جذور بعض الاتجاهات الحديثة في ميدان التعليم العالي في التراث العربي الإسلامي

جامعة الدول العربية المؤتمر الثاني للوزراء المسؤولين
المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عن التعليم العالي في الوطن العربي
إدارة التربية تونس 20 – 23/10/1983
تونس
جذور بعض الاتجاهات الجديدة (في ميدان التعليم العالي)
في التراث العربي الإسلامي
إعداد
الدكتور عبد الله عبد الدائم

بحث قدم إلى المؤتمر الثاني للوزراء المسؤولين عن التعليم العالي في الوطن العربي الذي عقد بتونس من 20 – 23 تشرين الأول / أكتوبر 1983

موضوع البحث
جذور بعض الاتجاهات الجديدة (في ميدان التعليم العالي)
في التراث العربي الإسلامي

الدكتور عبد الله عبد الدائم

أولاً – لماذا العود إلى الأصول؟
قد تبدو محاولة الربط بين القديم والحديث، لدى البحث في مسائل تربوية راهنة، محاولة
لا تخلو من اصطناع وتعسف. وقد يتراءى فيها، على أقل تقدير، ضرب من الفخار الزائف
أو من العزاء الواهم الذي يود أن يردم فقر الحاضر بغنى الماضي. وما الأمر كذلك في الواقع.
ذلك أن البحث عن تربية عربية أصيلة لا بد فيه من ربط حاضر التربية العربية بماضيها، كما لا بد من دمج ماضي التربية العربية وحاضرها بمصادر التجربة العالمية، قديماً وحديثاً. وإذا كان من الصحيح أن الغربة المكانية في الثقافة والتربية وسواهما، حين تعني مجرد النقل والاقتباس عن الآخرين دونما دمج بالبيئة الأصلية الذاتية، أمر مرفوض مرذول، فإن الغربة الزمانية في نظرنا لا تقل عن تلك الغربة المكانية خطراً، بل قد تكون أدهى ونعني بالغربة الزمانية أحد أمرين: أولهما محاولة الاقتداء الحرفي بتجربة ثقافية أو تربوية مضت وانقضت وكان لها في زمانها ما يبررها ويفسرها. وثانيهما إنكار الاتصال بالتجربة الثقافية التربوية الماضية إنكاراً جازماً مطلقاً، ورفض الربط بين الحاضر والماضي رفضاً مبدئياً بالتالي. وهذا الجانب الثاني من الغربة الزمانية هو الذي نود أن نتريث عنده:
1 – لا جرم أن التربية ظاهرة اجتماعية، سواءً أخذنا بوجهة نظر “دوركهايم” المتطرفة بهذا الشأن أو اكتفينا بتقريب الواقع وتحليل تاريخ تطور التربية في العالم. ومعنى ذلك أن أهداف التربية وبنيتها وطرائقها وليدة البنية الاجتماعية التي تظهر فيها هذا إذا لم نقل مع بعض الكتاب المحدثين(1) إن التربية في أي مجتمع تهدف إلى إعادة توليد النظام الاجتماعي الذي أوجدها ورعاها. ومن هنا كان من السرف أن نفصل بين نمو التربية ونمو المجتمع عامة. والتربية العربية الحديثة في انطلاقتها لا تستطيع إذن أن تهمل الصلة الوثيقة بينها وبين البنية الاجتماعية المتميزة الذاتية القائمة في البلدان العربية. وهذه البنية الاجتماعية الخاصة هي في نهاية الأمر وليدة تطور المجتمع العربي الإسلامي عبر العصور ولا بد لنا أن نعي هذا التطور في أبعاده المختلفة إن أردنا أن نعي الحاضر وأن نعي خاصة بنيته الاجتماعية التربوية المتآخذة.
ولئن كانت عصور التخلف قد ولدت بعض الانقطاع بين الحضارة العربية الماضية والحضارة العربية الحديثة، فمن اللازم وصل ما انقطع وإدراك التطور الحضاري العربي على نحو موصول تلتئم عناصره المختلفة وتلتقي، رغم ما أصابها من بعض التشتت والضياع.
2 – يضاف إلى هذا كله أن التجربة التربوية العالمية نفسها أخذت تدرك أهمية استقراء التجربة التربوية الماضية، وذلك من خلال الإيغال في التجربة التربوية الحديثة نفسها.
فلقد كشف تحليل التجربة التربوية الحديثة عن أنها انزلقت خلال عصور طويلة، ولا سيما بعد الثورة الصناعية الأولى، نحو نموذج من التربية ما لبث حتى كشف عن ثغراته. ومن هنا ارتفعت في السنوات الأخيرة أصوات عالية تنادي بأن نضع موضع التساؤل هذا النموذج الذي بدا أزلياً أبدياً، نموذج الصف المدرسي ذي العدد المحدود من الطلاب الذي يعلمهم معلم، والذين ينتمون إلى مرحلة من العمر محدودة، هي مرحلة الدراسة. ومن خلال ذلك ظهرت الاتجاهات التي تنادي بتحطيم جدران الصف، وبإزالة الحدود والسدود بين ما يدعى بالتربية النظامية والتربية غير النظامية، وبالعناية بتعليم الإنسان من المهد إلى اللحد والقضاء على فكرة ارتباط الدراسة بعمر معين أو مرحلة معينة، وبالمجتمع المعلّم المتعلم الذي تنبث التربية في مؤسساته جميعها ويضطلع بالتعليم فيه كل ما فيه ويتوفر على التعلّم فيه كل فرد من أفراده، الخ …

وفي هذا الاتجاه الجديد الذي سارت نحوه التربية الحديثة حين راجعت فهرست أعمالها ونقدت ذاتها وأصولها، وجدت نفسا على موعد مع كثير من التجارب التربوية القديمة التي عرفتها الإنسانية عبر مسيرتها الطويلة لدى معظم الشعوب، والتي اتسمت أولاً وقبل كل شيء، بتلك السمة الأساسية التي تنشدها التجربة الحديثة، نعني التربية المبثوثة عبر حياة المجتمع كلها وعبر مؤسساته جميعها، والتي تتم بأشكال متنوعة، وتنأى عن جهود المؤسسات التربوية ذات البنيان الصارم المحدود.
وقد أدركت هذه الاتجاهات التربوية الحديثة فيما أدركت أن ما آ لت إليه التربية من تقنين وتصلب وتنميط، ما هو إلا وليد الثورة الصناعية الأولى التي قننت حياة العمال، وأن الصف المدرسي أشبه ما يكون بالمصنع الذي يتوافد عليه العمال أفواجاً وصفوفاً، في أوقات معينة ووفق نمط من العمل آلي مرسوم.
ومن هنا، ومن خلال ولادة الثورة الصناعية الثانية خاصة، ثورة الأوتوماتية والسبرانية والتحرك الذاتي للآلة التي أخذت تحل محل الإنسان يوماً بعد يوم، مضت التربية الحديثة تتساءل عن قيمة هذا النموذج التربوي الذي ساد بعد الثورة الصناعية الأولى خاصة وأخذت تعود أدراجها إلى كثير من التجارب التربوية الماضية، يوم كان المجتمع كله مفتوحاً للعلم والتعلم، ويوم كان التعلم لا يعرف عمراً ولا يؤثر مؤسسة اجتماعية على سواها ولا يقبل هذا الفصل بين عالم المجتمع وعالم المدرسة.
وكما أخذنا نشهد في الفن الحديث والموسيقى الحديثة وأزياء اللباس الحديث آثار العود
إلى النماذج القديمة بل البدائية وبعض أنماط الحياة السائدة لدى كثير من الشعوب
الإفريقية والآسيوية، بدأنا نرى في أحدث التجارب التربوية الحديثة ذِماءً من التجارب التربوية القديمة وإحياء لها أحياناً في صيغة جديدة طريفة. ويصدق هذا خاصة على الاتجاه القائل بالتربية المستمرة، التربية من المهد إلى اللحد، وعلى الاتجاه الذي ينادي
بتحطيم جدران الصف كما ذكرنا وما يتبعه من اللجوء إلى تقنيات تربوية حديثة من شأنها أن تعلّم جماهير كبيرة من الدارسين بأقل عدد من المعلمين والصفوف، وعلى الاتجاه الذي يجعل من مؤسسات المجتمع كلها أمكنة للتعلم والإعداد، والذي يهدف في النهاية إلى
خلق المجتمع المعلم المتعلم كما سبق أن ذكرنا، وعلى الاتجاه الذي يربط بين المدرسة وعالم العمل والإنتاج ويزيل الحواجز بينها، وعلى الاتجاه الذي يقول بالتربية المعادة المتناوبة Recurrent Education وعلى الاتجاه الذي ينادي بالمدرسة بلا صفوف
Non Gradeol School حيث يستطيع الطالب أن ينتقل من مستوى دراسي إلى آخر دونما قيود العمر وقيود السنوات الدراسية، وعلى سائر الاتجاهات التي هي في حقيقة الأمر عود جديد ووفق أسلوب حديث إلى نمط التعليم المبثوث المرن الذي كان شائعاً في كثير من المجتمعات القديمة.
3 – وفي هذا النطاق، نطاق التعليم المبثوث الذائع الذي يستمر من المهد إلى اللحد، وتضطلع به مؤسسات المجتمع جميعها، تحتل التربية العربية الإسلامية القديمة مكانة رفيعة متميزة، لعلها لم تبلغ هذا الشأو لدى أي مجتمع من المجتمعات.
ويرجع ذلك إلى الطبيعة الخاصة للحضارة العربية ومقومات تطورها عبر التاريخ، كما يرجع بوجه خاص إلى السمات المتميزة للتراث العربية الإسلامي، بما فيه من قيم دينية وتقاليد ثقافية عريقة وزاد أدبي وفكري وعلمي غني ومنازع إنسانية راسخة. وهنا نجد مرة أخرى أهمية الربط بين التجربة التربوية العربية الحديثة والتجربة التربوية القديمة، ما دامت هذه الأخيرة جزءاً عضوياً من تراث عربي إسلامي ومن قيم عربية إٍسلامية ومن بنية اجتماعية لها أصالتها.
زد على ذلك أن هذه التجربة التربوية العربية القديمة ظلت حية قائمة حتى عهد قريب، بل هي ما تزال في بعض جوانبها حية حتى اليوم. ولا نشير بهذا إلى الكتاتيب وإلى مدارس العلم الملحقة بالجوامع أو الزوايا وإلى حلقات المساجد وسواها فحسب، بل نشير إلى
ما هو أبعد من هذا نعني جملة الأهداف والمبادئ والطرائق التربوية التي ظلت حية حتى بعد ظهور المدارس في شكلها الحديث والتي تغلغلت إلى حد كبير إلى صلب هذه المدارس. وقد يكون بعضها حسناً وقد يكون بعضها مستقبحاً غير أن الهام أن ندركها ونقومها ونضعها في إطارها السليم.
وإن ننسَ لا ننسَ أن كثيراً من كبار الأساتذة الذين تلقى معظم أبناء جيلنا العلم على أيديهم في المدارس الثانوية والجامعات، هم من خريجي هذه التربية العربية الإسلامية “غير النظامية” إن أردنا أن نستعير التعبير السائد اليوم، وأن حظهم من المعرفة في ميادين كاللغة العربية والتاريخ والفلسفة وكثير من العلوم الإنسانية كان أعمق وأوفر مما نجد اليوم لدى خريجي المدارس النظامية والجامعات العربية والأجنبية. بل إن طرائقهم في التعليم كثيراً ما كانت مبتكرة فعالة ولدتها لديهم إحاطتهم بعلمهم وتفقههم فيه كما ولدتها تجربة عريقة مديدة في التعليم انتقلت جيلاً بعد جيل وكابراً بعد كابر.
ولندع هذه المقدمة – وهي لازبة في نظرنا – ولنمض إلى صلب الموضوع، لنرى في أصول التربية العربية الإسلامية ما تنعقد الصلة وثيقة بينه وبين التربية الحديثة، ولا سيما في المجال الذي يعنينا، مجال التعليم العالي عامة ومجال الالتحاق بالتعليم العالي خاصة.
ثانياً – التربية من المهد إلى اللحد:
إن ما ذكرناه عن سبق التربية العربية الإسلامية القديمة إلى الأخذ باتجاهات أخذت تؤكدها التجربة الحديثة اليوم، في إطار جديد طبعاً نتيجة للطبيعة الخاصة للحضارة العربية الإسلامية وللقيم العربية الإسلامية المستمدة من تراث العرب الديني والأدبي والفكري، يجد أصدق برهان عليه في منازع ثلاثة سادت هذه التربية: أولها القول بالتربية من المهد إلى اللحد، وثانيها شيوع المجتمع المتعلم المعلم، وثالثها الأخذ بفكرة التوجيه التربوي. وسوف نقف عند كل منزع من هذه المنازع لنفصل القول فيه:
أما التربية من المهد إلى اللحد، وهي إن صح القول ترجمة مسبقة لما يعرف اليوم بالتربية المستمرة continuous education أو التربية طوال الحياة (long life eduction) أو التربية الدائمة (education permanente) فارتباطها بالتراث العربي الإسلامي وطبيعته الخاصة أمر لا يحتاج إلى دليل. أو ليس هذا التعبير نفسه جزءاً من الحديث الشريف “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد”؟ أو لم تكن العناية بإنفاذه ورعايته نابعة إذن من صلب رعاية هذا التراث؟.
والحق لا نجد في أي تراث قديم مثل هذا الوضوح والقطع في القول بعدم ارتباط التعليم بمرحلة معينة من العمر، ومثل هذا التأكيد الذي يكاد يبلغ مستوى الأمر الديني على ضرورة طلب العلم طوال الحياة.
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، حسبنا أن نشير إلى بعضها: مما يرويه ابن قتيبة في عيون الأخبار: “لا يزال المرء عالماً ما طلب العلم فإن ظن أنه علم فقد جهل”. وعندما سئل عمرو بن العلاء: حتى متى يحسن بالمرء أن يتعلم؟ أجاب: ما دامت الحياة يحسن أن يتعلم”. وسئل أحد الحكماء: “ما حد التعلم؟ فقال “الحياة”.
ومما يقول الزرنوجي في كتابه الشهير “تعليم المتعلم”(1):
“إنه ليس لصحيح البدن والعقل عذر في طلب العلم مهما كان عمره، وفي واقع التربية العربية الإسلامية كما سادت خلال عصور طويلة نجد ترجمة عملية لهذا المبدأ. إذ يقصد المرء مجالس العلماء مهما تكن سنه، ويحرص على أن يكون له طوال عمره شيخه الذي يتعلم على يديه ويهتدي بهديه (من لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان)، بل يأبى أن تحول مشاغل عمله في مهنته بينه وبين أن يواصل التعليم.
ويرجع ذلك إلى تقديس التراث العربي الإسلامي للعلم والعلماء وإنزالهم منزلة فريدة فذة. والآيات الكريمة والأحاديث الشريفة في هذا الباب أكثر من أن تحصى: “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون” – “تعلموا العلم وعلموه الناس، وتعلموا الوقار والسكينة وتواضعوا لمن تعلمتم منه العلم وتواضعوا لمن علمتموه العلم، ولا تكونوا جبابرة العلماء” – “إن مداد العلماء لخير من دماء الشهداء” – “لموت قبيلة أيسر من موت عالم” … الخ –
أما أقوال الخلفاء الراشدين والصحابة وما ورد في الحكم والأقوال المأثورة في هذا الباب فيند عن الحصر. وحسبنا أن نذكر قول علي بن أبي طالب: “قيمة كل امرئ علمه” وقول أبي بكر الصديق: “كل يوم لا ازداد منه علماً فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم”، وقول بعض العلماء: “ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم وأي شيء فاته من أدرك العلم”.
ولا شك أن الترجمة العملية لهذا المبدأ العربي، مبدأ التربية من المهد إلى اللحد، لا بد أن تتخذ اليوم أشكالاً مباينة لما كانت عليه في ظروف ماضية. غير أن الفكرة والرمز الحي يظلان هناك يومئان خاصة إلى ارتباط هذا المفهوم الحديث بأصول الثقافة العربية والقيم العربية، ويشيران إلى اللحمة العضوية بين هذا الاتجاه وبين طبيعة المجتمع العربي ويؤكدان بالتالي أن تبني هذا المبدأ بعد ترجمته إلى لغة العصر جزء من بناء التربية الأصيلة التي ننشدها وعماد من أعمدة الفلسفة التربوية التي نريد بناءها أصيلة وحديثة معاً.
وطبيعي ألا تتخذ ترجمة هذا المبدأ إلى لغة الواقع في بلادنا العربية عين الصورة التي يمكن أن تتخذها في بلدان العالم الأخرى. ومثل هذه الترجمة الخاصة الذاتية لمبدأ حديث وأصيل معاً من خلال فهم التراث العربي والواقع العربي الراهن والواقع العالمي ينبغي أن يكون واحدة من المهمات الكبرى التي تضطلع بها أي محاولة لوضع فلسفة تربوية عربية أصيلة. ولعل في هذا مثالاً واضحاً على ما ينبغي أن نعنيه بالفلسفة التربوية العربية المتميزة.
والتعليم العالي بوجه خاص معنيّ بهذا الأمر. ولا بد فيه من فتح أبوابه على أشكال متعددة للراغبين مهما تكن أعمارهم ومهما يكن حظهم من التعليم. وقد خطت التجربة العالمية خطوات عديدة في هذا المجال. ومن الأمثلة على ذلك الجامعة المفتوحة والتعليم بالمراسلة أو سواها والانتساب إلى التعليم العالي بعض الوقت وقبول العمال وسواهم من المنتجين دون شرط الشهادة، والتعليم المتناوب والتعليم في مواقع الإنتاج وفي مؤسسات الإنتاج نفسها الخ.
ثالثاً – المجتمع المعلم المتعلم:
الأفق الذي نرنو إليه التربية العالمية الحديثة هو بلوغ ما يعرف باسم المجتمع المتعلم المعلّم الذي يكون فيه كل فرد متعلماً ومعلماً في آن واحد وتكون فيه أي مؤسسة اجتماعية داراً للعلم ينبث العلم والتعلم والتعليم في أوصالها وتنفتح فيه أبواب المدرسة على المجتمع كله فلا تعتزل ركناً منه ولا تنزوي في جانب من حياته ولا ينال خيرها عمراً دون عمر أو الصفوة دون سواهم بل تغدو المدينة كلها فيه “أحسن معلم” على حد تعبير فلوطارخس منذ القديم.
ويعني هذا فيما يعني أن عملية التعليم تشارك فيها مؤسسات المجتمع المختلفة من هيئات وجمعيات ونقابات ومراكز إنتاج وأجهزة إعلام وسواها، كما يعني أن يشارك في عملية التعليم أكبر عدد من العاملين في المجتمع دون ما نظر إلى تخصصهم في ميدان التعليم. ويعني أيضاً أن يكون المتعلم نفسه مسؤولاً عن تعليم نفسه وعن ارتياد المعرفة من مظانها ومصادرها المختلفة وأن يواصل تعليم ذاته وتفجير طاقاته المبدعة الكافية.
ولئن كان بلوغ هذا المجتمع المتعلم المعلم ما يزال صعب المنال، فلقد خطت التربية الحديثة مع ذلك خطوات كثيرة على دربه ولا سيما عن طريق إزالة الحدود والسدود تدريجياً بين التعليم النظامي والتعليم غير النظامي، عن طريق الجسور التي أخذت تبنيها بين المدرسة وعالم العمل وعن طريق العناية المتزايدة بالتدريب الموصول لأفراد الطاقة العاملة، تجديداً لهذا التدريب وربطاً له بحاجات الإنتاج المتجددة ووسائل الإنتاج المتغيرة وبحاجات المجتمع المتطورة كلها. وتتجلى هذه الخطوات في ميدان التعليم العالي في أمور عديدة: منها ألا تكون أبواب التعليم العالي مفتوحة للطلاب النظاميين فحسب بل لكل من يود أن يشدَأَ حظاً أعلى من التعليم، كقدامى الخريجين والإداريين والفنيين والعمال الراغبين في رفع مستواهم واستكمال إعدادهم أو تجديده. ومنها تنويع بنية التعليم العالي ومناهجه المدرسية والهيئات التابعة له بحيث تستطيع أن تستوعب أنماطاً متباينة من الراغبين في العلم (إنشاء مؤسسات جامعية صغيرة لتحقيق أهداف معينة أو لتلبية احتياجات محلية – الجامعات المفتوحة – مؤسسات الإعداد شبه المهني – مؤسسات التعليم العالي المتوسط – التعليم العالي بعض الوقت .. الخ).
وإذا كانت التربية الحديثة يرهقها أن تبلغ هذا المطمح وتلقى عنتاً في السير نحوه فمن الطبيعي ألا نحمّل التربية العربية الإسلامية الماضية أكثر مما تحتمل فنزعم أنها أحاطت به علماً واتخذت طريقها إليه سرباً. غير أن اللانهيتين تلتقيان أحياناً، وحديث الحديث قد يوصل إلى ما يشبه قديم القديم. والمجتمعات الحديثة التي اتصفت منذ بزوغ الثورة الصناعية بالاتجاه المتزايد نحو تقسيم العمل وتجزيء نشاطات المجتمع وسارت نحو التخصص في كل شيء بعد التعميم، تعود اليوم لتبحث في كثير من الحنين عن أساليب الربط بين أجزاء العمل وفئات النشاط، وعن التعميم بعد التخصيص، وعن الجهد الكلي المتناسق المتناغم بعد الجهود المبعثرة الشتيتة. ويصدق هذا على ميدان التربية خاصة وهي بطبعها تتأبى أكثر من سواها من النشاطات على التقوقع والانعزال بوصفها نشاطاً يلامس جوانب حياة المجتمع كلها.
أما التراث العربي الإسلامي، فقد عرف في الواقع أطواراً مختلفة أهمها طوران: الطور السابق على نشوء المدارس النظامية والطور اللاحق لذلك. غير أننا نستدرك فنقول أن الطور الذي أعقب ظهور المدارس النظامية لم يلغ الطور الأول، بل أبقاه وأضاف عليه فالتعليم المنبث عن طريق مؤسسات المجتمع المتعددة ظل قائماً ومستمراً بعد ولادة المدارس النظامية بل اتسع ونما.
والسؤال المبدئي الذي يطرح هنا: هل هذه العناية الواضحة من قبل التربية العربية الإسلامية بالتعليم المنبث، المقصود لأفراد المجتمع كلهم والذي يشارك فيه أكبر عدد منهم، هو مجرد تعبير عن مرحلة بدائية أولية سابقة على التطور أم أنه شيء غير ذلك؟ هل ما نجده في هذه التربية حظ مشترك بينها وبين سائر أنماط التربية في القديم قبل أن تتطور وتقنن وتعقّد،
أم أنه تعبير عن طبيعة خاصة وروح متميزة.
والجواب كما يشير إليه التقّري العلمي الموضوعي يشير إلى تفرّد التربية العربية الإسلامية بهذه الظاهرة إلى حد كبير، انطلاقاً من مبادئ التراث العربي الإسلامي. فهذه المبادئ التي فرضت العلم على كل إنسان ذكراً كان أو أنثى. وجعلت طلب العلم جزءاً من الواجب الديني، وأكبرت شأن العلم والعلماء، هي التي حركت وولّدت هذا المجتمع التربوي الفريد الذي تشارك في التعليم فيه مؤسسات اجتماعية عديدة واسعة، ويقبل فيه على التعليم كل فرد، ويشعر العالم فيه بأن من واجبه أن ينشر علمه وألا “يكتم علماً يجيده.”.
وهكذا كان التعليم، قبل انتشار المدارس النظامية (وقبل افتتاح أول مدرسة من مجموع المدارس الكثيرة المنظمة التي أنشأها الوزير السلجوقي نظام الملك، وذلك عام 459 هـ). منبثاً في أماكن مختلفة، من أشهرها الكتاتيب وقصور الخلفاء والعظماء وحوانيت الوراقين ومنازل العلماء والصالونات الأدبية والمساجد بل والبادية نفسها. واستمر عمل هذه المؤسسات كما ذكرنا بعد نشأة المدارس النظامية وانضافت إليها مؤسسات أخرى جديدة كالمكتبات والرُّبُط والزوايا والبيمارستانات. ولن نتوقف عند كل مؤسسة من مؤسسات التعليم هذه، ونحيل القارئ في ذلك إلى كتابنا “التربية عبر التاريخ”(1)، وإلى كتاب الدكتور أحمد شلبي “تاريخ التربية الإسلامية”(2) وإلى العديد من الكتب الخاصة بالتربية الإسلامية. وحسبنا أن نذكر، من قبيل المثال ومن أجل تأكيد الطابع الشمولي الجامع للتربية العربية الإسلامية، بل من أجل بيان الارتباط فيها بين التعليم وبين عالم العمل والإنتاج، إن الوراقين (بائعي الكتب) لم يكونوا بائعين ينشدون الربح بل كانوا في معظم الأحيان أدباء ذوي ثقافة يسعون للذة العقلية من وراء هذه الحرفة. ولذا عرفت قائمة أسماء الوراقين شخصيات لامعة، كابن النديم صاحب “الفهرست” وعلي بن عيسى المعروف بابن كوجك وياقوت الحموي مؤلف معجم الأدباء ومعجم البلدان … الخ بل كان الوراقون في عهد الدولة العباسية هم الذين ينسخون الكتب الهامة ويعرضونها للراغبين فيها، وهكذا كانت حوانيتهم مغدىّ ومراحاً للطلاب والعلماء يتذاكرون فيها ويناقشون. حتى أن الجاحظ كان يكتري دكاكين الوراقين ويبين فيها للنظر. حسبنا أن نذكر كذلك أن بعض منازل العلماء غدت ملتقى للطلاب والمدرسين: ومن أهمها منزل الرئيس ابن سينا، وكذلك منزل أبي سليمان السجستاني (الذي توفي في العقد الأخير للمائة الرابعة الهجرية)، وكان أعور به وضح ولهذا لزم بيته فلا يأتيه إلا مستفيد وطالب علم(3). ومنها أيضاً دار الإمام الغزالي (504 هـ) التي كان يتقبل فيها تلاميذه بعد أن اعتزل العمل بنظامية نيسابور: وإن ننسَ لا ننسَ أن التعليم بالمنزل جرى في عهد الإسلام المبكر وقبل نشأة المساجد وأن الرسول (ص) اتخذ دار الأرقم ابن أبي الأرقم مركزاً يلتقي فيه بأصحابه ومن تبعه ليعلمهم مبادئ الدين الجديد.
حسبنا أن نذكر كذلك الصالونات الأدبية التي ارتبط تاريخها بتاريخ القصور وبخاصة قصور الخلفاء منذ أيام معاوية والتي تنوعت بعد ذلك وشملت قصور الأمراء والعظماء، وتعددت أغراضها فأصبحت للآداب أو العلوم أو الفنون (ومنها الغناء والموسيقى) لا سيما في العصر العباسي. وقد عمرت هذه الصالونات بالمناظرات والمناقشات والمساجلات حتى أصبحت بعد حين تقوم مقام الجامعات اليوم، على حد قول أحمد أمين في ظهر الإسلام. حسبنا أن نذكر أيضاً، فيما يتصل بالمساجد، أول مسجد أنشئ في الإسلام، مسجد قباء، وأبرز المساجد والجوامع التي قامت فيها حلقات العلم من مثل جامع المنصور الذي جلس فيه الكسائي وأبو العتاهية وسواهما والجامع الأموي بدمشق الذي كان مركزاً هاماً من مراكز الثقافة في العالم العربي الإسلامي وكان للخطيب البغدادي حلقة كبيرة به عام 456، وجامع عمرو الذي بناه عمرو بن العاص عام 21 هـ ثم جدّد، وقد جلس فيه “سليمان بن عمر التجيبي” منذ عهد مبكر (38 هـ) وظل منذ ذلك الحين مركزاً ثقافياً ومحكمة للقضاء (وقد سجل المقريزي في خططه بعض التفاصيل عن زوايا ثمان كانت تدرس فيها شتى العلوم بهذا الجامع). وتبين لنا الأخبار أن الحلقات بالمساجد لم تكن مقصورة على الدروس الدينية، وإنما تعدتها إلى سواها من معارف ذلك العصر، وأن الدراسات الأدبية واللغوية كانت تجد طريقها إلى المسجد (فكان الكميت بن زيد وحماد الراوية مثلاُ يلتقيان في مسجد بالكوفة يتذاكران أشعار العرب وأيامها وكان العروض أيضاً يدرس بالمسجد) كما درّس فيه الطب والميقات (ومما يقوله البغدادي أن درساً في الطب كان يلقى في الأزهر في منتصف النهار).
حسبنا أن نذكر كذلك المكتبات عامة كانت أو خاصة. ومن أشهرها بيت الحكمة الذي
أسسه هارون الرشيد وبلغ ذروته أيام المأمون والذي يمكن أن يعد أول جامعة إسلامية كبرى. ومنها مكتبة “ابن سوار” بالبصرة والمكتبة الحيدرية بالنجف (وما تزال موجودة حتى يومنا
هذا) و”خزانة سابور” التي كان يتردد عليها أبو العلاء المعري دون انقطاع عندما كان في بغداد… الخ.
أما المدارس النظامية بالمعنى المعروف اليوم فيعنينا منها بوجه خاص أنها كانت بدورها مفتوحة الأبواب على المجتمع بأسره، لا ينتسب طلابها إلى عمر معين أو طبقة خاصة وأن سعيها قد انضاف إلى سعي المؤسسات الأخرى المبثوثة الذائعة التي أشرنا إليها وإن تكن قد أخذت تذيع أشكالاً من التعليم أكثر تقنيناً وخضوعاً لتوجيه الدولة. وكلنا يعلم أن هذه المدارس النظامية قد أنشأها الحكام في البداية من أجل تعضيد المذهب المعين الذي تدين به الدولة. وكان أشهرها في البداية المدارس التي أنشأها نظام الملك (والتي عرفت باسم “المدارس النظامية” وهي تسمية قد تقيم لبساً بينها وبين المغنى الذي تحمله هذه الكلمة اليوم) تعضيداً للمذهب السني بدراسة الفقه وفق المذاهب السنية الأربعة.
ثم سار على نهج نظام الملك سائر السلاجقة الذي جاءوا بعده، كما اقتفى أثرهم الشاهات والأتابك ومن بعد هؤلاء نور الدين الزنكي (569 هـ) الذي بنى المدرسة النورية بدمشق والعديد من المدارس النورية في سورية ومصر. ومن أشهر المدارس كما نعلم المدرسة المستنصرية في بغداد. وقد تكاثر عدد هذه المدارس من بعد: فيحدثنا الرحالة ابن جبير عن مدارس بغداد مثلاً في القرن الثاني عشر الميلادي فيقول أن عددها يبلغ الثلاثين مدرسة وجميعها تفوق أجمل القصور. كما يحدثنا ابن بطوطة عن مدارس دمشق ويذكر أن لكل مذهب من المذاهب السنية الأربعة عدة مدارس. وحسبنا دليلاً على تكاثر أعداد المدارس فيما بعد ما ذكره “النعيمي” عن مدارس دمشق في كتابه الشهير “الدارس في تاريخ المدارس”(1).
ومن الجدير بالذكر أن المدارس والزوايا لم تكن تقتصر على تعليم العلوم النظرية ولا سيما العلوم الدينية والأدبية، بل كانت تعنى بالإعداد الفني أو المهني ولا سيما لأولئك الذين يرغبون في تولي وظائف إدارية أو في ممارسة مهن حرفية وتجارية. وكان هذا الإعداد يتم عن طريق التلمذة. ومنذ القرن الخامس عشر الميلادي ارتبط هذا الإعداد المهني والفني بما يشبه المنظمات والاتحادات المهنية.
وكان التعلم على يد معلم في مجال الحرف اليدوية أمراً لازباً ولا سيما في التخصصات العلمية الهامة كالاسطرلاب والرياضيات. أما الطب فكان لا بد في تعلمه من شروط خاصة ومن الحصول على إجازة رسمية بعد التدريب في البيمارستانات التي كان يلحق بها في الغالب مكان للتدريس. وكلنا نعلم أن الخليفة المستنصر العباسي جعل في مدرسته المستنصرية العظمى معهداً لتدريس الطب والصيدلة وإلى جانبه شاد البيمارستان ليطبق الطلاب علومهم النظرية على مرضى ذلك المستشفى. وكذلك فعل الملك المنصور قلاوون الألفي الصالحي حين بنى البيمارستان الكبير المنصوري في القاهرة عام 682 هـ وجعل فيه قبة ومدرسة وبيمارستاناً، وجعل مكاناً تفرق فيه الأدوية والأشربة ومكاناً يجلس فيه رئيس الأطباء لإلقاء الدروس في الطب إلى جانب مدرسين آخرين في علوم مختلفة، منها دروس الفقه على المذاهب الأربعة، إلى جانب خزانة الكتب. ويقال أن الخليفة المقتدر بالله العباسي هو أول من فرض على من يريد انتحال صنعة الطب أن يؤدي امتحاناً حتى ينال إجازة التطبيب (وجعل الممتحن سنان بن ثابت بن قرة). ومما يقوله الدكتور أحمد عيسى(2): “وكان طالب الإجازة يتقدم إلى رئيس الأطباء برسالة في الفن الذي يريد الحصول على الإجازة في معاناته. وهذه الرسالة أشبه بما يسمى اليوم “أطروحة”. وتكون هذه الرسالة له أو لأحد مشاهير الأطباء المتقدمين أو المعاصرين يكون قد أجاد دراستها فيمتحنه فيها ويسأله في كل ما يتعلق بما فيها من الفن، فإذا أحسن الإجابة أجازه الممتحن بما يطلق له التصرف فيه من الصناعة.
ولمن أراد أن يعرف المدى الذي وصل إليه انتشار التعليم في التراث العربي الإسلامي عن طريق المدارس أو سواها من مؤسسات المجتمع المختلفة، في القرن الرابع الهجري خاصة، نوصي بقراءة الكتاب الثاني من ظهر الإسلام لأحمد أمين(1) وقد أفرده للحديث عن مراكز الحياة العقلية في العالم الإسلامي من عهد المتوكل إلى آخر القرن الرابع الهجري. وفيه نجد بوجه خاص حديثاً عن انتشار العلم والتعليم على يد الأمراء والحكام كالحمدانيين في حلب وما تبع ذلك من ظهور المدرسة الحمدانية التي تخرج منها كبار العلماء في شتى ميادين المعرفة (أبو بكر الخوارزمي، الجرجاني، أبو إسحاق الصابي، أبو فراس، أبو العباس النامي، أبو الفرج الببغاء، الوأواء الدمشقي، أبو علي الفارسي، ابن خالويه، ابن جني، الفارابي … الخ).
وكالفاطميين الذين بسطوا سلطانهم على مصر والشام والذين عنوا عناية خاصة بالفلسفة اليونانية والذين أسسوا الأزهر وعنوا بالكتب عناية كبيرة (خزانة الكتب الشهيرة) وأسسوا أيضاً دار الحكمة (أسسها الحاكم بأمر الله عام 295 هـ وهي طبعاً غير بيت الحكمة في بغداد… الخ)، وكالبويهيين الذين نبغ في عهدهم العديد من كبار الكتاب (كابن العميد والصاحب بن عُباد وأبي إسحق والصابي وأبي حيان التوحيدي … الخ). هذا فضلاً عن الحركة العلمية والتعليمية في بلاد المغرب، وهي حركة ثمرة عامرة، يستغرق الحديث عنها أسفاراً برأسها.
أليس في هذا كله ما يشير إلى أن الحضارة العربية الإسلامية عرفت حقاً المجتمع المتعلم المعلم بالمعنى الواسع للكلمة، وأن هذا الاتجاه التربوي يعكس بنية أصيلة فيها نابعة من مبادئها الدينية الخاصة ومنطلقاتها الأساسية؟ إن الذي يتقرى تاريخ الحركة العلمية في هذه الحضارة تقري المدقق الممحص ليعجب حقاً حين يجد نفسه أمام مجتمع يسعى للعلم والمعرفة سعي خلية النحل، ويتولى أمر التعليم فيه مختلف طبقات الناس من خلفاء وأمراء وعلماء وسواهم ومختلف أرباب المهن والصناعات وتصطنع فيه شتى المناهج وأساليب التدريس المرنة الملونة بألوان الحاجة، وتنعقد الصلة فيه حية بين المعلم والمتعلم، وكلاهما قد يكون معلماً ومتعلماً في آن واحد. بل تقوم لُحمة وثيقة بين العلم والعمل، بين النظر والممارسة. ولا غرابة فمن خلال هذا المجتمع المشدود إلى العلم والبحث ازدهرت الحضارة العربية الإسلامية، وازدهر العلم والتجريب وكان حصاد ذلك كله ما قدمت تلك الحضارة من عطاء للعالم وما أوقدت من شرارة العلم الغربي الحديث.
على أننا نعود لنستدرك فنقول دفعاً لأي لبس: إن ما نجده في التربية العربية الإسلامية من معالم المجتمع المتعلم المعلم هو هذا الاتجاه الواضح نحو هذا النمط من التربية انطلاقاً من مبادئ التراث العربي الإسلامي، وصياغةً لهذا الاتجاه في شكل مؤسسات ومناهج ووسائل تناسب مرحلة التطور التي كانت قائمة في ذلك العصر. ومثل هذا الاتجاه، شأن أي اتجاه في التراث لا بد أن يصاغ اليوم صياغة جديدة تناسب مستوى التطور العالمي الذي بلغته التربية. غير أن كثيراً من سمات الصيغة القديمة لا بد أن تبرز في الصيغة الجديدة المرجوة، ومعها وقبلها الروح التي وجهت التربية العربية الإسلامية في هذا المجال، روح المجتمع المتكامل المتضامن في عملية التعلم والتعليم، تأسياً بالحديث الشريف: “لا خير فيمن كان من أمتي ليس بعالم ولا متعلم”.
رابعاً – التوجيه التربوي والمهني:
إن مبدأ التكامل والتضامن هذا، الذي يكاد يكون من أبرز سمات التراث العربي الإسلامي في شتى جوانب الحياة، سواءً كانت اقتصادية أو اجتماعية أو تربوية، مبدأ ولود عامر بإمكانات العطاء. وقد ولدت من خلاله فعلاً طائفة من الأنظار الهامة وأنماط الحياة الفنية في المجتمع العربي عبر مسيرته الطويلة. ومن أبرز ما ولده هذا المبدأ، في ميدان التربية، القول بتوجيه كل فرد حسب استعداداته وقابلياته، أو بتعبير آخر الأخذ بمبدأ التوجيه التربوي والمهني كما نقول اليوم.
ذلك أن نقطة انطلاق التربية العربية الإسلامية في هذا المجال مبدأ ديني معروف، هو فرض الكفاية الذي إذا قام به أحد أفراد الجماعة سقط عن الباقين وإن لم يقم به أحد أثم الجميع. وقد رتب الفقهاء على هذا المبدأ أو على هذه المقدمة كما يقول المناطقة نتيجة تربوية واجتماعية هامة، وهي أن من فروض الكفاية أن يوجد في كل مجتمع من يسد حاجته من المأكل والمشرب والملبس والصناعات والعلوم المختلفة. وههنا قام التساؤل: على من يقع فرض الكفاية في مثل هذه الحال؟ وجاء الجواب الذي ولد نظرية كاملة في التوجيه التربوي والمهني: يقع هذا الفرض على صاحب الاستعداد الأكبر. ونجم عن ذلك تقرير لحقيقة سيكولوجية وتربوية أخرى، وهي أن الناس مختلفون في قابلياتهم واستعداداتهم وأن من الواجب في التعليم توجيه كل منهم نحو الدراسة أو المهنة التي يهيئها له استعداده. وهذا هو بالضبط المعنى المقصود بالتوجيه التربوي المهني اليوم،وهو اتجاه محدث لم يعرف طريقة إلى التربية الحديثة كما نعلم إلا منذ أقل من نصف قرن.
وكلنا يعلم كيف قامت الدراسات الحديثة تترى حوالي منتصف هذا القرن خاصة، تبحث عن القابليات وتصنيفها ووسائل الكشف عنها وتشخيصها، وتبحث خاصة في إقامة نظام للتوجيه التربوي، لا سيما في المرحلة الأولى من الدراسة الثانوية، من شأنه أن يكشف عن قابليات الأطفال بغية توجيههم نحو الدراسات التي تؤهلهم لها تلك القابليات. وإن نذكر نذكر بوجه خاص تجربة “الصفوف الجديدة” في التعليم الفرنسي التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، وما تم في مختلف بلدان العالم من تطوير لوسائل الكشف عن قابليات الطلاب ومن تنويع للتعليم يلائم تلك القابليات ومن توجيه للطلاب بأشكال وصور مختلفة نحو الدراسات التي تناسب ما تكشّف من قابلياتهم.
ولنعد إلى التربية العربية الإسلامية. لقد ذكر الكثير من المربين أهمية هذا المبدأ وتريثوا عند ضرورة دراسة استعدادات المتعلمين وتوجيههم نحو الدراسات التي تلائم تلك الاستعدادات. غير أن أفصح من عبر عن هذه الفكرة تعبيراً كاملاً الإمام الشاطبي الأندلسي في كتابه “الموافقات”(1). ففي معرض حديثه عن واجب الكفاية يبين، كما سبق أن ذكرنا، أن من واجبات الكفاية أن يكون في كل مجتمع من يسد حاجاته من سائر العلوم والصناعات(2). ويسائل الشاطبي عند ذلك على من يقع واجب الكفاية هذا؟ ويجيب بأن واجب الكفاية في مجال ما يقع على من هو أهل وعلى من يملك فيه القدرة. فمن كان قادراً على الولاية فهو مطلوب لإقامتها. والقادر إذن مطلوب بإقامة الفرض “ويلزم عن ذلك في رأي الشاطبي، أن نقوي لدى كل إنسان ما جبل عليه بالفطرة وأن نوجهه على ما فطر عليه في أوليته. “ذلك أنه إذا” كان من الصحيح أن كل واحد غرس فيه التصرف الكلي، فلا بد في غالب العادة من غلبة البعض عليه. فيرد التكليف عليه معلماً مؤدباً في حالته التي هو عليها. وعند ذلك ينهض الطلب على كل مكلف في نفسه من تلك المطلوبات ما هو ناهض فيه، ويتعين على الناظر فيهم الالتفات إلى تلك الجهات فيراعونهم بحسبها … ويعينونهم على القيام بها ويعرضونهم على الدوام فيها، حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه من تلك الخطط”. ويضرب الشاطبي لذلك مثلاً فيقول “فإذا فرض مثلاً واحد من الصبيان ظهر عليه حسن إدراك وجودة فهم ووفور حفظ لما يسمع – وإن كان مشاركاً في غير ذلك من الأوصاف – ميل به نحو ذلك القصد. وهذا واجب على الناظر فيه من حيث الجملة .. “وينهى كلامه بقوله: “وبذلك يتربى لكل فعل هو فرض كفاية قوم”.
وأكد هذا المبدأ كذلك كثير من الفلاسفة والعلماء العرب. فمما يقوله ابن سينا في القانون: «ليس كل صناعة يرومها الصبي ممكنة له مؤاتية ولكن ما يشاكل طبعه وناسبه. وإنه لو كانت الآداب والصناعات تجيب وتنقاد بالطلب والمرام دون المشاكلة والملاءمة ما كان أحد غفلاً من الأدب وعادياً من صناعة وإذن لأجمع الناس كلهم على اختيار أشرف الآداب وأرفع الصناعات… وربما ناظر طباع الإنسان جميع الآداب والصنائع فلم يعلق منها بشيء … ولذلك ينبغي لمدير الصبي إذا رام اختيار صناعة أن يزن أولاً طبع الصبي ويسبر قريحته ويختبر ذكاءه فيختار لها الصناعات بحسب ذلك. فإذا اختار له إحدى الصناعات وعرف قدر ميله إليها ونظر هل جرت منه على عرفان أم لا عرفان وهل أدواته وآلاته مساعدة له أم خاجلة ثم يبت العزم فإن ذلك أحزم في التدبير وأبعد من أن تذهب أيام الصبي فيما لا يؤاتيه ضياعاً». أليس في هذا إشارة واضحة إلى ما يشبه الروائز والاختبارات النفسية اليوم وسائر وسائل تشخيص القابليات والذكاء والطباع؟ أو ليس فيه تعبير بليغ عن مبدأ التوجيه المهني والتربوي؟ ويمضي ابن سينا أبعد من هذا في توضيح هذا المبدأ فيقول: “إن لكل إنسان باباً من المعارف وفناً من الصناعات، وقد سمح له به طبعه وإفادته إياه غريزته فصار لديه كالسجية التي لا حيلة في تركها والضريبة التي لا سبيل إلى مفارقتها(1).
كذلك يعنى ابن الجوزي المتوفى عام 597 هـ ببيان أهمية الاستعداد الفطري عندما يذكر أن الرياضة لا تصلح إلا في نجيب، والكودن لا تنفعه الرياضة، والسبع وإن ربي صغيراً
لا يترك الافتراس.
ويرى المربون المسلمون أن تبدأ عملية التوجيه هذه بعد أن يجتاز الطالب المرحلة الأولى للتعليم. وهم في هذا متفقون مع آراء المربين المحدثين. فعلى كل صبي فيما يقولون أن يعرف طرفاً من العلوم الضرورية في الحياة كالقراءة والكتابة والحساب … ثم عليه بعد ذلك أن يتجه إلى العلم أو الحرفة على حسب استعداده وتكوينه، إذ ليس كل أحد يصلح لتعلم العلوم فإذا اتجه إلى العلم فليقصد العلم الذي يقبله طبعه فما كل من يصلح لتعلم العلوم يصلح لجميعها(1).
ويرى المربون المسلمون – وهم في هذا أيضاً يوافقون المربين المحدثين – إن اختيار العلم تبعاً للموهبة والقابلية لا يقوم به الطالب وحده ولا المعلم وحده بل يقوم به كلاهما وقد يشترك معهما في ذلك والد الطالب. ومما ينصح به الزرنوجي في كتابه “تعليم المتعلم” ألا يختار الطالب نوع العلم بنفسه بل يفوض أمره إلى الأستاذ فإنه قد حصل له من التجارب في ذلك فهو أعرف بما ينبغي لكل واحد وما يليق بطبيعته. أما المدرس فكان عليه أن يتصفح طلابه كما يتصفح حرمه كما ذكر الأصفهاني(2) وألا يدع إلى حلقته إلا من كان قادراً على استيعاب ما يجري فيها.
ولم يقف مربو المسلمين في أمر توجيه الطلاب عند هذا الحد بل خطوا خطوة أخرى فأشاروا إلى ضرورة إعادة توجيه الطالب إذا استبان خطأ توجيهه في البداية وهذا ما يعرف اليوم باسم Réarientation وهو أهم ما انتهت إليه الدراسات الحديثة. وقد بُنيت كثير من الإصلاحات التعليمية في البلدان المتقدمة عليه فأتيح المجال أمام الطالب عن طريق مرونة المنهاج ومرونة مراحل التعليم وفروعه للانتقال من فرع إلى آخر ولتغيير نمط دراسته. ونجد هذا واضحاً في الإصلاح التعليمي الذي جرى في فرنسة في السنوات الأخيرة.
هكذا يرى مربو المسلمين أن التلميذ إذا وجه أو التحق بحلقة دون توجيه ورأي المدرس في هذه الحال أو تلك أن التلميذ ينبغي أن يفارق هذه الحلقة إلى سواها فإن المدرس ما كان يتردد في إبلاغ التلميذ هذه النتيجة وينصحه بأن يغير الموضوع الذي شغل به نفسه ويدرس موضوعاً آخر. وفي هذا يقول ابن جماعة(3): “وإذا علم أن تلميذاً لا يفلح في فن أشار عليه بتركه والانتقال إلى غيره مما يرجى فيه فلاحه”. روى أن يونس بن حبيب كان يختلف إلى الخليل بن أحمد يتعلم منه العروض فصعب عليه تعلمه فقال الخليل له يوماً: من أي بحر قول الشاعر:
وجاوزه إلى ما تستطيع
إذا لم تستطع شيئاً فدعه

ففطن لما عناه الخليل، فترك العروض وأخذ يتعلم النحو وقواعد اللغة حتى أصبح في ذلك إماماً وعالماً شهيراً(1). وقد بدأ محمد بن اسماعيل النجاري يتعلم الفقه على محمد بن الحسن فقال له هذا: “اذهب فتعلم علم الحديث لما رأى ذلك العلم يليق بطبعه، فطلب علم الحديث فصار فيه مقدماً”(2).
ومن الذين تريثوا عند هذه الفكرة أيضاً الإمام الغزالي في رسالة “أيها الولد” وإحياء علوم الدين و”ميزان العمل” فهو يقرر مبدأ الفروق الفردية ويردها إلى اختلاف الوراثة والاستعدادات الفطرية ويبين حدود التربية تبعاً لهذه الفروق وواجبات التربية تجاه هذه الفروق.
ويذهب ابن قيم الجوزية إلى ما ذهب إليه سائر الفقهاء فيرى أن من حق الطفل على مربيه أن يعتمد حاله وما هو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها فيعلم أنه مخلوق له فلا يُحمَلُ على غيره ما كان مأذوناً فيه شرعاً، فإنه إن حصل على غير ما هو مستعد له لم يفلح له وفاته ما هو مهيأ له(3). ومنطلق كثير من المربين في هذا، كما ذكر الجاحظ، قول علي ابن أبي طالب “قيمة كل امرئ ما يحسن(4). وقد ربط بعضهم تقدم العمران وصلاح الحياة بالمحافظة على ما بين الأفراد من فروق وكانوا يقولون – فيم يرويه ابن عبد ربه – “لا يزال الناس بخير ما تباينوا فإذا تساووا هلكوا(5). وطبيعي أن القصد بالتباين هنا تباين القابليات0
وبعد ما نرانا في حاجة إلى المزيد لبيان وضوح مبدأ التوجيه التربوي والمهني في أذهان المربين العرب في العصور الماضية. وهو مبدأ أكدته التربية الحديثة ورسمت له وسائلة وأشكاله المحدثة. ولعل صعوبة تطبيقه على النحو المرجو هو إحدى العقبات الكاداء البارزة التي تقوم في وجه تطور التربية اليوم في كثير من بلدان العالم. وكلنا يعلم ما تواجهه هذه التربية من مصاعب في سبيل توجيه الطلاب في المرحلة الثانوية والعليا نحو الدراسات التي تهيئهم لها قابلياتهم، إما لعجزٍ عن الكشف السليم عن تلك القابليات أو لتعذّر فرض الدراسات الملائمة على الطلاب والآباء. وهذا العجز يكاد يفسد العملية التعليمية بكاملها ويبطل معظم الجهود التي تبذل من أجل تطويرها الكيفي النوعي ومن أجل ربطها بحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية خاصة. وقد يكون لنا في ماضينا ومنطلقاته على نحو ما أشرنا ما يدفعنا إلى مزيد من الجهد في هذا السبيل وما ييسر هذه المهمة اليوم، مهمة توجيه الطلاب نحو ما يصلح لهم من دراسات ومهن، وما يحفزنا على أن نعيرها شأناً خاصاً. وليس المقام مقام الحديث عن وسائل إنفاذ التوجيه التربوي في مدارسنا. وحسبنا أن نقول عابرين أن أفضل ما يتبدى لنا من مخرج من هذا المأزق، أن نأخذ بفكرة التوجيه التربوي غير الموجه أو غير المباشر كما يقول بعض المربين اليوم، أي أن نساعد على اختيار الدراسات الملائمة للطلاب اختياراً حراً باللجوء إلى سبيلين:
أولهما تعريفهم – عن طريق المعاناة (بوساطة إدخال التعليم شبه المهني في التعليم الابتدائي والمتوسط) وعن طريق المتابعة الدقيقة والتقويم الدقيق لنشاطاتهم ونتاجهم – على حقيقة قابلياتهم بحيث يتعلقون بتنحيتها وتغذيتها والسير في سبيلها. وثانيها إطلاعهم منذ مراحل الدراسة المبكرة وفي نهاية المرحلة الثانوية خاصة على سوق العمل وعالم الإنتاج بحيث تتبين لهم النشاطات والمهن الشتى التي قد تكون أجدى أو أقوم لهم وأكثر نفعاً وعطاءً والتي تستجيب لاستعداداتهم وميولهم في الوقت نفسه.
والحق أن هذا المبدأ الذي أفصح عنه التراث العربي الإسلامي ذو أبعاد واسعة هامة لها شأنها الكبير في حياة الفرد والجماعات. فعن طريق اشتغال كل امرئ بما خلق له (كل ميسر لما خلق له) تتفتح قوى الإبداع والخلق لديه ويعطي أقصى ما عنده لمجتمعه ويشعر بالسعادة في عمله، كما يتوافر للمجتمع ما يحتاج إليه من الاختصاصيين في شتى الميادين ويتم بالتالي الاستخدام الأمثل للموارد البشرية والاستثمار الحق لما نوظّفه في التربية من مال وجهد. والتعليم العالي بوجه خاص مدعو إلى أن يتوفر على دراسة هذه المسألة في جد وحزم.
خامساً – خاتمة:
هذه نظرة عجلى على أهم جوانب التربية العربية الإسلامية المتصلة بالتعليم العالي خاصة. ولعلنا ندرك بعدها أن أمهات المشكلات التي يطرحها اليوم التعليم بوجه عام والتعليم العالي بوجه خاص لم تكن غريبة عن هذا التراث، بل كان له فيها سبق لا ينكر.
ولا يعنينا أن نؤكد هذه الحقيقة فحسب، بل يعنينا قبل هذا أن نؤكد من ورائها حقيقة أوسع وأشمل: وهي أن مثل هذه النظرات التربوية الرائدة التي أطلقها تراثنا التربوي، جزء بل انعكاس لتراث متكامل شامل، هو التراث العربي الإسلامي في جملته وفي منطلقاته ومبادئه الكبرى وفلسفته ونظرته إلى الحياة والإنسان. فالتربية من المهد إلى اللحد والمجتمع المتعلم المعلم والتوجيه التربوي والمهني، على نحو ما قال بها التراث، ليست جميعها كما سبق أن رأينا سوى ترجمة لمبادئ دينية ولقيم إنسانية أساسية نادى بها التراث. ومن هنا فإن الفلسفة التربوية التي تعبر عنها هذه الأنماط من الأفكار التربوية جزء من فلسفة فكرية اجتماعية شاملة لها أصولها وجذورها في تراث العرب قبل الإسلام وفي التراث الإسلامي خاصة وفي القيم الإنسانية التي أكدتها الحضارة العربية في مختلف عصورها.
والحق أن عطاء العرب بأوجهه المختلفة علمياً كان أو أدبياً أو تجريبياً أو تربوياً أو فلسفياً أو غير ذلك، يؤلف كلاً متكاملاً يصدر عن منبع موحد، هو ذلك الامتزاج الوثيق الذي تم بين القيم والمبادئ العربية الإسلامية (أي الثقافة العربية الإسلامية) وبين ثقافات الشعوب الأخرى وعلومهم. وفي هذا التمازج بين الثقافات على نحو ما حققه العرب ظل الطابع المسيطر والخيط الرائد هو الأصول الذاتية والهوية الشخصية المتميزة. والبحث يطول إن نحن أردنا أن نضرب الأمثلة على ما تجلى في الفلسفة العربية والعلوم العربية والتربية العربية من قدرة فذة على صهر عطاء الثقافات الأخرى في هذه الميادين في بوتقة الهوية الثقافية العربية الإسلامية المتميزة. وقد يعجب الكثيرون إذا ذكرنا – فيما ذكرنا – إن علما كعلم تعبير الرؤيا لدى العرب، قد استمد أصوله الكثيرة من ثقافات أخرى ولا سيما من كتاب “ارطميدوروس” اليوناني. ومع ذلك فقد دمجت هذه البضاعة المستوردة دمجاً عضوياً عميقاً بأصول الدين الإسلامي والثقافة الأدبية والشعبية العربية، بحيث يحسب القارئ إن ما يقرأه في هذا المجال من كتب منسوبة إلى “ابن سيرين” أو سواه نتاج عربي الوجه واللسان لا شأن فيه لآثار العجمة والاغتراب(1).
وآية هذا كله، أن مثل هذا المنهج الذي اصطنعه أجدادنا في التفاعل بين ثقافتهم وثقافات سواهم هو المنهج السليم الذي يتوجب علينا اليوم أن نأخذ به في سعينا لتوليد ثقافة عربية ذاتية أصيلة(2)، ولا سيما فيما نطمح إليه من بناء فلسفة عربية متميزة. فالإبداع ههنا في هذه اللحمة الغضوية التي نستطيع أن نعقدها بين ثقافتنا والثقافة الأجنبية الحديثة، منطلقين أولاً من ذاتنا وهويتنا وسماتنا، كيما نقوى بالتالي على أن نجعل الحضارة الحديثة جزءاً من هذه الهوية، مغنياً لها متفاعلاً معها. ولعل ما ذكرناه في بحثنا هذا عن جوانب التربية العربية الإسلامية التي تلتقي مع الاتجاهات التربوية الحديثة اليوم ما يقدم لنا مثالاً عما ينبغي أن يكون عليه جهدنا في شتى جوانب الصلة بين ثقافتنا وثقافة الآخرين. ولا نعني بهذا أن جهدنا ينبغي أن يقف عند حدود الكشف عن جوانب التراث هذه على نحو ما بينا، بل يعني بأن مثل هذا الكشف بداية لعمل ينبغي أن تكتمل حلقاته عن طريق توضيح الترجمة الحديثة العملية التي نريد أن نعطيها اليوم في تربيتنا المرجوة لمثل هذه المبادئ التربوية التي عثرنا عليها في التراث مرهصة بالتيارات الحديثة اليوم.
إنه حقاً جهد مديد وعلم موصول وسعي طويل النفس، ما ينبغي أن نقوم به للخروج من هذا الانقطاع بين ثقافتنا والثقافات الأجنبية. ولعل قيما قدمناه خطوة على الطريق.

باريس في 4/6/1983

عبد الله عبد الدائم