الوطن العربي أمام تقدم المشكلات ومشكلات التقدم

مقال نشرته مجلة «المدينة» الصادرة في لندن في عددها الصادر في شتاء 1984-1985
الوطن العربي أمام تقدم المشكلات ومشكلات التقدم

منذ القديم، وقف الإنسان من التغيرات الكبرى التي تجري في بنية مجتمعه وتُغَيِّر طراز حياته أحد موقفين: موقف انطوائي «زيلوتي» على حد تعبير توينبي وموقف مجدِّ متصدٍّ. الموقف الأول قوامه التقوقعُ حول الذات، ورفضُ الجديد الطارئ، والتغني بالتليد الآبق، والحياةُ من خلال نشوة ذكريات الماضي. والموقف الثاني جوهره مواجهة التغيرات والتحديات الجديدة عن طريق إدراك معناها، واستيعابها، وتشكيلها تشكيلاً آخر يجنبنا بعض المشكلات التي تطرحها.
ومنذ أيام روسو Rousseau وفولتير Voltaire ومونتيسكيو Montesquieu شهدنا حالِماً كروسو ينادي بالعودة إلى الطبيعة، ويتغنى بالحياة السائدة لدى الأقوام البدائية، ويرى في المجتمع والمدنيَّة إفساداً لطبيعة الإنسان الخيّرة، ويعدّ الحضَر احتضاراً، فِعْلَة بعض شعراء الجاهلية عندنا. ممَّن عبَّر شوقي عن بعض منازعهم في روايته الرائعة «قيس وليلى» حين وصف البادية بأنها «ديار الكرام» وبأن لها «قبلة الشمس عند الشروق وللحضر القبلة الثانية». وشهدنا، في الوقت نفسه، كاتباً ذا نزعة واقعية كفولتير يتهكم على زميله روسو حين يطري حياة الأقوام البدائية وحين يرى فيها الخير والسكينة والسعاة، وينسى ما فيها من شرور الأمراض ومن بؤس المسكن والملبس والمأكل.
ويظل هذا الصراع الفكري بين النزعتين جديداً أبداً، يُحْكُمه قانون صراع الأجيال إلى حد بعيد. أفلا نشهد في كل عصر ومصر جيلاً قديماً (ليس بالضرورة جيل الكهول والشيوخ وإن تكن كثرته منهم) يرفض المُحْدَث في كل شيء: في اللباس والطعام والغناء والموسيقى والشعر والزواج وسائر أنماط السلوك، ويحن إلى ما أَلِف وعرف من عادات وتقاليد وقيم، كما نشهد في مقابله جيلاً يكاد ينضو عنه حتى ذِماء الماضي ويكاد ينسلخ عن جِلْدَة القديم، ويقطع الصلة نهائياً مع العريق الغريق، متشوّفاً إلى نمط من الحياة والسلوك مبتكرٍ كله مباينٍ للمألوف، خارج على أي سُنَّة؟

غير أن هذه المشكلة الأزلية الأبدية تأخذ أبعاداً جديدة ومعانيَ جديدة في عصرنا الذي عرف من سرعة التقدم والتغيُّر ما يتجاوز آلاف المرات ما عرفته الإنسانية من تطور منذ بدء الخلقية حتى تباشير العصر الحاضر. بل إنها مشكلة تجاوزت، إلى حد بعيد، الصراعَ المزمن التقليدي بين القديم والجديد والتباين العريق بين الأجيال، وغدت تحدياً للإنسان كله لا لجيل منه أو فئة أو فريق. فالإنسانية كلها، شبابها، وشيبها، أغنياؤها وفقراؤها، المتقدمون فيها والمتخلفون، تواجه أزمة حادة هي أزمة التغير الجذري السريع في بنى الحياة كلها، اقتصاديها، واجتماعيها، وثقافيها، وكلِّ ما فيها. وهذا التغير السريع الذي يخطف الأبصار غدا سيلاً جارفاً لا نستطيع أن نحدَّ من طغيانه بالوسائل التي عرفناها وألفناها حتى اليوم، بل لا بد لمواجهته والسيطرة عليه والإمساك بزمامه من اصطناع وسائل جديدة تلائم طبيعته وتكون من جنسه وعِتْرته.
ولئن كان التغير السريع، حين لا يقوى الإنسان على مراقبته وضبطه وتوجيه مسيرته، يقود إلى أخطار تهدد حياة المجتمع، فالتغير حين يكون أسرع وأمضى وأعمق يقود بالتالي إلى أخطار أدهى وأَمَرّ. والموقف اللازب في الأحوال كلها لا يكون بأن ننكر التغير ونرفضه: فالسفينة قد أبحرت؛ بل يكون بان ندركه لنحسن قيادته ونجعله في خدمة الإنسان حقاً.
لكن، لنمضِ إلى صميم المشكلة، إلى واقعها المشخص، إلى التصريح بعد التلميح:
ثورة عالمية جديدة
يشهد العالم منذ عقود قليلة ثورة اقتصادية اجتماعية جديدة كل الجدة، هي التي يدعوها بعضهم بالثورة الصناعة الجديدة، ويدعوها آخرون بالثورة العلمية التِّقَانِيَّة (التكنولوجية)، ويسميها بعض الكتاب من أمثال توفلر Toffler بالموجة الثالثة، ويسميها كتاب آخرون بالثورة التالية على الصناعة ويدعون مجتمعها «مجتمع ما بعد الصناعة». والهام في الأمر أن هذه الثورة مباينة لما عُرف بالثورة الصناعية الحادثة في القرن التاسع عشر، في الطبيعة لا في الدرجة فحسب. إنها ليست امتداداً لتلك الثورة بل انقطاعاً عنها إلى حد كبير. والمشكلات التي تطرحها تكاد تكونُ نقيض المشكلات التي طرحتها تلك. صحيح أن جوهر المشكلات في الحالتين أن نجعل الثورة الصناعية، أياً كانت، مجعولةً للإنسان ومن أجله، لا مجعولةً للآلة وفي خدمتها. ولكن شتان بين مضمون هذه المشكلة في كل من الحالتين:

فالثورة الصناعية الكبرى*، بلغة بَرْقيَّةٍ، ثورة قوامها كتلة كبيرة من العمال يعملون في مصنع وينتجون إنتاجاً بالجملة. أو قُلْ إن قوامها منظومة من الآلات تستخدم كتلاً من اليد العاملة.
والثورة الصناعية الجديدة، قوامها التَّأْلِية automation والسير الذاتي للآلة Cybernetics وحلول الآلة في النهاية محل الإنسان في مجال الأعمال المعتمدة على الطاقة الجسدية وسواها. على أن الثورة الجديدة ليست فقط ثورة التألية والتحرك الذاتي للآلة، بل هي أيضاً وخاصة ثورة الحاسبات الكُهيْرَبيَّة (الإلكترونية)، وثورة علم الحياة وعلم النسل، وثَورة الانتقال إلى أشكال جديدة للطاقة (كالطاقة الذرية والطاقة الشمسية وسواهما)، وثورة الاتصالات ووسائل الإعلام، والثورة في طراز الحياة الزوجية والأسرية والمهنية وغيرها.
وهذه الثورة التي نشهد تباشيرها إيذان بثورة المستقبل التي ستكتمل فيها لمحاتها وقسماتها. إنها تعبير عن انبثاق المستقبل انبثاقاً مفاجئاً في قلب الحاضر. وههنا تكمن المشكلة:
فنحن نشهد تغيرات جذرية في وسائل الإنتاج وموارد الطاقة وحصاد المعرفة العلمية والتِّقانية تهزّ حياتنا التي أورثتْنا إياها الثورةُ الصناعية الكبرى هزاً عنيفاً، تكاد تُحدث فيها صدمة كهربائية. غير أننا كثيراً ما نحسب، جرياً على عادات التعلق بالمألوف عندنا، أن هذه الحياة الجديدة التي تنسَلُّ في حواشينا، وترتجف لها أعصاب نظامنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ما هي إلا مظاهر عابرة أو إفرازات هامشية لحضارةٍ ما تزال كما هي. ومن هنا نتصرف كأن شيئاً لم يكن، ونحاول أن نعالج المشكلات الضخمة التي تنجم عن بزوغ الثورة الجديدة واصطدامِ حياتنا بها عن طريق اللجوء إلى أساليب قديمة لا تجدي معها. وهكذاً، بدلاً من أن نستوعب هذا الطارق الجديد ونتمثل ما عنده وندرك أنه نزيلنا الدائم، نقصِّر عن أن نحار أنه البديل المحتوم وندرك بالتالي أمام المشكلات التي يطرحها.

من أبرز الأمثلة على ذلك مشكلة البطالة في البلدان المصنَّعة خاصة:
صحيح أن للبطالة الغربية أسباباً عديدة، غير أن من أهم أسبابها ما يعرف باسم «البطالة التِّقانية technological»، نعني البطالة الناجمة عن تغيّر بنية وسائل الإنتاج تغيراً جذرياً يؤدي يوماً بعد يوم إلى استخدام أدوات إنتاج أحدث وأنجع وأكثر (تَألِية) وأقل حاجة إلى اليد العاملة العادية وإلى العمال المهرة أو أنصاف المهرة الذين لم يُعدّوا لتسيير وسائل الإنتاج الجديدة المتقدمة. ومعالجة ظاهرة البطالة على أنها ظاهرة ظرفية طارئة بدلاً من معالجتها على أنها ظاهرة بنيوية ثابتة بل مطردة في رسوخها رغم أن لها أسبابها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، قد يُبطل قدرتنا على معالجة البطالة ويعطّل سعينا للتخلص من العطالة. لا سيما إذا ذكرنا أن العالم الحديث يشهد، إلى جانب انتشار التَّأْلية automation التي تقلل الحاجة إلى العاملين بأيديهم وأجسادهم، تغيراً اعمق وأضخم في بنية الأعمال والمهن يؤدي إلى انقراض سريع لكثير من المهن المألوفة ويقود إلى بزوغ مهن جديدة كل الجدة، على رأسها المهن المتصلة بالميادين العلمية والتقانية (التكنولوجية) الجديدة، كالطاقة والحاسبات الكهيربية (الإلكترونية) والكهروب (الألكترون) جملة والإعلام وعلوم الحياة والفضاء والبحار وعلوم النُّطم والبيئة الزراعية وسواها.
ومن قبيل الاستطراد نذكر عابرين، الدور المتزايد الذي ينبغي أن يكون للتربية والإعداد في مواجهة هذه التغيرات السريعة في بنية الأعمال والمهن وفي حاجات السوق الاقتصادية، والتغيير الجذري الذي ينبغي أن يتم في مؤسسات التعليم عامة ومؤسسات التعليم العالي خاصة، من أجل المواءمة بين فروع التعليم ومحتواه ووسائله وبين الحاجات المتطورة لسوق العمل. ولا يكفي في هذا أن نقيم دورات تدريبية نعيد فيها تأهيل العمال ونعدَّهم، عن طريقها، للاضطلاع بأعمال جديدة كما تفعل كثير من الدول الغربية اليوم، بل لا بد من تغيير حاسم في بنية التعليم وأنواعه ومحتواه ومدته وعُدَّته وبنيانه ومخابره، بحيث يلبي الحاجات الناشئة هذه.
إن الحديث عن هذا يطول، وقد قتله الدراسات الحديثة بحثاً. غير أن ما قامت به هذه الدراسات لا يعدو في الواقع بعضَ التشخيص للداء، ولم يتجاوز ذلك إلى رسم سبل العلاج. نقول: بعض التشخيص للداء لا التشخيص كله، لأن الأبحاث المحدثة، على كثرتها، قلما بحثت في أزمة الحياة الحديثة بحثاً متكاملاً يُدرك جميع أبعاد التغير الجذري القائم، ويطل من ورائه، كما سبق أن قلنا، على الصورة التي سيتخذها هذا التغير في المستقبل. بل لعل أكثرها لم يدرك أن بذور التغير التي نشهدها اليوم ما هي إلا إرهاصٌ بالنبت الهائل الذي سوف يستوي في المستقبل القريب على سُوقه وتتفتح فروعه. ومن هنا جاء البحث في العلاج نادراً منقوصاً. فالعلاج يفترض أن ندرك أولاً طبيعة التغير، وأن نعي أنه تطور بنيوي نامٍ متزايد، وأن نُرهِص ثانياً بأبعاد هذا التغير ونتائجه في المستقبل؛ أي أن نتنبأ بصور المستقبل في ضوء ما تُنذر به هذه التغيرات اليوم. وعند ذلك يأتي العلاج: وقوامه التكيُّف أولاً مع هذا التغير لا رفضه وانتظار زواله، فهو تغير سوف ينمو ويترعرع ولن يزول، ثم محاولة السيطرة على هذا التغير بعد أن أدركنا معناه ومسيرته، بحيث نوجهه وجهة إنسانية ونجعله في خدمة الإنسان. المسألة، إذن، ترتد إلى شيء واحد ووحيد هو إدراك معنى التغير وطابعه من أجل أنسنته إن صح التعبير، أي من أجل جعله في خدمة الإنسان ما وسعنا ذلك. وبتعبير آخر نحن في حاجة إلى إدارة إنسانية للتغيُّر، على حد تعبير توفلر لا إلى مجرد إدارة ديوانية (بوروقراطية) أو اقتصادية. وهذا لا يعني أن نُدخل في بنية حياتنا الحاضرة بعض المسكِّنات أو بعض التحلية والتطرية الإنسانية، بل يعني أن نعيد النظر إعادة جديدة في بنية اقتصادنا وحياتنا الاجتماعية والثقافية في ضوء الثورة العالمية الجديدة، بحيث نضمِّن البنى الجديدة المعاني التي نريدها، ما دمنا لا نستخرج من الأشياء إلا ما نضعه فيها. الهام، بوجيز العبارة، ألا نبقى متخلفين عن الزمن، ان نستبق الثورة التي هي آتية لا ريب فيها والتي نشهد بذورها وبواكيرها، أن نرسم لها خطة محدثة تدرك منطق تطورها ولكنها تعيد صياغته وتشكيله بحيث يتفق مع الغايات التي نرجوها لبني الإنسان، وبحيث نقوى في النهاية على أن نجعل الإنسان أكثر سعادة بعد أن جعلناه أكثر تقدماً.
أنسَنة التغيُّر
أجل! لقد جعلت الحضارةُ الحديثة، حتى اليوم، الإنسانَ أكثر تقدماً دون أن تجعله أكثر سعادة. أتستطيع الثورة المولودة، إذن، أن تكون مفصَّلة تفصيلاً أفضل على قَدِّ حاجات الإنسان؟ أتقوى، كما أراد لها فوراستييه في كتابه عن «أمل القرن العشرين الكبير» على أن تحرر الإنسان من عبودية العمل عن طريق اضطلاع الآلة بما يضطلع به من أعمال لم يُخلَق لها، وأن تجعله يَفْرغ بالتالي للنشاطات اللصيق بطبيعته كإنسان، كالنشاطات الفكرية والعلمية والفنية والأدبية والفلسفية والنفسية وسواها؟ وهل لنا أن نرجو مع الكاتب تحقيق ذلك الأمل الذي عبر عنه بقوله: «لا شيء سيكون أبعد عن الصناعة من الحضارة التي وُلِدت من الصناعة»؟ بل هل لنا أن نرجو ما هو ابعد وأعمق: أن تستطيع الثورة الجديدة المرجوة أن تستخرج من تمزق أنماط الحياة الأسرية والسكنية والمهنية والاجتماعية، بنيةً أحدث وأكثر إنسانية في الوقت نفسه، ليست بالضرورة وبطبيعة الأمر مجرد عَوْدٍ إلى أنماط الحياة القديمة – فالماضي لا يعود – بل هي صيغةٌ إنسانية جديدة تولد من البنيان المتغير وتحويلٌ لأمراض التغير إلى قوى فاعلة إيجابية؟ أياً كان الأمر فلا بد للإنسان، مادام إنساناً وما دام يطمح إلى أن يكون أكثر إنسانية يوماً بعد يوم، من أن يركب هذا المرْكَب الصعب – ولا سيما في أيام المحن الصعبة التي يُفرزها عصر معقد في تغيره، متغير في تعقده، فيحاول، ما وسعه ذلك، أن يقود التغير قيادة إنسانية قد لا تُفلح كلُّها، ما دام مصير الإنسان دوماً أمامه لا وراءه كالأفق يبتعد عنه كلما اقترب منه، ولكنها لا بد أن تحقق خطوات إلى الأمام في طريق السير نحو أنسنة الحياة. ومن حسن الطالع أن المشكلات التي يفرزها التقدم، رغم كونها بحكم منطق الأشياء مشكلات متقدمة أصعب مما سبقها، يملك الإنسان في مواجهتها أدواتٍ ووسائلَ للعلاج أكثر تقدماً أيضاً.
أزمة التغير والبلدان النامية
على أن التساؤل الأكبر الذي تطرحه أزمة التغير هذه هو التساؤل عن أمرها وشأنها وأسلوب مواجهتها لدى البلدان النامية عامة والبلدان العربية خاصة. ولعمري إنها لمهمة عسيرة، مهمةُ الإجابة على هذا التساؤل. وحسبنا من ذلك بعض اللمسات العابرة. أول ما ينبغي أن يقال بهذا الشأن أن البلدان النامية، على خصوصيتها وطابعها المتميز، جزء من العالم، وأن تجربة العالم تغزوها، وأن مصير العالم متصل بها ومتصلة به. ومن هنا كان أول جهد يتوجب عليها القيام به في هذا السبيل ان تدرك بدورها أبعاد هذه الثورة الجديدة التي تحدثنا عنها، وأن تعي معناها وأبعادها، وألا تعيش في عزلة عما يجري من حولها. فالتغيرات في مصير العالم المتقدم تنعكس عليها شاءت أم أبت، والأزمات التي يعانيها ترتد عليها، بل قد تكون آثارها لديها أدهى وأمرّ. يضاف إلى هذا أنها لا تقوى على أن تحدث تغييراً جذرياً في مسيرة حياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلا إذا قام حلٌّ لأزمة العالم ككل، وإلا إذا أسهمت بدورها في إيجاد ذلك الحل.
على البلدان النامية، إذن، ومن بينها البلدان العربية، أن تحيا عصرها، وأن تزداد وعياً لذاتها عن طريق ازدياد وعيها لغيرها وعن طريق إمعانها في إدراك مشكلات العالم. ومن ثمرات هذا الوعي المتزايد لطبيعة العصر ولطبيعة الثورة الجديدة التي تجتاحه، تدرك أن تجاوز الهوة بينها وبين البلدان المتقدمة المصنَّعة لا يكون بان تنقل عنها بناها القائمة، وقد غدت في طريق البِلى والزّوال كما بيّنا، بل يكون بأن تَقْبس من قبس الثورة الجديدة وأن تحاول توليد البنى الَتي تَلْزَم عنها، بعد مواءمتها مع طبيعتها وحاجاتها الخاصة. بتعبير آخر، ليس لزاماً على الدول النامية أن تعيد، على حسابها، تجاربَ البلدان المتقدمة وأن تنقل هذه التجارب نقلاً حرفياً، مارةً بالثورة الصناعية الكبرى أولاً قبل الانتقال إلى ما تلاها، بل من واجبها بل لا سبيل لديها إلا أن تنتقل تواً وبضرب من «المَقْربة» (القادومية Short cut) من وضعها المتخلف، وضعِ من يحبو نحو عصر الثورة الصناعية الأولى، إلى الثورة الثانية والثورة الجديدة، ثورةِ ما بعد الصناعة.
ما السبيل إلى ذلك؟ هنا يأتي دور التخطيط، بل دور الدراسات التحسّبية Prospective المستقبلية. وعندنا أن البلدان النامية عامة، والبلدان العربية خاصة، مدعوة إلى أن تعنى عناية خاصة بإنشاء مراكز علمية تُعنى بالتنبؤ والدراسات المستقبلية. وهذه النظرة المستقبلية أمر لازب، لا لأنها من مستلزمات تحقيق الثورة الجديدة فحسب، بل لأن هذه النظرة هي أشد ما يعوزنا في شتى جوانب حياتنا. ولا نغلو إن قلنا إننا في البلاد العربية كثيراً ما نحيا كفافاً يوماً بيوم، في شتى شؤوننا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وكثيراً ما نحسب أن ما يخبئه لنا الغد أمرٌ مجهول لا نقوى على إدراكه، جاهلين أو متجاهلين حصاد الدراسات الحديثة التي ولّدن علم المستقبل ووضعت له قواعده وأصوله (على الرغم من حدوده) وولّدت التخطيط البعيد المدى، وعلمتْنا أن في وسعنا في كثير من الميادين أن نقبض على ناصية المستقبل وأن يكون لنا في صنعه شأن ونصيب. ما أحوجنا حقاً إلى أن نألف كتابة تأريخ الغد وألا نكتفي بكتابة تأريخ الأمس.
مع ذلك، من غير الجائز أن نمعن في الوهم وأن نخدع بالخيال. فالمهمة، كما رسمناها، مهمةُ التعرف على التجربة العالمية وعلى طبيعة الثورة العالمية الجديدة التي تبزغ في العالم، ومهمةُ استيعابها ورسم خطة لإعادة تكوين بنياننا الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في ضوئها (بالإضافة إلى تكييف هذا البنيان مع طبيعتنا الخاصة وثقافتنا المتميزة)، أمرٌ جليل بل خطير، لا يمكن أن يكتمل في إطار البلد العربي الواحد، بل لا بد لاكتماله من تكامل الجهود العربية المشتركة وتفاعلها واندماجها. لا سيما إذا ذكرنا أن هذا الجهد الخاص الذي يمكن أن تقوم به البلاد العربية، تعطِّله في كثير من جوانبه مصالحُ الاقتصاد العالمي ويفسده غزو العالم الغربي المتقدم لنا في شتى جوانب حياتنا. ولا يقوى على مقاومة هذا الدور المعطِّل غير أن تكون البلاد العربية كتلة موحدة متكاملة في عصر الكتل الكبيرة وفي عصرٍ يعجز فيه البلد الواحد في أوربة على أن يُغالب غزوات الاقتصاد الأميركي والياباني، ويُقرُّ فيه أبناء أوربة بأن المخرج لن يكون إلا بمزيد من التضامن الأوربي.
نظرية عرَبية جَديدة
ولا ننسى، في سياق الحديث عما يمكن أن تفعله الدول النامية عامة والدول العربية خاصة من أجل استيعاب التغير العالمي الجديد وتوجيهه وإعادة صياغته، ما ينبغي أن تقوم به في ميدان توليد نظرية (إيديولوجية) اجتماعية جديدة. والنظرية الاجتماعية العربية المرجوة لا بد أن تعتمد في رؤاها على معطيات التطور العالمي الحديث، وإلى مستلزمات التغير الجذري الذي يتم في بنية الحضارة الحديثة، بالإضافة طبعاً إلى المقومات الأخرى التي لا بد أن تعتمد عليها النظرية العربية المرجوة، وعلى رأسها البنية الثقافية الذاتية والتراث الثقافي الذاتي (انظر: عبد الله عبد الدائم: في سبيل ثقافة عربية ذاتية، دار الآداب، بيروت، 1983).
وهذا كله يفترض الخيال، الخيال المبدع في إدراك المشكلات وتصور الحلول. وأمام تعقد وتفاقم المشكلات العالمية وبُحران المشكلات المحلية، لا يجد الإنسان عامة والإنسان العربي خاصة من ملجأ خيرٍ من اللجوء إلى ما يفتِّقه الخيال الصنَّاع القادر على تجاوز المألوف والخروج من ربقته، والمطوِّفُ بالتالي في ميادين بكر يسلِّط عليها أضواء من لون جديد وإشعاع طريف. فالتحليل المنطلق من قوالب وصيغ جامدة يعيدنا دوماً إلى حيث كنّا، إلى أن ندور حول أنفسنا وإلى أن نطرح المشكلات دوماً من عين المنظار وإلى أن نرتدّ قافلين إلى ما هو اجترار وجمود، حتى يخيل إلينا أننا نأتي بالجديد المحْدَث. أما العطاء الحقيقي والتغيير الحق فيصدران عن الخيال المبدع – وهو في عرف علماء النفس غير الذكاء – الخيال الذي يطرق دياراً جديدة والذي يمتاح من معرفته بما هو واقع وقائم قدرةً على إعادة النظر فيه على نحو جذري يقْلِب أركانه، والذي يقبس من تصوره للمستقبل قوةً تساعده على إعادة تركيب الواقع وعلى رسم طريق جديدة للمستقبل. وهذا الخيال المنظِّر هو، في الوقت نفسه، خير عون للدراسات المستقبلية التي أشرنا إليها، إلى جانب ما تستمده هذه الدراسات من عون التقنيات الحديثة في التخطيط والتحسّب. ومن هنا، ندرك أهمية تعهّد الخيال المبدع منذ نعومة الأظفار، وندرك خاصة الدور الهام الذي تلعبه الدراسات الأدبية والشعرية والفنية في تنمية هذا الخيال، بالإضافة إلى الأبحاث المتصلة بالمكتشفات العلمية وبالإضافة إلى البرامج (السينمائية) و(التلفزيونية) وسواها الخاصة بعجائب العلم Science fiction. ولا نغلو إذا قلنا، رغم ما قد يبدو في ذلك من تناقضٍ في الكَلم، إن بين الصناعة الحديثة وبين الخيال الذي يفتّقه الأدب والشعر والفن صلةَ نَسَب عميقة، وإن الخيال المجنَّح لعب دوراً هاماً في التِّقَانَة (التكنولوجيا) وسوف يزداد دوره في إطار الثورة الصناعية – أو اللاصناعية – الجديدة. إننا حقاً في عصر تضامن المعرفة. ولا نسرف بعد ذلك إن قلنا إن نظم التربية وممارسات التربية في بلادنا تهمل هذا الجانب الهام بل تكاد تحاربه. إننا قلما نجد فيها مرتعاً خصباً لعبقر: «عبقر» الخيال الولود المولِّد، «عبقرِ» الموقف البدئ والحل المبتكر والنظرة البكر.
وقديماً تحدث كتّابنا العرب عن الشعر المولَّد وعن الخيال الذي يجود به «شيطان» الشاعر، وقالوا إن فلاناً مؤتّى له، وأبوا أن يجاروا عنترة في مقولته: «هل غادر الشعراء من متردَّم» وقالوا قولة الجاحظ: « من قال ما ترك الأول للآخر فإنما لا يريد أن يفلح». أما كيف تتم العناية بتربية الخيال المبدع و«الذكاء المباعِد» لا الذكاء «المقارب» على حد تعبير علماء النفس، فله غير هذا المجال، وهو مجال ذو شجون لا ترويه السطور بَلْهَ الصفحاتُ الطوال.
إن التغير الجذري السريع في عصرنا آت يُغذُّ الخطى ويقتحم الساحة. وهو تغير يقلب أنماط حياتنا رأساً على عقب. ونحن نشهد بداياته ويكاد يصيبنا منها الدُّوار والهلع، بل نكاد نصاب بسببها بالأزمات النفسية والاجتماعية المقلقة. والجواب على هذا التغير المداهم
لا يكون بعدم التغير أو عدم قبول التغير – إن صح جدلاً أن هذا ممكن – بل يكون بأن نبني منه وبه نمطاً جديداً من التغيُّر. وهذا النمط الجديد هو النمط الذي يستطيع أن يستجيب أوسع استجابة ممكنة لمطالب الإنسان كإنسان. إن علينا، إذن، بوجيز العبارة، أن نقود التغير قيادةً إنسانية.
والدول النامية، والدول العربية خاصة ، مدعوة إلى الإسهام في فهم هذا التغير وفي السيطرة عليه وتكييفه تكييفاً إنسانياً يتفق مع سماتها ومطالبها الذاتية الخاصة. إن عليها أيضاً أن تبتكر عصر ما بعد الصناعة أو العصر الصناعي الأمثل إن صح القول. المشكلة عندها أيضاً ليست أن تحذف التغير – فهذا غير ممكن – بل أن تُديره، وقد تَعْمَد في إدارته إلى اختيار قطاعات تحتاج إلى تغير سريع وأخرى قد تظل ثابتة. وهذه الإدارة للتغير، كيما تكون نيّرة وفعّالة، لا بد أن تعتمد التخطيط البعيد المدى والتحسب المستقبلي نهجاً وأسلوباً. ذلك أننا لا نستطيع أن نُدير التغير إلا إذا تنبأنا به واستبقناه. وهذا كله يستلزم الخروج من سجن المألوف والمعتاد، وامتطاءَ ركاب الخيال المبدع المجرد. ولا نغلو إن قلنا إن عقدة العقد في بلادنا والبلدان النامية هي الجمود والوقوف عند المألوف مهما يكن شأنه، وإن أبواب المستقبل لن تفتح إلا إذا خرجنا من إهاب التقليد والاتباع ولبسنا أجنحة الفكر الحرّ المحلِّق.

وآية هذا كله أن الانطلاق في مهمة بناء التغير المنشود لا بد أن تكون عدّته وأداته وسائل الإعلام من جانب ووسائل التربية والإعداد من جانب آخر. إنها مهمة ذات شقين: شق الإعلام الذي ينقل إلينا، بوسائله المختلفة، ما يجري في العصر ويعرفنا بطبيعة الثورة المرتقبة فيه، وشق التربية التي تعد العدة للبنية الجديدة المرجوة التي سيأتي بها التغير دونما تَصَلُّبٍ وتَرَيُّثٍ جامد عند البنى القديمة، والتي تشيع في جنباتها فوق هذا بل قبل هذا روح الخيال المبدع، والتي تجنّد وسائلها وتقنياتها في سبيل أن تفتّح لدى الطفل منذ مَيْعة الصبا القدرةَ على التفكير الذاتي والتأمل الذاتي والبادرة الأصيلة والسعي المبتكر، والتي تستخرج من خيال الطفل وتَشَوُّفه وآفاقه – وما أقواه من خيال وما أغناه من تَشَوُّف وما أوسع آفاقه – كلَّ مداها وكامل أبعادها وأشواطها.
فالبداية دوماً تكون بأن نبني الإنسان، شريطة أن نفقه ونعرف أي إنسان نبني. كلُّ يدعي وصلاً بليلى، وكل مذهب تربوي يزعم أنه وُضع لبناء الإنسان، غير أن السؤال الأكبر دوماً وأبداً: أيَّ طراز من الإنسان نريد؟ وماذا نعني بإنسانية الإنسان. والأمر يزداد صعوبة وتعقيداً حين تساءل أيَّ إنسان نبني في عصر التغير السريع، في عصر انقلاب البنى وذوبان المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية التقليدية، عصر انبلاج بنيان جديد. والجواب بإيجاز، كما بينا طوالَ هذا المقال: الإنسان الذي نود أن نبنيه هو الإنسان القادر على فهم التغير من أجل قيادته وتوجيهه، إنه الإنسان الذي عَرَف، فَنَما، فاسْتَهدَف.