التعليم الجامعي والعالي في مواجهة التغير الجذري السريع لبنى العالم اليوم وفي مواجهة المستقبل

بحث قدم إلى المؤتمر العام الخامس لاتحاد الجامعات العربية الذي عقد بعدن من 19-25 شباط/ فبراير. وقد نشر ضمن أعمال المؤتمر كما نشرته مجلة اتحاد الجامعات العربية في العدد (20) مستل من كتاب الآفاق المستقبلية للتربية في البلاد العربية – دار العلم للملايين – بيروت 2000

التعليم الجامعي والعالي
في مواجهة التغير الجذري السريع لبنى العالم اليوم وفي مواجهة المستقبل

مدخل:
الحديث عن التغيرات السريعة التي تجري في أوصال حياتنا كلّها في الحقبة التاريخية التي نحياها حديثٌ قد يبدو مكروراً. فلقد كُتب الكثير عن معالم الثورة التكنولوجية التي عرفها عصرنا منذ عقود غير بعيدة، على نحو ما رأينا في الفصلين الأوليين من هذا الكتاب وتحدّث المتحدّثون عن الفوارق النوعيّة القائمة بين هذه الثورة والثورة الصناعية الأولى التي بدأت في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وأشار من أشار إلى انعكاسات هذه الثورة على حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وتريث بعض الكتاب عند ما يترتب على انبثاق هذه الثورة من تغييرات لازمة في بنى حياتنا كلها وفي بنى التربية والإعداد بوجه خاص. ومع ذلك فهذا البحث ما زال جديداً أبداً قديماً أبداً، بل ما زال هذا الميدان في نظرنا ميداناً بكراً لم تطرقه إلا أقلام القلة من المنظّرين والمرهصين برؤى المستقبل ووعوده. بل ما زالت انعكاساته على ميدان التربية والإعداد مقصرة عن الشأو المطلوب، ولاسيما في البلدان النامية. ولعلنا لا نغلو إذا قلنا إننا لا نزال نعمل في ميدان التربية عامة وفي ميدان التعليم العالي خاصة وكأن شيئاً لم يكن، ولا نزال نرسم بنى التربية والتعليم العالي ونضع مناهجه ووسائله منطلقين من نظرة «ماضوية» غالباً، أو في أحسن الأحوال من نظرة لا تعدو أن تحسب المستقبل مجرد امتداد واتساع للماضي.
وفي البلدان العربية، حيث تغتلي الصبوة إلى توليد مشروع حضاري جديد، أصيل وحديث معاً، وحيث يتطلع المربون إلى بناء نظام تربوي قادر على أن يسهم في مخاض ذلك المشروع الحضاري، لا تزال الخطوات في هذا كله خطوات تسير على استحياء إذ لا تهديها رؤية واضحة نيرة لمعالم الحضارة العالمية الحديثة وآفاق تطورها المغذّ في السير.
من هنا فنحن حين نبحث عن التعليم العالي والتنمية، لا نزال نبحث هذا الأمر غالباً منطلقين من حاجات التنمية المحدودة على نحو ما تقود إليها رؤية للواقع العربي مقصّرة عن فهم موقعه في العصر، ومقصرة عن فهم العصر ومستلزمات اللحاق به، فضلاً عن كونها مقصرة أبلغ التقصير عن إدراك التغيرات الجذرية الحاسمة السريعة في حضارة هذا العصر وما تشير إليه هذه الحضارة من انقلاب كامل شامل في بنى حياتها كلها.
لهذا كان هذا التفكير العميق المتأمل في طبيعة حضارة عصرنا، وفي الأشكال جديدة المبتكرة التي تصير إليها، مطلب المطالب في دراستنا للعلاقة بين التعليم العالي والتنمية.
فالتعليم العالي في البلاد العربية، وفي سائر البلدان، إما أن يقلب بنيته على نحو جذري انطلاقاً من حاجات التغير العلمي والتكنولوجي والحضاري التي تجري في عصرنا، وتغيره تغييراً جذرياً أيضاً، وإما أن يظل بعيداً عن أهداف التنمية الحقة، متخلفاً عن الركب، يكتفي في أحسن الأحوال برسم العلاقات الكمية الرقمية التي ينبغي أن تتم بين التخطيط للتعليم العالي وتقدير حاجاته وبين تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة «ماضويّة» الرؤية لا تعدو بدورها أن تكون مداً كمياً لجهود الماضي واتجاهاته ونشاطاته.
ونحن حين نرى في إدراك طبيعة حضارة العصر وآفاق تطورها الجذري الشامل شرطاً لازماً لرسم تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة سليمة الأهداف، ولوضع خطةٍ للتعليم العالي بالتالي جديدة المحتوى «مستقبلية» الغايات، لا نعني بذلك أن مشروعنا الحضاري المرجو ينبغي أن يكون صورة مقلدة للمشروع الحضاري الذي يبنيه العالم المتقدم. فمشروعنا الحضاري الذي نستمد منه خطط التنمية وخطط التربية والإعداد وخطط التعليم العالي وسواها لا بد أن تكون له سماته الخاصة التي تعبّر عن ثقافتنا المتميزة وحاجاتنا المتفردة. غير أننا لا ننسى في الوقت نفسه أننا لا نعيش في معزل عن العالم وأن التطور الحضاري العالمي يغزونا شئنا أم أبينا، كما لا ننسى أننا لا نستطيع أن نضع مشروعاً حضارياً ذاتياً أصيلاً ما لم ندرك في الوقت نفسه اتجاهات العالم من حولنا، وما لم نتمثل التجربة العالمية تمثلاً ذاتياً يستلزم أولاً وقبل كل شيء أن نفهمها حق فهمها. يضاف إلى هذا كله أن مشروعنا الحضاري المأمول يرجو أن يسهم في بناء التجربة العالمية وأن يكون له في صنع مستقبل العالم كله شأنٌ ونصيب، وهذا لا يتوافر إلا إذا نحن غصنا في أعماق هذه التجربة العالمية محللين مدققين مستخلصين. وأخطر ما يمكن أن يقود إليه الفهم الخاطئ لما ينبغي أن تتصف به حضارتنا المرجوة من أصالة وسمات خاصة أن نحسب أن في وسعنا أن نستخلص محض حضارتنا عن طريق التقوقع حولها، وأن ننسى أن التقدم العلمي التكنولوجي الذي يصوغ حضارة العالم أنى كان، والذي لا بد أن يصوغ حضارتنا، تقدمٌ ليس لنا فيه نصيب بعد ولم نسهم في صنعه، ولا بد لنا بالتالي أن نقتحم حماه وأن نستلقي في أحضانه حيث حلّ، مقتبسين حصاد منازع علمية تجريبية كان لنا في زاهرات أيامنا قصب السبق فيها وكان لنا دور نقلها للعالم وتفجير الحضارة الحديثة من خلالها.
ومما يمنح شأناً خاصاً لأمنياتنا باستكشاف معالم الحضارة الحديثة المتغيرة واستشراف آفاقها المبتكرة الجديدة، أنها كما سنرى، حضارة يزداد الارتباط بينها وبين العلم، وأن التكنولوجيا فيها وأدوات الإنتاج وتنظيم الإنتاج وسوى ذلك أمور يرتبط عطاؤها ونتاجها أكثر فأكثر بما يقدمه العلم والبحث العلمي من مكتشفات وما يرتاده من آفاق لم تكن معروفة وما يولده من ميادين علمية ما كانت لتخطر على بال بشر. ومن هنا يصح القول إن الحضارة العالمية في السنوات التي سبقت الثورة العالمية الجديدة التي سنتحدث عنها، كانت حضارة يكون العلم أحد مقوماتها، وكانت تتم «مع العلم» إن صح التعبير. أما الحضارة التي نشهد بزوغها والتي تكاد تغير معالم دنيانا كلها، فحضارة قوامها كله «العلم» والبحث العلمي، وتتم بالتالي «بالعلم». وتكتسب هذه الحقيقة أهمية خاصة إذن عندما نتحدث عن التعليم العالي وعن علاقته بالتنمية. فالتعليم العالي من أهم موائل العلم والبحث العلمي، ودوره في التقدم العلمي دور طليعي. ولكن التقدم العلمي لفظ كثيراً ما يدركه قائلوه إدراكاً سديمياً عائماً، وكثيراً ما يحملونه كل شيء يتصل بالمعرفة. أما التقدم العلمي الجدير بهذا الاسم والقمين بان يملي على التعليم العالي تغيرات جذرية في بناه ومحتواه وطرائقه، فهو التقدم العلمي في أرقى صوره وأشكاله، كما نجده في العالم المتقدم وكما يرهص به المستقبل، سواء في ميدان العلوم الإلكترونية «الكوانتيّة» أو في ميدان البيولوجيا الذرية والهندسة البيولوجية وعلم النسل، أو في ميدان علم البحار، أو في ميدان علوم الفضاء، أو في مجال «المعلوماتية Informatique» أو سوى تلك من الميادين التي سنتحدث عنها.
أين دور التعليم العالي في البلاد العربية من هذا التقدم العلمي الرفيع، وأنى له أن يدرك حقيقة مضمونه ودلالات تطوره السريع بل المرعب، وكيف يصبح أداة لصنع هذا التقدم العلمي وما وراءه من تقدم تكنولوجي وسواه؟ ذلك هو السؤال الكبير، ولعله السؤال الوحيد الذي ينبغي أن نطرحه عندما نطرح موضوع الصلة بين التعليم العالي والتنمية في البلاد العربية.
قد نتحدث طويلاً عن تطوير مناهج التعليم العالي في البلاد العربية، وقد نعقد الندوات ونكتب الأبحاث عن التنظيم الإداري المرجو في التعليم العالي، وقد نتريث عند إعداد أعضاء هيئة التدريس في التعليم العالي، وقد نمنح شأناً خاصاً لمسألة القبول والالتحاق بالتعليم العالي، وقد نبحث في هذا كله وفي كثير غيره، دون أن نمس صلب المشكلة ونصيد جوف الفَرا، دائرين حول الحمى بل حول ذاتنا، إذا نحن لم نبحث أولاً وقبل كل شيء ما هو التعليم العالي الذي يستجيب لمستلزمات ثورة العصر، وإذا نحن لم نبحث بالتالي في معالم هذه الثورة وطبيعتها واتجاه مسيرتها وما يترتب على هذا كله من انقلاب جذري في التعليم العالي بنى ومناهج وأساتذة وسياسة قبول وإدارة وسوى ذلك.
وظننا، كما ذكرنا منذ البداية، أننا قلما ندرك أبعاد هذه الثورة العصرية ومعناها، بله آفاقها المستقبلية. ومن هنا رأينا لزاماً علينا أن نعرّف بهذه الثورة وهويتها ومرتجياتها، من خلال ارتباطها بتطوير التعليم العالي.
أولاً – الثورة العلمية التكنولوجية:
أول صعوبة نواجهها في هذا المجال التسمية التي يمكن أن نطلقها على ثورة العصر الحديث.
فلقد جرت العادة، ولاسيما في المعسكر الاشتراكي سابقاً، على تسميتها غالباً بالثورة العلمية التكنولوجية، وجرت العادة على تسمية المجتمع الناجم عنها باسم مجتمع ما بعد الصناعة. ووصفها بعضهم بأنها الثورة الصناعية الثانية تمييزاً لها من الثورة الصناعية الأولى التي حدثت منذ القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر.
ولقد كان هناك رواد كثر لهذه التسمية ولما وراءها من تنظير. وأول من أدخل هذا المصطلح على ما يبدو «برنال Y.D. Bernal» في كتابه «العلم في التاريخ Science in History» الذي صدر في لندن عام 1955.
وأصحاب هذا المصطلح والمتحدثون بالتالي عن «الثورة العلمية التكنولوجية» التي عرفت سبيلها إلى عصرنا منذ منتصف هذا القرن تقريباً يعنون بذلك أموراً كثيرة، نذكر أهمها بإيجاز.
1- الثورة العلمية التكنولوجية ليست امتداداً أو تطويراً للثورة الصناعية، بل هي إلى حد بعيد مباينة لها، مختلفة عنها في الطبيعة لا في الدرجة، لاسيما من حيث آثارها الاجتماعية والإنسانية.
2- ومع ذلك فالانتقال من الثورة الصناعية إلى الثورة العلمية التكنولوجية يتم تدريجياً وببطء غالباً، وإن صحبته تحركات مفاجئة جزئية أحياناً. والثورتان تتداخلان في حياتنا وتعيشان جنباً إلى جنب، وهذا مصدر الكثير من المشكلات واللبس، بل هو من أهم أسباب القلق في المرحلة الانتقالية التي لم تهجر فيها الإنسانية الثورة الصناعية الأولى وإن تكن قد أوغلت في الثورة الصناعية الثانية (التي يدعوها بعضهم ثالثة إن اعتبرنا الأولى الثورة الصناعية التي أعقبت اكتشاف الآلة العادية، آلة العمل، واعتبرنا الثانية تلك التي أعقبت اكتشاف الآلة المتحركة، آلة البخار).
3- قوام الثورة الصناعية الأولى نظام يستخدم مجموعة من الآلات وكتلة كبيرة من اليد العاملة، ليس لها إلا دور إجرائي عملي، دور تشغيل الآلة وضبطها. وهكذا يخضع فيها الإنسان للآلة ويستعبد لها، وتولد تلك المشكلات الكثيرة التي عرفت باسم المشكلات الإنسانية الناجمة عن الصناعة، لاسيما أن الإنسان فيها يقوم بأعمال روتينية آلية تجري على وتيرة واحدة، هي جزئية غالباً، ولا إنسانية بطبيعتها (لاسيما بعد أن انتشر في المجتمعات الرأسمالية خاصة نظام تنظيم العمل وتقسيمه كما وضعه «تايلور» الأمريكي، والذي نجد صورة مضحكة ومؤلمة له في فيلم «شارلي شابلن» «الأزمنة الحديثة». وفي هذا النظام ينبغي على العامل كما نعلم أن يكيّف إيقاع عمله وسرعته تبعاً لسرعة الآلة وضرورات الإنتاج السريع الغزير، بدلاً من العكس).
4- قوام الثورة العلمية التكنولوجية «الأتمتة»، وما ينجم عنها من حلول الآلة شيئاً بعد شيء محل الإنسان في كثير من الأعمال، ومن تحرير الإنسان من ربقة العمل اليدوي والآلي، ومن اضطلاعه بالتالي بالمهمات اللصيقة بإنسانيته كالبحث العلمي وتنظيم الإنتاج وإدارة الإنتاج وسوى ذلك. وهكذا يغدو الإنسان في هذه الثورة على هامش عملية الإنتاج المباشر (نعني الفبركة)، تلك العملية التي لا يستطيع الإنسان أن يتفوق فيها على الآلة، وينصرف إلى مجالات تفوقه الحقيقية، مجالات الخلق والإبداع. ومن هنا يتغير موقع الإنسان في عملية الإنتاج وتتفتح أمامه آفاق جديدة، ويغزو عوالم علمية محدثة، وينبلج أمامه عالم العلم خاصة، إذ يغدو العلم قوة إنتاجية مباشرة، وتتسع ميادين تطبيقه والمجالات التكنولوجية لاستخدامه، بل تغدو الصناعة إلى حد كبير مجرد «تطبيق تكنولوجي للعلم» ونصبح أمام جيش من العلماء الأخصائيين في العالم يجاوز الملايين الخمسة.
5- ولا شك أن الثورة في عالم الاتصال والمعلومات وما وراءه من ثورة في عالم الإلكترون، يشكل مرحلة ثالثة جديدة في مراحل التقدم العلمي والتقاني. ولاسيما إذا أضفنا إليها الثورة في عالم «المورثات» (الجينات) والثورة البيولوجية بوجه عام، والثورة «الروبوتية» (التي تستخدم الروبوت Robot) أي الآلة وحدها في معظم النشاطات الإنتاجية.

ثانياً – تطور الدراسات حول ثورة التقدم العالمية:
مصطلح الثورة العلمية التكنولوجية ظل متداولاً حتى اليوم، وإن استُهلك إلى حد ما، وفقد نتوءاته التي كانت له في بداية ظهوره، بل كثيراً ما يستخدم اليوم لمجرد الإشارة إلى التقدم الواقع في العالم، دون ما تمييز واضح بين المعالم الخاصة لهذا التقدم كما برزت في العقود الأخيرة مع ظهور هذه الثورة العلمية التكنولوجية وبين التقدم الصناعي عامة على نحو ما ظهر منذ الثورة الصناعية الأولى. يضاف إلى هذا أن رواد هذا المصطلح، اقتصروا إلى حد بعيد على الحديث عن الفوارق بين الثورتين، الثورة الصناعية الأولى والثورة العلمية التكنولوجية، فيما يتصل بأدوات الإنتاج وعلاقات الإنتاج وما ينجم عن ذلك من نتائج اجتماعية وثقافية وسياسية عامة.
ولكن التطور العالمي السريع في العقود الأخيرة، ولاسيما بعد الستينيات، وظهور الدراسات المستقبلية التي تحاول أن تتبين صورة المستقبل من أجل أن تؤثر في مسيرته، أضافت إلى هذه الدراسات المتصلة بالثورة العلمية التكنولوجية معاني جديدة وأبعاداً جديدة، وبينت على نحو واضح صارخ طبيعة التغيرات الجذرية التي تحدث في عصرنا في شتى المجالات، والاتجاهات المتوقعة في المستقبل لتلك التغيرات. فلنمض إلى تحليل هذا التطور وبيان أهم صُواه:
1- الدراسات المستقبلية:
مصطلح «المستقبلية» مصطلح لا يخلو بدوره من غموض، ولاسيما عبر التاريخ الذي مر به. فمن عجيب الأمر أنه أول ما ظهر في ميدان الفن، إذ برزت في أوروبا في بداية هذا القرن طائفة من الرسامين والشعراء والنحاتين وصفوا أنفسهم بأنهم «مستقبليون»، وأصدروا بياناً بذلك، وكتبوا دراسات عديدة وأقاموا مذهباً جمالياً قائماً بذاته يتحلق حول هذا المحور الأساسي: «المستقبلية». غير أن ما أصاب هذه الأفكار بعد ذلك من نقد وتجريح ورفض، جعل لفظ «المستقبلي» يمحي ويزول. ولكنه ما لبث حتى بعث حياً قوياً بعد الحرب العالمية الثانية. وكان ممن أحيا هذا المصطلح وأحيا معانيه «أوسيب فليشتهايم Ossip Flechtheim» في ألمانيا. وما يجدر بالذكر أنه أطلق القول بضرورة التنبؤ بالمستقبل ورأى أن يعلَّم في المدارس ما سماه باسم «المستقبلية».
ومنذ الستينيات أخذ هذا الاتجاه يذر قرنه، وظهرت طائفة جديدة كبيرة من المفكرين والكتاب والصحفيين الذين قادوا حملة حول ضرورة الاهتمام المنهجي المنظم بالنتائج البعيدة المدى للتغير السريع الذي يجري في عصرنا. وهكذا ظهر على قبيل المثال، صحفي مثل «روبرت يونك Robert yungk» في ألمانيا ساق حملة عالمية عارمة هدفها جعل المستقبل أكثر إنسانية. وفي فرنسة ظهر المفكر الشهير «غاستون بيرجيه Gaston Berger» الذي يكاد يعتبر بحق مؤسس الدراسات المستقبلية، فأصدر مجلة «التحسب Prospective». وفي الاتحاد السوفياتي ظهر مؤرخ عُني بالحديث عن المستقبل وكتب عنه باسم مستعار هو «بيستوجيف لارا Bestujev – Lara». ومثل ذلك يقال عن الهولندي «فريد بولاك Fred Polak» الذي قام بعمل إحصائي واسع عن الاتجاهات الثقافية إزاء المستقبل عبر التاريخ، وعن الأسكتلندي «جون ماك هيل John Mc Hale» وزوجه، وعن الرياضي والفيلسوف الأمريكي «أولاف هلمر Olaf Helmer» وعن عالم الفيزياء الأمريكي «هيرمان كان Herman Kahn» أحد مؤلفي الكتاب الشهير «العام ألفان The year tow Thousands»، وعن عالم الاجتماع الشهير «دانييل بيل Daniel Bell» هذا إذا نسينا المفكر الفذ، «آلفين توفلر Alvin Toffler» صاخب كتاب «صدمة المستقبل Future shock» وسواه، الذي أصدر منذ عام 1965 مجموعة من النصوص حول موضوع «المستقبلية»، والذي كلف عام 1966 بالقيام بمحاضرات جامعية حول «علم اجتماع المستقبل» (وسنتحدث عن هذا الكاتب في الجزء الآتي من بحثنا).
على أن أشهر أفراد هذه الطائفة من دارسي المستقبل وأشدهم أثراً الكاتب الفرنسي «برتران دي جوفينال Bertrand De Jouvenal»، صهر الكاتبة الشهيرة «كوليت Colette» الذي بدأ حياته بتهريب المشروبات الكحولية في لويزيانا ثم ما لبث حتى غدا صحفياً ثم مؤلفاً لجملة من المؤلفات عن العلوم السياسية والاقتصادية والتحسب(1). وقد أنشأ في فرنسة نادي المستقبليين، وخلفه في إدارته بعد ذلك ابنه «هوج Hugues». ومن أشهر كتبه التي لقيت رواجاً لدى طائفة المعنيين بهذا التحسب المستقبلي كتاب «فن الافتراض l’Art de la Conjecture» وقد كان بحق أول من أدخل مصطلح المستقبلات Les futurs وتحدث عن وجود جموع من المستقبل لا مستقبل واحد وحيد.
وليس هدفنا ههنا التحدث عن الدراسات المستقبلية وعن المستقبليين. والذي قادنا إلى هذه الإشارة العابرة أن معظم هؤلاء الدارسين للمستقبل هم الذين أطلقوا شرارة الدراسات التي حاولت تبين طبيعة الثورة العصرية وما تومئ به، وحاولوا أن يتحسبوا مما يمكن أن يواجه الإنسان من تغيرات جذرية نتيجة لتسارع الثورة العلمية التكنولوجية. وحسبنا دليلاً على ذلك كتابات «هرمان كان» من جانب وكتابات «توفلر» من جانب آخر. حسبنا أن نذكر أن هذا التيار ولّد في معظم البلدان خلايا للتفكير في المستقبل، لكتابة تاريخ المستقبل على حد تعبير الاقتصادي الفرنسي «فوراستييه J.Fourastier» (وهو أيضاً من منظري المستقبل). وحسبنا كذلك أن نشير إلى أن «الجمعية العامة للمستقبل World Future Society» ومقرها في الولايات المتحدة، تضم اليوم مئات الآلاف من المنتسبين في بلدان العالم يعملون في شتى قطاعات المجتمع.
على أننا حين نشير إلى الدراسات المستقبلية وإلى شأنها في تعريفنا بطبيعة حضارتنا عن طريق «تكبيرها» بوساطة النظر إليها من مجهر المستقبل، فنحن لا نعني بذلك أن في وسع أي إنسان أن يعرف المستقبل معرفة دقيقة وأن يعلم الغيب. ولا يدعي مثل هذه القدرة على التنبؤ إلا عراف أو منجم أو مدّع لقوة خارقة مزعومة. والدراسات المستقبلية، والحق يقال، ليست علماً، بل هي فن، ولكنه فن مفيد، يطلعنا على المستقبل «المحتمل» ولا نقول يطلعنا على المستقبل «الممكن» أو الواجب الحدوث. وحين تستخدم فيه الطرائق الحديثة (التي تتجاوز مجرد مد الاتجاهات الماضية والحالية إلى المستقبل، والتي لا تعتمد على البيانات الإحصائية والمعلومات الكمية وحدها)، فإنه يغدو عنصراً مساعداً للعلم، وعوناً كبيراً لوضع الخطط البعيدة المدى والمتوسطة المدى في شتى مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية. ومع ذلك لا بد من الإقرار بأن التغير في عصرنا كما سبق أن رأينا يسير بخطوات جبارة يصعب التنبؤ بنتائجها.
على أن أهم ما في هذه الدراسات أنها تثير الذهن الخلاق المبدع وتفتح قدرة الخيال على تصور عوالم جديدة، وترسم مشاهد وسيناريوهات موحية محرضة للتفكير، وتطلعنا عن طريق هذا كله على ما هو محتمل من أمر المستقبل، لكي نعد للأمر عدته ولكي يكون لنا في صنع مستقبلنا شأن ونصيب. ولهذا آثرنا أن نخصها بهذه النظرة السريعة في دراستنا هذه. إذ ليس أمامنا في مواجهة التغير السريع الخاطف في عصرنا وأمام ما يعتري إدراكنا له من القصور وعدم اليقين، إلا أن نلجأ إلى دراسة «الاحتمالات المتشابكة المعقدة» على حد قول المفكر الفرنسي «إدغار موران Edgar Morin» وإلا أن نتخير من الاحتمالات أفضلها وأن نعمل على نجاحه، ما وسعنا ذلك.
2- الدراسات المتصلة بالتغير السريع في عصرنا ونتائجه:
والحق إن مما أفرزته الدراسات المستقبلية أحياناً ومما ظهر نتيجة لعناية الباحثين بتحليل عوامل أزمة العصر وبواعث آفات الحضارة الحديثة ومنزلقاتها ومخاطرها، الدراسات التي كشفت عن صفة أساسية من صفات ثورة التقدم في العالم ومن سمات الثورة العلمية التكنولوجية بوجه خاص، نعني التغير والتغير السريع المذهل الذي لا نكاد نلحق به، والذي يؤدي جهلنا به أو عجزنا عن إدراك معانيه وعن إخضاعه لمشيئتنا، ما وسعنا ذلك، إلى معظم أزمات العصر الحديث. وكأن الأمر عند أصحاب هذه الدراسات يرتد في النهاية إلى عجزنا عن التكيف مع التغير السريع. وهم يرون أن اتساع التغير في عصرنا، في شتى جوانب الحياة، له نتائجه النفسية والاجتماعية التي يمكن أن تنقلب إلى داء خطير إن لم يقو الإنسان على ضبط مسيرة التغير، وإن لم توجد قيادة إنسانية، لا قيادة بوروقراطية أو اقتصادية لهذا التغير. وهذا التغير السريع يصيب كما ذكرنا مختلف جوانب حياة الإنسان: الجسد والبنية البيولوجية، والأسرة وتكوينها، والمواصلات ووسائل الإعلام، والصناعة، وتجاوزها إلى ما يتجاوز الصناعة والاقتصاد واختلال موازينه وتغير عوامل الإنتاج فيه واتجاهه نحو التجزؤ بعد التمركز، والعلم وميادينه الجديدة المذهلة، من أعماق البحار إلى جوزاء السماء والفضاء، وعالم النسل وتغيير الأعضاء وتوليد الكائنات النباتية والحيوانية والتأثير في العروق لبشرية وتغييرها وغير تلك كثير.
وهكذا يجعل التغير السريع الحادث في العالم أكثر من مليار من الناس (في العالم المتقدم) على موعد مع ما يتجاوز عصر الصناعة والتصنيع ويلقي بهم في عالم جديد، يتطلب التكيف معه تغير بنية التربية والإعداد وطرازهما تغييراً جذرياً ورسم سياسات علمية جديدة، وتقوية سلطان الإنسان على التكنولوجيا بدلاً من الخضوع لسلطانها عليه، واختيار نماذج ثقافة ملائمة. ويحتاج فوق هذا وقبل هذا إلى تخطيط للغد إنساني الأهداف، وإلى إنشاء مراكز للتفكير في المستقبل وتخيّل صوره. فالإنسان إما أن يتغلب على عمليات التغير ويمسك بزمامها وإما أن يزول. والتغير الذي لا يقوده الإنسان ولا يوجهه لا يمكن أن يكون في صالح الإنسان.
وعسيرٌ علينا في هذه العجالة أن نوفّي الحديث عن الدراسات المتصلة بالتغير حقها من التحليل. وحسبنا أن نحيل القارئ إلى كتاب لعله من أفضل ما ظهر في هذا الميدان، هو الكتاب الذي شاع وذاع بعد أن صدر في تموز/ يوليو 1970 والذي بيع منه ما ينوف على سبعة ملايين نسخة، نعني كتاب «توفلر A. Toffler الشهير» «صدمة المستقبل Future Shock». على أن الدراسات الحديثة اليوم عن هذا الموضوع غدت أوفر وأشمل وتكاثرت تكاثراً متوالداً في العقد الأخير من القرن العشرين. وما يعنينا منها أنها جميعها تشير إلى ولادة عالم جديد، يختلف اختلافاً جذرياً في بنيته وتكوينه عما عرفنا وألفنا، وأن محاولة دراسة الحاضر بالتالي وكأنه ما زال ماضياً، والظن بان التغير الذي يحدث هو مجرد انحراف عن الأصول ينبغي أن يصحح ويقوم، مواقف ينبغي أن ننتزعها من أذهاننا إلى الأبد. فالتغير واقع. والحاضر والمستقبل لا يمكن أن يكونا امتداداً للماضي، والمستقبل الآتي لا يمكن أن يكون أن يكون امتداداً للحاضر القائم. والمستقبل الجديد، بكل جدته وغربته، شق طريقه في حاضرنا وبدأ ينبلج في واقعنا متزايد النور يوماً بعد يوم. والمجتمع الصناعي في العالم كله يعاني أزمة شاملة، وهو يأخذ طريقه إلى الزوال والأفول. ونحن نشهد أمام أعيننا نزاع العالم الحضاري وحشرجته، وولادة حضارة عالمية جديدة، ولادتها من قلب عالم الصناعة وإن تكن «أبعد ما تكون عن الصناعة» على حد تعبير «فوراستييه Fourastieé» في كتابه عن «أمل القرن العشرين الكبير»(1). وهذا كله يتطلب منا مواقف جديدة، على رأسها إعادة النظر في نظام التربية والإعداد عامة وفي التعليم العالي خاصة. ففي هذا المجال ينبغي أن نذكر دوماً أن علينا أن نولد تربية عصر ما بعد التصنيع، وأن ندرك أن حضارة الغد لا تستلزم مجرد الملايين من المتعلمين الذين لا يكادون يتجاوزون مستوى محو الأمية، بل تستلزم أشخاصاً مبدعين قادرين على استخدام الفكر النقدي والخيال المفتِّق والتلاؤم مع الغير، كما تستلزم إعداداً ملائماً للمجالات العلمية التكنولوجية الجديدة التي تنبثق سريعاً وتتوالد متكاثرة. ويقول موجز إن التربية المرجوة في هذا الإطار، ينبغي ألا تشمل أي شيء في مناهجها لا يتصل بالمستقبل وبناء المستقبل.
3- الموجة الثالثة:
على أن أصحاب دراسات التغير لم يقفوا عند حدود بيان خطورة التغير وضرورة التلاؤم معه وقيادته قيادة إنسانية، بل أمعنوا في إدراك أبعاده وأعماقه وفي الكشف عن طبيعته، وبالتالي عن طبيعة الحضارة العالمية الجديدة. وبهذا قدموا ويقدمون للمربين حصاداً ثميناً يفيدون منه في رسم الصور المشخصة لتطوير بنى التربية.
وقد أشرنا في الفقرة السابقة إلى «توفلر» وأبحاثه. ولئن كان «توفلر» قد اشتهر أول ما اشتهر عن طريق كتابه «صدمة المستقبل»، حيث تحدث عن التغير ونتائجه ومستلزماته، فهو قد أضاف إلى حديثه عن ظاهرة التغير ومستلزماتها، في صلب هذا الكتاب نفسه، أمثلة ونماذج عن التغير في شتى ميادين الحياة، وبيّن إلى حد ما بعض ملامح الحضارة العالمية الجديدة. على أن الحديث الأوضح عن ملامح هذه الحضارة لا نجده في هذا الكتاب، بل نجده في كتبه التالية، وعلى رأسها كتابه «الموجة الثالثة the third Wave» الذي ظهر عام 1980، وإلى حد ما في كتابه «تطلعات ومقدمات Previeus and Premises» الذي ظهر عام 1983 والذي ترجم إلى الفرنسية بعنوان «خرائط المستقبل Les Cartes Du Futur» وأخيراً كتابه «تحول السلطة Power Shift» الذي صدر عام 1990 والذي ترجمه إلى العربية حافظ الجمالي وأسعد صقر، وتولى نشره اتحاد الكتاب العرب بدمشق عام 1991.
وليس هدفنا ههنا أن نلخص كتاب الموجة الثالثة، على أهميته، بل نود أن نستخلص منه ومن سواه أهم الدروس التي تبين لنا التغيرات البنيوية التي وقعت في هياكل الحياة الاقتصادية والاجتماعية في عصرنا، والتي نأخذ طريقها إلى مزيد من الرسوخ والاتساع. وذلك كله لكي نهتدي بهذه الدروس في حديثنا عن الصلة الواجبة بين التعليم العالي، ولاسيما في البلاد العربية، وبين التنمية.
على أن المجال لا يتسع للحديث عن هذه التغيرات البنيوية جميعها، ولهذا نكتفي بالإشارة إلى أهمها. وقبل ذلك لا بد لنا أن نلقي ضوءاً على المقصود من هذا المصطلح الجديد الذي أدخله «توفلر»، مصطلح «الموجة الجديدة»:
أ- عرف تاريخ الإنسانية موجات حضارية ثلاثاً. الموجة الأولى هي التي أعقبت ظهور الزراعة (بعد أن كان الناس قبل ذلك يعيشون متنقلين، يعتمدون في معيشتهم على القطف وصيد البر والبحر وتربية الماشية). وهي موجة بدأت منذ حوالي ثمانية آلاف سنة قبل الميلاد. والموجة الثانية هي التي تلت ظهور الثورة الصناعية، وقد بدأت تباشيرها وبواكيرها بين عام 1650 وعام 1750 ميلادية وبلغت أوجها في البلدان المتقدمة بين عام 1955 وعام 1965. ومنذ ذلك الحين أخذت الموجة الثالثة، الموجة المتجاوزة للصناعة، الموجة التي هزت أركان الموجة الثانية وأركان الاقتصاد وسائر مؤسسات المجتمع الحديث. وبفضل هذه الموجة يشهد الإنسان ولادة حضارة جديدة كل الجدة، ويدخل عصر الفضاء وعصر المعلوماتية وعصر الإلكترون وعصر البحار بل عصر المدينة الفضائية. وبها تجاوز عصر الصناعة إلى «حضارة فوق حضارة الصناعة».
ب- وكما تداخلت الموجة الثانية عند ظهورها مع الموجة الأولى وتعايشت معها ردحاً طويلاً من الزمن، تتداخل الموجة الثالثة مع الموجة الثانية وتشتبكان وكثيراً ما تصطدمان وتولدان باصطدامهما الأزمات والضحايا. ولكن، كما انتصرت قوى حضارة الموجة الثانية على قوى الموجة الأولى انتصاراً حاسماً منذ منتصف القرن العشرين، سوف تنتصر قوى الموجة الثالثة على قوى الموجة الثانية عاجلاً أو آجلاً. على أننا لا نزال اليوم في المرحلة الانتقالية، ولا نزال بالتالي نعاني آلام المخاض الجديد.
جـ- الموجة الثانية تتسم بجملة من السمات أهمها أنها مصوغة في كل شيء على غرار المصنع، وأن كل شيء فيها مقنن تقنين الحياة الصناعية، ومبرمج برمجتها: فالتربية فيها صيغت صياغة الحياة في المصنع (طاعة وقبول وأعمال روتينية مكرورة وصفوف وأفواج…) والاقتصاد كله منطلق من الصناعة، قوامه مجتمع مغفل، هو «مجتمع المهنة» وتقسيم العمل. والطبقية فيه واللاشخصية الباردة مظاهر صناعية تملي طابعها على سائر مؤسسات المجتمع، بل حتى على الفن. وفي الموسيقى مثال صارخ على هذا، حين نرى كيف تم الانتقال من «موسيقى الغرفة» والبيت إلى السنفونية، وحيث نشهد ولادة «المصنع الذي ينتج الموسيقى».
د- أما في الموجة الثالثة، فالحضارة التي أشادت من المصنع معبداً حضارة تحتضر. وبفضلها ترسم معالم مستقبل مذهل قد يكون محملاً بالوعود الخيرة. وبها قد يصح القول إن التاريخ الإنساني يبدأ. ولئن كان مفتاح الموجة الثانية هو التنميط والتقنين، فمفتاح الموجة الثالثة هو التعدد والتنوع والمرونة والقدرة على التركيب.
والآن بعد أن أشرنا بلغة برقية إلى أهم سمات الموجة الثالثة بالقياس إلى نظائرها، حان الوقت لكي نتساءل عن طبيعة هذه الثورة التي تولدها وعن أهم ما تحدثه من انقلابات جذرية في محتوى حضارتنا، مكتفين كما سبق أن قلنا بالتريث عند الميادين التي هي ألصق بموضوع بحثنا.
ثالثاً- التغيرات الجذرية في هياكل حياتنا:
من العسير، كما ذكرنا، أن نحيط علماً بجميع التغيرات المذهلة التي طرأت على شتى ميادين الحياة في عصرنا أو التي يرهص مستوى تطور الأبحاث القائمة حالياً بوقوعها في المستقبل القريب أو المتوسط المدى. لاسيما أن تلك التغيرات مُغِذَّة في سيرها تَنِدٌّ عن اللحاق بها، تبتعد عنا كلما اقتربنا منها، كالأفق ينأى حين ندنو. وما نعتبره اليوم نبوءة ممكنة وتغيراً ممكن الحدوث، قد يغدو بعد سنوات قليلة بل بعد أشهر واقعاً وحقيقة. ويكفي لإدراك هذه الطبيعة الهاربة الزئبقية للتغير، أن نرى كيف أن كثيراً من التغيرات التي اعتبرها «كان Kahn» و«ڤينير Wiener» في كتابهما الشهير «العام ألفان»، الذي ظهر عام 1968(1)، من باب النبوءات والتحسبات الممكنة قد تحققت فعلاً أيامنا هذه بل تجاوزتها الأبحاث إلى ما هو أدهى وأمر. ونحن نقصر كثيراً عن الحقيقة حتى إن قلنا إن التغير يسير في تسارعه سير المتوالية الهندسية (شأن تزايد السكان عند مالتوس). كذلك من العسير أن نتحدث عن مجالات التغير جميعها، غير أن ما لا بد من قوله، إذ نكتفي ببعضها وبما هو ألصق بموضوعنا كما ذكرنا، أن مسيرة التغير متآخذةٌ متكاملة في المجالات جميعها، وأن ثمة أخذاً وعطاءً بين التطور الذي يحدث في أي منها وسائر منظومة التطور، وأننا في ميدان الأبحاث العلمية والتكنولوجية والاجتماعية والثقافية، حيث حلت، أمام أبحاث تتصف دوماً بأنها متعددة الموضوعات
«Multi – Disciplinary» (ولهذا القول، كما سنرى، أهميته فيما يتصل بتنظيم المناهج في التعليم العالي خاصة). ولكن لا بد من بعض التقسيم والتبويب تسهيلاً للبحث، فلنمض إلى ذلك:
1- لعلّ أول ميدان يعنينا نحن في البلدان العربية ويعني العالم جميعاً هو ميدان الطاقة. وههنا نشهد بداية تغيرات كبيرة تومئ إلى تغيرات أكبر:
لقد كان مبدأ الطاقة الذي استندت إليه الحضارة الصناعية (حضارة الموجة الثانية على حد تعبير «توفلر») هو مبدأ الطاقة التي لا تقبل التجديد، مبدأ نفاذ الطاقة بتعبير آخر. ومستند ذلك المبدأ وجود احتياطي من الطاقة النفطية مركز في مواضع معينة ومحكوم عليه بالنفاد يوماً ما. أما الثورة العالمية الجديدة فمنطلقها أن زمن سلطان النفط وحده، قد ولى، مهما يطل عمره ويمتد أمده. ورغم اكتشاف منابع جديدة للنفط في السنوات الأخيرة، يشعر القوم بأن الطاقة البديلة أمرٌ آت. ولا تقتصر الطاقة البديلة على الفحم الذي يمثل ثلث الطاقة الإجمالية التي يحتاج إليها كوكبنا الأرضي (والذي لا يخلو اللجوء إليه من مخاطر بيئية خاصة بسبب تلوث الهواء، فضلاً عن تعذر استخدامه في بعض المجالات كالسيارات مثلاً). ولا تقتصر هذه الطاقة البديلة أيضاً على الطاقة الذرية التي تطرح بدورها مشكلات ضخمة (على رأسها حاجتها إلى معدن الأورانيوم وهو معدن غير خالد كذلك) أو على الطاقة الشمسية التي ذاع استخدامها. بل الأمر يتجاوز هذا كله إلى احتمالات جديدة تؤكد كثير من الأبحاث إمكان تحققها:
فهنالك تحويل النور إلى كهرباء (والأبحاث في هذا المجال قائمة على قدم وساق). هنالك البرنامج السوفياتي القائم على إطلاق بالونات للفضاء تحمل مادة «الايوليين» وتنقل الكهرباء إلى الأرض بوساطة الكابلات. ومما يثير الانتباه أن بلدية مدينة نيويورك وقعت عقداً مع شركة خاصة من أجل استخدام القمامة كمواد محترقة، وأن ثمة مصانع شيدت في الفيليبن من أجل تحويل بقايا جوز الهند إلى كهرباء. وفي إيطاليا وزيلنده يتجه الباحثون إلى جوف الأرض وينتجون الكهرباء من المنابع الحرارية التي في أعماقها. وفي اليابان عوامة وزنها 500 طن تطفو على سطح البحر بالقرب من جزيرة «هانشو Hasnshu»، وتستخدم طاقة الأمواج من أجل توليد الكهرباء أيضاً. وفي ألمانيا صنعت إحدى الشركات «أوتوبوسّا» يجري بقوة الهيدروجين ويسير في شوارع مدينة «شتوتغارت». وفي كاليفورنيا صنع مهندسو إحدى الشركات طائرة محركها يسير أيضاً بطاقة الهيدروجين. ولا نريد أن نعدد الأمثلة وهي كثيرة. والذي يعنينا أن ندرك أننا للمرة الأولى في تاريخ الإنسانية نشهد ظهور أساس للطاقة يستند إلى مبادئ تناقض تمام المناقضة تلك التي سادت خلال القرون الثلاثة الماضية. وفي إطار هذا التبدل، تبدو الوسائل التي حسبناها متقدمة، من مثل استخدام المفاعلات الذرية واستخدام الفحم غازاً ومائعاً وسوى ذلك من التقنيات، متخلفة ومن بقايا الماضي بالقياس إلى ما يُنتظر من تقنيات ثورية جديدة أشرنا إلى بعضها. والأبحاث قائمة لاكتشاف سواها. ولعل نبوءة المؤرخ «توينبي Toynbee» آخذة سبيلها إلى التحقق: لقد استطاع الإنسان دوماً، قبل نفاذ مصدر الطاقة الذي يستخدمه، أن يكتشف مصدر طاقة جديد. وفي هذا ما يطمئننا: فالإنسانية لن تعود إذن إلى العصور المظلمة وإلى القرون الوسطى بعد نفاد الثروة النفطية.
2- ويكمل هذا التغير في مصادر الطاقة ويتكامل معه التغير الذي يحدث فيما يمكن أن نسميه بأدوات الحضارة، نعني أدوات الصناعة. فالفحم والقطار والنسيج والفولاذ والسيارة والمطاط والماكينة، هي الأدوات التي كانت تقوم عليها الصناعة منذ بداية الثورة الصناعية، تلك الصناعة التي كانت تعتمد على مبادئ «الأليكتروميكانيك» (الكهروميكانيك إن صحت الترجمة)، والتي كانت تستخدم هذه الأدوات التي تبتلع كميات رهيبة من الطاقة وترمي بكميات ضخمة من النفايات، وتلوث البيئة، وتفرض العمل الآلي الرتيب على العمال، وتنتج بضائع مقننة، وتدير الإنتاج إدارة مركزية صارمة… ومنذ الخمسينات بدأ يظهر للعيان أن هذه القطاعات الصناعية أخذ شأنها بالتناقص، وإن تكن قد بدأت بالانتقال إلى البلدان النامية حيث اليد العاملة رخيصة وحيث التكنولوجيا في بواكيرها. وأخذت تحل محل هذه الصناعات التي غدت تقليدية صناعات جديدة، لا تقوم كسابقتها على مبادئ «الإلكتروديناميك» كما لا تستند في الجملة إلى المعطيات العلمية الكلاسيكية التي سادت في عصر الصناعة. وقد كانت تلك الصناعات الجديدة نتيجة للتسارع المفاجئ الذي تم في بعض الميادين العلمية التي لم تكن شائعة قبل ربع قرن: من مثل علم الإلكترون الكوانتي، ونظرية المعلوماتية، والبيولوجيا الذرية، وعلم البحار، وعلم البيئة، وعلوم الفضاء.
هذه العلوم الجديدة، وما رافقها من توسيع جذري لطاقاتنا، هي التي ولدت الصناعات الجديدة: من مثل الحاسبات الإلكترونية وما يصحبها، ومن مثل تقنيات غزو الفضاء، ومن مثل البتروكيماويات المتقدمة، ومن مثل وسائل الاتصال الطليعية، وعشرات الصناعات الأخرى. وهكذا بدأنا نجد، على سبيل المثال، ولاية مثل كاليفورنيا تعج بالاختصاصيين في فيزياء الأجسام الصلبة وبالعاملين في ميدان هندسة النظم، أو في ميدان الذكاء الصناعي أو في ميدان كيمياء «البوليمير Polymeres» أو سواها… وفي وسعنا، وسط تزاحم هذه التغيرات والتجديدات في قلب الصناعة (بالمعنى الجديد للكلمة) أن نتبين أربع زمر من الصناعات المترابطة التي تبدأ بالانطلاق وتأخذ سبيلها إلى التطور السريع. ولعلها العمود الفقري الصناعي للثورة العالمية الجديدة:
أولها صناعة الحاسبات الإلكترونية وما يلحق بها (ونتائجها غنية عن البيان، ولاسيما بعد انتشار الحاسبات الإلكترونية المصغرة وذريتها). أما الصناعات الإلكترونية عامة فقد عرفت توسعاً متفجراً وتطوراً مذهلاً. وحسبنا أن نذكر أنها بلغت حداً من التطور جعلها قادرة على أن تلجأ إلى ألياف إلكترونية لا تتجاوز الشعرة في حجمها من أجل إرسال ما نحتاج إليه من معلومات ورسائل.
ثاني هذه الزمر الصناعة الفضائية. وثمة من يمنّينا بأن يصل الباحثون قريباً إلى إطلاق خمس سفن فضائية تحمل بضائع وأشخاصاً وتوفر الانتقال أسبوعياً بين الأرض والفضاء. وقد لا يدرك الكثيرون جميع أبعاد هذا التطور في علم الفضاء، فلنذكر إذن، على سبيل المثال، أن هنالك دراسات تستهدف إقامة محطات فضائية لإنتاج الطاقة، وأن ثمة طائفة جديدة من الصناعات تأخذ في الظهور وتيسّر ظهورها الشروط الخاصة التي تتوافر في الفضاء ولا تتوافر في الأرض: من مثل انعدام الجاذبية الذي ييسر معالجة بعض المواد، ومن مثل إنتاج بعض الأدوية والمواد الكيماوية الجديدة أو إنشاء مختبرات أدوية فضائية تستخدم القوة الجاذبة نحو المركز في الفضاء من أجل فصل «الأنزيمات» النادرة في الخلايا البشرية. بل إن صانعي الزجاج الدقيق أنفسهم يبحثون في إمكان صنع المواد اللازمة لأشعة «ليزر Laser» وللألياف الضوئية ضمن الفضاء نفسه. بل ثمة مواد لم تعرف ولم تصنع بعد على وجه البسيطة يفكر الباحثون في صنعها في الفضاء، من مثل صنع فرن فضائي، أو صنع سبائك جديدة (قد تبلغ عدتها 400) تحول الجاذبية الأرضية دون إنتاجها. وهنالك فوق هذا من يدافع عن مشروع الدكتور «جيرار أونيل Gerard Oneil»، مشروع تعمير مدن الفضاء (ولعلنا بذلك نعالج أزمة السكن على وجه الأرض). وصاحب هذا المشروع يفكر في تعمير مدنه الفضائية في موقعها، أي في الفضاء، قطعة قطعة، مستخدماً مواد يستخرجها من القمر أو من أجرام سماوية أخرى. وزميله الدكتور «بريان أوليرى Brian O’leary» يدرس إمكان فتح مناجم في أشباه الكواكب أبولون Appllon وآمور Amor.
وثالث هذا الزمر سبر أغوار المحيطات، وهي مهمة مكملة لغزو الفضاء، وتكون أحد العمد الرئيسية لتكنولوجيا حضارتنا الجديدة. ولاسيما أن اكتشاف المحيطات يمكن أن يقضي نهائياً على مشكلة نقص الغذاء على سطح اليابسة، إذ في وسعه أن يقدم لنا كميات لا حد لها من البروتينات التي تشتد حاجتنا إليها، فيما لو لجأنا إلى تقنيات جديدة في تربية الأسماك وفي صيدها من شأنها أن تحافظ على الثروة السمكية وتنمّيها. أما في مجال الطاقة فالدراسات الحديثة كادت تقلل حتى من أهمية التنقيب عن النفط في البحر، إذ تبين أن في وسعنا إنتاج طحالب ذات مستوى عال من مائيات الفحم. والمحاولات تجري لجعل هذه الطريقة مجزية من الناحية الاقتصادية. وفي مجال المعادن، تزخر المحيطات كما نعلم بأنواع شتى منها كالنحاس والتوتياء والقصدير والفضة والذهب والبلاتين، بل تزخر فوق هذا وقبل هذا بكميات كبيرة من الفوسفات التي يمكن أن تستخدم سماداً للأرض. ويقدر بعض الباحثين قيمة الثروة المعدنية في البحر الأحمر (وعلى رأسها التوتياء والفضة والذهب والبلاتين) بما يقرب من 3.5 مليار دولار. وثمة شركات تستعد منذ الآن لاستخراج كتل المنغنيز من قاع البحار (وهي كتل على شكل البطاطا تتجدد بمعدل 6 ملايين إلى 10 ملايين طن في السنة في منطقة واحدة تم تحديدها، هي جنوب جزر «الهواي Hawai») بل إن مختبرات «لاروش» الشهيرة للأدوية تبحث في أعماق البحار عن مواد جديدة ذات خواص قاتلة للطفيليات أو مسكِّنة للآلام، أو عن مواد تيسر تشخيص بعض الأمراض، أو عن أخرى مانعة لتخثر الدم. وثمة من يقول باحتمال إنشاء مدن في البحار أو مصانع عائمة.
ورابع هذه الزمر وأخطرها وأهمها البيولوجيا الذرية والصناعة البيولوجية وما يلحق بهما من هندسة النسل. ومعلوماتنا في هذا الميدان الأخير، ميدان هندسة النسل، تتضاعف مرتين كل عامين، ونحن الآن نعالج النسج البشرية ونصنعها كما نعالج ونصنع المواد اللدنة والمعادن. بل إن ثمة شركات كبرى تبحث منذ اليوم في إمكان تطبيق الصناعات البيولوجية على ميدان التجارة، إذ تبحث عن «أنزيم» يمكن أن يستخدم للحيلولة دون انتشار الدخان الملوث الذي تبعثه مداخن السيارات. وبعضها يتحدث عن «جراثيم مبتلعة للمعادن يمكن أن تستخدم من أجل أن تستخرج من البحار بعض المعادن الثمينة التي توجد فيها على شكل آثار طفيفة». هذا إذا لم نشر إلى الآثار المباشرة التي تخلّفها في الإنسان هذه الدراسات البيولوجية ودراسات النسل، وما يمكن أن ينجم عنها من صنع أناس مزودين بمعدات مجترة يمكن أن تهضم العشب أو العلف، أو إعادة تشكيل البنية البيولوجية للعمال بحيث يصبحون أقدر على التكيف مع مهماتهم، أو عن إنتاج طيارين يملكون قدرة على ارتكاس (ردّ الفعل) أسرع، أو من إنتاج عمال بالجملة ذوي جهاز عصبي يسمح لهم بالعمل الرتيب الممل، أو من «استنساخ البشر» بعد أن تم «استنساخ» الحيوان، أو من القضاء على الشعوب «الدنيا» وخلق «عروق بشرية متفوقة» الخ… ويتساءل بعضهم عما إذا لم يكن من الممكن، بوساطة هذه الصناعة البيولوجية وهندسة النسل، فبركة جنود يولدون صنعياً ويحاربون مكاننا، أو إذا لم يكن من الممكن اللجوء إلى التنبؤات النسلية من أجل العمل على القضاء على الأطفال المتخلفين أو غير المتكيفين، لاسيما بعد أن تم – في مطلع هذا القرن الحادي والعشرين – اكتشاف («الخارطة الوراثية البشرية» كما أعلن ذلك الرئيس كلينتون في شهر آذار/ مارس من عام 2000). بل إن البيولوجيا الجديدة تستطيع في نظر بعضهم أن تسهم في حل أزمة الطاقة. وهنالك باحثون يدرسون اليوم إمكان ترويض بعض الجراثيم وتربيتها بحيث تصبح قادرة على تحويل نور الشمس إل طاقة كهربائية كيماوية. والأمثلة أكثر من أن تحصى على وعود هذا الميدان، ميدان الصناعة البيولوجية وهندسة النسل، في شتى الميادين، دون أن ننسى مخاطره والمشكلات الخلقية والإنسانية والفلسفية التي يطرحها. ولعل أهم النتاج التي تتقدم يوماً بعد يوم والتي تساعد على الاستغناء عن الأسمدة الصناعية، فضلاً عن الحصول على حصاد زراعي أوفر وتوليد نباتات تنمو في تربة رملية أو مالحة وتقاوم الطفيليات. وقد أثار هذا الميدان وما زال جدلاً طويلاً ولاسيما بعد أن انضافت إلى المعالجة البيولوجية للنبات، المعالجة الجينية عن طريق «المورثات Gènes».
وهكذا نرى من خلال هذه النظرة السريعة الخاطفة بعض المعاني العميقة المشخّصة للثورة الحضارية الجديدة، وندرك أننا أمام ثورة علمية تكنولوجية هجرت إطار «الكهروميكانيك» الذي لجأت إليه الثورة الصناعية خلال قرابة ثلاثة قرون، وغدت أمام مبادئ علمية جديدة وتقنيات جديدة كل الجدة، تنجم عن اللقاء والتفاعل بين الإلكترونيات والمعلوماتية وعلوم الفضاء وعلوم البحار والصناعة البيولوجية، وتجعل هذه جميعها في خدمة الطاقة الجديدة.
وقد كان بودنا، لولا ضيق المجال، أن ننظر في انعكاسات هذه الثورة الجذرية على ميادين حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وحسبنا من هذا كله أن نتريث في القسم الآتي من بحثنا عند انعكاساتها على ميدان التعليم العالي، فهو بيت القصيد، ومن أجله سقنا ما سقنا من تحليل لطبيعة ثورة العصر، لنبحث عن بيّنة عما يلزم عن هذه الثورة من نتائج في هذا الميدان الذي يعنينا.
وجملة ما أردنا أن نبينه، بوجيز العبارة، أننا نشهد ولادة ثورية حضارية عالمية جديدة. مباينة للثورة الصناعية، لا تزال تتعايش معها ولكنها تنفيها يوماً بعد يوم. وهذه الثورة الحضارية الجديدة تصيب كل شيء في حياتنا: تصيب أدوات الإنتاج وأشكال الإنتاج وعلاقات الإنتاج والعمل، وتصيب الأسرة وتكوينها، وتصيب العلم وميادينه، وتصيب الاقتصاد ومشكلاته، وتصيب الإنسان جسداً ونفساً، وتصيب الطاقة ومصادرها، وتصيب الثقافات والقيم، وتتبختر في عالم «المعلوماتية» ووسائل الاتصال بأنواعها المختلفة، وتيسر الانتقال «الإلكتروني» للمال، مغيرة بذلك بنية الاقتصاد، وتحدث في هذا كله انقلابات جذرية يحتاج التكيف معها إلى جهد دائب وإلى سرعة في الحركة، ويحتاج إلى تغيير أنماط حياتنا، وعلى رأسها أنماط تربيتنا كما رأينا في الفصل الأول. ومن هنا لا بدأن ننتقل إلى الحديث عن آثار هذه الثورة في التعليم العالي كما ذكرنا. غير أننا قبل أن نمضي إلى ذلك، نرى لزاماً علينا أن نجيب عن تساؤل لا بد أن يقوم في أذهاننا جميعاً: ما موقع البلدان النامية عامة والبلدان العربية خاصة من هذه الثورة الجديدة، وهل يصدق عليها التحليل الذي قدمناه والذي يستخلص من تحليل واقع البلدان المتقدمة؟

رابعاً- الثورة العالمية الجديدة والبلدان النامية:
السؤال إذن: هل لزام على الدول النامية أن ترسم حاضرها ومستقبلها من خلال الآفاق التي تقدمها الثورة العالمية الجديدة وهي ثورة نجدها في أكثر بلدان العالم تقدماً، رغم أن البلدان النامية ما زالت بعيدة عن أن تحقق الثورة الصناعية الأولى وما زالت تحبو نحوها؟
والجواب عن ذلك له جوانب عديدة:
1- الثورة الحضارية العالمية تغزونا وتفرض نفسها علينا، شئنا أم أبينا، ولكنها تغزونا بنتائجها دون أن يكون لنا في صنعها نصيب. ونحن فيها مستهلكون، ولا بد أن نفكر في أن نكون مشاركين منتجين. يضاف إلى هذا أن كثيراً من البلدان النامية تلجأ اليوم إلى استخدام معدات وأدوات التكنولوجيا الجديدة، وكثير من مصانعها تستخدم المحدث من الآلات والتجهيزات.
2- ليس حتمياً في منطق التطور أن يعيد البلد تجربة البلدان المتقدمة بحرفيتها، وأن يمر بمراحل التطور التي مرت بها تلك البلدان. والعكس هو الصحيح. فمن توفير الجهد والزمن والمال أن تفيد البلدان النامية من تجربة البلدان المتقدمة، بحيث تنطلق تواً نحو أحدث أشكالها. صحيح أن بعض هياكل التكنولوجيا الجديدة لا يمكن أن تتطور وتنمو إذا لم تكن هنالك أرضية علمية تكنولوجية تقليدية أحياناً. ولكن هذا لا يصدق على سائر الهياكل التكنولوجية ولا يصدق على سائر ميادين البحث العلمي.
3- على أنه ليس لنا في الأمر خيار: فالهوة بيننا وبين البلدان المتقدمة لا يمكن تجاوزها إلا إذا حققنا نقلة نوعية واسعة نستطيع بفضلها أن ندخل عالم الثورة العالمية الجديدة والتكنولوجيا العالمية الجديدة دون إبطاء ودون تريث عند مراحل أصبحت من مخلفات الزمن. وبعض المفكرين والاقتصاديين يرون في هذه النقلة المباشرة الفرصة الوحيدة المتاحة أمام الدول النامية (كما ذكر ذلك «موريس غيرنييه Maurice Guernier») في كتابه الذي يحمل عنواناً معبراً: «الفرصة الأخيرة أمام العالم الثالث(1)» فإما أن تسير هذه البلدان سيراً مباشراً، يضرب من «المقربة» (القادومية shortcut) نحو الثورة الجديدة، وإما أن تظل متخلفة عن الركب تخلفاً يزداد اتساعاً مع ازدياد تسارع الثورة الجديدة.
4- والبلدان العربية مهيأة بإمكاناتها المادية والمالية والبشرية للاضطلاع بهذه المهمة، إن هي عزمت أمرها على أن تدخل الحضارة الحديثة من بابها العريض، وعلى أن توظف طاقاتها من أجل بناء مشروع عربي حضاري متقدم، أصيل وحديث، يرد إليها بضاعتها، ويجعل لها في بناء الحضارة العالمية دوراً ونصيباً. وهذا يفترض، فوق توظيف الطاقات المادية والمالية والبشرية لهذه الغاية، توظيف العقل المبدع والفكر الخلاق، وتفجير القدرة الإبداعية لدى المواطن العربي بشتى الوسائل، وعلى رأسها التربية، وفي قمتها التعليم العالي. فلنمض إذن إلى الحديث عنه بعد طول بعاد.
خامساً- الثورة العالمية الجديدة والتعليم العالي:
إذا نحن حاولنا أن نصف الثورة العالمية الجديدة أوصافاً تُدْنيها من ميدان التعليم العالي، قلنا إنها ثورة الاعتماد على العلم سبيلاً للإنتاج والتقدم، وثورة الأتمتة الكاملة نتيجة للتقدم العلمي، وثورة الميادين العلمية والتكنولوجية البكر، وثورة الربط الوثيق بين العلم والتعليم والإنتاج، وثورة التغير المستمر في حاجات المجتمع من القوى العاملة.
من خلال هذه الأوصاف ينطلق حديثنا عن الصلة بين هذه الثورة والتعليم العالي وتستبين لنا أوجه العناية وجوانب التغيير التي ينبغي أن نحدثها في التعليم العالي إذا أردنا له أن يستجيب لمطالب تلك الثورة. فلنتناول إذن هذه الصفات والمعاني واحدة بعد واحدة.
1- العلم قوة إنتاجية مباشرة:
رأينا في أكثر من موضع أن من أهم مميزات الثورة العالمية الجديدة أن المستوى التقني للإنتاج يحدده تقدم العلم، وأن هذه الثورة، كما سبق أن قلنا، تتم بالتالي «بالعلم» لا «مع العلم» فحسب. وكل ما شهدنا من ولادة ميادين صناعية جديدة (كالطاقة البديلة، والإلكترونيات وإنتاج مواد لم تكن معروفة، وعلوم الفضاء وعلوم البحار وعلوم الحياة والنسل والمعلوماتية…) نتيجة مباشرة لتقدم العلوم والاكتشافات العلمية، بل نتيجة لتغير المبادئ والأسس التي كانت تقوم عليها العلوم، ولاسيما العلوم الرياضية والفيزيائية. وإذا كانت اللحمة الأساسية للإنتاج في الثورة العالمية الجديدة هي من أتمتة الإنتاج وسيره الذاتي وتحرك الآلة بقواها الذاتية وحلولها محل الإنسان، فمثل هذا التحول ما كان ليكون ممكناً لولا تطور الرياضيات التطبيقية ولولا الاستخدام الواسع للتقنيات الإلكترونية وللحاسبات الإلكترونية.
وأهم الوسائل التكنولوجية الجديدة التي أحدثت تغيراً جذرياً في الإنتاج وسرعته وغزارته تلك التي توفر إنتاجاً لا ينقطع (عن طريق الأشعة، وعن طريق الأجهزة فوق الصوتية، وعن طريق الإلكترونيات الخ…). وهذه الوسائل هي نتاج الأبحاث العلمية المتقدمة، لاسيما في ميدان الإلكترونيات. وحسبنا أن نذكر أن التطوير العلمي لأجهزة القياس الدقيقة وللأدوات المعلوماتية (وعلى رأسها الحاسبات الإلكترونية) هو الذي أدى إلى اتساع التسارع الكبير في الأتمتة وفي وتيرة الإنتاج بالتالي.
أما انعكاسات هذا الحدث، نعني قيادة العلم للإنتاج وللتقدم الصناعي والتكنولوجي وسواه، على التعليم العالي، فقد تكون بينة لا تحتاج إلى فضلٍ من توضيح، ومع ذلك نتريّث عند أهمها:
أ- لعل أول نتيجة تجأر أمام الأعين ونستخلصها من هذا الواقع الجديد هي أهمية الإعداد العلمي العام المتين في مرحلة التعليم العالي (المرحلة الأولى خاصة). وتقديم تكوين متين للطلاب في هذه المرحلة في المواد العلمية الأساسية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا كاد يغدو اتجاهاً عالمياً، يتبناه المعسكر الشرقي سابقاً والمعسكر الغربي على حد سواء. وقد غدا بديهياً اليوم أن المرء لا يمكن أن يكون اختصاصياً ممتازاً في أي مجال بله أن يبدع فيه ويجدده ويطوره، إذا لم يمتلك معرفة مكينة بالمواد العلمية الأساسية. يضاف إلى هذا أن كمية المعلومات التي يحتاج إليها الاختصاصي في عصر الثورة الجديدة، تتزايد تزايداً معجزاً، وليس في وسع أي تعليم أن يقدم ولو طرفاً منها على مقاعد الدراسة. هذا فضلاً عن أن جانباً كبيراً من المعلومات التي يتلقاها الطلاب على مقاعد الدراسة ما تلبث بعد حين حتى تغدو بالية وما يلبث التقدم أن يتجاوزها. ومن هنا فإن النزوع إلى تقوية العلوم الأساسية في مناهج الدراسة من شأنه أن يوفر أساساً عريضاً لمعلومات تتسع وتتسع عبر حياة الاختصاصي، وأن ييسر بالتالي المرونة في إعداد الاختصاصيين وحركية التعليم العالي وقدرته على التكيف مع العصر.
ب- ثم إن تزايد دور العلوم الأساسية في التعليم العالي يدفع الكثير من الدول المتقدمة اليوم إلى الأخذ بمفهوم الاختصاصي ذي الصفات العديدة العريضة. ولا يعني هذا تكوين أناس لا اختصاص لهم، يعلمون كل شيء عن كل شيء دون أن يعلموا أي شيء علماً دقيقاً عميقاً. بل يعني إعداد اختصاصيين يملكون من أساسيات العلوم وأدوات التحصيل الذاتي للمعرفة ما يسمح لهم بان يغيروا وجهة اختصاصهم في المستقبل وأن يعاد تأهيلهم في سوق العمل للقيام باختصاصات أخرى. وهذا يستلزم تقدير حجم المعلومات العلمية الأساسية التي ينبغي أن يدرسها كل اختصاصي، من خلال حاجات التقدم العلمي والتكنولوجي في البلد. وقد دلت التجربة أن مفهوم الاختصاص العريض الأوصاف مفهوم أثبت أنه أقدر على تكوين روح الخلق والإبداع. فالاختصاص الضيق يضيق الأفق العلمي والتكنولوجي لصاحبه، ويحد من قدرته على المعالجة المبدعة للعمليات التكنولوجية ولتحديد آفاق الإنتاج وحاجاته. وقد حاول الاتحاد السوفياتي، من قبيل المثال، أن يغير من مناهج الدراسة في بعض الاختصاصات في ضوء هذا المفهوم، ومن أشهر الميادين العلمية التي أصابها تغيير جذري ميدان «الاتصال الكهربائي الآلي» حيث زيدت ساعات المواد العلمية العامة كالرياضيات والفيزياء زيادة كبيرة.
جـ- كذلك يستلزم إعداد الاختصاصيين الفنيين في العصر الحديث، في ضوء هذا الاهتمام بتقوية المواد العلمية الأساسية، التعمق في العلوم الاجتماعية والإنسانية من قبل الطلاب الذين ينتسبون إلى الدراسات العلمية والتكنولوجية والتعمق في المواد العلمية، ولاسيما الرياضية، من قبل الطلاب الذين يدرسون الدراسات الاجتماعية والإنسانية. ومما يجدر ذكره، على سبيل المثال، أن الطلاب الذي يدرسون الهندسة يتلقون اليوم في بعض بلدان العالم دراسات في البيئة البيولوجية الأرضية.
د- وفي الجملة يؤدي تسارع العلوم في التقدم وتشابكها من جهة، وتغير حاجات الإنتاج وحاجات سوق العمل تغيراً سريعاً بسبب الثورة العلمية التكنولوجية من جعة ثانية، بالإضافة إلى عوامل وأسباب أخرى، إلى الاتجاه نحو الدراسات الجامعية المتعددة الاختصاصات «Multi disciplinary»، وإلى كسر الحواجز بين الاختصاصات وأنواع الدراسات وإلى تغيير التقسيم التقليدي للجامعات إلى كليات وأقسام، أي إلى الأخذ في الجملة ببنى مرنة متآخذة في بنية التعليم الجامعي وفي مناهجه. وقد رأينا في القسم الأول من هذا البحث أن الشعار الآخذ في الذيوع في عالم التربية هو شعار «تضامن المعرفة» والتأكيد على أهمية المعرفة الشاملة بل على «معرفة المعرفة».
هـ- وما دمنا نتحدث عن انعكاسات الثورة العلمية على التعليم العالي، لا ننسى بين مستلزمات هذه الانعكاسات أهمية تطور البحث العلمي، سواء كان أساسياً أو تطبيقياً، بل لا نغلو إن قلنا إنّ الجامعات، في عصر هذه الثورة العلمية الجديدة، ينبغي أن تأخذ شكل مراكز للبحث العلمي تستهدف هدفاً مزدوجاً: الأول إعداد الاختصاصيين الذين تستلزمهم خطة اقتصادية واجتماعية تسعى إلى تسريع التنمية وتكثيف النتاج الاقتصادي. والثاني: تطوير نشاطات البحث العلمي التي تسهم إسهاماً فعالاً وكبيراً في التقدم العلمي والتقني المرجو في التقدم الاقتصادي والاجتماعي المنشود.

2- الاختصاصات حوَّلٌ متغيرة سريعاً:
من أهم نتائج الثورة العالمية الجديدة كما رأينا، أن ميادين العمل والإنتاج تتغير بل تنقلب رأساً على عقب، وأن علوماً وتقنيات كثيرة بادت بعد أن سادت، وأن علوماً وتقنيات جديدة بزغت وتكاثرت. وغني عن القول أن أي تخطيط سليم للتعليم العالي ينبغي أن يستند إلى مقدار ما تحتاج إليه سوق العمل الجديدة من اختصاصيين وأطر عليا في شتى المجالات. ولا بد من أجل هذا من التخلي عن تلك النظرة التي ما زالت تحسب أن المستقبل لا يعد أن يكون امتداداً للماضي، وأن مد اتجاهات الماضي إلى المستقبل هو التخطيط. فمستقبل اليوم، كما قلنا ونقول، حضارة جديدة وعلم مبتكر وتقنيات محدثة.
ومن هنا كان لا بد للتعليم العالي المستجيب لحاجات العصر ومفاجآت الغد أن يقوم بمراجعة منهجية منظمة للائحة الاختصاصات والاختصاصيين، وأن يدخل اختصاصات جديدة في كل فرع، وأن يعد مواصفات جديدة لكل واحدة منها. ولا بد له في هذه المراجعة المنهجية المنظمة أن يحصي أموراً ثلاثة: الاختصاصات التي حقق الاقتصاد كفايته منها، الاختصاصات التي لم يحقق الاقتصاد بعد كفايتها منها، والاختصاصات الجديدة التي تمليها مستلزمات التقدم العلمي التكنولوجي الجديد.
ولا نقول جديداً إن قلنا إن صلب عملية التخطيط للتعليم العالي هو هذا التجديد لحاجات الاقتصاد القومي المتطور المنشود من الاختصاصيين، وبالتالي تحديد عدد الطلاب الذين يمكن قبولهم في كل فرع من فروع الاختصاص في ضوء حاجات الاقتصاد تلك، خلال فترة زمنية محددة. أما طرائق الوصل بين حاجات الاقتصاد المتطورة ومقدار الحاجة من الطلاب في اختصاصات التعليم العالي المختلفة، فليس ههنا مجال الحديث عنها وقد أشبعها المخططون بحثاً وتحليلاً. ولسنا ههنا في معرض الحديث عن طرائق الربط هذه، بل نحن في الواقع في مجال التنبيه إلى ضرورة الاهتمام، عند القيام بهذا الربط، بظاهرة التغير السريع في مجال الاختصاصات التي تحتاج إليها سوق العمل في عصر الثورة العالمية التي تحدثنا عنها. ومثل هذه المهمة تستلزم تغيراً جذرياً في مناهج التخطيط وفي مناهج الدراسة معاً بل تتطلب تغييراً جذرياً في بنى التعليم العالي جميعها. ومن هنا ندرك أهمية الدراسات الحديثة التي ظهرت بعد أوائل السبعينات والتي أعادت النظر في مفهوم التخطيط التربوي عامة وفي أساليبه، في ضوء التغير العلمي التكنولوجي من جانب، وفي ضوء الترابط بين أهداف التربية وأهداف المجتمع من جانب آخر.

3- تقنيات التعليم العالي وطرائقه:
التغير الجذري في بنى التعليم العالي ومناهجه واختصاصه ومحتواه، ذلك التغير الذي تدعونا إليه الثورة الجديدة، ليس إذن تغيراً كمياً بمقدار ما هو تغير نوعي كيفي. ومهما تكن الحاجة إلى التوسع في التعليم العالي قائمة، ومهما تكن نسبة الالتحاق بالتعليم العالي ولاسيما في البلدان النامية مقصرة عن الشأو المطلوب، يظل من الهام أن نذكر أن توسع التعليم العالي (كتوسع أي تعليم) من أجل التوسع، ضلال اقتصادي واجتماعي وخسران مادي. ومما يثير التساؤل أننا لا نزال نغلب هذا الجانب الكمي من الأمر على سواه، ونحسب أن مسألة التعليم العالي في بلادنا هي مسألة زيادة معدلات الالتحاق به. ولا نقول جديداً إذا قلنا إن أي توسع في التعليم لا يرتبط بحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ليس توسعاً غير مجد فحسب بل هو توسع ضارٌّ مخرِّب، أفضل نتائجه أن يخرِّج متعلمين عاطلين عن العمل يكونون بؤرة خصبة لاضطراب المجتمع وقلقه وتهديمه.
والثورة العلمية والتكنولوجية في عصرنا تملي علينا دون شك المزيد من الاهتمام بمحتوى التعليم وطرائقه وبناه وجوانبه النوعية المختلفة. وقد أشرنا إلى أهمية إعادة النظر في المناهج والاختصاصات والبنى. غير أن هذا الاهتمام لا يعطي أكله إلا إذا صحبه توليد لطرائق وتقنيات تعليمية ملائمة له. وليس ههنا مجال الحديث عن أهمية التقنيات التربوية الجديدة وعن الثورة التكنولوجية في التربية(1). سوى أن علينا في إطار بحثنا وفي إطار التعليم العالي أن نتريث عند الأمور الآتية:
أولها أن الأخذ بتكنولوجيا التربية لا يعني مجرد إدخال الأدوات والآلات التكنولوجية الحديثة إلى المدرسة (من مثل الوسائل السمعية البصرية والحاسبات الإلكترونية وسواها)، وأن «تكنولوجيا التربية»، كما قلنا في أكثر من مناسبة، لا تعني مجرد إدخال التكنولوجيا في التربية أو في المدرسة. فالتكنولوجيا ليست أدوات وأجهزة فحسب، بل هي أيضاً طرائق جديدة وأساليب في الإدارة والتنظيم محدثة وإن لم تستخدم الآلات، وتقنيات في وضع مناهج جديدة، وأساليب في التخطيط والبناء والتجهيزات مبتكرة، الخ…
وثانيهما أن انتقال التعليم العالي من تعليم تقليدي يعكس منطلقات الثورة الصناعية الماضية إلى تعليم عال يعكس منطلقات الثورة العالمية الجديدة، يستلزم تجويد النظام التعليمي بكامله وتجديد أشكال التعليم وطرائقه ووسائله، بالإضافة إلى تحديث خطط الدراسة ومناهج الدراسة. وأهم مظاهر هذا التجديد في طرائق التعليم العالي تحقيق الربط العضوي بين التعليم النظري والتعليم العملي، والعناية بالتدريبات العملية طوال مرحلة الدراسة، بأشكالها المختلفة التي قد تضم فيما تضم التجارب العملية في بعض المؤسسات الرائدة في مختلف قطاعات الاقتصاد والثقافة والصحة والتربية والتجارة وإدارة الدولة وسواها…
وثالثها استخدام الأدوات والأجهزة التكنولوجية المختلفة في مؤسسات التعليم العالي، ولاسيما الآلات الحاسبة وسائر أدوات المعرفة المعلوماتية، فهنالك التلفزيون المدرسي، وهنالك الفيديو (الذي اتسع استخدامه ولاسيما في التدريب عامة وفي تدريب المعلمين خاصة)، وهنالك الأدوات والتجهيزات المخبرية، وهنالك فوق هذا كله الحاسبات الإلكترونية التي يمكن استخدامها في التعليم وفي تطوير الإدارة وأتمتتها. ولا حاجة إلى القول بعد كل ما تحدثنا عنه من دور الإلكترون والأجهزة الإلكترونية في عصرنا الجديد، إننا نقترب من اليوم الذي يصبح فيه الجهل باستخدام الحاسبات الإلكترونية وبالمعلوماتية كالجهل بالقراءة والكتابة. أما تطوير الإدارة بفضل هذه الأجهزة وبفضل وسائل التسيير الحديثة كلها، فمطلبٌ غدا ملحاً في عصر ما زلنا نجد فيه، رغم أنه عصر الأتمتة والسرعة والترشيد العقلاني للإنتاج والعمل، جامعات تدار بالوسائل الحرفية العتيقة.
4- التعليم العالي والإنتاج:
بدهي أن نقول بعد هذا كله إن غاية الغايات في كل عصر وفي عصرنا المتغير خاصة أن نربط التعليم العالي بالإنتاج وأن نجعله وثيق الصلة بحاجات الإنتاج الاقتصادي والاجتماعي وأدواته وبناه وميادينه المتجددة.
ولا يقتصر هذا الربط على ما ذكرنا من أمر التخطيط للتعليم العالي تبعاً لحاجات السوق الاقتصادية والاجتماعية، أو تغيير مناهج الدراسة والاختصاصات تبعاً للحاجات الجديدة، بل يتجاوز ذلك إلى تحقيق هذا الربط في خطة الدراسة وطرائق الدراسة نفسها. ونعني بذلك أموراً كثيرة: منها الربط بين مؤسسات التعليم العالي والمؤسسات الاقتصادية المختلفة، ولاسيما فيما يتصل بمحتوى الدراسة وبتدريب الطلاب. ومنها أن نجعل من بعض المؤسسات الصناعية أو سواها من المؤسسات الاقتصادية مكاناً للتعليم العالي، وأن يتم هذا التعليم أحياناً في مواقع الإنتاج نفسها. ومنها أن نحقق التناوب بين الدراسة والعمل. ويتبع ذلك أن نعنى بمن ينتسبون إلى الجامعات ومعاهد التعليم العالي من العمال الذين يتابعون عملهم أثناء الدراسة ويتابعون الدراسة بعض الوقت. ومنها أن نوفر تدريباً مستمراً للفنيين والاختصاصيين بعد تخرجهم وبعد دخولهم سوق العمل. ومنها أن يعمل أعضاء الهيئة التدريسية في بعض المؤسسات الاقتصادية وأن يسهموا في بحوثها ومشروعاتها، وأن يتم بفضل ذلك مطلب هام من مطالب تطوير التعليم العالي، نعني الجمع بين التعليم والبحوث الميدانية والإنتاج.
ولا حاجة إلى القول إن مثل هذه العناية بربط التعليم بالعمل والإنتاج لها قيمة تربوية واجتماعية بالإضافة إلى شأنها في الربط الوثيق بين ما يقدمه التعليم العالي من زاد وبين واقع المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية وحاجاتها المتجددة.
سادساً- الثورة العالمية والتعليم العالي في البلاد العربية:
إن كل ما قلناه حتى الآن يصدق على البلدان العربية كما يصدق على سواها. ومع ذلك لا بد من وقفة سريعة عند التعليم العالي في البلاد العربية نتبين من خلالها خاصة ما هي أهم وسائل التطوير اللازم له، في غمرة هذا التغير العالمي الخطير.
1- ولا شك أن أول ما يرد في الذهن في هذا المجال أن تعنى مؤسسات التعليم العالي في البلاد العربية بالتعريف بطبيعة هذه الثورة العالمية الجديدة وأبعادها ووعودها ومستلزماتها. ولا نسرف إن قلنا إن جمهرة العاملين في هذه المؤسسات لا يزالون يدركون معاني هذه الثورة ومقاصدها إدراكاً إجمالياً غائماً، وأن الرؤية الواضحة المتجددة لطبيعة هذه الثورة ولعطائها المحدث في شتى ميادين المعرفة الإنسانية لا تزال مقصرة عن الشأو المطلوب. ومن هنا لا بد أن تقوم مؤسسات التعليم العالي في البلاد العربية بجهد منهجي منظم ومستمر من أجل التعريف بهذه الثورة وحصادها وتجددها، ومن أجل اطلاع جمهور العاملين فيها بل جمهور الناس على أحدث مبتكراتها في شتى الميادين. ولعل كل قسم من أقسام الجامعات أو المعاهد العليا يعنى بوضع منهاج منظم لهذه الغاية، يستخدم فيه وسائل الإعلام والتعريف المختلفة من محاضرات وندوات وبرامج إذاعية وتلفزيونية ونشرات دورية ولقاءات علمية وسوى ذلك.
ومن المؤسسات القائمة في البلدان العربية التي تقع عليها مسؤولية مثل هذا التعريف اتحاد الجامعات العربية. وقد يكون من الطبيعي أن تقوم هذه المؤسسة بدور مركز للإعلام ولتبادل المعلومات والخبرات في هذا الميدان، وأن يكون من مهماتها الرئيسة إصدار نشرة دورية عن التجديد في شتى ميادين المعرفة الإنسانية وعن انعكاساته على التعليم في البلاد العربية. ولا حاجة إلى القول إن نقطة الارتكاز في أي تجديد نرجوه للتعليم العالي العربي في ضوء تطور الثورة العالمية الجديدة لا بد أن يبدأ من معرفة هذه الثورة ومن معرفة ما يجري. والاطلاع على ما هو كائن هو دوماً وأبداً سبيل التخطيط لما هو واجب ولما ينبغي أن يكون. والتعليم العالي لا بد أن يكون له دور الريادة في هذا المجال العلمي التكنولوجي المتقدم، وإلا فقد مبررات وجوده. وفي مجتمعنا العربي، الذي لم يصبح بعد مجتمعاً مثقَّفاً ومثقِّفاً معاً، يتطلع الناس إلى التعليم عامة والتعليم العالي خاصة ليقدّم لهم ما يجهلون من أمر التجربة العالمية ومن عطائها المتجدد.
2- ثم إن كل ما ذكرنا في القسم السابق من بحثنا عن انعكاسات الثورة العالمية على التعليم عامة سواء في ميدان الاهتمام بالعلوم الأساسية أو فيما يتصل بإعادة النظر في المناهج والاختصاصات والطرائق، أو فيما يتعلق بالربط بين التعليم العالي والإنتاج، وغير ذاك، يمكن أن يلخصه القول بأن على التعليم العالي في البلاد العربية أن يعنى بالتخطيط لهذا التعليم عناية تحقق الربط العضوي بينه وبين الحاجات المتطورة للحياة الاقتصادية والاجتماعية. وهذا يستلزم بدوره أن تكون هنالك خطة اقتصادية واجتماعية متطورة تعكس مستلزمات تطوير شتى جنبات الحياة في ضوء الثورة العالمية الجديدة.
ومما يلفت النظر أن البلاد العربية التي أخذت في العقدين الأخيرين بمنهج التخطيط التربوي ووضعت الخطط التربوية تترى (على نقائصها وحدودها)، قصرت هذه الخطط غالباً على التعليم السابق للتعليم العالي، وقلما عنيت بوضع خطط للتعليم العالي. وكأنها في ذلك تفر من المشكلة الصعبة، مشكلة التعرف إلى الحاجات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة المرجوة في إطار التطور العالمي، وبالتالي مشكلة الربط بين تلك الحاجات وبين التعليم العالي كماً ونوعاً، طلاباً ومناهج وطرائق وبنى. ولا حاجة إلى القول إن إعداد الأطر العليا في أي مجتمع ولاسيما في البلدان النامية إعداداً ملائماً لحاجات التطور، مفجّراً للتقدم والحركة المتوثبة، مفتقاً لروح التجديد والخلق والإبداع، يظلّ مطلب المطالب بل رأس المطالب في العملية التعليمية كلها، دون أن ننقص بذلك من شأن مراحل التعليم الأخرى، فلها دورها، ولكنه دور آخر بطبيعة الحال، وإن يكن مكملاً لدور التعليم العالي في بعض جوانبه.
3- والتغيير في كل شيء، ولاسيما التغيير الجذري، يحتاج إلى إدارة فعالة للتغيير وقيادة حديثة للتغيير. ومن الخلف أن نتصور تغييراً جديداً تصنعه إدارات عتيقة تعمل كما سبق أن قلنا بوسائل تقليدية حرفية. ومن هنا كان تطوير إدارة التعليم العالي، بشتى الوسائل شرطاً لازماً لنجاح عملية التغير والتجديد. ولاسيما أننا غدونا في التعليم العالي في جميع البلاد العربية أمام مصنع كبير يضم أعداداً هائلة من الطلاب يبلغ مجموعها في الوطن العربي ما يناهز 1.5 مليون طالب وطالبة.
وهذه الصناعة الكبرى، شأن أي صناعة، في حاجة إلى إدارة فعالة حديثة، تتولى شؤون الالتحاق والقبول، وشؤون التقويم والامتحانات، وشؤون الأبنية والتجهيزات، وشؤون الطلاب وأعضاء الهيئة التدريسية، وشؤون المواصلات وانتقال الطلاب، وشؤون النشاطات الاجتماعية والترويحية، الخ… على أن الذي يعنينا فوق هذا وقبل هذا تطوير إدارة التعليم العالي بحيث تضم جهازاً خاصاً في كل جامعة أو معهد يتولى الشؤون الخاصة بتطوير الجامعة وتنميتها. ومن الظواهر المشجعة أننا نجد في جامعة قطر وفي بعض الجامعات العربية مثل هذا الجهاز. غير أن مهماته في رأينا ينبغي أن تتسع بحيث يتولى أمور التطوير المستقبلي للجامعة بنى ونظماً ومناهج وأدوات، لا مجرد العناية بالجانب الإجرائي العملي المتصل بحاجات الجامعة الآنية.
4- وعندما نتحدث عن تطوير إدارة التعليم العالي تثور في أذهاننا تواً مسألة تجديد إعداد أعضاء الهيئة التدريسية في التعليم العالي. ولا يتسع المقام للحديث عن مستلزمات إعداد الأستاذ الجامعي وعن وسائل هذا الإعداد كما ينبغي أن تكون(1)، والذي يعنينا أكثر من مجرد الإعداد تجديد هذا الإعداد. فالعالم من حولنا، كما رأينا، يتقدم بسرعة مذهلة، وكل من يقف في مكانه لا بدأن يتراجع ويتخلف. وأساتذة التعليم العالي الذي شدأوا حظّاً من حصاد التجربة العالمي وهم على مقاعد الدراسة في الجامعات العربية أو الأجنبية، ما يلبث الزمن حتى يصيبهم بداء القدم، وكثيراً ما يظلون شطراً كبيراً من حياتهم يغرفون من ماء آسن إن لم نقل من مستنقع راكد.
وتجديد أعضاء الهيئة التدريسية في التعليم العالي العربي، من أجل اطلاعهم على التطور المستمر في التجربة العالمية، له وسائله العديدة، من عناية بالمكتبات الجامعية، ومن تبادل للأساتذة بين الجامعات ومن تيسير مهمات الاطلاع والبحث لهؤلاء الأساتذة في البلدان الأجنبية، ومن عناية بالمحاضرات واللقاءات وسائر وسائل الإعلام التي تعرّف بالثورة العالمية الجديدة وعطائها كما سبق أن ذكرنا… والهام في الأمر أن تأخذ هذه العناية بتجديد الإعداد شكل خطة منهجية منظمة وألا تأتي عفو الخاطر دونما تنظيم مبيَّت. ولئن كان تجديد إعداد القوى العامة الفنية الخبيرة في مختلف مستوياتها قد أصبح اليوم بدهيّة تربوية وحاجة اقتصادية واجتماعية، فما بالنا بتجديد إعداد الأطر العليا وعلى رأسهم أساتذة التعليم العالي. وأنّى لهؤلاء الأساتذة أن يلعبوا دوراً مضاعفاً (Multiplier effect). في تجديد سواهم وتطوير سائر الأطر إن لم يملكوا هم أنفسهم وسائل تجديد ذواتهم؟ ولعل من العقبات التي تواجهنا في هذا السبيل ظن أعضاء الهيئة التدريسية بأنهم في غير حاجة إلى فضل من علم وإعداد، وأنهم يملكون من المعارف أقصاها ومن التجارب أسماها. وهذا هو مقتل كل عالم. أجل «يظل المرء عالماً ما طلب العلم فإذا ظن أنه علم فقد جهل». أجل «إذا ترك العالم قول لا أدري أصيبت مَقاتِلُه».
5- ما ذكرنا من قبل عن تغير الاختصاصات اللازمة للتعليم العالي بتغير حاجات المجتمع في عصرنا، له مستلزمات كثيرة، غير أن من نتائجه التي لها شأن خاصٌّ في التعليم العالي بالبلاد العربية، ضرورة تطوير سياسة الالتحاق بالتعليم العالي. فمن البدهي بعد كل ما قلناه عن المتطلبات العلمية الجديدة اللازمة للاختصاصات المختلفة وبعدما قلناه عن ضرورة مرونة الاختصاص وأهمية فتح الأقنية بين الدراسات العلمية التكنولوجية والدراسات الاجتماعية والإنسانية، أن يكون نظام الالتحاق القائم في كثير من الجامعات العربية (والمستند إلى مجموع علامات الطلاب في امتحان الشهادة الثانوية) نظاماً غدا بالياً. بل هو والحق يقال، نظام غير ملائم في كل الأحوال، لا في حال التغيير الجذري وحده. هنا أيضاً لا يتسع المجال للخوض في هذا الموضوع الشائك الواسع، وقد كان موضع اهتمام الوزراء المسؤولين عن التعليم العالي في البلاد العربية خلال المؤتمر الثاني الذي عقد في تونس بين العشرين والثالث والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 1983(1). والذي يعنينا هنا أن نؤكد أن جانباً كبيراً من عملية التغيير المرجوة في التعليم العالي في ضوء حاجات الثورة العالمية الجديدة، يفسد أمره إن لم تصحبه سياسة جديدة في الالتحاق والقبول. على أن التكامل بين جوانب التغيير والتجديد المختلفة كلها في التعليم العالي بدهية أولية وشرط لازم، ونحن ههنا أمام «نظام فرعي Sub-system» لا يستقيم أمر أي مقوّم من مقوماته إلا إذا استقامت سائر المقومات.
وما دمنا أشرنا إلى مسألة الالتحاق وإلى التعليم العالي كنظام فرعي من نظام تربوي شامل، نذكر عابرين، لئلا نتهم بالغفلة، أن التغير المرجو في التعليم العالي لا بد أن يصحبه تغيير مواز في التعليم الثانوي والتعليم الابتدائي بل وفي التعليم السابق على المرحلة الابتدائية، فضلاً عن تعليم الكبار والتدريب المستمر.
وهل في وسعنا مثلاً أن نبث في التعليم العالي روح العلم والإيمان به وروح الربط بين التعليم والإنتاج إن لم نفعل ذلك منذ نعومة الأظفار؟
ولكي تتضح في أذهاننا أهمية العناية بتغيير سياسة الالتحاق بالتعليم العالي لنذكره مثالاً كمياً واحداً (رغم أن المبررات الكمية ليست أهم ما في هذا الأمر) وهو أن الدراسات العلمية والتكنولوجية في التعليم العربي لا تستوعب أكثر من 37% من الطلاب. وواضح من التقري العفوي لحاجات القوى العاملة حتى في الظروف العادية فضلاً عن ظروف التغيير الجذري المرجو، أن مثل هذه النسبة تكاد تناقض حقيقة تلك الحاجات ومستلزمات تطورها.
6- والحديث عن أهمية معرفة التجربة العالمية الحديثة وما تستلزمه من تغيير في نظام التعليم العالي عندنا يضعنا وجهاً لوجه أمام ضرورة العناية باللغة الأجنبية واللغة العربية على حد سواء. ولئن كانت العناية باللغة الأجنبية وسيلة أساسية من وسائل الاطلاع على حصاد التجربة العالمية، فالعناية باللغة العربية وما يتبعها من تعريب التعليم العالي شرط لازب لكي تكون لنا حضارتنا ولكي نستطيع حقاً أن نجعل من الثورة العلمية التكنولوجية ومن سائر ضروب التقدم ثورتنا الذاتية المرتبطة بثقافتنا وحاجاتنا وهويتنا. وأنّى لنا أن نصنع حضارة إن لم نصنع أولاً لغة تلك الحضارة، نعني إن لم نطوع اللغة العربية لأغراض العلم الحديث والمعرفة الحديثة؟ بل أنى للمفاهيم العلمية والتكنولوجية أن تستقر في أذهاننا وأن تصبح جزءاً لا يتجزأ من كياننا العقلي والنفسي وأن تحرك فينا بالتالي القدرة على الإبداع والخلق، إن لم نفقهها عن طريق لغتنا الأم وإن لم ندمج معانيها بمنظومة التفكير والمشاعر التي تخلقها فينا لغتنا التي نحياها؟
7- وفي إطار تنظيم التخصصات وتفريعها وتنويعها وتجديدها في التعليم العالي العربي لا بد أن نذكر أهمية العناية بالدراسات الجامعية العليا، وهي عناية ما زلت مقصرة عن الشأو المطلوب. وبدهي أن الاختصاص الحق يبدأ بعد المرحلة الجامعية الأولى، وأن جنوح هذه المرحلة إلى مزيد من العناية بأساسيات العلوم كما ذكرنا وبالدراسات المكمّلة للاختصاص يجعل منها مرحلة تمهد للاختصاص العميق الذي لا يأتي إلا في المرحلة الثانية. وما دمنا نذكر المرحلة التالية للمرحلة الجامعية الأولى، لنذكر أيضاً أهمية العناية بالتعليم المستمر جملةً بعد التخرج من التعليم العالي. ولا حاجة إلى القول إن هذا التعليم المستمر، بأشكاله المختلفة، هو سبيل تجديد العلم والمعرفة وسبيل اللحاق بتجربة العصر المتغيرة، فضلاً عن كونه أداة هامة من أدوات الربط بين حاجات سوق العمل وبين خريجي التعليم العالي، وذلك بفضل ما ييسره من إعادة للتأهيل وتجديد للتأهيل والاختصاص وتغيير لهما أحياناً.
8- وأخيراً وليس آخراً لا بد من القول إن تجديد التعليم العالي العربي على هذا النحو، استجابة لحاجات العصر المتغيرة، يحتاج إلى تعاون عربي وثيق وتكامل عربي عضوي في هذا المجال. وقد أصبح الحديث عن التعاون العربي حديثاً مكروراً، ومع ذلك يظل جوهر الأمر والسبيل الأَمَم لتطوير شتى جوانب الحياة العربية، ولتوليد حضارة عربية قادرة على مواجهة تحديات العصر. وتحليل الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي العربي، كما تكشف عنه الدراسات العربية العديدة بل الكثير من الدراسات الأجنبية، يدل على أن تجاوز البلاد العربية كلها لتخلفها عن الركب لا يمكن أن يتم إلا إذا اجتمعت ثرواتها الطبيعية والمالية والبشرية المتكاملة من أجل بناء نهضة حضارية عصرية وأصيلة. ولا سبيل أمام أي دولة عربية إلى تطوير نفسها منفردة في أي مجال تطويراً سريعاً بخطى العصر، ولا بد لها من التفاعل والتكامل مع سائر البلدان العربية. ولندع هذا الحديث الشامل، فهو ذو شجون، ولننتقل إلى ميدان التعليم العالي وتجديده(1)…. وههنا يفرض التعاون العربي نفسه بوضوح لأسباب يطول تعداداه أهمها:
أ- لا بد قبل البدء بتجديد التعليم العالي في البلاد العربية من الاتفاق على مشروع حضاري عربي شامل، يشمل سائر جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويتحقق فيه الربط الوثيق بين حاجات الوطن العربي المستقبلية وتراثه وهويته وبين حاجات التطور السريع في عصرنا. والهروب من مثل هذه المهمة العربية القومية المشتركة هو الذي يجعلنا نتخبط طويلاً في شتى جوانب حياتنا، وهو الذي يجعلنا نفتقد الضوء الذي نهتدي به في رسم النمو والتطور المرجو في أي مجال من مجالات عملنا، نعني: أي مجتمع نريد أن نبني، وما هي سمات المجتمع العربي المنشود؟ وفي التعليم العالي لا بد أن نخبط خطواتنا خبط عشواء، إن لم يسعفنا تصور شامل لهياكل حياتنا المستقبلية في ضوء التجربة العالمية في ضوء حاجاتنا وفي ضوء أصالتنا وتراثنا وثقافتنا وقيمنا الحضارية المتميزة.
ب- تجديد جوانب التعليم العالي المختلفة (من بنى ومناهج وطرائق وإدارة وسوى ذلك)، والاطلاع على ما يجري في التجربة العالمية، أمورٌ يسعفنا فيها خاصّة التفاعل العربي وتبادل الخبرات العربية والقيام بجهود عربية مشتركة. وقد أشرنا إلى المركز العربي لبحوث التعليم العالي الذي قام نتيجة للجهد العربي المشترك والذي يحتاج إلى أن يمدّه العون العربي بالمزيد ليضطلع بمهمته بشكل فعال وعميق. (وقد جرى إلغاؤه لسوء الحظ). وفي وسعنا أن نشير إلى جهود عربية مشتركة أخرى يمكن القيام بها. على رأسها في نظرنا إنشاء جامعة عربية نموذجية تحقق الشروط التي رأيناها عبر هذا البحث، وتكون بمثابة الموقد العلمي المتجدّد الذي يغذي الجامعات العربية بنتائج اللقاح الخصيب بين التجربة الجامعية العربية والتجربة العالمية في شتى الميادين. وقد يكون على رأس مهماتها إعداد أساتذة التعليم العالي إعداداً ملائماً منطلقاً من تربة الوطن العربي وحاجاته، والقيام بأبحاث علمية أساسية وتطبيقية تتصل بمشكلات التنمية في الوطن العربي، وتوليد علم عربي الوجه واللسان تتم أبحاثه في البلاد العربية وتنشر بلغتها فضلاً عن تحقيق التفاعل الخصيب فيما بين الأساتذة العرب جميعاً وفيما بين الطلاب العرب أياً كان القطر الذي ينتسبون إليه. وقد أشار المؤتمر الأول للوزراء المسؤولين عن التعليم العالي الذي عقد في الجزائر من 14 إلى 19 أيار/ مايو 1981، إلى أهمية هذا المشروع ووضعه بين توصياته(1).
جـ- والتعاون العربي بعد ذلك، بل قبل ذلك، في هذا المجال الرفيع، مجال توليد تعليم عال منبثق من مشروع حضاري عربي جديد، من شأنه أن يصهر الجهود العربية المهدورة أو المتضاربة أو التائهة بحرارة العمل لرسالة كبيرة، وأن يعبئ الطاقات العلمية والفنية وسواها تعبئة توظفها في أقنية تقود إلى هدف كبير، بدلاً من تشتتها وبعثرتها وضياعها بل وهجرها أحياناً. بل إن من شأنه أن يجعل من النشاطات الجزئية التي يقوم بها كل عامل في ميدان التعليم العالي جهداً يشعر صاحبه بأنه يصب في إناء الجهد المشترك ويؤدي إلى إخصاب الجهد الجماعي. وليس أقوى على تحريك جهود العاملين في أي مجال وعلى دفعهم إلى تعبئة قصارى جهدهم وعطائهم مثل إدراك النتائج التي تنجم عن جهود الأفراد والتي تلتقي مع جهود أقرانهم لتكوّن النهر الكبير والهدف السامي. والأمة العربية بدأت حضارتها برسالة، ولن تقوى على أن تجدد حضارتها بعد تخلف وعلى أن تولد حضارة جديرة بها وبالعصر إلا بروح الرسالة أيضاً.
سابعاً – خاتمة:
يشهد العالم ولادة حضارة جديدة تغير كل شيء في طراز حياتنا، في الاقتصاد والسياسة والثقافة والتربية، في بنية الأسرة وفي أنماط العمل، في حياتنا النفسية والخلقية. قد يدعوها بعضهم «عصر الفضاء» وقد يدعوها آخرون «عصر الاتصال والإعلام» وقد يسميها غيرهم «عصر الإلكترونيات» وقد يحرص سواهم على أن يطلقوا عليها تسمية عريضة فيصفونها بأنها «الحضارة العلمية التكنولوجية» أو «حضارة ما بعد الصناعة»، أو «ما فوق الصناعة»ز وقد يروق لمثل «توفلر» أن يدعوها باسم «الموجة الثالثة» من خلال تصوره للتطور موجاتٍ متعاقبة متداخلة. وقد أشرنا إليها في كثير من مواضع هذا البحث باسم الثورة العالمية الجديدة أو الحضارة العالمية الجديدة. وفي هذا كله تتعدد الأسماء والقصد واحد.
والقصد أننا أمام حضارة متفوقة في مستواها التكنولوجي ومباينة للصناعة، بدأت تغزو حياتنا سريعاً، وبدأنا نشهد نماذج متكاثرة ترهصُ بغلبتها وسيطرتها يوماً بعد يوم. وهذه الحضارة التي تغزونا ليست مجرد تطور للحضارة الصناعية السابقة عليها بل هي حضارة جديدة ومباينة، لا تقل في جدّتها وبونها عما سبقها عن البون الذي قام بين الحضارة الصناعية حين ظهرت منذ ثلاثة قرون والحضارة السابقة عليها. وتداخلها مع الحضارة الصناعية وانبثاقها جنباً إلى جنب مع بقايا تلك الحضارة هو قوام المرحلة الانتقالية التي نحياها والتي تشهد آلام المخاض واضطرابات المراحل الانتقالية.
وهذه الحضارة، على النقيض من سلفها، تسعى إلى اللجوء إلى مصادر للطاقة المتنوعة (الهيدروجين، الطاقة الشمسية، حرارة جوف الأرض، المد والجزر، الكتل البيولوجية، الصاعقة، الإلكترون)، كما تتجه نحو الاستناد إلى أسس تكنولوجية متنوعة أيضاً (كالبيولوجيا وعلم النسل، والإلكترونيات، وعلم الموارد، واستغلال الفضاء والبحار)، فضلاً عن أنها، بفضل اعتمادها على الإعلام ووسائل الاتصال الجديدة، تحدث انقلابات شاملة في جوانب حياتنا، وتصوغ التربية والإعداد صياغة مباشرة، وتعيد النظر في مهمات البحث العلمي وأغراضه وأساليبه.
وبقول موجز إن شكلاً جديداً من الحضارة يتكون ويبزغ. والناس تجاهه اثنان: أناس لا يزالون يحسبون أن العالم الذي نعرف سوف يستمر إلى الأبد، وأن التطور لن يغير الإطار الاقتصادي والاجتماعية والبنى السياسية والثقافية لعالمنا، وأن الآتي أشبه بالماضي من الماء بالماء على حد تعبير ابن خلدون. وهؤلاء هم أصحاب الفكر المؤمن بالتطور الخطي السائر في خط واحد لا يعدو أن يمتد. وأناس آخرون ينظرون إلى مآسي الحضارة القائمة وثغراتها، فينادون بالويل والبثور ويحسبون أن الكون قارب نهايته وأصبح على أبواب فنائه المحتوم. ومن هنا لا يعنيهم أن يفكروا في المستقبل، إذ لن يكون هنالك في نظرهم أي مستقبل. والفريقان، رغم تباين نظرتهما تبايناً مطلقاً، ينتهيان إلى موقف واحد: هو الشلل وتعطيل الخيال والإرادة وعدم القيام بأي جهد في سبيل بناء المستقبل بناءً أفضل انطلاقاً من معرفتنا باتجاهاته وطبيعة بنيته. وكأنهم بفعلتهم هذه يذكروننا بقول الجاحظ «من قال ما ترك الأول للآخرِ فإنما لا يريد أن يُفلح».
وثمة فريق ثالث، قليل عديده ولكنه يتكاثر يوماً بعد يوم، يرى أن مصيرنا أن نصنع مصيرنا، وأن علينا أن نفهم عصرنا ونرهص بالاتجاهات التي يأخذها التطور لكي نستطيع أن نؤثر في مسيرة التطور، وما وسعنا ذلك. وهؤلاء هم المنظرون والمتحسبون والمنادون في الجملة بضرورة العمل الجاد من أجل قيادة التقدم، التقدم الرائع المجيد والمخيف معاً، قيادة إنسانية وتوجيهه لصالح الإنسان. وهم بذلك يرفضون النظرة المتشائمة، فالأخذ بها يعني عدم الإيمان بالإنسان. هذا المصير الجدير بالإنسان، الذي ينادي دعاة الإنسانية الصادقون إلى بنائه، يستلزم العمل الدائب في شتى الميادين، ويستلزم خاصة العمل في ميدان التربية والإعداد.
والعمل في هذا كله لا بد أن يكون قوامه ومنطلقه أن تربية الغد تباين جذرياً تربية اليوم، ما دامت حضارة الغد مفارقة لما عرفنا من حضارة اليوم والأمس. ومن هنا لا بد من التفكير في إعادة النظر على نحو جذري في بنى التربية ومحتواها وطرائقها كيما توائم الحضارة الجديدة. ورأس الهرم في هذه التربية، نعني التعليم العالي، لا بد أن يحتل مقام الصدارة في هذه المراجعة والتغيير، رغم أهمية مراحل التربية الأخرى. لاسيما أن رائد التغير في الحضارة الجديدة هو العلم. من جانب آخر. لقد تغيرت المنطلقات العلمية والتكنولوجية لحضارتنا ولا بد أن تتغير معها منطلقات التعليم العالي بنىً ومناهج واختصاصات وتقنيات وغير ذلك. لا بد بوجيز العبارة من تخطيط جديد لنظم التعليم العالي تيسر الربط العضوي المرجو بين حاجات القوى المتجددة والمتغيرة وبين ما نجد في التعليم العالي من اختصاصات ومن مناهج ومحتوى ومن طرائق وتقنيات ومن إدارة وتنظيم ومن طلاب وأساتذة…
لا بد من تخطيط للتعليم العالي يكوّن الأطر العليا لمجتمع القرن الحادي والعشرين وهو عنا غير بعيد، بكل ما يخبئه لنا من انقلابات جذرية في هياكل حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، نشهد الكثير من بوادرها اليوم. والبلاد العربة التي تنطلق نحو بناء مستقبلها، والتي تملك من الطاقات والإمكانات ما يمكّنها من صياغة مشروع حضاري عربي متقدم يواكب العصر ويتسم بسمات الثقافة العربية، لا بد لها أن تدلي بدلوها بين الدلاء، ولا بد لها أن تعمل على دخول عصر الثورة العالمية الجديدة، دونا ما تلكؤ عند الثورة الصناعية التي تأخذ بالأفول، وأن تدرك أن سبيلها الوحيد نحو تجاوز هوة التخلف هو أن تمضي تواً إلى منابع الحضارة العالمية الجديدة، وأن تقطع المسافة إليها بضرب من المقربة (القادوميّة) «Shortcut»، بدلاً من أن تفكر في قطع المراحل التي مر بها التطور العالمي واحدة تلو الأخرى، مبتعدة بذلك أكثر فأكثر عن ركب المستقبل الذي يمعن في سيره غير هياب أو متريث.
من هنا كان لزاماً عليها، وهي تفكر في بناء مشروعها الحضاري الشامل، أن نضع نصب عينيها طبيعة الحضارة العالمية الجديدة ومعانيها واتجاهات سيرها، كيما تستطيع أن تحقق الدمج العضوي اللازم بينها وبين حاجات واقعها ومستقبلها وسمات ثقافتها الأصيلة. والمشروع الحضاري الشامل الذي ترجو بناءه، لا بد أن يكون مشروعاً جديداً مهما تكن فيه خصائص الثقافة الماضية والهوية الذاتية. إنه تأليف مبتكر بين عناصر عدة: التراث في معانيه وقيمته الأصيلة، والواقع العربي بعد تحليله ونقده وتبين حاجاته، والحضارة العالمية الجديدة التي أشرنا إليها والتي لا بد أن نأخذ بمنطلقاتها العلمية والتكنولوجية الجديدة وأن نقيم التفاعل العضوي بل الكيمياوي بينها وبين سائر العناصر، نعني التراث والواقع العربي، لنخرج نتيجة لذلك بمركب جديد فيه كل ما وضعنا من عناصر دون أن يشبه في صفاته النهائية أي عنصر من هذه العناصر على حدة(1). بتعبير آخر، ما هو ذاتي أصيل في مشروعنا الحضاري المرجو هو بناؤنا له بناءً ذاتياً وصياغته بعقولنا، انطلاقاً مما ذكرنا من عناصر.
وأهم الأعمدة اللازمة لبناء هذا المشروع الحضاري التربية والإعداد عامة والتعليم العالي بوجه خاص. والتعليم العالي في البلاد العربية عرف في العقود الأخيرة تقدماً كمياً متسارعاً، وقد كان يضم (عام 1985) 1.5 مليون طالب وكان معدل الالتحاق به بالقياس إلى فئة العمر المقابلة زهاء 7%، ومن المنتظر أن يضم عام 2000 حوالي 65 مليون طالب وأن يبلغ معدل الالتحاق به 19% ونيف. وأمامه دون شك أشواط كثيرة لا بد أن يقطعها في ميدان التوسع الكمي. على أنه بالرغم من تقدمه الكمي النسبي، لا يزال في معظم الأحوال، في بناه ومحتواه ينتسب إلى مرحلة ينبغي أن نعتبرها مضت وانقضت سواء في حياة البلاد العربية أو في مجرى التجربة العالمية. إنه غالباً وليد تدافع أفواج الطلاب المتكاثرة من المرحلة الثانوية إلى المرحلة الجامعية وانخراطها فيها انخراطاً لا تبرره في معظم الحالات قابليات الطلاب الحقيقية أو حاجات القوى العاملة القائمة بله المتجددة. وكأن التعليم الثانوي بهذا قد غدا مجرد جسر للعبور والمرور إلى التعليم العالي، وكأن التعليم العالي قد أصبح في أحوال كثيرة محلاً لتأجيل البطالة بضع سنوات ولرفعها من بطالة تصيب الأطر المتوسطة إلى بطالة نصيب الأطر العليا، وهي أدهى وأمرّ. ذلك أن اللحمة لم تنعقد في كثير من الأحوال بين حاجات القوى العاملة وحاجات التعليم العالي، لاسيما إذا أدركنا، كما يستبين من بحثنا كله أن حاجات القوى العاملة إذا أردناها ملبية للتطور الاقتصادي الاجتماعي السريع المتجاوب مع العصر، حاجات لا بد أن تتغير بسرعة، ولا بد مع تغيرها أن تتغير فروع الاختصاص المطلوبة ومجالاته ومحتواه وطرائقه، وأن يكون التخطيط لها بالتالي مرناً ومتعدد الأبعاد، لا تخطيطاً تكنوقراطياً تقليدياً.
من هنا كانت نقطة البدء في تطوير التعليم العالي ربطه بحاجات القوى العاملة بالإضافة إلى أهدافه الأخرى، وكانت نقطة البدء في ربط التعليم العالي بحاجات القوى العاملة، ربطاً مؤدياً إلى تنمية حقة متلائمة مع تطور العصر، إدراك حاجات القوى العاملة تلك وتحديدها من خلال فهم حاجات العصر المتجددة ووعي مستلزمات الثورة العالمية وانعكاساتها على الواقع العربي.
هذه المهمة التحليلية العلمية التحسبية لحاجات العصر ولحاجات القوى العاملة عامة والقوى العاملة خاصة في إطار حاجات العصر، هي المهمة اللازبة لتخطيط التعليم العالي تخطيطاً يجعله قادراً على أن يلعب دوره في مسيرة التنمية الحقة وفي مسيرة بناء الحضارة العربية العصرية.
إن علم الغد وتكنولوجيا الغد ليسا في حاجة إلى آلاف أو ملايين أنصاف المتعلمين أو أشباه المختصين أو حملة الأسفار والأفكار المتخلفة عن الركب أو إلى الجماهير الغفيرة من الخريجين الذي يملكون زاداً عفى عليه الزمن، وإنما هي في حاجة إلى أناس علمناهم لزمانهم لا لزمان مضى وانقضى، يقيم المستقبل في عروقهم وأعصابهم ودماغهم.
والبلاد العربية لا تملك من الوقت ما يسمح لها بالتلكؤ والحيرة والتجربة والخطأ وعليها أن تقتحم الساحة تواً لتلحق بالركب، وأن تمدّ عينيها إلى مشارف الغد وآفاقه، تعبئ من أجلها طاقات بنيها تعبئة مبدعة، لأنها تعبئة يلمع أمامها هدف كبير، هدف مستقبل عربي عصري وأصيل لا بد أنهم بالغوه إن هم شحذوا قواهم الخلاقة وإيمانهم بأمتهم وقدرتها على العطاء وعلى الإسهام في بناء حضارة عالمية جديدة وإن نحن عرفنا أن نستخرج من هذه القوى، عن طريق التربية والإعداد خاصة، كامل إمكاناتها، وإن نحن أجدنا اختيار الأقنية التي ينصب فيها عطاؤها دونما هدر أو ضياع.
قد يكون المطلب شاقاً والمزار عسيراً، ولكن لا خيار، فإما تخلُّفٌ متزايد، وإما لحاق بالركب حين نعرف ماذا يحمل الركب، وحين نجعل من معرفتنا قوة ومن تنظيم تعبئة أبنائنا طاقةً اقتصادية واجتماعية وثقافية خلاّقة مفجّرة لعصر جديد.