الإنسان العربي وأزمة العصر

مجلة الآداب البيروتية – العدد /6-7/ – حزيران / يونيو – أيلول / سبتمبر 1983

الإنسَان العَربي وأزمَة العَصر
الدكتور عَبد الله عبد الدائم

لا نقول جديداً إن قلنا إن ضرباً من التمزق والبحران واليأس المرضي كاد يرين على النفس العربية منذ عقد ونيف من الزمن يشتد خطره ويتعاظم أثره يوماً بعد يوم.
وقد يصح البحث في الأسباب الظاهرة والقريبة لهذا التردي النفسي. فالأحداث العربية التي لم تولّد سوى واقع عربي مهزوم، قد تقدم بعض التفسير لما نشهد ونرى من هبوط معنوي متسارع.
غير أن وراء هذه الأسباب الظاهرة أسباباً أعمق، يجدر البحث فيها، تتصل بأزمة العصر جملة، تلك الأزمة التي تنعكس آثارها بيّنة أو خفية على حياة الجماعات والأفراد أنّى كانوا.
ذلك أن من تبسيط الأمور أن ننظر إلى واقع البلاد العربية في معزل عن واقع العالم، وأن نحسب أدواءها أدواء ذاتية فريدة، ترتد إلى مشكلات حالّة فيها دون سواها. والحق. إن أي بلد في العالم، متقدماً كان أو متخلفاً، يعاني عللاً وأمراضاً قد تختلف من مصر إلى مصر، ولكنها تسقي من نبع واحد، نبع الأزمة العالمية الشاملة.
والهام أن نقول منذ البداية، إن الأزمة العالمية الشاملة التي نشير إليها ليست أزمة عابرة، ولا هي انحراف موقوت طارئ، وإنما هي أزمة بنيوية تتصل ببنية الحضارة الحديثة كما آلت عليه، ومن المقدر لها أن يزداد خطرها وشأنها يوماً بعد يوم.
ولا يكفي أن نشكو منها أو أن ننكرها ونرفضها، فهي هناك، صارمة قاسية، تسّيرها جملة النظم والعلائق والبنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تفرزها لا محالة حضارتنا الحديثة التي تختلف نوعاً وطبيعة عن أي حضارة أخرى سبقتها.
لقد تحدث المتحدثون أيام الثورة الصناعية الأولى عن المشكلات الإنسانية التي تخلقها الحضارة الصناعية، وأشارا فيما أشاروا إلى خضوع الإنسان للآلة وإلى تسخير الجماهير الكبيرة من العمال لأغراضها، وإلى ما أدت إليه من جعل الإنسان مخلوقاً للآلة بدلاً من أن تكون الآلة مخلوقة له.
غير أن تلك المشكلات كانت وما تزال هينة، وكان علاجها عن طريق توليد نظم اجتماعية جديدة أمراً ممكناً. ومن هنا قامت الإيديولوجيات تترى تحاول أن تقدّم الصلة بين أدوات الإنتاج وأرباب العمل والعمال، وأن تهيئ لهؤلاء الظروف الإنسانية التي \تحول دون عبوديتهم لوسائل الإنتاج ومالكيه.
وتطورت الآلة بعد ذلك، بحكم التقدم العلمي والتكنولوجي، وبدأت تباشير الثورة الصناعية الثانية، الثورة القائمة على أوتوماتيكية الآلة وتحركها الذاتي، وأدّى ذل إى توليد بعض الآمال المعسولة، آمال من حسبوا أن حلول الآلة الأوتوماتية محل الإنسان سوف يؤدي إلى تحرير الإنسان من ربقة الآلة، وإلى انصرافه إلى ما هو ألصق بإنسانيتهِ، نعني النشاط الفكري والفني والإداري والاجتماعي وغير ذلك، وخيِّل إلى القوم أن من نتائج هذه الثورة الصناعية الثانية، الوصول إلى مجتمع ما بعد الصناعة، المجتمع الذي تقوم فيه الآلة، وقد اشتد ساعدها وعظم أثرها، بكل ما ينتسب إلى الجهد الآلي الذي لا يجدر بالإنسان، وإلى إذكاءِ دوره الإنساني الحق بالتالي وقيامه بالنشاطات الأثيرة لديه، القمينة بأن تخلق حضارة إنسانية حقاً.
غير أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن. فإذا بالثورة الصناعية الثانية، المتقدمة طبيعة وشأواً عن الحضارة الصناعية الأولى، تخلق بدورها مشكلات متقدمة أدهى وأمر وأعصى على الحل.
وليس هدفنا أن نتريث عند المشكلات الخطيرة الجديدة التي ولّدتها هذه الثورة الحضارية الثانية. فقد قتلتها الكتب والدراسات بحثاً وتحليلاً. غير أننا نؤثر أن نتريث عند معالمها الكبرى الأساسية التي تجعلنا أقدر على فهم أزمة العصر جملة وأزمة الإنسان العربي بالتالي:
1- لقد ولّدت الثورة الصناعية الثانية، بقدراتها العلمية والتكنولوجية الجبارة، تغيراً جذرياً وسريعاً في حياة المجتمعات. وهذا التغيّر يتصف بسرعة يعجز عن اللحاق بها والتكيف معها أبناؤها الذين يتلقون آثارها. فبنية المدن تغيرت تغيراً جذرياً، حتى غدا من الحق أن يشعر المرء، وسط هذا العالم المفتوح الأبواب ووسط حاجات العمل المتنقلة المتغيرة، أنه لا يكاد ينتسب إلى مدينة بعينها بل أمة بعينها. والعلاقات الاجتماعية بالتالي أصابتها هزة عنيفة، فلم تعد علاقات ثابتة حميمة، بل غدت علاقات طارئة ظرفية. والروابط الأسرية تمزّق وثاقها، بحكم ظروف العمل المتغيرة وبحكم الارتحال الذائع، فضلاً عن تغيّر الأساس البيولوجي الجنسي الذي تقوم عليه الأسرة. والزمن تغيّر معناه ومفهومه وإيقاعه، فلم يعد هناك زمن يمتلكه الفرد ويتصرف في استخدامه، بل أصبح الزمن ملكاً لحاجات العمل المتزايدة ولإيقاعها الجهنمي الخاص. والمتعة نفسها غدت مقننة مرسومة، يمليها النظام الاقتصادي ومطامع أصحابه، ويتلقاها الفرد طائعاً مسيَّراً لا خيار له، سواء امتاحها من وسائل البث الجماعية أو ارتادها في أماكن الترويح المصنوعة المملاة. والثقافة، الثقافة نفسها، غدت صناعة من الصناعات، تفرضها الشركات المالية الكبرى، والفكر أصبح مسدوداً بالعمل، ويختنق وسط حمأته ولا يكاد يجد لنفسه متنفساً حراً وسط مطالب الحياة المادية المتزايدة. وإرواء الحاجات جملة، من مسكن وملبس وأدوات منزلية وطعام وشراب، تمليه حاجات مجتمع الاستهلاك على نحو صنعيّ يهدف إلى إذكاء نهم الاستهلاك من أجل الاستهلاك. والأمثلة كثيرة هيهات أن تحصى.
لقد أنذر الكاتب «توفلر Toffler» بما سيتعرض له المجتمع الحديث من «صدمة المستقبل»، وتحدث بحق عن الأزمات النفسية التي يمكن أن تخلقها هذه الصدمة التي يولدها عالم حوَّل متقلب سريع التغير فضلاً عن الأزمات الحضارية العميقة. وهذا المستقبل الذي أنذر به الكاتب كاد يصبح حاضراً. فالصدمة قائمة واقعة تتسلل إلى كيان الناس وأعصابهم خلسة، ولا يكادون يدركون أبعادها وأسبابها، ويعجزون بالتالي عن فهمها من أجل التغلب عليها وتجاوزها والتكيف وإياها تكيفاً جديداً خلاقاً.
ولا نغلو إذا قلنا إن جيل اليوم يمثل الانتقال من بنية حضارية تمضي وتنقضي ويشتد إليها الحنين، إلى بنية حضارية جديدة كل الجدة تبزغ يوماً بعد يوم، ولكن دون إرادة أصحابها ودون فهمهم العميق لها ودون أن يكون لهم في تصحيح مسيرتها دور ونصيب. وعن هذا يصدر الكثير من التمزق والبحران والضياع. فالتغير يحدث مغذاً في سيره تسيّره بنية الحضارة الجديدة ونظمها الخاصة، دون أن يعيه أصحابه، مما يقيم التمزق والصراع النفسي، ودون أن يعرفوا قوانينه فيقووا بالتالي على حسن توجيهه، مما يخلق الضياع والبحران.
2- ويزيد في فداحة الخطر أن هذا التغير الأعمى يحدث ويقع في ظروف اقتصادية عالمية جديدة، تذكي أدواءه ومخاطره. إنه يقع وسط عالم يشهد تزايداً سريعاً في السكان لا يقابله تزايد مماثل في المواد الاقتصادية اللازمة لإعالتهم. لقد كان من الممكن أن تصدّق الثورة الصناعية الثانية بعض أحلام من رأوا في مجتمع الأوتوماتية ومجتمع ما بعد الصناعة مجالاً لانطلاق الإنسان نحو نشاطات فكرية وفنية وعلمية ألصق بطبيعته، لو أن هذه الثورة لم تقع في عصر ضاقت فيه الأرض بأهلها وقصّرت فيه مواردها عن إشباع حاجاتهم المعاشية الضرورية. غير أن من سوء طالع الإنسان أن هذا التغير الضخم قد عطّل موارد الأرض عن مداها وعجزها عن تحقيق الحد الأدنى اللازم من العيش اللائق لأبنائها جميعهم. وعندما تكون «قطعة الحلوى» التي تملكها الإنسانية محدودة، تبرز الغرائز الإنسانية الأنانية على أشدها، فيقوم الصراع بين الأفراد كما يقوم بين الدول من أجل الحصول على أكبر نصيب منها. وعبثاً يتحدث المنظرون في مثل هذه الحال عن ضرورة توسيع قطعة الحلوى أولاً عن طريق تنمية بلدان العالم الثالث خاصة، وعن ضرورة اقتسامها اقتساماً عادلاً عن طريق إقامة نظم اجتماعية ملائمة،فالمصالح المباشرة الأنانية للقابضين على قطعة الحلوى من أفراد ودول وشركات وأرباب مال تظل هي الطاغية، رغم كل شيء. ومن هنا نشهد يوماً بعد يوم أن الإنسان ينقلب حقاً إلى «ذئب على أخيه الإنسان» على حد قول «هوبس» وأن مبدأ «الذي له يعطى ويُزاد والذي ليس له يؤخذ منه»، هو الذي يسود، بل نشهد كيف ينقلب الصراع من أجل الثروة والمال عنفاً وإرهاباً وخسفاً تزداد مظاهره يوماً بعد يوم. ويكاد المرء يرى بأم عينه أن مجتمع القرن الحادي والعشرين يسير، رغم حضارته بل بسبب حضارته، نحو شريعة الغاب، شريعة الثعلب الذي يسطو على الحمل.
3- إن هذا الواقع الصارم، واقع مجتمع متغيّر ومتصارع في آن واحد، هو الذي يفرز المشكلة الأولى التي يشكو منها العصر، نعني مشكلة غياب القيم. فالقيم تخضع لهزة عنيفة بسبب ظاهرة التغير السريع في عصرنا وما تولده من تغيّر في العلاقات الاجتماعية، وقد كان من الممكن تجاوز هذه الهزة عن طريق توليد قيم جديدة إنسانية، تدخل في حسابها عامل التغير هذا وتتجاوزه. غير أن بروز المشكلة الثانية، مشكلة نقص الموارد، عطّلت أي جهد يمكن أن يقوم في سبيل توليد صيغة جديدة للقيم الإنسانية. وهكذا تلقَّفت التغير مراكز القوى والمال في العالم، وجنّدته لأغراضها، وجعلت منه بالتالي داءً مقيماً يزيد في ضراوة الأزمة.
لقد قام النداء من كل حدب وصوب منكراً زوال القيم داعياً إلى العود إليها أو تجديدها. ولكن مثل هذا النداء يظل نداء المفكرين الإنسانيين القلائل، ويظل فوق هذا وقبل هذا نداء المحرومين دولاً وأفراداً. وكأن من المحتوم أن يكون الفقراء والعاجزون هم المنادين بالقيم الإنسانية وأن يكون الفقراء حفظتها والمخلصين لها. ومع ذلك يصيب داءُ انعدام القيم الإنسانية جملة، قويها وضعيفها، غنيها وفقيرها، وفي حلبة التسابق نحو المزيد من الغنى والقوة، يتعرض أصحاب الغنى والقوة أنفسهم، بل قبل سواهم، لكل ما يؤدي إليه انعدام القيم من صقيع بشري،، وحياةٍ تفقد معناها العميق، وتعاسة روحية ونفسية، رغم القوة والغنى بل بسبب القوة والغنى.. إنهم يدركون يوماً بعد يوم ان مثل هذا المجتمع الأناني، وقد صيّرهم أكثر ثراء وبسطة، لم يوفر لهم السعادة، وأنهم يدفعون ثمن هذا التفوق المادي أزمات نفسية ومشكلات أسرية وبحثاً عقيماً عن مذكيات صنعية تهب لترفهم بعض المعنى، وجرياً وراء مثيرات ومتع جديدة ما تلبث حتى تغدو سراباً بل خراباً.
لقد ربحوا كل الأشياء وخسروا أنفسهم. ولقد امتلكوا القوة المادية فإذا بها تمتلكهم وتؤدي بإنسانيتهم إلى الحضيض. أمام هذه الصورة القاتمة لا بد من التساؤل عن طريق الخلاص. وقد يبدو الطريق، من خلال العرض الذي قدمناه، صعباً بل مستحيلاً. وموطن الأمل يثوي في نظرنا في حقيقة أساسية تتصل بالطبيعة الإنسانية نفسها. فالإنسان ليس بالملاك ولا بالشيطان. إنه إنسان، أي أنه يملك طبيعة غرزية حيوانية، ولكنه يملك إلى جانبها وفوقها طبيعة إنسانية تجعل منه كائناً ذا قصد وهدف، وتشدّه إلى القيم الإنسانية الكبرى التي لا يمكن أن يجد ذاته وسعادته بدونها. ومن هنا فإن وعي الواقع العالمي وإدراك طبيعة أزمة العصر، من شأنهما أن يحرّكا من جديد المنازع الإنسانية الثاوية في صلبه، وأن يحملاه على أن يمتلك قدره بنفسه وأن يقود مصيره بيديه، رافضاً أن تسير به الحضارة التي أفرزها إلى حيث لا يريد. ومن هنا تأتي أهمية البحث الجاد في بنية الحضارة الحديثة وحقيقة أزمتها، ويأتي بالتالي دور كبار المنظرين في العالم وإرهاصهم بعالم جديد يكون للإنسان فيه شأن ويكون لقيمه مرتع خصيب.
ولندع هذا المدخل الضروري لنمضي إلى أزمة الإنسان العربي. إنها دون شك جزء من هذه الأزمة العالمية. فالحضارة العالمية، بمحاسنها ومساوئها، تغزونا من كل جانب، كما تنعكس أمراضها علينا. بل إن معاناتنا من هذه الأمراض أدهى وأمر، بوصفنا جزءاً من العالم الثالث، وبوصفنا دولاً ما تزال في طريق التقدم.
ومع ذلك فللأزمة عندنا طابعها الخاص. ذلك أنها كانت تغزو مجتمعاً ما تزال للقيم فيه مكانة، في النفوس على أقل تقدير، مما يجعل التمزق والصراع أشد وأقسى. زد على ذلك أن تزعزع القيم الإنسانية في العالم، وما يلحق به من سيطرة الأنانية والعدوان، يصيب مجتمعاتنا وهي في طفولتها، ويهدّم بنيانها قبل أن يكتمل ، ويسير بها نحو تخلف جديد ولمّا تجاوزْ بعدُ التخلف القديم. وما نشهده عندنا من تفكك وصراع وطغيان قوم على قوم واستمساك بالسلطان ولو عن طريق العدوان وإيثار للترف والكسب ولو على حساب القيم الخلقية والدينية والوطنية، ليس في جانب من جوانبه إلا طرفاً من داء سرت سمومه من خلال البنية الاجتماعية العالمية الشاملة، ولم تقو البنية الثقافية العربية الأصيلة على ردّه والقضاء عليه.
وما نود الوصول إليه من وراء هذا القول أن ندحض الظن القائل بأن ما نشهد في بلداننا من ترد معنوي على مختلف المستويات، نابعُ من ذاتنا وسلوكنا وبنيتنا وحدها، فضلاً عن أن يكون صورة لطبيعة عربية أصيلة، والعكس هو الصحيح. فما نشهد من انهيار في القيم ظاهرة وافدة إلى حد كبير، تسقي جذورها من أزمة العصر وبنيته، وتشكل امتداداً لذلك المجتمع العالمي القائم على الصراع والأنانية والربح.
وكثير مما نعجب له ويثير استنكارنا مما يجري أمامنا من أحداث تفصح عن تردي القيم العربية، يكاد يكون في معظم الأحوال نتيجة لسيطرة النموذج الحضاري السائد في الغرب، ذلك النموذج الذي تغدو آثاره أخطر وأوضح عندما يغزو بلداناً لم تكتمل بنيتها ولم تخلق بعد كيانها القومي المتين، ولم تع في الوقت نفسه مخاطر النموذج الغازي.
وليس قصدنا من هذا أن نبرّئ أنفسنا أو أن نبرّر ما يحدث. بل قصدنا أن نعرف لماذا يحدث ما يحدث، بحيث نجعل من معرفتنا قوة تمكننا من شق طريق جديد. فالإنكار المرير واليأس المرضيّ واتهام الطبيعة العربية، ليست السبل المرجوة للحل المنشود. ومن الصدق مع الحقيقة ومع أنفسنا أن نقول إن العرب، شأنهم شأن كثير من بلدان العالم، ضائعون وسط هذا العالم الجارح الذي تقوده قوى لا إنسانية وقيم لا إنسانية. والآفات الخلقية والمعنوية والقيمية التي أخذوا يشكون منها، وإن يكن بعضها من أنفسهم، هي في الوقت نفسه جزءٌ من شبكة عالمية وتلوث خلقي عالمي، كلاهما مرتبط بالنظام الاقتصادي العالمي الشائع وأخطبوطه الممتد عبر سائر الحدود.
ومن هنا ينبغي أن يوجهوا جهودهم نحو معرفة هذه الأزمة العالمية الخطيرة ونحو فضحها ونحو الكشف عن آثارها في بلادنا، تمهيداً لبناء جهد عربي أصيل مستقل.
وهذا الجهد العربي الأصيل المستقل لن يكون في عزلة عن التجربة العالمية. بل عليه أن يفضحها لينقذ نفسه أولاً وليسهم في تصحيحها بعد ذلك. ومثل هذا المطلب يستلزم توليد رؤية حضارية عربية جديدة، تسقي من أصولها التاريخية، كما تفيد من التجربة العالمية وتتفاعل معها. وقد يكون التعاون والتضامن مع سائر البلدان النامية في هذا السبيل، وهي تكوّن الكثرة الكاثرة من سكان العالم، هو الطريق الناجح من أجل توليد نظام ثقافي عالمي جيد، ومن أجل صياغة نظام ثقافي عربي ذاتي محدث.
إن نقطة الانطلاق عندنا تشخيص الداء من أجل تحديد سبيل الخلاص. والداء كما قلنا ونقول ثاوٍ في أزمة العصر، إلى جانب عوامل أخرى ذاتية لم نقصد إلى الحديث عنها في هذه الكلمة.
ولا يتسع المجال للحديث عن معالم تلك الرؤية الحضارية العربية المرجوة. وحسبنا أن نذكر، كما قلنا في أكثر من موضع(1)، أن أعمدتها الأساسية أربعة في نظرنا: التراث، والواقع العربي الحالي، والواقع العالمي، والنظرة المستقبلية إلى حاجات بناء المجتمع العربي المنشود. فمن تفاعل هذه المقومات الأربعة يمكن توليد رؤيتنا الحضارية الذاتي، غير أن الذي أردنا أن نؤكد عليه هنا هو العنصر الثالث من عناصر هذه الرؤية الموعودة، نعني الواقع العالمي. فكثيراً ما نهمل شأن هذا الواقع وشأن إدراكه حق الإدراك، عندما نتحدث بناء حضارتنا النوعية المتميزة. وكثيراً ما نحسب أن شيئاً لم يكن وأن في وسعنا بيسر أن نعود أدراجنا إلى التراث الماضي وأن نتخذه وحده هادياً لنا في مهمتنا الكبرى هذه. وكثيراً ما نجهل أو نتجاهل أن هذا التراث، ومعه الواقع العربي الحالي، مهدّد تهديداً واقعياً موضوعياً بالأزمة العالمية القائمة. ومن هنا لا بد من توضيح موقفنا منها، بعد التعرف عليها وإدراكها إدراكاً عميقاً، كما لا بد من تحديد الوسائل التي تمكننا من اجتناب مخاطر هذه الأزمة، ومن بناء سياساتنا واستراتيجياتنا المختلفة انطلاقاً من ذلك. فليس من الصحيح أننا نستطيع أن نبني حياتنا الجديدة في معزل عن هذه الأزمة، كما أن من غير الصحيح أن نحسب هذه الأزمة داء لا راد له، نستسلم لنتائجه القاتلة.
إن وضوح الرؤية منطلق أي حلّ. وما أحوجنا إلى مثل هذه الرؤية النيّرة في مرحلة تتكاثر علينا فيها كوارث ومحن نحار أمامها لأننا لا نملك الإدراك الواعي لأسبابها البعيدة. أجل أزمتنا في صلبها أننا بلدان نامية طريقها نحو التقدم ونحو بناء حضارة عربية متينة صامدة أمام التحديات، وتفاجئنا معوقات على الدرب تكاد تذهب بصوابنا، وكثيراً ما نركن بسبب ذلك إلى اليأس والقنوط، دون ان ندرك أن التحديات التي تعصف بنا هي في كثير من جوانبها جزءٌ من بنية عالمية كلية تمدّ جذورها وآفاتها إلى كياننا الذي ما يزال هشاً، ونتيجة لموقفنا الغائم من آثار أزمة عصرية عاتية، ومحصّلة لتقصيرنا عن إدراك أبعادها وعن رسم السبل اللازمة لاجتناب أدوائها. واجتناب أدوائها كما قلنا ونقول، يكون بفهمها وبفهم واقعنا وبتوليد رؤيتنا الثقافية الحضارية الواضحة التي تنعكس معالمها في كل الجنبات والتي نبنيها بجهد دائب موصول، وبعقل علمي حديث.
إن الصراع الحق في بلادنا هو ذلك الصراع القائم بين نموذج حضاري غربي وافد – أصبح بحكم بنيته يفرز قيماً وحيدة، هي قيم النجع والفعالية والكسب والاستهلاك، مهما يكن الثمن، ولم يعد فيه ملجأ أمين ومقام سعيد لمن ينشد القيم الإنسانية الحقة ويتمسك بها – وبين مستقبل عربي لا يمكن أن يبنى من خلال قيم الربح الأعمى والسيطرة الأنانية والركون إلى الدعة، ولا بد من بنائه من قيم خلقية وقومية وإنسانية جادة صبورة تواقة إلى الارتقاء والبناء. وطبيعي، عندما لا تتضح طبيعة الصراع ومعالم الأزمة، أن يسود البحران، وأن تكون السيطرة للقوى التي وقعت في شبكة الأخطبوط العالمي الفاسد المفسد، وأن تتوالى المحن والأزمات، إنفاذاً لرغبات الممسكين بخيوط الشبكة في العالم، وجهلاً أو تجاهلاً من قبل الواقعين في مخالبها. ولن يصحح المسيرة إلا جلاء الأمور، وتعرية الموقف وكشف عوامل الأزمة، ومن ثم تحديد وسائل النجاة منها، وسبل رسم الطريق الأَمَم.
لقد علمنا تاريخ الإنسانية أن المخرج من أزمات الحضارة هو دوماً وأبداً التحرر من العوامل التي تؤدي إلى طغيان القيم الأنانية الشرسة والعود إلى القيم الإنسانية الأصيلة، تقود ولا تقاد، وترقى بالإنسان ولا تهبط به إلى الدرك الأسفل. غير أن مثل هذا العود اليوم جهدٌ شاق يستلزم تحليل طبيعة التطور القائم والقبض على ناصيته وصياغته صياغة جديدة تتفق والأغراض الإنسانية الدائمة. وشعوب العالم جميعها مدعوة إلى القيام بمثل هذا الجهد. والشعب العربي معنيٌّ به خاصة، لأنه يقع في بؤرة المرمى الذي تستهدفه قوى الشر في العالم، ولأنه بحكم تاريخه وتراثه، وبحكم مطالب سعيه إلى بناء سفينة النجاة لا بد أن يكون ذا شأن. والعقل المبدع المحلل عُدةٌ ثمينة لا بد أن يتسلح بها الوجود العربي، وسط هذا الإعصار، لكي يرى الأفق ويسعى إليه ويبني الفجر الثاوي وراءه. أما اليأس فتعبير عن العقم والعجز، وحجة من لا يريد أن يفلح على حد قول الجاحظ.
إن الظواهر الاجتماعية لا تغيَّر بجرة قلم أو ضربة سيف، بل تغير عن طريق معرفة قوانينها وأسبابها وتشكيل الظروف تشكيلاً جديداً يؤدي إلى تغييرها، أي إلى رسم قوانين محدثة تغالبها. وطريقنا العلمي لبناء الكيان العربي والحضارة العلمية لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار أحد العوامل الأساسية المؤثرة في مسيرة التطور في العالم، أنّى كان، نعني الواقع العالمي والأزمة العالمية. غير أن هذا يفترض في الوقت نفسه أن نقوم بتحليل سائر العوامل، وعلى رأسها العوامل الذاتية، التي تحرف المسيرة العربية عن مجراها وتعيق انطلاقتها. ومن خلال التحليل الكامل الشامل للعوامل المؤثرة في الوجود العربي، يمكن أن ينطلق الحل العقلي والعلمي وأن تنطلق معه أساليب العمل وسبل الوصول.
إن المشكلات تبدو ضخمة معجزة، بل تبدو عبئاً غير معقول، حين لا ندرك منها إلا بعض جوانبها الظاهرة. وهي تصبح ملك أيدينا وطوع إرادتنا عندما نعي أبعادها المختلفة، وننظر إليها في إطار «نظام» شامل متكامل من العوامل والعلل. ومن هنا كان العلم قوة، ومن هنا كانت المعرفة سبيل التنبؤ فالقدرة، على حد تعبير «أوغست كونت».
فهل لنا أن نعلم لنتنبأ ولنقدر؟
باريس