الأقطار العربية والمسألة السكانية – الغـذاء..قنبلة هذا الزمان!

العربي – العدد /312/ – تشرين الثاني 1984

الأقطار العربية والمسألة السكانية
الغـذاء..
قنبلة هذا الزمان!
بقلم: الدكتور / عبد الله عبد الدائم

تكاثر الحديث عن المسألة السكانية في العالم، بل غدا إلى حد بعيد مكروراً معاداً. ومع ذلك يظل هذا الحديث جديداً أبداً قديماً أبداً. ذلك أن الوعاء السكاني هو في نهاية الأمر الهيكل العظمي للبنية العالمية الشاملة، في جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والسياسية وسواها.
لا شك أن البلاد العربية معنية كسواها، بل أكثر من سواها بهذه المسألة، سواء من زاوية أبعادها الشاملة أو أبعادها العربية الخاصة.
ومن هنا كان لزاماً علينا أن نقدم بين يدي البحث عن ملامح المسألة السكانية في البلاد العربية، نظرة خاطفة عن ملامح هذه المسألة على الصعيد العالمي الأرحب.
يشير تقرير حديث نشره في الثالث عشر من حزيران/يونيه المدير العام لصندوق الأمم المتحدة للنشاطات السكانية (FNUAP) إلى حقائق ومعطيات هامة تدفعه إلى أن يدق ناقوس الخطر، نجتزئ منها أبرزها:
1- معدل النمو الاقتصادي في البلاد النامية بين عام 1980 وعام 1982 لم يجاوز 1.9% بينما بلغ متوسط معدل الزيادة السكانية في هذه الدول 2.2.
2- في الوقت نفسه تزايدت الهوة بين البلدان النامية، وبين البلدان المتقدمة، فغدا متوسط دخل الفرد حالياً في البلدان المتقدمة الغنية يفوق مائتين وعشرين مرة متوسط هذا الدخل في البلدان الفقيرة.
3- بينما يسير التزايد السكاني في البلدان المتقدمة نحو التناقص (من المقدر أن يتناقص من 69% في العام حالياً إلى 0.4 عام 2000) ما يزال هذا التزايد السكاني كبيراً في البلدان النامية (2.2% اليوم و1.17% في نهاية القرن) ولنذكر عابرين أنه يجاوز 3% في كثير من البلدان العربية.
4- يتناقص معدل الوفيات في البلدان النامية، بسبب تقدم الشروط الصحية، وقد يقارب في نهاية القرن معدل الوفيات لدى البلدان المتقدمة (10 في الألف تقريباً) مع ذلك ما يزال هذا المعدل مرتفعاً في أفريقيا (25 في الألف) ولم يتغير تغيراً يذكر عما كان عليه عام 1950.
ومثل هذا يقال عن الأجل المرتقب إذ لا يجاوز في هذه القارة 49.7 سنة فيما يطوف في البلدان المتقدمة حوالي 71 سنة.
5- ويزيد ضغثاً على إبالة، ضعف الموارد الاقتصادية عامة والإنتاج الغذائي خاصة في البلاد النامية. فبعد أن كانت هذه الموارد في الماضي تكافئ في نموها نمو السكان، غدت اليوم مقصرة عنه، بعد أن بلغ اتساع الرقعة الزراعية أقصاه وبعد أن كادت تنفذ موارد الطاقة.
الحل السكاني وحده لا يجدي:
وصحيح أن الحل السكاني، بمعنى العمل على الحد من التزايد السكاني السريع ترب ورديف لأي حل آخر، اقتصادي أو سواه، غير أن المسألة في نظرنا تظل أولاً وقبل كل شيء مسألة اقتصادية، نعني توفير نمو اقتصادي أكبر في البلدان النامية بحيث تستطيع مواردها الكثيرة التي ما تزال غير مستقلة بعد، فضلاً عن مكاسب تطورها العلمي والتكنولوجي المنشود، أن تسد حاجات سكانها المتزايدة.
وهنا أيضاً نحتاج إلى أسفار كبيرة إن نحن أردنا أن نمعن في تفصيلات الحديث عن الواقع والمستقبل السكاني في البلاد العربية. وما قصدنا إليه في الواقع هو أن ننبه إلى كبريات المعضلات التي تواجه البلدان العربية، والتي ستواجهها في المستقبل القريب، نتيجة لطبيعة المسألة السكانية عندنا.
وقد يبدو أن على رأس تلك المشكلات مشكلة الأمن الغذائي. وهذا صحيح بعض الشيء، فسكان الوطن العربي الذين يقدرون عددهم بحوالي 280 مليون عام ألفين، سيواجهون مشكلات غذائية ضخمة.
الأمن الغذائي:
ولا يتسع المقام للحديث عن الحلول اللازمة لمواجهة هذه المعضلة، وقد أفاض في ذلك علماء الاقتصاد وسواهم. وحسبنا أن نذكر، تأكيداً لأهمية الحلول الاقتصادية في مواجهة المشكلة السكانية، أن المنطقة العربية تملك حالياً 50 مليون هكتار من الأراضي القابلة للزراعة، لا يزرع منها سنوياً إلا ثلثها، وأن المساحة الإضافية القصوى التي يمكن أن تستصلح من أجل الزراعة قد تبلغ 80 مليون هكتار.
ولنذكر عابرين أن مسألة الأمن الغذائي ليست مسألة اقتصادية فحسب، وليست مسألة معدة جائعة وأفواه نهمة فقط، بل هي فوق هذا، وقبل هذا مسألة سياسية خطيرة. فسلاح الغذاء غدا اليوم في العالم كله سلاحاً أقوى وأمضى من السلاح الذري، تستخدمه الدول إنقاذاً لسياستها. وحسبنا أن ننظر بإمعان إلى السياسة التي يمارسها بلد كالولايات المتحدة (حتى على الاتحاد السوفيتي) في ميدان تصدير القمح.
على أن قصدنا الأصلي في هذه الكلمة، لم يكن التريث عند الجوانب الاقتصادية للمسألة السكانية في البلاد العربية، فلقد طرقها الكتاب ولم يبقوا فيها بقية لمستزيد. ويعنينا أكثر من هذا أن نشير إلى نتائج أخرى هامة للمسألة السكانية في بلادنا، كثيراً ما تخفى على الأنظار.
فتوة السكان:
أولها وأهمها في نظرنا النتائج التربوية، فمما لا يحتاج إلى بيان أن الشعب في البلدان العربية، شأنه في معظم البلدان النامية، شعب فتي، بمعنى أن عدد الأطفال والشبان فيه يفوق بكثير عدد الكهول والشيوخ. ومن أخطر الأرقام السكانية، ذلك الرقم الذي يشير إلى أن نسبة السكان الذين هم دون العشرين في البلاد العربية إلى مجموع السكان تجاوز 57% (بينما لا تُجاوز هذه النسبة في البلدان المتقدمة 38%) وآثار هذا الرقم (الإيجابية والسلبية) عديدة. على رأسها أن أعباء التعليم التي تقع على الدول العربية أعباء ضخمة تكاد تنوء بحملها. ولا غرابة بعد ذلك أن نجد البلدان العربية تنفق على التربية حوالي 6% من الناتج القومي الخام وحوالي 20% من ميزانيتها، رغم أن هذه التربية فيها ما تزال مقصرة عن مداها كماً وكيفاً. فما السبيل إذن إلى تعميم التعليم الابتدائي بل والمتوسط، وإلى التوسع الكبير في التعليم الثانوي؟
والجواب على هذا التساؤل يستغرق الصفحات الطوال أيضاً، وهو جواب غير سكاني محض كذلك. إن قلبه وجوهره العمل على استخدام تقنيات تربوية جديدة (ولا سيما بعد انتشار الوسائل السمعية البصرية والحاسبات الإلكترونية) من شأنها أن تعلم عدداً أكبر تعليماً أفضل بنفس الإمكانات المتاحة. ومن هنا كان الحل الأساسي لهذه المسألة الكمية حلاً كيفياً نوعياً في المقام الأول، رائده تجويد التعليم وتجديده بنية وطرائق ومحتوى وتقنيات.
والمسألة السكانية الثانية الهامة التي نستخرجها من تحري الواقع السكاني والمستقبل السكاني في البلاد العربية، مسألة تصدر أيضاً إلى حد بعيد، عن هذا الرقم السحري الهام الذي أشرنا إليه، الرقم الخاص بفتوة السكان. فمن أخطر نتائج هذا الرقم أن نسبة السكان الذين هم في سن العمل في البلاد العربية نسبة ضعيفة جداً، ويزيد في ضعفها أن نسبة العمالة لدى النساء ما تزال متدنية، الأمر الذي يجعل نسبة العاملين فعلاً في البلاد العربية لا تُجاوز 26% من مجموع السكان، في حين تبلغ هذه النسبة حوالي 50% في بلد كالاتحاد السوفياتي! وبدهي أن أول درس نستخلصه من هذه الحقيقة، هو ضرورة العمل على رفع نسبة مشاركة المرأة في العمالة في البلدان العربية، وهي نسبة من أدنى النسب في العالم. لا سيما أن نسبة العمالة المتدنية هذه تجعل نسبة الإعالة عالية جداً، بحيث تبلغ 1 إلى 3 أي أن كل فرد عامل في البلاد العربية يعيل ثلاثة أفراد غير عاملين!
القلق الاجتماعي:
وثالثة المسائل التي نستخرجها من الوضع السكاني في البلاد العربية، مسألة تكاد تكون خبيئة قلما تلفت الأنظار رغم أهميتها وخطرها. ونعني بها المشكلات الاجتماعية والسياسية التي تولدها ظاهرة التزايد السكاني عامة، وظاهرة فتوة السكان خاصة. ومن الموضوعات الجديرة بأن توجه إليها أنظار الباحثين، النتائج الاجتماعية والسياسية لهذه الظاهرة في البلاد العربية. وحسبنا أن نشير إلى بعض ملامحها إشارة عابرة:
من أوليات الحقائق الاجتماعية في سائر البلدان، أن أفضل تربة لتوليد القلق الاجتماعي بل الثورة الاجتماعية والسياسية في أي بلد، تخريج عدد كبير من المتعلمين الذين لا يجدون عملاً. الأمر الذي يملي على البلاد العربية تحقيق الربط الوثيق بين حاجات التربية وحاجات القوى العاملة والتخطيط المحكم للربط بين نظام التربية أعداداً ومحتوى وبين حاجات السوق الاقتصادية والاجتماعية.
كذلك من نتائج فتوة السكان وتكاثر أعداد الشبان، النزعة التي تدفع الشبان، بعد أن غدوا كثرة، إلى أن يتعجلوا الإرث، أي إلى أن يحاولوا قبل الأوان أن يشغلوا أماكن الجيل الذي يكبرهم، دونما اكتراث بدور الخبرة والتجربة. وقد يصل بهم الأمر، في عصر ثورة الشباب والطلاب، إلى رفض الإرث جملة وتفصيلاً. ولا شك أن كون جيل الشبان قوة عددية ضخمة أمر يستلزم من جيل الكبار جهوداً ضخمة من أجل توعيتهم وتدريبهم وإعدادهم إعداداً سريعاً، يمكنهم من تسلم المسؤوليات التي تنتظرهم. بل هو أمر يحتاج في نظرنا إلى استمرار التفاعل بين جيل الشباب وجيل الكهول والشيوخ وإلى تنظيم هذا التفاعل تنظيماً واعياً دقيقاً، بحيث يفيد كل منهما من عطاء الآخر، وبحيث نجتنب الانقطاع بين تجربة الأجيال، وهو انقطاع خطير حضارياً واجتماعياً وسياسياً، وبحيث نجتنب صراع الأجيال وهو صراع أدهى وأمر.
المشكلات النفسية للشبان:
وثمة مسألة رابعة تكاد تخفى عن الأعين أيضاً، تنجم عن المسألة السكانية ويزداد خطرها وتحتاج إلى دراسة علمية جادة. ونعني بها المشكلات النفسية لدى الشبان، وهي مشكلات متزايدة في عصرنا. وخطرها أوسع وأدهى دون شك عندما تكون الكثرة الكاثرة من السكان في البلد من جيل الشبان. ولئن كانت مشكلات الشبان النفسية في بلادنا مكتمة مكنونة، فهذا لا يعني أنها نادرة أو قليلة، بل هي كثيرة. وكثيراً ما ينسى الناس عندنا أو يتناسون ما يتعرض له الشبان في سن الدراسة، (ولا سيما الجامعية ومن قبلها الثانوية) من أعراض نفسية مرضية، هي المسؤولة الأولى عن تخلفهم أو فشلهم الدراسي. وقد لفت نظرنا في الآونة الأخيرة، ظهور كتاب حديث هام في فرنسة عنوانه «الدراسة والإخفاق» وهو من وضع «هنري دانون – بوالو» ومن نشر دار «بايو». وقد فصل الحديث فيه عن العوامل النفسية المرضية للإخفاق النفسي، مستنداً في ذلك خاصة إلى منهج لجأ فيه إلى أساليب «التحليل النفسي» والكتاب جدير بالدراسة والتأمل، يمثل منحى جديداً هاماً في دراسة ظاهرة التخلف المدرسي وعلاجها.
هذا غيض من فيض عن جوانب المسألة السكانية في البلاد العربية، وقد تريثنا خاصة عند بعض الجوانب المنسية غالباً، مدركين أن معالجة أي واحد من هذه الجوانب معالجة وافية يحتاج إلى سفر برأسه. وقد يكون أهم ما نخلص إليه من هذه العجالة أن المسألة السكانية في البلاد العربية، وهي الوعاء الذي يحتوي سواها، مسألة تتآخذ وتترابط مع سائر المسائل الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية والسياسية وغير ذلك. وعلينا بالتالي عند معالجة هذه المسألة، أن ننظر إليها في صلتها بأترابها وأقرابها، وأن نعالجها جنباً إلى جنب مع معالجتنا للمسائل الأخرى، فالكل يرتبط بالكل. والأمر أمر تحليل «لنظام» ينتسب بدوره إلى «نظم» أخرى ولا يفهم إلا من خلالها.
على أنه مهما تتداخل معالجة مسألة السكان بمعالجة سواها من المسائل، فإن قلبها وجوهرها المعالجة التربوية الثقافية. إنها شرط لازب إذا أردنا العمل على الحد من التزايد السكاني السريع، وإنها سبيل مواجهة هذا التزايد السكاني السريع واجتناب مخاطره، وعلى رأس مهمات هذه المعالجة التربوية الثقافية، توعية الكبار والشبان بالمسألة السكانية، وآثارها ومخاطرها وسبل علاجها، كيما يسهموا إسهاماً فعالاً في تقديم الحلول. وتقوم اليوم في البلدان العربية جهود عديدة في ميدان «التربية السكانية» يتم معظمها عن طريق عون مالي يقدمه «صندوق الأمم المتحدة للنشاطات السكانية» وتنفذه منظمة اليونسكو.