكري وجند قواه من أجل كتابة مؤلفات تلخص تجربته، وكان يرجو أن تكون تلك المؤلفات أدوات نظرية صالحة وناجعة لمقاومة النزعات الستالينية القديمة والجديدة، وسلاحاً ضد ما كان يعتبره انحرافاً وفساداً ضخماً في المذهب الاشتراكي عقيدة وتطبيقاً.
ومن أشهر كتبه المترجمة إلى الفرنسية: «النفس والصور L’Ame et les Formes» من نشر دار غاليمار! و«نظرية الرواية Theorie du Roman» من نشر غونتييه ! و«التاريخ والوعي الطبقي Histoire et Conscience de classe» من نشر دار مينوي! و«هيجل الشاب Le Jeune Hegel» من نشر دار غاليمار (في جزأين)! و«غوته وعصره» من نشر دار ناجل..
3- ندوة عن «الهوية الفرنسية»:
الفرنسيون أيضاً معنيون بهويتهم الذاتية وأصالتهم وانتماءاتهم وغير تلك من الأمور المطروحة في كثير من بلدان العالم النامي بوجه خاص، وفي البلدان العربية بوجه أخص. هكذا عقدت في باريس ندوة في الثالث والعشرين والرابع والعشرين من شهر آذار / مارس الماضي، نظمها نادي «أجواء 89 Espaces 89» حول هوية الفرنسيين، وقد قام خلال الندوة حوار جماعي أدى إلى مواقف تكاد تكون مشتركة: مواقف فكرية تقاوم الأطروحات العرقية الضيقة التي يطلقها اليوم أمثال «لوبين Le Pen» رئيس الجبهة القومية كما يطلقها جماعة «نادي الساعة» وكلها كما نعلم أطروحات ضيقة تنطلق من نظرة عرقية عفى عليها الزمن وتهاجم «الدخلاء» على فرنسة من المهاجرين العرب بوجه خاص، وترى أن فرنسا للفرنسيين. وفي الوقت نفسه أجابت المواقف الفكرية التي بدت خلال الندوة على التساؤلات الخاصة بأزمة الهوية، تلك التساؤلات التي تجتاح المجتمع الفرنسي نتيجة لشعوره بالقلق الناجم من تردي الأمن. وقد طرح المشاركون هذا السؤال الكبير: ما معنى أن يكون المرء فرنسياً؟ أفلا يتوجب علينا أن نبتكر «مواطنية» جديدة؟ وهل ثمة شعور قومي، وهل يستطيع هذا الشعور أن يغتذي بتيارات جديدة؟ وقد أجمع الحاضرون على أن الهوية الفرنسية متعددة الثقافات، وأنها لا تضم الثقافة الفرنسية وحدها، وأكدوا أهمية صيرورة فرنسة بلداً متعدد الثقافات، ورفضوا القول بأن هنالك فرنسيين حقيقيين وآخرين زائفين، وآثر بعضهم، من مثل الفيلسوف «ميشيل سير Michel Serres» استخدام كلمة «انتماء» بدلاً من كلمة هوية. ولا شك أن هذه الندوة تتخذ شأناً خاصاً في هذه الفترة التي يقوم فيها صراع سياسي بين دعاة الاستمساك بالأصالة الفرنسية المزعومة وبين المنادين بحوار الثقافات وتفاعلها ضمن إطار فرنسة. ولا أدل على أهمية هذه الندوة من المهرجان الكبير الذي جرى في ساحة الكونكورد الكبرى في باريس مساء السبت في 15 حزيران / يونيو، والذي ضم قرابة 400 ألف شخص. وهو تجمع دعت إليه حركة الجيل الثاني من المهاجرين إلى فرنسة (الذين يدعون بالبور Beurs) وشعارها «لا تقرب رفيقي». وهدفها الأساسي مقاومة النزعات العرقية والدعوة إلى تفاعل الثقافات في فرنسة.
أحداث أدبية:
1- جوائز المجمع الفرنسي:
أنهى المجمع الفرنسي سلسلة جوائزه يوم الثالث عشر من حزيران / يونيو الماضي، فمنح جوائزه الكبرى الثلاث. أما الجائزة الأولى، جائزة الأدب الكبرى (ومكافأتها مائة ألف فرنك فرنسي) فقد منحها للسيد «روجيه غرينييه Roger Grenier» تقديراً لجملة إنتاجه.
والسيد «غرينييه» روائي وكاتب قصة شهير يسير على نهج القصاص الروسي «تشيكوف» من حيث قدرته على تحريك الشجون وضروب الحنين في كثير من الخفاء والهمس. ولد في مدينة «كان Caen» عام 1919، وعمل في بداية الأمر في حقل الصحافة حتى عام 1963. ومنذ عام 1964 أصبح مديراً أدبياً لدار النشر المعروفة «غاليمار»، وبدأ يكتب وينشر، وقد نشر آخر رواية له (واسمها «لابد أن أهجرك يا فلورنسه») في شهر
شباط / فبراير الماضي. وقد سبق له أن حصل على جوائز أدبية عديدة.
وأما الجائزة الثانية، جائزة الشعر الكبرى (ومكافأتها ثلاثون ألف فرنك) فقد منحها المجمع للشاعر «روبيرجون Robert Jones» مكافأة له على جملة نتاجه الشعري.
ولد الشاعر في بروكسل عام 1924، وانتخب في شهر شباط / فبراير الماضي أميناً دائماً للمجمع الملكي للعلوم والآداب والفنون في بلجيكا. وقد درس تاريخ الفنون في جامعة بروكسل الحرة وشغل بين عام 1961 وعام 1984 منصب رئيس محافظي المتاحف الملكية للفنون الجميلة في بلجيكا. وكتب حوالي ثلاثين دراسة وسيرة حياة. وفي الوقت نفسه أصدر مجموعات شعرية هامة، تبلغ ثماني عشرة مجموعة يزدان معظمها برسوم لأشهر الفنانين المعاصرين.
وأما الجائزة الثالثة، جائزة المسرح الكبرى (وقيمتها ثلاثون ألف فرنك) فقد منحها المجمع للسيد «رونيه دي أوبالديا» مكافأة له على جملة نتاجه المسرحي.
ولد الكاتب المسرحي في هونكونغ عام 1918، وكتب مجموعة من الأشعار والروايات قبل أن يكرس نفسه للمسرح. وفي عام 1956 حصل على جائزة السخرية السوداء على مسرحيته «الهروب إلى واترلو». وقد اتسم سائر نتاجه وكتاباته الراقصة بروح السخرية هذه، التي كان يعرضها من خلال أسلوب فذ فريد: ألفاظ يقطعها ثم يجمعها كما يحلو له مكوناً جملاً متعددة الشيات والألوان.
وإلى جانب هذه الجوائز الثلاثة الأساسية منح المجمع جوائز كبرى في ميادين متعددة كالنقد والقصة القصيرة والبحث الأدبي وسواها.
2- فيكتور هوغو أيضاً:
سبق أن تحدثنا عن بعض النشاطات التي قامت وتقوم بمناسبة هذا العام الذي دعي بعام فكتور هوغو (إذ انقضت مائة سنة على وفاته). وما تزال هذه النشاطات قائمة على قدم وساق في شتى المجالات وبمختلف الوسائل: في السينما والمسرح ومعارض الرسوم، وفي الراديو والتلفزيون والصحافة والكتب، بل حتى في المترو والدعاية والمداليات التذكارية.. إنه حاضر في كل مكان.
ومن أبرز تلك النشاطات عرض فيلم رائع عن رواية «البؤساء» على حلقات أربع على شاشة التلفزيون، أخرجه السيد «روبير حسين Robert Hossein». ومنها أيضاً عرض فيلم هام بعنوان «فكتور هوغو والثورة» قدمه المركز الوطني للتوثيق التربوي. وهو فيلم وثائقي علمي هدفه نفض الغبار عن الشخصية الأسطورية للشاعر. وموضوعه دراسة العلاقات التي عقدها الأديب الكبير صاحب كتاب «التأملات Contemplation» مع تاريخ عصره. وهو موضوع طموح وشاق هدفه جلاء الصلة بين المفكر والسلطة. ونقطة انطلاق المغامرة التي قام بها هوغو في هذا المجال هي الثورة الفرنسية عام 1789، تلك الثورة التي عايشها هوغو عن قرب وظل طوال حياته مولهاً بها. وبعد هذه الثورة التي نجا منها بعد لأي، عاصر ثورات ثلاثاً أخرى اجتاحت القرن التاسع عشر: ثورة عام 1830 أولاً يوم انتزع لويس فيليب السلطة من شارل العاشر. وخلال هذه الثورة مكث هوغو بعيداً في الظل، خائفاً. ثم ثورة عام 1848 وفيها دخل هوغو المعركة مباشرة وناضل من أجل قيام جمهورية ديمقراطية. غير أنه بعد أن أصبح نائباً، تخلى عن العمال الثائرين. وأخيراً ثورة عام 1870 يوم أعلنت فرنسة الحرب على بروسيا ويوم استسلم نابوليون الثالث. وقد دعا هوغو الشعب الفرنسي إلى مقاومة المحتل. وفي عام 1871 ظهرت للوجود أولى الثورات الشعبية، ثورة «الكومون» ولكن هوغو ظل حيالها أيضاً خجولاً غير مقدام، ذلك «أنه مع الكومون من حيث المبدأ ولكنه ضدها من حيث التطبيق».
وتثير مشاهدة هذا الفيلم في الجملة تساؤلات كثيرة حول مدى الالتزام الثوري لدى هوغو. فالتزامه في هذا المجال، خلافاً لالتزامه في ميدان الشعر، التزام معقد له جوانب عديدة.

مشهد من فيلم البؤساء

3- ندوة حول «البيركامو» والسياسة:
من العسير أن نلخص في سطور أعمال تلك الندوة الفنية التي انعقدت في جامعة «نانتير Nanterre» قرب باريس بين الخامس والسابع من شهر حزيران / يونيو الماضي والتي دارت حول «كامو والسياسة». إنه حقاً بحث شائك، ذلك الذي توفر عليه عدد من الأساتذة والباحثين والكتاب والصحفيين خلال هذا اللقاء. لقد تعرضوا فيه لمشكلات كالآتية: مشكلة انتماء كامو السياسي، صداقاته السياسية، مواقفه، التزاماته تجاه الثورة الجزائرية. ولم يكن قصد المجتمعين طبعاً أن يظهروا صاحب كتاب «الغريب» في مظهر إنسان جعل الفضيلة برده ورداءه، وأرهص بكل شيء، وأدرك كل شيء، وكتب كل ما ينبغي أن يكتب، وكان دوماً مبرءاً من تهمة عدم الالتزام والصمت أمام الأحداث التاريخية في عصره. بل كان الهدف تقديم صورة واقعية دقيقة عنه ما أمكن ذلك.
وقد بين «روجيه كييو Roger Quillot» بحق أن «كامو» الذي كان قريباً في أفكاره من أفكار «ماندس فرانس» والذي اشتد في نقده للماركسية، كان «اشتراكياً حراً» منح الأخلاق دوماً مكانة فوق المذاهب وفوق العقائد. نجد ذلك مثلاً في موقفه من حرب الجزائر، ذلك الموقف الذي جعله، بعد أن كتب «الإنسان الثائر L’Homme révolté» يختلف مع سارتر الذي كان أكثر حسماً منه في هذا المجال. فلقد كان سارتر يدعم جبهة التحرير الجزائرية دعماً لا حد له، بينما رأى «كامو» أن دواعي الأخلاق ينبغي ألا تخضع للأغراض السياسية الآنية. ولهذا أيد ثورة شعب الجزائر تأييداً مطلقاً لا تحفظ فيه، غير أنه في الوقت نفسه حسب أن نزعته الإنسانية تملي عليه أن يرفض الأساليب التي تلجأ إليها جبهة التحرير. هذا الموضوع الشائك، شغل المجتمعين فترة غير قصيرة وثار الجدل حوله طويلاً إلى أن تدخل السياسي الجزائري السيد حسين آية أحمد وأطرى الكاتب ونزعاته الإنسانية ومحبته للشعب وإحساسه بآلام البشر وحرصه على العدالة الاجتماعية والأخوة.
ومن الموضوعات التي تطرقت إليها الندوة موضوع حقوق الإنسان. وههنا بين المجتمعون أنه على الرغم من أننا لا نجد لدى كامو إشارات صريحة إلى هذا الموضوع، فإننا نجد في مواقفه الكثيرة ما يدل على عمق إيمانه بحقوق الإنسان: النداء الذي وجهه عام 1949 من أجل الشيوعيين المحكومين بالإعدام في اليونان، استقالته من المجلس التنفيذي لليونسكو عام 1952 احتجاجاً على قبول دخول إسبانيا فرانكو في المنظمة، تدخله عام 1954 من أجل إنقاذ التونسيين المحكوم عليهم بالإعدام، الخ..
4- ذكرى مرور أربعمائة عام على وفاة الشاعر «رونسار»:
إذا ذكر الشعر الفرنسي ذكر «رونسار Ronsard» أولاً وثانياً وثالثاً. وإذا ذكر الشعر الشعبي، شعر الحب العفوي، شعر الطبيعة ومجاليها، ذكر أيضاً «رونسار»، بل لقد قيل عنه أنه أكبر شاعر عرفته فرنسة، وأنه «باندار» بلاد الغال و«فيرجيل» منطقة الفاندوم حيث ولد عام 1585. أربعمائة سنة تقضت على وفاته، وما يزال شعره حياً في المدارس وفي الكتب وفي النقد الأدبي، بل ما تزال كثير من أشعاره سائرة على الألسن يحملها الركبان. ويقال إن دوق «غيز» كان يردد عند وفاته أبياتاً لرونسار أبياتاً فيها الجمال البريء، كالأبيات الآتية:
«عندما يسعدني وجهك الجميل ويسحرني
أرى في عينيك بياضاً لا أدري ما هو
وأرى سواداً لا أعرف ما هو يجعل دمي يتوثب
ثم يمضي من وريد إلى وريد حتى يبلغ
شغاف القلب»
لقد كانت لأشعاره نكهة شعبية، نكهة حلقات الرقص الشعبي والأهازيج. وعلى الرغم من النقد الذي وجهه إليه بعض نقاد الشعر فيما بعد (ولا سيما «مالرب Malherbe») و«بوالو Boilau»)، ظل «رونسار» شاعر الحياة والحب والطبيعة، يسقى أشعاره من سواقي مقاطعة «الفاندوم» مسقط رأسه، حيث هام على وجهه صبياً في الغابات والأنهار، وحيث شهد غسق الدجى وجنيات الشعر، وبرد الندى على أكمام الورود، يصاحب الطبيعة وتصاحبه:
«لم أجاوز بعد الخامسة عشرة من عمري عندما كانت الجبال والغابات والمياه.
تَلَذّ لي أكثر من مفاتن بلاط الملوك
وعندما كنت أطرب للغابات السوداء وقد أحدودبت أغصانها
وأشهد الوادي والموقد والأثافي وقد جللها الرماد والسواد
ويوم كانت الصحراء المرعبة جل همي
علي أرى فيها عند المساء الجنيات والعرائس
ترقص فوق القمر الذي غشي المروج»
لا جدال أن الطبيعة عند «رونسار» كانت كائناً حياً ذا روح. وتشخيص الطبيعة هذا سرى كما نعلم منذ ذلك الحين في أوصال الأدب الفرنسي في القرون التالية، ولا سيما في الأدب الرومانسي في القرن التاسع عشر أيام «لامارتين» و«دوديه» و«جورج سان» وصحبهم.
قلب بريء ولكنه صلد، ولسان يعرف كيف يختار الكلم ولكنه عفوي، وموضوعات شعرية مألوفة مطروقة يمنحها الشاعر طعماً خاصاً، وتأنق في الأسلوب يبدو سهواً رهواً، وشطآن وتلال وغابات ودخان وينابيع تموج وتتحرك: ذلك هو «رونسار» الذي علم من بعده كيف تمتزج البراعة بالبراءة.
أحداث فنية:
عودتنا كثير من البلدان طغيان دنيا الأدب والفكر على دنيا الفن، وغلبة النتاج المكتوب على النتاج الفني الذي تدركه الأبصار. ولئن صدق هذا على العديد من البلدان، فإن باريس تكذبه بعنف، فالنتاج الفني، على اختلاف ألوانه وميادينه – نتاج يند عن الحصر حقاً، يملاً رحاب باريس وتلقاه العين في كل لحظة: في الطريق حيث تتكاثر الإعلانات عن المناسبات الفنية، وعلى شاشات التلفزيون وفي برامج الإذاعة، فضلاً عن مغاني الفن الأساسية كالمتاحف والمعارض وقاعات السينما والمسارح وحلبات الرقص وقاعات الموسيقى وسوى ذلك. والفن، بعد ذلك، يتفتح في باريس عند تباشير الربيع كما تتفتح الأزهار، وينث عبقه وزخمه، زهرات مختارة هي إذن تلك التي نقتطفها للقراء:
1- الرسام الكبير «رونوار Renoir» في معرض «الانطباعيين»:
معرض الفنانين «الانطباعيين» الذي أقيم في القصر الكبير بباريس والذي تحدثنا عنه في رسالة سابقة عرف جمهوراً من المتفرجين لم يعرفه سواه، وكانت أفواج الزائرين تنتظر ساعات في الصف أو الطابور الممتد، تحت المطر وفي قر أواخر الشتاء.
وقد كان الجناح المخصص للرسام «رونوار» والذي ضم 124 لوحة أكثر الأجنحة حظاً من تدافع الزائرين: لقد بلغ عدد زائريه في اليوم الأول لافتتاحه نيفاً وتسعة آلاف زائر، وبلغ عدد طارقيه خلال أيام عيد الفصح 42 ألف زائر، أما البطاقات واللوحات التي صُوِّرت عليها بعض لوحات «رونوار» فقد كان عدد ما بيع منها يند عن الحصر (في لندن حيث كان المعرض قبل باريس بيعت 435 ألف بطاقة بريدية و50 ألف لوحة).

الأطفال بعد الظهيرة «رونوار» 1884
ولا شك أن من أهم أسباب نجاح «رونوار» لدى الجماهير عالمه المليء بالسعادة الهادئة المطمئنة، فهو في لوحاته (متفوقاً في هذا على سائر الانطباعيين) يرسم صورة مجتمع ينظر إليه دون ما فكرة مبيتة أو رأي مضمر، مجتمع بسيط وسعيد. لوحات تصور المقاهي الريفية في الهواء الطلق، وربان السفن، وحفلات الرقص في الحقول وسوى تلك من المشاهد التي تسري من أوصالها لذائذ تلك الربوع الريفية التي تزيد حنيننا إليها عشرات السنوات قضاها المجتمع الحديث مع الإسمنت المسلح والأزمات. على أن أشهر لوحاته ليست أفضلها، والذي يشاهد معرض القصر الكبير يكتشف في الواقع «رونوار» مثلث الوجوه: «رونوار» البدايات، الأمين المعترف بفضل أساتذته، المقتفي آثارهم، و«رونوار» سنوات 1870، سنوات عصره الذهبي وقمة عطائه، ثم «رونوار» وقد أينع ونضج وشاخ، وقد كانت هذه الفترة أطول فترات حياته ولعلها أقلها روعة.
ولد الرسام في مدينة ليموج Limoges عام 1840 من أب خياط. ومدينة «ليموج» اشتهرت وما تزال بنتاج «البورسلين» وهكذا بدأ «رونوار» يرسم على البورسلين منذ الثالثة عشرة من عمره. وعندما ناهز العشرين دخل إلى حانوت رسام.
وفي البداية، كانت رسومه جادة لا تخلو من جهد وعناء، ولم يكن فيها الكثير من اللهو والهوى العابث. نرى ذلك واضحاً مثلاً في لوحته التقليدية «طبيعة ميتة» التي رسمها عام 1864، بل في لوحته «امرأة في الحديقة» التي تذكرنا بالرسام الانطباعي الشهير الآخر «مانيه Manet» وفي لوحات أخرى مشهورة يذكر معظمها بريشة فنانين آخرين اتخذهم أساتذة له وحاول أن ينهج نهجهم.

لوحة للفنان «رونوار 1884»

ثم غدا «رونوار» من هو حقاً، عندما رسم لوحته الشهيرة «حانة الأم أنطوني» عام 1866، حيث نرى منذ ذلك الحين بشائر اهتمامه بالمشاهد الجماعية والمقاهي والحفلات الراقصة الشعبية وفيها يجعل الحياة تدب في أولئك الأشخاص الجالسين على مائدة يتحدثون ويجادلون. وبعد ذلك يمضي «رونوار» في هذا السبيل ويرسم العديد من اللوحات الشهيرة، حتى إذا بلغ أعوام 1880 نرى الفنان يختفي ويترك الساحة لبائع الحلوى، على نحو ما نجد في لوحته «ساحة سان مارك» أو في لوحته «جبل سانت فيكتوار» حيث نشم رائحة السكر والحليب والزبدة – بل لعل لوحاته العديدة عن «النساء في الحمام Baigneuses» (بأجسادها التي تذكر بأجساد الغيلة) التي ملأت السنوات الأربعين الأخيرة من حياته (حتى عام 1919) تذكرنا أيضاً بسكر الشعير الذي يقدم في الأعياد الريفية. إنها لوحات نجد فيها أجساداً مليئة بالعسل، وأوضاعاً ناعسة، وجوّاً فيه من رحيق السكر الشيء الكثير.
ما السبب في هذا الركون إلى السهولة والدعة؟ لعل مرد ذلك إلى نجاح «رونوار» الكبير. لقد رسم أكثر من أربعة آلاف لوحة لقي معظمها نجاحاً في مجتمع زمانه، بل لعل «رونوار» الذي رفضته صالونات الرسم فترة طويلة من الزمن في البداية، لم يشأ بعد أن حالفه النجاح أن يخيب ظن أولئك الذين يعشقون الحلوى.
2- وفاة الرسام «شاغال Chagall»:
مساء الثامن والعشرين من آذار مارس 1985 توفي الرسام «مارك شاغال» عن عمر ناهز سبعة وتسعين عاماً، وقد ظل حتى آخر حياته ذلك الطفل الساذج البريء الذي يحمل معه ذكرى أرضه الروسية. وخلف وراءه عملاً فنياً ثرياً، وإن لم يكن كله في مستوى واحد، وعالماً سحرياً يجعله في زمرة أصحاب الرؤى والأحلام لا في زمرة المجدين الكبار. وبوفاته، بعد بيكاسو، ينطفئ الرسام الذي عرف شهرة لم يشهد عصرنا مثيلاً لها، رغم أن أعماله الفنية كلها تنقل إلينا عالماً شخصياً ذاتياً ومحدوداً في الجملة.
ولد الرسام في مدينة «فيتيبسك Vitebsk» بروسيا عام 1887، وقد حدثنا في كتابه «حياتي» الذي حكى فيه سيرته الذاتية والذي صدر عام 1931، عن بواكير حياته التي قضاها في أسرة متواضعة، وعن دراساته في «سان بطرسبورغ» وعن أول إقامة له في باريس عام 1910 حيث وجد، على حد قوله، «نور الحرية» الذي أتاح لعبقريته أن تتفتح.
وبعد أن عاد إلى روسيا عام 1914 فاجأته فيها الحرب والثورة، وقد سمي مفوضاً للفنون في حكومة «فيتيبسك» ونظم فيها أول عيد وطني للثورة. وفي موسكو أخذ يرسم رسوماً على الجدران وستائر للمسارح وثياباً.

عزلة – لوحة للرسام شاغال 1933
وفي عام 1923 رجع إلى فرنسة من جديد. وبعد سنوات أقام أول معرض له في نيويورك ومنذ ذلك الحين بدأ صيته ينتشر وأخذت أعماله تذيع وتلقى الرواج يوماً بعد يوم، دون أن يطفئ وقدتها اقتراب الشيخوخة، وأخذ ينشط في ميادين متعددة الرسوم التي تزين الكتب، الرسوم على النوافذ الزجاجية، السيراميك، النحت، السجاد والستائر، تزيين الجدران (ومن بينها تزيين سقف الأوبرا في باريس) الخ..
لقد كانت حياة ذلك الذي وصفه «مالرو» بأنه «أكبر مصور في العصر» حياة غنية جداً بالنتاج، ملأ خلالها بالصور والرسوم جدراناً ولوحات تنتمي إلى عالم غريب فريد، عالم
لا منطق فيه ولا وزن له، ينقلب كل شيء فيه خيالاً مفرطاً مسحوراً. إنه عالم يسبح فيه كل شيء وسط تمزق اللون، ونجد فيه صوراً عجيبة للمحبين والموسيقيين ولاعبي السيرك، كما نجد بيوتاً لها عيون وحيوانات تبادل الناس رؤوسهم ونواسات ساعات لها أجنحة وحشداً من الأزهار الفاقعة.
3- نهرا الغانج والسين يلتقيان:
لدى زيارة «راجيف غاندي Rajiv Gandhi» رئيس وزراء الهند لباريس، بين السادس والعاشر من شهر حزيران / يونيو الماضي، قام بالاشتراك مع الرئيس الفرنسي «ميتران» بتدشين «عام الهند» وأعياد الميلا Mela في باريس، وذلك في السابع من حزيران / يونيو، في الطابق الأول من برج إيفل: وقد شهد الرئيسان حفلاً فنياً رائعاً جرى على ساحة قصر شايو والتروكاديرو، وقدمت فيه مشاهد فنية متنوعة تمثل الرقص الفولكلوري والغناء والموسيقى في حوالي عشرين مقاطعة هندية. وقد قدم رئيس وزراء الهند للرئيس الفرنسي بهذه المناسبة فيلاً صغيراً مطلياً بالألوان المختلفة، كما قامت الفتيات الهنديات على ضفاف السين بإلقاء قطرات من ماء الغانج في نهر السين رمزاً لامتزاج النهرين.
وقد شهدت حفل الافتتاح هذا حشود غفيرة من الفرنسيين وسواهم، واستمرت هذه الأعياد يومين متواليين شهد فيهما الجمهور ضروب الموسيقى والرقص بل والمآكل الهندية. وقد قَدِم الفنانون جميعهم بطائرات خاصة من الهند، وبدأ الحفل كالعادة بمسيرة عامة هندية رافقها الحرس الجمهوري الفرنسي، وسار فيها الفيلة والجمال. ثم توالت العروض الخاصة بمناطق الهند المختلفة، وقد نصبت خيام ملونة فيها حوالي ثلاثين دكاناً تضم الصناعات الهندية التقليدية من ملاعق وأمشاط ومصابيح من صلصال ومجوهرات وعقود من الياسمين وأساور وأغطية للرأس.. الخ.. فضلاً عن بعض المآكل الهندية.
4- وفاة الرسام «جان دوبوفيه Jean Dubuffet»:
توفي في باريس في الثامن عشر من شهر أيار / مايو الماضي «جان دوبوفيه» عن عمر نيف عن ثلاثة وثمانين عاماً.
ولد الرسام في مدينة «الهافر» عام 1901، وانتقل منها إلى باريس عام 1918 لدراسة الرسم في أكاديمية جوليان Julian، غير أنه هجر هذا الميدان عام 1924 ورحل إلى بونس آيرس حيث مكث بضعة شهور، وبعد أن عاد منها أخذ يهتم بشؤون عائلته ويدير أعمالها (بيع الخمور) ولم يمسك أي ريشة حتى عام 1933. وفي نهاية هذه السنوات العشر وبعد أن طلق امرأته الأولى عاد إلى الفن وأخذ ينتج ألعاب مسرح العرائس والأقنعة. ولم تطل هذه العودة إلى الفن، إذ تزوج من جديد عام 1937 وهجر الفن حتى عام 1942، وبعد ذلك التاريخ رجع إلى دنيا الفن رجعة لا طلاق بعدها.
ويرجع أول معرض أقامه في باريس إلى عام 1944 وقد أثار هذا المعرض اهتمام النقاد وأثار موجة من الجدل، وقد دافع عنه إذ ذاك «بيكاسو» نفسه. وفي عام 1946 بمناسبة معرض آخر أقامه في باريس، أصدر بياناً على شكل «تعليمات للهواة» وتعاقبت عليه بعد ذلك أطوار متباينة كانت ترافقها كتابات نظرية وشروح.
وبعد الرسوم الأولى التي رسم فيها وجوهاً وأشخاصاً، أقام في الصحراء ثم ذهب إلى نيويورك حيث أقام معرضاً كان منطلق شهرته في الولايات المتحدة. ثم عاد إلى الصحراء ثانية. ثم عاد فأقام معرضاً آخر بباريس، معرضاً لما سماه بالفن الخام. وفي عام 1950 بدأت في الظهور سلسلة «أجساد السيدات» أعقبتها بعد عام سلسلة أخرى سياسية عنوانها «أراض وديار» ثم سافر الفنان مرة أخرى إلى نيويورك حيث مكث عاماً، وأقام عام 1955 في «فانس» وبقي فيها حتى عام 1959 يعمل في الحانوت الذي بناه، ثم رحل إلى ألمانيا وإيطاليا عام 1960 ثم عاد إلى نيويورك وعرض في معرض الفن الحديث عام 1962 حلقة جديدة من الرسوم، هي رسوم أشخاص ضُخمت وجوههم، وهكذا طوف من بلد إلى بلد. وعرض هنا وهناك، وقدم سلسلة تلو سلسلة وحلقة بعد حلقة. وفي عام 1984 دشن في نيويورك النصب الذي أقامه، نصب الحيوان المنتصب.

أحداث تربوية:
لا نغلو إذا قلنا إن فصل الربيع في فرنسة كان فصل التربية هذا العام. ويرجع الفضل في ذلك إلى مبادرات وزير التربية الفرنسي «جان بيير شوفينمان Jean Pierre Chevènement» وإلى ما فيها من إقدام وجرأة، ومن تلبية عميقة لحاجات مجتمع فرنسي يعمل جاداً مغذاً في السير من أجل تحديث اقتصاده ووسائل إنتاجه، بعد أن أهمل ذلك بعض الشيء خلال السنوات الماضية، وكاد الركب العالمي يتجاوزه.
1- البكالوريا المهنية:
بعد أن أدخل وزير التربية تعديلات في برامج التعليم الابتدائي أشرنا إليها في رسالة سابقة وشملت بوجه خاص إدخال التربية المدنية والمعلوماتية في البرامج وتوجيه مزيد من الاهتمام إلى اللغة الفرنسية، اتجه شطر التعليم الثانوي فقرر إحداث بكالوريا مهنية تقود مباشرة إلى سوق العمل. ويهدف هذا القرار إلى خلق «نموذج ثالث» من البكالوريا، هي البكالوريا المهنية تزود صاحبها بكفاءات ومهارات تجعل منه اختصاصياً تقنياً في مهنة محددة. وقد تم تحديد أنواع البكالوريا المهنية هذه عن طريق الحوار المباشر مع الأوساط المهنية وبالاستناد إلى دراسة عملية لحاجات سوق العمل ومستلزمات التطور التكنولوجي. وسوف يبدأ تطبيق هذا القرار في العام المقبل عن طريق إحداث بكالوريات مهنية في المجالات الثلاثة التالية: صيانة الشبكات المحلية لوسائل الاتصال اللاسلكية، ثم صيانة العمليات والأجهزة الأوتوماتية، وأخيراً المحاسبة.
2- الرئيس «ميتران» والجامعة المفتوحة والتلفزيون التربوي والثقافي وتقويم التعليم العالي:
زار الرئيس الفرنسي «ميتران» الكوليج دي فرانس ظهر الرابع عشر من أيار / مايو الماضي، وتحدث مع أعضائها عن النتائج التي استخلصها من التقرير الذي أعدته الكلية بناء على رغبته، حول «تعليم المستقبل». وبعد أن شكر أعضاء الكلية على الجهود التي بذلوها وعلى المستوى الرفيع لتقريرهم، عبر لهم عن موافقته على المبادئ الثلاثة التي يقوم عليها التقرير: الوحدة في إطار التنوع، والانفتاح عن طريق الاستقلال وبه، والمراجعة الدورية للمعارف التي يتم تدريسها.
ثم قدم الرئيس ميتران مقترحات ثلاثة من شأنها في نظره أن تجسد هذه المبادئ: أولها إنشاء جامعة مفتوحة، تستخدم تقنيات التعليم عن بعد وتسهم إسهاماً واسعاً في إعداد الكبار. وفي رأيه أن «مركز التعليم الوطني» الحالي يمكن أن يكون منطلقاً لهذه المؤسسة.
وثانيها إنشاء شبكة تليفزيون تربوي وثقافي، ولا سيما بعد أن اتجهت نية الدولة نحو فتح أقنية تلفزيون جدية وشبكات بث أوسع.
وثالثها إجراء تقويم مستمر لمعاهد التعليم. ولهذه الغاية شكل الرئيس ميتران «لجنة وطنية» لتقويم التعليم الجامعي. أما في التعليم ما قبل الجامعي فالتقويم، على حد قوله، أدق وأصعب، فالكثير من المعلمين والآباء يستمسكون بالمساواة الشكلية بين معاهد التعليم، ويخشون بالتالي من مثل هذا التقويم الذي يذيع على الملأ محاسن بعض المعاهد ومساوئ أخرى، ويخافون أن يؤدي ذلك إلى مزيد من عدم المساواة. ويجيب الرئيس ميتران على هذه الشكوك بقوله: «إنني أفهم مخاوفكم هذه. ولكني في الوقت نفسه لا أنكر محاسن المنافسة التي تحرصون عليها كما أحرص».
وفي خاتمة كلمته هذه طلب الرئيس الفرنسي من وزير التربية الوطنية أن يدرس الوسائل الكفيلة بتطبيق هذا التقويم على بعض المعاهد من قبيل التجربة، بادئاً بمعاهد التعليم الثانوي، على نحو ما جرى في تقويم الجامعات.
وقد تقبلت الأوساط النقابية التعليمية واتحاد الآباء والطلاب هذه المقترحات قبولاً حسناً، وإن تكن قد أشارت إلى بعض مزالقها، ولا سيما فيما يتصل بتقويم المعاهد المدرسية.
3- تكوين اللجنة الوطنية لتقويم التعليم العالي:
كما أشرنا منذ حين، أصدر الرئيس ميتران في العاشر من أيار / مايو قراراً بإحداث «لجنة وطنية لتقويم الجامعات» معبراً بذلك عن اهتمامه بهذه المؤسسات العلمية الرفيعة. وأوكل إلى اللجنة القيام بتقويم دوري لجملة النشاطات التي تمارسها معاهد التعليم العالي.
وتتألف اللجنة من عشرة أعضاء برئاسة السيد «لوران شفارتس Laurent Schuwartz» الذي صرح بأن «التفحص الدوري للحال الصحية للمعاهد سوف ييسرا استقلال الجامعات». ومما قاله: «إن الجامعات التي كثيراً ما توجه إليها سهام النقد ظلماً وعدواناً ينبغي أن تهتبل هذه الفرصة، نعني أن تضطلع بنفسها بالقيام بتقويم مستقل»، من شأنه أن يساعدها على كسب رضا الجمهور. وبين فيما بين أنه يأمل أن يكشف أعضاء اللجنة عما يسير سيراً حسناً وعما هو متعثر خائب في المعاهد التي أوكلت إليها مهمة تطوير المعارف ونقلها. وذكر أن أعضاءها ينبغي أن ييسروا الحوار المثمر مع الجامعيين من أجل تطوير المعاهد الفرنسية. وأضاف قولاً جديراً بأن ننعم فيه النظر: «إن النجاح سوف يكون حليف اللجنة عندما تطلب معاهد التعليم والبحث نفسها أن يُقوَّم عملها».
وقد أشار الرئيس ميتران إلى ما في إنشاء هذه اللجنة من تجديد كبير. وأشار الكثيرون إلى ما تمثله من ثورة تربوية هامة. فللمرة الأولى في تاريخ فرنسة تقوم شخصيات مستقلة، لها كفاءات علمية مجمع عليها، بدراسة أساليب سير الجامعات والسياسة العلمية التي تقودها، ومدى انفتاحها على العالم الخارجي وعلاقاتها مع المدارس الكبرى وسوى تلك من المسائل الهامة. على أن هذا كله لم يمنع بعض المنظمات النقابية من التعبير عن امتعاضها من تأليف مثل هذه اللجنة.