الضحك

الضحك
بحث في دلالة المضحك
للفيلسوف الفرنسي
هنري برجسون
تعريب
سامي الدروبي عبد الله عبد الدائم
تصدير الطبعة الثالثة
بقلم الدكتور عبد الله عبد الدائم
بعد نيف وثلث قرن من صدور الترجمة الأولى لكتاب «الضحك» نقدم لقراء العربية طبعة ثالثة جديدة.
وعلى الرغم من تقضي نيف وأربعين سنة على وفاة مؤلف الكتاب، الفيلسوف الفرنسي الكبير هنري برغسون (1858-1941)، وعلى ظهور فلسفات كبرى عديدة مغايرة لفلسفته، يظل فكر هذا الفيلسوف حياً يغذي أفكار مؤيديه ومعارضيه من الفلاسفة من بعده. ولا نغلو إن قلنا إن الفلسفة في العصر الحديث لم تشهد مثله فيلسوفاً وسم بطابعه ومنهجه مسيرة الفكر المعاصر.
ذلك أن برغسون كان ويظل أبداً فيلسوف التجربة، التجربة العلمية والتجربة الداخلية الحية، والمفسر الأكبر لتقدم العلوم البيولوجية، يمتاح من تحليلها رؤية شاملة كاملة للكون والأشياء، ويخرج من تجواله فيها بنظرية واحدة رائدة، تمد خيوطها إلى سائر ميادين المعرفة. إنه الفكر «المتذهب» بكل ما فيه من قوة وضعف، وإنه الحدس الشامل الذي يلفّ الحقائق كلها في إطار رؤية واحدة ووحيدة.
وقد بلغت وحدة التأويل والتفسير عنده حداً يجعله يلقى انعكاساً لحدسه الأصيل ورؤيته الموحدة حتى في جوانب من السلوك الإنساني تندّ في الظاهر عن أن تنخرط في إطار نظريته الشاملة، ومن بينها الضحك والمضحك.
لقد بحث عن القانون الذي يحكم «المضحك» ويفسر دوافع الضحك، فوجده أيضاً – متأثراً بفلسفته الشاملة حول الوثبة الحيوية والتطور الخلاق – ثاوياً في تصلّب ما هو حي، وفي تلبس الحياة بإهاب الجماد. فنحن نضحك عنده، عندما نشهد «صلابة» آلية حيث ينبغي أن توجد مرونة إنسانية يقظة، ونضحك من كل تصلب وجمود في الجسد أو الطبع أو الفكر، ونضحك من أوضاع الجسم الإنساني وحركاته وإشاراته حين يذكرنا هذا الجسم بمجرد آلة تتحرك أو نابض ينطلق، ونضحك عندما نرى «صورة الشكل تعلو عن الجوهر، والنصّ يماحك الروح». لقد حلّل الملهاة والمسخرة وفن المهرج والنكتة وما سوى ذلك من وسائل «صنع المضحك»، فوجد أن هنالك قانوناً يجمع بينها مفسراً ضحكنا، ألا وهو أننا نضحك من كل فعل إنساني يوحي إلينا بأنه شيء، بأنه جماد أو آلة.
ولعل هذه المحاولة هي المحاولة الوحيدة التي جاوزت التفسيرات الشتيتة للمضحك، ولاسيما التفسيرات النفسية والاجتماعية، لتقدم تفسيراً موحداً ميتافيزيقياً وفلسفياً.
على أن موطن القوة في كتاب برغسون هذا خاصة وفي مؤلفاته عامة، أنه – على الرغم من انطلاقه من التجربة ومن التحليل العلمي الدقيق للوقائع ومن معطيات العلوم عامة والبيولوجية خاصة – استطاع أن يعرض نظريته وأفكاره بلغة رائعة مجنحة حية، هي وحدها أصدق تعبير عن منهجه الفلسفي، المنهج الذي يمضي إلى نبع الحياة وحرارة الحدس والإدراك المباشر الحميم للكون والأشياء. لقد كان أسلوبه وحده خير شاهد على التصاق الميتافيزياء بالشعر حتى لتصدق عليه قولة أحد الفلاسفة «الميتافيزيائي شاعر أخطأ موهبته».
بهذا الأسلوب المجنح، الملون كالشفق بألوان الحياة والخيال المبدع، السهل الممتع، المطبوع لا المصنوع، المولِّد والمولَّد، كتب برغسون كتابه الرائع «الضحك».
وكان علينا – وما زلنا بعد في ريعة الشباب طلاباً في جامعة القاهرة – أن ننقل هذا الأسلوب المرهف الشعري إلى قراء العربية، مدركين أن التعبير، ولاسيما عند برغسون لا ينفصل عن التفكير، وأن الإخلاص لأفكار برغسون يستلزم أولاً وقبل كل شيء الإخلاص لأسلوبه.
ويسّر هذه المهمة لنا أننا كنا في تلك الفترة قد امتصصنا أفكار برغسون وفلسفته في سائر ما كتب، وعشنا معها حتى غدت إيانا، وتعاطفنا معها تعاطفاً حياً عميقاً. بل كنا قد ترجمنا قبل ذلك كتابه الشهير «منبعا الأخلاق والدين» الذي ظهرت الطبعة الأولى لترجمتنا العربية له عام 1945(1)، كما كنا جاهدين لترجمة مؤلفاته الأخرى.
بل يسّر هذه المهمة أننا كنا كلانا، شأننا في ذلك شأن كثير من الشبان، في منزلة بين المنزلتين: بين تعشق الأدب والقرزمة فيهما وبين تعشق الفلسفة والميتافيزياء.
على أن الفضل الأكبر في الارتقاء إلى أسلوب برغسون، ونحن نترجمه، يرجع إلى الصديق الغالي المرحوم سامي الدروبي. لقد كان، فطرة وتكويناً، برغسونيّاً، بالطبع، مفنّاً في الأداء والتعبير، قادراً على أن يصوغ العبارة العربية صياغة سهلة ممتعة، ولكنها ممتنعة على سواه. وقد بلغ من التحامه بفكر برغسون وأسلوبه حداً جعله قادراً على أن يبدع صيغاً جديدة وهو يترجم. حتى لقد كان دوري معه في معظم الأحيان دور من يذكّره بالأصل ويرده إلى منطوق النص لا إلى مفهومه وحده.
وإن نفخر، فإنما نفخر بشيء واحد وهو أننا استطعنا – فيما نزعم – أن نثبت أن اللغة العربية قادرة على نقل أدق الأفكار وأرهف الأساليب، وأنها – حين يمتلكها قلم صناع – ترقى في أدائها إلى أفضل ما ترقى إليه لغة أجنبية حديثة. وهذا ما أدركه فقيد الأدب العربي طه حسين حين عرضنا عليه ترجمتنا ليقر طبعها في «دار الكاتب المصري»، وكان إذ ذاك مشرفاً ثقافياً على مطبوعاتها، فإذا به يعجب بها أي إعجاب، بل إذا به يطلب إلينا – بلهجة حاسمة آمرة – ألا نطبع أي كتاب آخر من ترجمتنا أو تأليفنا إلا في تلك الدار. وقد ذكر آنذاك – فيما ذكر – أن مثل هذه الترجمة تشهد على أن من الممكن والواجب «أن نؤدب الفلسفة وأن نفلسف الأدب»، على حد تعبير زميليه أحمد أمين وزكي نجيب محمود.
لقد قرأت الترجمة الإنجليزية لهذا الكتاب – وقد ترجم إلى معظم اللغات الأجنبية – فكانت سعادتي كبيرة حين وجدت أن ترجمتنا العربية – ولا سرف فيما أقول – بذّت تلك الترجمة روعة ونقاء أسلوب، وذلك بفضل ما توفره اللغة العربية من روح أدبية شعرية قلما توفرها سواها.
وحسبنا دليلاً على ذلك أن نذكر جميعاً أشعار مثل ابن الرومي التي يصف فيها المشاهد المضحكة: الأحدب وأبو سليمان المغني، والمغنية ذات الصوت الأجش، وسوى ذلك. بل لعلنا نجد في مثل هذه الأشعار أمثلة حية تصدّق نظرية «برغسون» في الضحك. وهل في وصفه للأحدب إلا ما يشير إلى انقلاب الحي إلى شيء جامد:
قصرت أخادعه وطال قذاله
فكأنه متربّص أن يصفعا
وكأنما صفعت قفاه مرة
وأحس ثانية لها فتجمعا
بل هل في وصفه للمغنية القبيحة الصوت إلا دليل على حلول «الجماد» في صوتها حين يقول فيه:
وإذا رقّقته بالجهد منها
خلت في صوتها شعيراً يجش
ولعل كاتباً عربياً يخرج لنا يوماً ما بكتاب يحلل فيه المضحك عند ابن الرومي في ضوء نظرية «برغسون».
وبعد، أقدم هذه الطبعة الجديدة لكتاب «الضحك»، وقد رحل عنا مترجمها الرائد سامي الدروبي، فأجد في ذلك بعض التخليد لذكراه، كما أجد فيه حرصاً على الاستمرار في إذاعة هذا الكتاب الرائع، الذي غدا – كسائر مؤلفات «برغسون» – مرجعاً لطلاب الفكر والأدب، يشدأه المعنيون بالفلسفة والمعنيون بالأدب والفن على حد سواء ويجدون فيه ما ينعش الخيال ويغني القدرة على الإبداع. ولا عجب فأفكار «برغسون» تظل – كما وصفها «ميرلو بونتي» – «طلاوة عصيّة وحضوراً يندّ عن اللمس».
20 كانون الأول 1982
عبد الله عبد الدائم