السياسات التربوية العربية والاستراتيجيات التربوية العربية

السياسات التربوية العربية
والاستراتيجيات التربوية العربية( )

للدكتور عبد الله عبد الدائم
منظمة اليونسكو – باريس
أولاً: مقدمة:
لا حاجة إلى القول أن السمة المميزة للعصر في شتى مجالات النشاط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في العقود الأخيرة هي (العقلنة)، ونعني بذلك استناد العمل الذي يتم في أي ميدان إلى خطة عقلية مسبقة، تحدد الغايات وترسم الأهداف وتبين سبل الوصول إلى تلك الأهداف، وتمضي في النهاية نحو قلب وسائل الوصول إلى واقع قائم.
وقد اتخذت هذه العقلنة أهمية خاصة بعد ظهور (التخطيط) بأشكاله المختلفة ومن ورائه الدراسات التحسبية (Prospective) وطرائق التنبؤ الفنية (Technological Forecasting) وبعد ولادة التقنيات الحديثة في الإدارة والتنظيم وما وراءها من عقلنة للقرارات، وبعد بزوغ الهندسة الإجرائية (Operational engineering) وطرائق التحليل الإجرائي ((Analysis Operational وما فوقها من أصول منهج تحليل النظم (Systems analysis).
واكتسبت هذه العقلنة شأناً خاصاً، كما نعلم، بعد التغير الكبير الذي حدث في شكل الإنتاج وأساليبه في العقود الأخيرة، نتيجة لظهور الأتوماتية والسبرانية (Cybernétique) وما يتبعها من اعتماد واسع على الحاسبات الإلكترونية. ففي مثل هذا الإطار الجديد للإنتاج الذي أصبحت الآلة الأوتوماتية فيه مركباً مستقلاً للإنتاج، ينتج بحركته الذاتية، يحتل الدور الأول في التنظيم السابق على مرحلة الإنتاج، وما يرسم فيه من برامج هي التي تقود في النهاية عملية الإنتاج التي غدت شبه آلية.
وإذا كانت الآلة الأوتوماتية قد أعفت الإنسان من معظم الأعمال الروتينية التي تستطيع أن تقوم بها الآلة، ومدت بذلك قدرته وطاقته أضعافاً مضاعفة، فإنها في الوقت نفسه أملت عليه مهمات جديدة هي شرط لازم وضروري لتوجيه عمل الآلة ولجعل نتاجها الضخم خصيباً ومثمراً وفعالاً. ونعني بتلك المهمات الجديدة الرسم العقلاني للخطط والبرامج التي تسيّر عمل الآلة وتقوده.
وكلنا يعلم أن طرائق العقلنة هذه، بأشكالها المختلفة، انتقلت شيئا بعد شيء من الميادين الحربية إلى الميادين الصناعية والتجارية والاقتصادية عامة، ثم ما لبثت حتى شملت الميادين الاجتماعية والثقافية. والتربية هي أحد الميادين الهامة التي داخلتها طرائق العقلنة هذه، ولاسيما بعد أن استبان للاقتصاديين وسواهم أن أي خطة عقلانية في أي ميدان من ميادين النشاط الاقتصادي والاجتماعي، لا تثمر ولا تكتمل إلا إذا صحبتها خطة عقلانية لإعداد الثروة البشرية اللازمة لها.
وهكذا عرفت التربية في كثير من بلدان العالم مرحلة جديدة تقوم على الرسم العقلاني المسبق المنظم لغايات التربية وأهدافها ولأساليب السير نحو تلك الأهداف ولخطوات تنفيذها ومراحل الوصول إليها.
ومن هنا ظهرت في عالم التربية، كما في شتى ميادين النشاط الإنساني، علوم وتقنيات هدفها أن ترسم صورة عقلانية متكاملة للمستويات والمراحل التي ينبغي أن يقطعها العمل التربوي، بدءاً من غاياته الكبرى حتى انقلابه إلى واقع قائم.
وهدف هذه العلوم والتقنيات أن تجعل مسيرة التربية في بلد من البلدان مسيرة يسيطر عليها ما يضعه ذلك البلد لنفسه من غايات وأهداف، وأن تمكن المسؤولين فيه من القبض العلمي على ناصية المستقبل، وأن تجعلهم «يصنعون» ذلك المستقبل صناعة علمية منظمة وأن تمكنهم من كتابة (تاريخ الغد) كما يقال.
فمستقبل التربية في بلد من البلدان لم يعد، بعد ولادة هذه العلوم والتقنيات الجديدة، ملك الظروف والصدف أو رهن الأماني والتمنيات المجانية، بل غدا ملك الوسائل العلمية التي تصوغه (وتبتكره) من خلال سلسلة من العمليات العقلانية المنظمة التي ترسم المصير المرجو وترسم سبل الوصول إليه.
وقد يختلف واضعو الخطط العقلانية هذه حول التسميات التي يمكن أن تعطى لمراحل هذا العمل العقلاني في ميدان التربية. وقد يضعون تسميات مختلفة لمراحل أو عمليات واحدة. غير أنهم يتفقون في جوهر الأمر حول طبيعة تلك المراحل وحول تدرجها وتسلسلها.
فقد يحدثنا بعضهم عن غايات كبرى للتربية تشتق من غايات المجتمع الكبرى، تتلوها ترجمة لتلك الغايات إلى أهداف ومهمات، يليها رسم للمرامي المحددة التي تيسر الوصول إلى تلك الأهداف والمهمات، ويعقب هذه في النهاية إنقاذ تلك المرامي وتطبيقها.
وقد يتحدث آخرون عن غايات تربوية كبرى تنبثق منها سياسة تربوية ترسم الدليل العقلي الذي يوصل إلى تلك الغايات، وتترجم بعد ذلك إلى استراتيجيات تبين أساليب ترجمة ذلك الدليل العقلي إلى خطة عمل، ثم تنقلب في النهاية إلى تكتيكات تضع تلك الأساليب موضع التنفيذ. وقد نرى آخرين يجهدون لوضع مخططات بيانية واسعة مفصلة تشير إلى تسلسل العمليات المختلفة التي تنقل الغايات التربوية الكبرى من مستوى المقاصد إلى مستوى الوسائل فمستوى التنفيذ.
ولا نريد ههنا أن ندخل في مناقشات فنية نظرية لهذه الأساليب المختلفة في رسم مسيرة العمل التربوي. ونؤثر في النهاية أن ننطلق من حقيقتين تجمع عليهما شتى الأساليب مهما تكن التسميات:
أولاهما: أن مسيرة العمل التربوي لابد أن تمر بمراحل خمس رئيسية:
-1 مرحلة رسم الغايات الكبرى والمقاصد النهائية (Finalités-goals) للتربية في بلد من البلدان، في علاقتها بغاياته ومقاصده (كأن نقول أن غاية التربية في بلد من البلدان تكوين الإنسان الديمقراطي، أو الإنسان القومي، أو الإنسان المنتج العامل، أو الإنسان القادر على التغيير، أو الإنسان المؤمن، إلى آخر ما هنالك من غايات كبرى تتصل بفلسفة البلد التربوية والاجتماعية).
-2 مرحلة وضع الأهداف المحددة والمهمات (Objectives) التي تؤدي إلى تحقيق تلك الغايات (كأن يقال أن من أهداف التربية أن تخلق المجتمع المتعلم، أو أن تحقق تكافؤ الفرص التعليمية وديمقراطية التعليم، أو أن تعنى عناية خاصة بالتعليم الفني والمهني، أو أن تجعل العمل اليدوي محوراً هاماً من محاور النشاط التربوي، أو أن تعنى بمحو الأمية وتعليم الكبار، أو أن توجه اهتماماً خاصاً لتعليم الريف، أو أن توسع التعليم العالي أكثر من التعليم الثانوي ، أو أن تنظم الإدارة تنظيماً جديداً، الخ….).
-3 مرحلة ترجمة تلك الأهداف المحددة إلى مرام (Targets) أكثر تحديداً، كمية ما أمكن ذلك، تبين سبل الوصول إلى تلك الأهداف وتختار من بين السبل المختلفة المؤدية إلى الهدف الواحد أفضلها وأمثلها من خلال واقع المجتمع وإمكاناته (كأن يقال أن بلداً من البلدان يريد أن يحقق ديمقراطية التعليم عن طريق رفع نسب المقبولين في التعليم في الأرياف بمقدار معين، أو عن طريق زيادة معدلات قبول الإناث في مراحل التعليم المختلفة بنسب معينه محددة؛ أو هو يريد خلق المجتمع المتعلم المعلم عن طريق وسائل محددة تبين ما سيلجأ إليه من أشكال التعليم غير النظامي وما سيقيمه من مراكز التدريب وما سيحقق من دورات إعادة التأهيل وما سيلجأ إليه من وسائل البث الجماعي وما سيشيعه من أساليب التعليم الذاتي؛ أو هو يبتغي التوسع في التعليم العالي عن طريق قبول نسبة معينة من الطلاب الناجحين في شهادة التعليم الثانوي، أو هو ينزع إلى تجديد الإدارة التربوية عن طريق تغير معين يريد أن يحدثه في هيكل الإدارة أو عن طريق إدخال المكننة في الإدارة بشكل معين، أو عن طريق القضاء على مركزية الإدارة وتركيز السلطة الخ…).
-4 رسم وسائل التنفيذ المؤدية إلى بلوغ تلك المرامي المحددة، وذلك عن طريق ترجمة تلك الوسائل إلى مشروعات (Projects) وبرامج محددة (Programs) تبين ما يخصص لها من إمكانات مادية وبشرية وتحدد مراحلها الزمنية، وتحيلها في الجملة إلى عمل فعلي، غير أنه يجرى على الورق (كأن يقال أن تعميم التعليم الابتدائي يقتضي بناء عدد معين من المدارس في مناطق معينة، وإعداد عدد من المعلمين وتوفير قدر من الأموال، أو أن التوسع في تعليم الإناث في المرحلة الابتدائية بنسبة معينة يقتضي قبول نسبة معينة من الإناث في هذه المنطقة أو تلك ويستلزم إعداد المدارس اللازمة لذلك ويتطلب توزيع هذه النسب على السنوات المقبلة على نحو معين).
-5 ترجمة وسائل التنفيذ هذه إلى عمل فعلي، عن طريق العمل الإداري اليومي، مع ما قد يستلزمه ذلك من تعديلات جزئية في ضوء حركة الواقع، ومع ما يتطلبه من تعليمات وتوجيهات مستمرة، ومع ما يفرضه من متابعة وتقويم.
والحقيقة الثانية التي ننطلق منها هي أن هذه المراحل الخمس في مسيرة العمل التربوي مراحل متآخذة إلى حد بعيد، وأن الفصل القاطع بينها غير ممكن وغير جائز وأن بينها تأثراً وتأثيراً متبادلين، بحيث تنعكس إحداها على الأخرى دوماَ وتدعو إلى إعادة النظر فيها.
فالغايات التربوية الكبرى كثيراً ما تلتقي مع الأهداف وكثيراً ما يصعب تمييزها عنها، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار المرحلة التي يوجد فيها البلد. فقد يكون هدف خلق المجتمع المتعلم أو هدف تعميم التعليم الابتدائي في بلد من البلدان في مرحلة معينة غاية كبرى من غايات التربية، ترد حتى في دستوره الأساسي.

والأهداف والمهمات قد تلتقي بدورها مع المرامي المحددة، كأن يكون مرمى تعميم التعليم الابتدائي لدى الإناث هدفاً أساسياً يسعى إليه البلد في ظروف اجتماعية معينة، أو أن مرمى قبول نصف طلاب التعليم العالي في الكليات والمعاهد العلمية والتطبيقية هدفاً يسعى إليه البلد في إطار خطته الاقتصادية.
ووسائل التنفيذ كثيراً ما تكون متضمنة بعضها أو كلها في المرامي. فالمرامي قد تأخذ شكل تنبؤات وإسقاطات عددية (قبول كذا من الطلاب في مرحلة من التعليم خلال عدد معين من السنوات)، وقد تأخذ شكل مشروعات وبرامج (بناء عدد من المدارس مواز لعدد الطلاب المقرر قبولهم، أو إعداد المعلمين الذين يستلزمهم التوسع المقرر الخ….) وكثيراً ما نجد في المرامي رسماً للمراحل الزمنية اللازمة لإنفاذها وعرضها للشرائح السنوية الفصلية التي تقسم إليها تلك المرامي.
ومرحلة التطبيق نفسها كثيراً ما تضطر إلى أن تعيد النظر في الأهداف والمرامي في ضوء الواقع، وكثيرا ما تلجأ إلى وضع مشروعات أو برامج جديدة أغفلها الرسم المسبق لوسائل التنفيذ.
على أن التداخل والتكامل بين هذه المراحل لا ينفي أهمية التمييز بينها ولا ينبغي ألا يبدل جهد منهجي يستهدف وضع الحدود بينها – ضمن ظروف كل بلد – في أوضح صورة ممكنة. بل إن ذلك التداخل الطبيعي بين المراحل سبب آخر في نظرنا ينضاف إلى جملة الأسباب التي تؤكد أهمية اللجوء إليها والدقة في رسمها وجلائها.
تلك مقدمة لابد منها لكي نمضي في بحثنا مطمئنين. وهي تشير في النهاية إلى أن ما دعي في هذا البحث باسم السياسة التربوية هو في واقع الأمر ذلك الخط الذي يمتد بين المرحلة التي دعوناها باسم مرحلة وضع الغايات النهائية والمقاصد وبين مرحلة وضع الأهداف ورسم المهمات. أما ما دعي باسم الاستراتيجيات التربوية فيشمل مرحلة وضع المرامي ومرحلة رسم وسائل التنفيذ.
وبتعبير موجز هدف بحثنا أن يدرس أولاً أساليب صياغة السياسات التربوية العربية أي أساليب وضع الغايات النهائية للتربية والأهداف المحددة للتربية في البلاد العربية وأن يدرس ما وضع من استراتيجيات تربوية في هذه البلدان من أجل الوصول إلى تلك الأهداف والغايات، أي أن يدرس ما دعوناه باسم مرامي التربية وما دعوناه باسم رسم وسائل التنفيذ المؤدية إلى تلك المرامي، وأن ينظر في النهاية في مدى تطبيق تلك المرامي أي في مدى أثرها على المرحلة الأخيرة من مراحل العمل التربوي التي دعوناها باسم مرحلة التنفيذ.
ثانياً: نظره عامة إلى السياسات التربوية والاستراتيجيات في البلاد العربية:
وواضح أن هذا السؤال المطروح أمامنا حول السياسات التربوية والاستراتيجيات التربوية العربية سؤال ينطوي على جانب من التشكيك. فوراءه تشكيك في قيام السياسات التربوية العربية على أسس سليمة وفي استنادها إلى مصادر ومنابع مدروسة. ووراءه تشكيك في طرائق وضع الاستراتيجيات التربوية العربية وتشكيك أكبر في مدى إنفاذها وتأثيرها على مجرى الواقع.
والحق أن النظرة الإجمالية الأولية التي نلقيها على واقع التربية في البلاد العربية من منظار ما فيها من سياسات واستراتيجيات، تقودنا إلى تقرير الأمور التالية:
-1 ضعف الحدود والسدود بين مراحل العملية التربوية في البلاد العربية، من منظار المراحل الخمس التي أشرنا إليها. فمن العسير أن نجد في معظم البلاد العربية حدوداً واضحة مرسومة رسماً عملياً ومنهجياً منظماً بين الغايات والأهداف والمرامي المختلفة. ولئن كانت هذه المراحل – كما سبق أن ذكرنا – متداخلة متكاملة بطبعها، فإن هذا لا يعني ألا نجد فيها حدوداً واضحة، لاسيما أننا أمام تربية تنطلق من واقع بلدان معينة في مرحلة معينة، وتفرض بالتالي أن يبلغ الوضوح في رسم هذه المراحل أقصاه.
-2 ضعف الارتباط في واقع التربية العربية بين هذه المراحل المختلفة من مراحل العملية التربوية. فالغايات – حيث توجد – لا تنعكس دوما في الأهداف، وهذه الأهداف خاصة لا نجد لها ترجمة تلائمها في المرامي، بل قد تكون المرامي نقيضاً لها. والمرامي بدورها قلما ترسم لها وسائل إنفاذها، وقلما تنقلب إلى واقع فعلي. والفرق بين الغايات والأهداف – أي بين السياسات – وبين المرامي وأساليب التنفيذ – أي بين الاستراتيجيات – فرق صارخ في كثير من الأحيان. والطلاق بعد ذلك بين المرامي وأساليب التنفيذ وبين ما ينفذ فعلا طلاق واسع الشقة في معظم الأحوال.
-3 عدم التكامل بين مصادر السياسات التربوية وبين مصادر الاستراتيجيات التربوية في كثير من البلاد العربية. ولئن كان الطبيعي أن تكون الجهات التي تضع السياسات التربوية مختلفة قليلاً أو كثيراً عن الجهات التي تضع الاستراتيجيات التربوية فليس من الطبيعي ألا يقوم أخذ وعطاء بين الطرفين، وألا توجد همزة وصل بين منابع السياسة التربوية وبين منابع الإستراتيجية التربوية.
-4 ومع ذلك حققت التربية العربية بعض التقدم في مجال صياغة السياسات التربوية والاستراتيجيات التربوية في السنوات الأخيرة، بفضل أخذها بأسلوب التخطيط التربوي الذي شاع لديها منذ بداية الستينات خاصة والذي كاد يعم معظمها. ولئن كان مستوى ذلك التخطيط التربوي يختلف من بلد عربي إلى آخر، ولئن كان الأسلوب الذي ينتهجه ذلك التخطيط في معظم البلدان العربية أسلوباً لا يزال بعيداً عن الأسلوب العلمي المطلوب، فإن مجرد الانطلاق في طريق التخطيط قد أملى على هذه البلدان منهجاً جديداً في التفكير والعمل اضطرها إلى إدخال الكثير من العقلانية في أساليب العمل التربوي وإلى مزيد من التأمل التربوي في مراحل سيره.
والحق أن بحثنا في صياغة السياسات التربوية والاستراتيجيات التربوية في البلدان العربية لا بد أن يكون مصدره الأساسي الخطط التربوية التي وضعت في تلك البلدان خلال السنوات الأخيرة. ونحن حيث نبحث عن مصادر تلك السياسات وتلك الاستراتيجيات في إطار تلك الخطط التربوية لا ننسى أن تلك الخطط التربوية ليست دوماً هي السياسة التربوية أو الإستراتيجية التربوية المطبقة فعلاً في البلاد العربية التي تملك مثل تلك الخطط، ولا نغفل الفراق القائم بين ما في الخطط التربوية من أهداف واستراتيجيات وبين ما يطبق منها في الواقع، ولا نهمل بعد ذلك أن ثمة مصادر أخرى لتلك السياسات والاستراتيجيات – وراء الخطط التربوية – من مثل الدساتير وقوانين التربية وسواها.
وهكذا سنمضي في بحثنا عن صياغة السياسات التربوية والاستراتيجيات التربوية مشيرين في الوقت نفسه إلى ما نجده في قوانين التربية ونظمها وإلى ما نجده في الواقع التربوي. وسوف يتناول بحثنا النقاط الآتية:
-1 كيف تصاغ السياسة التربوية في البلدان العربية وما هي الأجهزة التي تضعها وما هي مصادرها الظاهرة والضمنية.
-2 ما مدى الارتباط بين السياسة التربوية في البلدان العربية وبين السياسة العامة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
-3 كيف توضع الاستراتيجيات التربوية في البلدان العربية وما هي الطرائق التي تتبع في إعدادها ومن الذي يشارك في وضعها وما هي أهم ملامحها؟

-4 ما هو مدى تطبيق الاستراتيجيات التربوية الموضوعة في البلدان العربية وما هو مدى الفراق بينها وبين الواقع التربوي الفعلي وما هي أسباب ذلك؟
-5 ما هي وسائل العلاج التي نقترحها في مجال صياغة السياسات التربوية والاستراتيجيات التربوية وفي مجال إنفاذها وتطبيقها؟
ومن العسير أن نتناول هذه النقاط في كل بلد عربي على حده، ولهذا سنلجأ إلى البحث فيها في إطار البلدان العربية مجتمعةً، مع الإشارة دوماً إلى ما بينها من فروق ومع ضرب الأمثلة المستقاة من هذا البلد العربي أو ذاك. فلنمض إذن في بحث كل من هذه النقاط الخمس وفق المنهج الذي رسمناه.
ثالثاً: كيف تصاغ السياسة التربوية في البلدان العربية؟
لا تأخذ صياغة السياسة التربوية شكلاً واحداً في البلدان العربية، ولا تستبين مصادرها ومنابعها بقدر واحد من الوضوح فيها كلها. وفي وسعنا أن نرد مصادر هذه السياسة إلى المظان الآتية:
-1 في بعض البلدان العربية تتخذ السياسة التربوية (الغايات والأهداف كما ذكرنا) شكلاً ضمنياً، يستقي من جملة فلسفة البلد الاجتماعية، وهي بدورها فلسفة ضمنية غير مكتوبة غالباً، وإن تكن مبثوثة في مؤسساته وتكوينه وممارساته العملية.
يصدق هذا الوضع مثلاً على بلد كلبنان، حيث لا نجد سياسة تربوية صريحة مكتوبة وأن تكن أهداف تلك السياسة وغاياتها متعارفاً عليها إلى حد بعيد، تصدر عن النظام الاجتماعي السائد فيه، وتنبثق خاصة في مبادئ الديمقراطية والحرية التي يأخذ بها. فحرية التعليم، وحرية المدارس الخاصة غير الرسمية، وتعدد النظم التعليمية، وانتشار التعليم الطائفي والتعليم الأجنبي، والحرص على تكوين الشخصية الفردية أوّلاً، والعناية بتكوين النخبة، وحرية الأقساط المدرسية، وتنوع أساليب التربية ووسائلها من كتب وطرائق وسواها، الخ… هذه كلها – وكثير سواها – أهداف توجه الواقع التربوي دون أن تكون الإشارة إليها واضحة ودون أن يشملها نص صريح محدد، وإن كنا نجدها شائعة مبثوثة في روح الدستور وفي طبيعة القوانين والنظم التي تقود عملية التربية، وفي الممارسة العملية الفعلية.
هكذا نجد معظم النصوص المتصلة بتنظيم التعليم في لبنان تنصب على بنية التعليم وشروط التعيين لمختلف فئات الموظفين وتحديد الملاكات، ولا تتطرق إلى وظائف هذا التعليم وأهدافه ومسؤولياته الا لماماً. فآخر مرسوم تنظيمي لوزارة التربية الوطنية والفنون الجميلة في لبنان (المرسوم رقم 2869 تاريخ 1959/12/16) لا نجد فيه إلا نصاً عاماً لا يقدم فكرة كاملة عن أهداف هذه الوزارة: «تتولى وزارة التربية الوطنية والفنون الجميلة شؤون التربية والتعليم في فروعه ودرجاته المختلفة والثقافة والفنون الجميلة، والتربية الرياضية والكشفية والآثار«. وإذا ما انتقلنا إلى النصوص الخاصة بالتعليم الرسمي ووظائفه وجدنا هذه النصوص تقتصر على الإشارة إلى أن وزارة التربية الوطنية تتولى: »تأمين التعليم الرسمي المجاني لجميع الراغبين في ذلك، عن طريق فتح المدارس وتأمين الأساتذة والتجهيزات والوسائل التعليمية اللازمة والأبنية المدرسية أحياناً». وإذا نظرنا في التعليم الخاص وجدنا أن المرسوم (رقم 1436 تاريخ 23 آذار 1950) الخاص بتنظيم هذا التعليم، يكتفي بالإشارة إلى حق وزارة التربية الوطنية في مراقبة المدارس الخاصة والوطنية والأجنبية، ويحدد بعض وسائل تلك المراقبة (المحدودة في الواقع).
على أن في وسعنا مع ذلك أن نعثر على بعض المصادر المنظورة وغير المنظورة للسياسة التربوية في لبنان.
أ- فهنالك الفئات الاجتماعية الضاغطة (Pressure groups) وعلى رأسها ممثلو الطوائف الدينية وممثلو الفعاليات الاقتصادية وممثلو البعثات الثقافية الأجنبية. وهؤلاء جميعا يلعبون دوراً بارزاً في توجيه سياسة التربية.
ب- وهنالك بعض اللجان التي تشكل بين الفينة والفينة، من أجل إعادة النظر في مناهج التعليم الخاصة. ومن الأمثلة على ذلك لجنة المناهج التي كونتها الوزارة خلال عامي 1966 و1967 والمؤلفة من رؤساء الجامعات أو ممثلين عنهم وموظفي الفئتين الأولى والثانية في وزارة التربية الوطنية وأربعة ممثلين عن التعليم الخاص.
ج- وقد وضع لبنان في السنوات الأخيرة خطة سداسية للتنمية (1977 – 1972)، وقد خصص الفصل التاسع من هذه الخطة للتربية والتعليم. وفي هذا الفصل نجد إشارة إلى غايات التربية وأهدافها، وإن تكن عامة. فهو يشير إلى أن الهدف الأساسي للتربية تنمية قدرات الفرد وتفتيح شخصيته ورفع مستوى كرامته وحريته ومنحه بعداً إنسانياً حقيقياً عن طريق توفير وسائل المعرفة والثقافة له. وهو يذكر أيضاً أن التربية غاية في ذاتها قبل أن تكون وسيلة لتحسين مستوى الفرد ولرفع مستوى الجميع اقتصادياً واجتماعياً. وهو يقرر أن أحد أهداف التربية توفير إعداد جيد للمواطن. وبعد الحديث عن هذه الغاية الكبرى تطرح الخطة – في الفصل المشار إليه – بعض الأهداف الأخرى للتربية في مختلف مراحل التعليم وتبين أن من أهدافها العامة توفير التعليم الابتدائي وتعميمه وجعل التعليم والمناهج متمشية مع حاجات البلد الاقتصادية، ورفع مستوى التعليم وتحسين وسائلة ومردودة، وتخفيض كلفة التعليم.
د- وفي السنوات الأخيرة تم إنشاء مركز تربوي للبحوث والإنماء في وزارة التربية الوطنية والفنون الجميلة. ورسمت له مهمات تتصل من قريب أو بعيد بوضع أهداف التربية من مثل وضع مشاريع الخطط التربوية، ودراسة المناهج واقتراح تعديلها.
وما نجده في لبنان نجده إلى حد ما في المملكة العربية السعودية، حيث توجه التربية غايات غير مكتوبة في نصوص خاصة، غير أنها متضمنة في فلسفة البلد العامة. وتستند هذه الغايات إلى أسس ثلاثة رئيسية: الحرص على تنشئة الأجيال على مبادئ الدين الإسلامي، والاهتمام باللغة العربية بوصفها لغة القرآن والحضارة الإسلامية وأداة الصحو في وجه الاندثار، وتوفير المستوى المناسب من المعرفة النظرية والعلمية تجاوباً مع مطالب العصر.
أما الأهداف المحددة للتربية فقد حددتها بوضوح الخطة التي وضعت في السنوات الأخيرة، كما سنرى.
-2 وهنالك بلدان عربية تشتق سياستها التربوية من القانون الأساسي الذي ينظم التربية فيها. يصدق هذا على بلد كالأردن الذي يوجه سياسته التربوية قانون التربية والتعليم رقم 16 لعام 1964. وقد أشارت المادة الرابعة من هذا القانون إلى الأهداف العامة للتربية (الغايات كما سميناها) وعلى رأس تلك الأهداف العامة إعداد المواطن الصالح المتمسك بحقوق المواطنة والقادر على تحمل المسؤوليات المترتبة عليها، والذي يحقق المثل الخلقية في جميع ميادين السلوك والذي يملك المبادأة بالعمل والإيجابية في السلوك والقدرة على التعاون المثمر مع الآخرين، ويتبع الأسلوب الديمقراطي في العلاقات الإنسانية. ومن هذه الأهداف العامة فهم البيئة بأنواعها الطبيعية والاجتماعية والثقافية وتنمية المهارات الأساسية ومساعدة الفرد على النمو السوي جسمياً وعقلياً واجتماعياً وعاطفياً ورفع المستوى الصحي الفردي والجماعي ورفع مستوى الترويح الفردي والجماعي ورفع المستوى الاقتصادي الفردي والجامعي وزيادة الدخل القومي.
وواضح أن الأهداف الكبرى التي يشتمل عليها هذا القانون تنتسب إلى الغايات والمقاصد. أما الأهداف والمهمات المحددة، فنجدها في مصادر أخرى عديدة أبرزها الخطط التربوية (سواء منها الخطط التربوية المستقلة، أو الخطط التربوية التي اشتملت عليها مشروعات برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية العامة) كما سنرى فيما بعد.
ولا حاجة إلى القول أن قانون التربية هذا الذي يحكم غايات التربية في الأردن يصدر كسائر القوانين عن الإرادة الملكية استناداً إلى قرار مجلس الأعيان والنواب.
وما يصدق على الأردن يصدق إلى حد كبير على تونس حيث نجد قانوناً للتعليم صدر في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 1958 يحدد أهداف التربية والتعليم.
وعلى رأس تلك الأهداف (الغايات) تزكية الشخصية وتنمية المواهب الطبيعية، والمساهمة في العمل على ترقية العلوم، والمساعدة على تنمية الثقافة القومية، وإعداد الطفل للقيام بدوره كمواطن وكإنسان، وتكوين الإطارات الصالحة الكفيلة بنمو النشاط القومي على مختلف وجوهه. ويضاف إلى هذه الأهداف العامة أهداف تتصل بكل مرحلة من مراحل التعليم (وهي أهداف عامة أيضاً). أما الأهداف التفصيلية المحددة فنجدها أيضا في الخطط التربوية (كما سنرى ذلك).
-3 وبعد الأخذ بسياسة التخطيط التربوي منذ بداية العقد الماضي خاصة بعد أن وضعت كثير من الدول العربية خططاً تربوية تشتمل غالباً على أهداف السياسة التربوية وعلى الاستراتيجيات المحققة لها، أصبحت هذه الخطط التربوية مصدراً هاماً من مصادر السياسة التربوية في البلاد العربية. ولعلها – كما ذكرنا في المقدمة – أهم مصادر السياسة التربوية فيها في السنوات الأخيرة.
ولا يتسع المجال للحديث المفصل عن الخطط التربوية التي وضعت في البلدان العربية، وحسبنا، في حدود أغراض هذا البحث، أن نذكر عدداً منها مركزين خاصة على ما ورد فيها من غايات وأهداف تربوية.
أ- ولا شك أن مصر كانت أسبق الدول العربية للأخذ بأسلوب التخطيط التربوي رغم أن تاريخ هذا التخطيط لا يخلو من مد وجزر.
فبعد إنشاء المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومي (عام 1955) وبعد إنشاء المجلس الدائم لقطاع الخدمات، بدأت مصر في وضع خطط اقتصادية واجتماعية شاملة ترافقها خطط تربوية. وقد بدأ إعداد الخطة الخمسية الأولى للتعليم منذ أواخر عام 1958 ووضعت موضع التنفيذ عام 61/1960 وكان أهم غايات تلك الخطة تكافؤ الفرص التعليمية والتفاعل مع البيئة واحترام العمل والاعتزاز بالوطن العربي والمشاركة في التطور العلمي والتعاون الثقافي مع الدول العربية والدول الأفريقية الآسيوية والدول الصديقة.
وقد ترجمت الخطة الخمسية هذه تلك الغايات الكبرى إلى أهداف (ثم إلى استراتيجيات تتعلق بكل مرحلة من مراحل التعليم لا مجال للتفصيل فيها هنا). ويعنينا أكثر من هذا أن نشير إلى الأسلوب الذي وضعت به هذه الخطة وإلى الأجهزة التي اشتركت في وضعها.
فلقد مر وضع الخطة الخمسية هذه في مراحل خمس: أولها مرحلة الإعداد للخطة عن طريق جمع البيانات والإحصاءات، وقد قام بها المسؤولون بإدارة التخطيط بالوزارة. وثانيها مرحلة الدراسة المتكاملة لكل مرحلة تعليمية، ومناقشة المشكلات التي تواجهها، وقد تمت هذه المرحلة على مستوى وكيل الوزارة المختص بشؤون التخطيط مستعينا بالخبراء العاملين في مكتبه وبلجان متخصصة أحياناً، مع اللجوء عند الاقتضاء إلى مؤتمرات أو ندوات محلية على نطاق الجمهورية. وثالثها مرحلة التنسيق بين مشروعات إدارات التخطيط جميعها، وقد تولت هذه المرحلة إدارة السكرتارية الفنية للتخطيط وجهاز خطة التنمية. ورابعها مرحلة مناقشة الخطة في صورتها المتكاملة، وقد تمت على مستوى وكلاء الوزارة، مع الاستعانة بلجنة وكلاء الوزارة ولجنة الخطة بالوزارة ومديري أجهزة التخطيط والمتابعة. وخامسها مرحلة عرض مشروع الخطة على الهيئة العليا للتخطيط التي تضم إلى جانب المختصين من رجال الوزارة بالتخطيط والمتابعة ممثلين عن الجامعات والكليات التربوية والشؤون الاقتصادية والعمل والرأي العام. ويعقب ذلك كله عرض مشروع الخطة – بعد استكمال مناقشته وتعديله – على هيئة الفتوى والتشريع لوضع التشريعات اللازمة في صورتها القانونية. ويبقى بعد هذا أن يرسل مشروع الخطة من وزارة التربية إلى وزارة التخطيط للمواءمة بينها وبين أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وواضح من هذا العرض أن السياسة التعليمية (ومن بعدها الإستراتيجية التي ترسم لها وسائل التنفيذ) أصبحت – بعد ولادة التخطيط التربوي – من صنع أجهزة مختصة تصوغها وفق أساليب التخطيط العلمية ، وتشرك فيها أكبر عدد ممكن من المعنيين بشؤون التربية، كما تربط بينها وبين أهداف السياسة الاقتصادية والاجتماعية العامة.
وبعد الخطة الخمسية الأولى هذه (التي شملت الأعوام61/1960 – 65/1964) وضعت الخطة التربوية الخمسية الثانية (66/1965 – 70/1969) ولا نجد في هذه الخطة غايات وأهدافاً جديدة، ذلك أنها اعتبرت أن أهداف التربية قد رسمتها الخطة الخمسية الأولى، ولهذا ركزت جهدها على المرامي الكمية خاصة (أي على استراتيجية التربية) مفيدة من أخطاء السابقة وصعوباتها.
غير أن الخطة الخمسية الثانية لم يقدر لها أن توضع موضع التنفيذ، بسبب الظروف الاستثنائية التي مرت بها مصر (لا سيما بعد حرب عام 1967) ولأسباب أخرى، ومن هنا شرعت أجهزة التخطيط في إعداد خطة ثالثة سبعية (66/1965 – 72/1971) بديلة عن تلك الخطة الخمسية الثانية. وقد تضمنت هذه الخطة أهدافاً جديدة من منظار الربط الأوثق بين خطة التربية وحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ذلك أن هذه الخطة قد استندت بوجه خاص إلى تقرير لجنة وزارية باسم اللجنة الوزارية للقوى العاملة كان هدفها تحقيق ربط أوثق بين الخطة التربوية وحاجات العمالة. ومن هنا برزت أهداف جديدة في هذه الخطة السبعية ركزت خاصة على التوسع في التعليم الفني والمهني.
وقد وضعت هذه الخطة السبعية موضع التنفيذ إلى حد كبير في السنتين الأوليين. غير أن العمل بها توقف – لأسباب اقتصادية طارئة أيضا – ووضعت أجهزة الوزارة مشروعاً معدلاً للسنوات الثلاث التالية في كافة القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، ومن بينها قطاع التعليم. وقد سمي هذا المشروع المعدل في مجال التربية باسم خطة الإنجاز الثلاثية (68/1967 – 70/1969) ولا نجد في هذه الخطة الجديدة أهدافاً تربوية خاصة وجلُّ ما فيها تعديل لمرامي التربية وإستراتيجيتها تعديلاً يتفق مع الظروف الاقتصادية الصعبة.
وفي السنوات الأخيرة وضعت خطة عشرية للتربية (73/1972 – 82/1980) برزت فيها أهداف جديدة، أهمها الهدف الديمقراطي الاجتماعي (تحقيق ديمقراطية التربية)، والهدف الاقتصادي (إسهام التربية في تحقيق التنمية الشاملة)، والهدف الفني (رفع مستوى التعليم وتحسين نوعيته)، والهدف الإنساني (بناء المواطن الصالح القادر على مواجهة مشكلات بيئته)، وهدف تعليم الكبار، وهدف الاهتمام بالبحوث التربوية، وهدف تطوير الامتحانات، وهدف التنسيق بين الأجهزة المعنية بالتعليم في مستوياته المختلفة وهدف تحقيق الكفاية والرخاء. وقد صحبت هذه الأهداف العامة (الغايات) أهداف محددة مستندة إليها.
إن هذا العرض السريع لتطور التخطيط التربوي في مصر يشير بوضوح إلى التغير الذي طرأ على السياسة التعليمية ومصادرها بعد ظهور التخطيط، ويبين خاصة أن منابع هذه السياسة أصبحت ممتدة عبر شبكة واسعة من الأجهزة، انطلاقاً من مبادئ التخطيط التربوي وتقنياته.
ب- وقد حذت سورية حذو مصر في هذا المجال لا سيما أنها كانت تؤلف وإياها منذ عام 1958 جمهورية عربية متحدة. وهكذا رافقت الخطة الخمسية الأولى للتربية في مصر خطة خمسية أولى للتربية في سورية (61/1960 – 65/1964). غير أن هذه الخطة لم تشتمل على تحديد واضح للغايات والأهداف، واقتصرت في الجملة على المرامي الكمية (الإستراتيجية الكمية). وقد كان أبرز أهدافها التوسع في مراحل التعليم عامة وفي التعليم الفني والإعدادي والثانوي خاصة، والتوسع في إعداد المعلمين والعناية بالصحة والطلبة، والاهتمام بمشروعات الأبنية المدرسية.
وبعد تسلم حزب البعث العربي الاشتراكي للحكم في سورية منذ آذار عام 1963 أخذت غايات التربية وأهدافها تتخذ شكلاً جديداً في ضوء الأهداف العامة للحكم.
وقد ظهرت هذه الأهداف والغايات واضحة في الخطة التربوية الخمسية الثانية (71/1970- 67/1966). وجاءت مرتبطة بأهداف الدولة الاقتصادية والاجتماعية وأبرز تلك الغايات – كما وردت في الخطة العامة للدولة – توجيه المجتمع العربي السوري علميا نحو مجتمع اشتراكي متطور ، وتحقيق تنمية مدعمة ذاتية مستمرة، والنهوض بالريف ورفع مستواه الاقتصادي والاجتماعي، والمساهمة في تحقيق التكامل الاقتصادي بين الأقطار العربية كخطوة أولى نحو تحقيق الوحدة العربية؛ على أن هذه الغايات العامة التي وردت في خطة الدولة الشاملة لم تترجم بشكل واضح إلى غايات تربوية واكتفت الخطة الخمسية الثانية بتحديد المرامي الكمية بوجه عام.
ومن هنا جاءت الخطة الخمسية الثالثة للتربية (72/1971 – 76/1975) أوضح تعبيراً عن غايات التربية وأهدافها وأكثر ارتباطاً بالغايات العامة لخطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة. وأبرز ما ورد فيها من أهداف تنفيذ إلزامية التعليم الابتدائي وإيجاد اختصاصات جديدة في المرحلة الثانوية تغطي حاجات خطط التنمية وإعادة النظر في مناهج دور المعلمين وتكوين جهاز تعليمي مؤهل وإعادة النظر في المناهج عامة بحيث تساير الوضع الجديد للمجتمع والأخذ في طريق التحول الاشتراكي.
وطبيعي أن تؤدي ولادة التخطيط التربوي إلى ظهور مصادر جديدة للسياسة التربوية تتجلى في أجهزة التخطيط التربوي وفي أجهزة التخطيط العام للدولة. وأبرز هذه المصادر مديرية التخطيط والإحصاء في وزارة التربية وهيئة تخطيط الدولة.

ورغم هذا كله، لا نستطيع القول بأن سياسة التربية أصبحت أكثر وضوحاً نتيجة لهذه الخطط التربوية ولهذا الأسلوب الجديد في رسم مسيرة التربية. فالخطط التربوية كما رأينا اهتمت بالمرامي الكمية (الاستراتيجيات الكمية) أكثر من اهتمامها بالأهداف والغايات التربوية الثاوية وراءها. وسنرى فيما بعد كيف أن هذه الثغرة تقوم بسدها أجهزه أخرى في الدولة، على رأسها مكتب الشؤون التربوية في القيادة القطرية للحزب.
ج- وقد أخذت ليبيا بمبدأ التخطيط الشامل على النطاق القومي وبمبدأ التخطيط التربوي كجزء لا يتجزأ منه. وأنشأت للتخطيط التربوي إدارة عامة وأوكلت إليها اختصاصات واسعة تتصل بوضع الخطط التربوية.
وقد وضعت في هذا الإطار – بعد الثورة – خطة شاملة للتنمية للسنوات العشر (73/1972 – 82/1981)، تشتمل على خطة تربوية عشرية تعنى برفع مستوى التعليم وتكييفه مع حاجات البلد من القوى البشرية، وتهتم بخلق جيل مؤمن بدينه متمسك بتراثه القومي العربي. وقد انبثقت من هذه الخطة العشرية الطويلة خطة قصيرة المدى مدتها ثلاث سنوات تتفق أهدافها مع أهداف الخطة العشرية.
وقد برزت في تلك الخطة العشرية للتعليم (وفي الخطة الثلاثية بالتالي) غايات وأهداف تربوية هامة تنبئ عن عناية جدية بوضع أسس سليمة للسياسة التربوية. من هذه الأهداف تكوين المواطن العربي المؤمن بقوميته والواعي لأهمية العمل والإنتاج. ومنها الاستمرار في نشر التعليم عامة والتعليم الإلزامي خاصة. ومنها تحقيق التناسق بين قاعدة الهرم التعليمي وتدرجاته حتى قمته. ومنها حفز البنت على التعليم وتوفير الإمكانات اللازمة لذلك. ومنها الاهتمام بالتعليم الفني وإدخال خدمات التوجيه التعليمي والتقريب بين التعليم الديني والتعليم المدني والتوسع في إنشاء معاهد المعلمين وتوفير إدارة تعليمية على مستوى عال من الكفاءة على جميع المستويات والتوسع في القبول بكليات الجامعة وعلى الأخص الكليات العملية والاستمرار في مشروعات تعليم الكبار ومحو الأمية.
د- ومن العسير أن نحيط بسائر الخطط التربوية في البلاد العربية وبالسياسة التربوية الواردة فيها وبأساليب رسم تلك السياسة. وحسبنا في هذا المجال إشارات عابرة سريعة:
– عرفت الأردن خططاً تربوية أشبه بالمشروعات، وذلك في إطار برنامج السنوات الخمس للتنمية الاقتصادية (1967 – 1962) ثم في إطار برنامج السنوات السبع للتنمية الاقتصادية (71/1970 – 65/1964) الذي حل محله. وقد وردت في تلك الخطط بعض الأهداف التربوية العامة (أو الاقتراحات كما سيمت في الخطة). من مثل إعادة النظر في مناهج التدريس والكتب المدرسية ولوازم التعليم، أو إتاحة فرص إضافية للتعليم المهني أو إتاحة فرص إضافية لتدريب المعلمين أو إنشاء أبنية جديدة للمدارس عوضاً عن الأبنية المستأجرة غير الملائمة أو إعادة دراسة نظام وزارة التربية والتعليم أو توسيع تسهيلات التعليم الابتدائي لاستيعاب 21 ألف طالبة إضافية أو غير تلك المقترحات العامة.
كذلك عرفت الأردن خطة تربوية مستقلة هي الخطة الثلاثية للتعليم أعدتها مديرية خاصة أحدثت بوزارة التربية هي مديرية التخطيط وفيها نقرأ بعض الأهداف التربوية العامة والمحددة.
– وضعت الكويت خطة التنمية الاقتصادية الاجتماعية الخمسية الأولى (68/1967- 72/1971) التي تشتمل على فصل خاص بالتربية يشير إلى السياسة التربوية المعتمدة فيها، في ضوء تنمية القوى البشرية والنهوض بها ثقافياً وتكنولوجياً ومهنياً. وتوضح هذه السياسة التربوية أهم الأهداف المرجوة، وعلى رأسها إعادة النظر في المناهج وتبني طرق تدريس أفضل وتخفيض نسبة التلاميذ لكل معلم ووضع برنامج فعال للإرشاد والتوعية ووضع برامج خاصة للطلاب المتفوقين وللطلاب المتخلفين وتوسيع تعليم البنات وتنويعه ورفع مستوى التعليم الفني والمهني ورفع مستوى اللغات الأجنبية. وقد فصلت الخطة هذه الأهداف تفصيلاً يفصح عن وضوح في السياسة التربوية وعن عناية خاصة برسم غايات التعليم وأهدافه.
– وفي اليمن الجنوبية وضعت خطة ثلاثية للتنمية الاقتصادية (72/1971 – 74/1973) تستهدف إقامة مجتمع اشتراكي يقوم على اقتصاد إنتاجي مستقل. وقد اشتملت تلك الخطة على خطة للتربية، نجد فيها توضيحاً للسياسة التربوية التي ينبغي أن تحقق تلك الأهداف العامة، كما نجد فيها خاصة تحديداً لإستراتيجية التربية التي تؤدي إلى توفير التعليم العام ونشره. ويستطيع المرء أن يستخرج من هذه الإستراتيجية نفسها كثيراً من الأهداف الأساسية التي وراءها، والتي يشار إليها صراحة في بعض الأحيان.

– وفي اليمن الشمالية وضعت خطة خمسية للتعليم (71/1970 – 75/1974) تستهدف التوسع في التعليم الابتدائي وفي معاهد المعلمين والتعليم الفني، تولت وضعها المديرية العامة للتخطيط بوزارة التربية والتعليم. وقد عدلت هذه الخطة في ضوء مقررات الحلقة الدراسية التي عقدت بصنعاء (في 14/8 كانون الأول/ ديسمبر 1970م) والتي تعد مصدراً هاماً من مصادر السياسة التربوية في اليمن الشمالية كما سنرى فيما بعد.
– وفي السودان بعد وضع الخطة العشرية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية (60/1961–71/1970) التي تشتمل على خطة تربوية، وبعد تغير السلم التعليمي ورسم السياسة التعليمية الجديدة بدءا من عام 71/1970، وضعت الخطة الخمسية للتنمية التربوية (70/1969-74/1973)، وأهم أهدافها تعميم التعليم في المرحلة الأولى خلال ثلاثين عاماً للبنين وخلال أربعين عاماً للبنات، والتوسع في التعليم الثانوي وتنويعه، والعناية بتعليم الكبار وبمحو الأمية الوظيفية، وتقوية الجهاز الإداري.
– وفي العراق قامت عناية خاصة بالتخطيط التربوي إلى جانب التخطيط الشامل، ووضعت خطة خمسية للتنمية (71/1970 – 75/1974) (تلت الخطة الخمسية السابقة 1969/1965)، اشتملت على أهداف عامة، كما اشتملت على أهداف قطاعية بينها أهداف قطاع التربية.
وبالإضافة إلى ذلك وضعت خطة لتعميم التعليم الابتدائي وأخرى للتعليم المتوسط كما وضعت خطة للتعليم العالي.
على أن أهداف السياسة التربوية في العراق نجدها في حصاد بعض الحلقات التي عقدت فيه، وعلى رأسها الحلقة الدراسية لتخطيط السياسة التربوية (نيسان/أبريل 1970). كما سنرى فيما بعد.
– وفي المملكة العربية السعودية تتضمن خطة التنمية التي وضعتها الهيئة المركزية للتخطيط (عام 1970م و1390هـ) بالتعاون مع هيئة دولية، فصلاً خاصاً – هو الفصل الرابع – عن مصادر القوة البشرية والتنمية، وفصلا آخر – هو الفصل الخامس – عن التدريب والتعليم المهني والشؤون الثقافية. وقد وردت في هذا الفصل الأخير أهداف عامة لبرامج التعليم والشئون الثقافية، أهمها استمرار التوسع لإتاحة الفرص للتعليم على جميع المستويات، وتدعيم أجهزة التعليم على كافة المستويات، والارتقاء بنوعية التعليم وفعاليته، وبذل الجهود المركزة، للحفاظ على المواقع ذات الأهمية التاريخية الخاصة، وإدخال التحسينات على نوعية شبكات الإذاعة والتلفزيون. واشتملت الخطة التربوية بعد ذلك على مرام كمية خاصة بكل مرحلة من مراحل التعليم وبكل نوع من أنواعه.
– وفي تونس وضع التخطيط العشري للتعليم (60/1959 – 69/1968) الذي استهدف تعميم التعليم الابتدائي وجعله إلزامياً، والتوسع في التعليم الثانوي. ثم وضع التخطيط الرباعي للتنمية (1973-1970) وفيه باب خاص بالتربية والإعداد استهدف خاصة ربط التربية بحاجات القوى العاملة.
– وفي الجزائر وضع أيضاً مخطط رباعي شامل للدولة (1973-1970) يشتمل على قسم خاص بسياسة رفع المستوى الثقافي والفني ويستهدف فيما يستهدف تحقيق ديمقراطية التعليم وسد الحاجة الاجتماعية إلى التعليم من جهة، وتحقيق الربط بين التعليم وحاجات سوق العمل وسد حاجات الاقتصاد من جهة ثانية. وقد رافق هذا المخطط الشامل المخطط الرباعي لتنمية التربية وقد ضم هذا المخطط أهدافاً تربوية هامة أبرزها ثلاثة: التوسع في التعليم توسعاً يتفق مع الموارد المتاحة والبدء بتجديد التربية وإنشاء أدوات مراقبة وضبط وتقويم ومراجعة. وقد فصل المخطط هذه الأهداف تبعا لكل مرحلة من مراحل التعليم. وقد بني هذا المخطط على أساس تصورات بعيدة المدى لمدة عشر سنوات.
– وفي المغرب وضعت الخطة الخمسية العامة (1972/1968)، واشتملت على قسم خاص بالأهداف الاجتماعية للخطة، ومن بينها أهداف التربية والتقدم الثقافي. وقد استهدفت هذه الخطة بوجه خاص الربط بين التربية وبين حاجات القوى العاملة. ولهذا وضعتها لجنة التربية بوصفها فرعاً من لجنة الموارد البشرية.
-4 وبالإضافة إلى المصادر السابقة للسياسة التربوية التي أشرنا إليها (المصادر الضمنية – قوانين التربية – الخطط التربوية) نجد في كثير من البلاد العربية مصدراً آخر هاماً، ينضاف إلى المصادر السابقة غالباً، ويكون عنصراً أساسياً من عناصر توجيه السياسة التربوية، ونعني به حصاد المؤتمرات والحلقات العربية والدولية والمحلية، وما ينبثق عنها من أسس السياسة التربوية. فقد عرفت البلدان العربية في إطار التعاون العربي والدولي وفي إطار جهودها المحلية – مؤتمرات وحلقات عديدة اتخذت توصيات هامة تتصل بالسياسة التربوية وبسواها، كان لها دور كبير في توجيه نظمها التعليمية، ولا مجال لتعداد هذه المؤتمرات والحلقات جميعها. وحسبنا أن نشير إلى أبرزها:
أ- في مجال المؤتمرات العربية (التي تنظمها جامعة الدول العربية أو التي تقوم بمبادرة من بعض البلدان العربية) عرفت البلاد العربية العديد من اللقاءات أبرزها:
– المؤتمرات الثقافية السبع التي نظمتها الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية.
– المؤتمرات والاجتماعات التي تنظمها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بعد نشأتها.
– المؤتمرات الأربعة لوزراء التربية العرب ولا سيما المؤتمر الثاني المنعقد في بغداد (1964/12/29-22) والمؤتمر الرابع الذي عقد في صنعاء في كانون الأول ديسمبر عام 1972م والذي شكل لجنة لوضع إستراتيجية لتطوير التربية في البلاد العربية.
– اتفاق الوحدة الثقافية بين مصر وسورية والأردن عام 1957.
– المؤتمر الثاني لخبراء التربية والتعليم لدول ميثاق طرابلس الذي انعقد في الخرطوم في كانون الأول/ ديسمبر 1970.
ب- وفي مجال المؤتمرات العربية التي تنظمها هيئات دولية أبرزها اليونسكو، عرفت البلاد العربية عدداً من الاجتماعات الهامة أهمها:
– المؤتمر الأول لوزراء التربية والتعليم العرب الذي انعقد في بيروت في شهر شباط/ فبراير 1960م.
– المؤتمر الثاني لوزراء التربية والتعليم والوزراء المسؤولين عن التخطيط الاقتصادي في الدول العربية الذي انعقد في طرابلس (ليبيا) في نيسان/ أبريل 1966.
– المؤتمر الثالث لوزراء التربة والوزراء المسؤولين عن التخطيط الاقتصادي في البلاد العربية، الذي انعقد في مراكش في شهر كانون الثاني/ فبراير 1970.
ج- وفي مجال المؤتمرات الدولية التي شاركت فيها البلدان العربية وتأثرت سياستها بما اتخذ فيها من توصيات، لابد أن نذكر المؤتمرين التاليين:
– مؤتمر أديس أبابا للدول الأفريقية (في أيار/ مايو 1961).
– المؤتمر الدولي العام للتخطيط التربوي الذي عقد بمركز اليونسكو بباريس في شهر تموز/ يوليو 1968.
ولا حاجة إلى القول أن هذه المؤتمرات واللقاءات جميعها اتخذت توصيات وقرارات هامة تتصل بالسياسة التربوية وبسواها، كان لها أثر كبير في مجرى التربية في البلاد العربية.
ويكفي لتبين ذلك أن نرجع إلى التقرير النهائي الذي صدر عن مؤتمر طرابلس وإلى التقرير النهائي الذي صدر عن مؤتمر مراكش وإلى التقرير النهائي الذي صدر عن مؤتمر صنعاء.
-5 وإلى جانب هذه المؤتمرات العربية والدولية عقدت مؤتمرات وحلقات عربية أو دولية أو وطنية خاصة بكل قطر على حدة، كان لها أكبر الأثر في توجيه سياسته التعليمية. وإن نذكر نذكر الحلقات والمؤتمرات الآتية:
أ- في العراق عقدت ببغداد الحلقة الدراسية الأولى لتخطيط السياسة التربوية (في نيسان/ أبريل عام 1970) وصدرت عنها مقررات هامة تتصل بالفلسفة التربية وأهدافها وبالسياسة التربوية وبتنظيم وزارة التربية. وقد شارك في هذه الحلقة عدد من المربين من مختلف البلدان العربية(1).
ب- في اليمن الشمالية عقدت بصنعاء حلقة دراسية لتخطيط السياسة التعليمية (من 8 إلى 14 كانون الأول/ ديسمبر 1970) شارك فيها عدد من المربين العرب وصدر عنها تقرير نهائي هام حدد أسس السياسة التربوية في الجمهورية العربية اليمنية(2).
ج- في سورية عقد المؤتمر التربوي لتطوير التعليم العالي والجامعي بدمشق (من 31-28 آب/ أغسطس 1971) وعقد مؤخراً مؤتمر تطوير التعليم ما قبل الجامعي بدمشق أيضا (من 8آب/ أغسطس 1974) وقد شارك في كلا المؤتمرين مربون من البلاد العربية، وصدرت عنهما توصيات هامة تتصل بأسس السياسة التربوية.
د- في العراق عقد المؤتمر الأول للتعليم الجامعي في العراق (في أيار/ مايو 1971)، وشارك فيه خبراء من البلاد العربية والأجنبية، ووضع أسساً هامة لسياسة التعليم العالي. وعقدت في مبنى المركز الإقليمي ببيروت حلقة تخطيط التعليم العالي في العراق (من 14-8 تشرين الثاني/ فبراير 1970) وشارك فيها بالإضافة إلى المسؤولين عن التعليم العالي بالعراق، عدد من المربين العرب والأجانب وقد وضعت الحلقة تقريراً هاماً يتضمن أسساً جديدة لتنظيم التعليم العالي(3).
وبالإضافة إلى هذه المؤتمرات والحلقات، شارك المركز الإقليمي لتخطيط التربية وإدارتها في البلاد العربية سابقاً ومكتب اليونسكو الإقليمي للتربية في البلاد العربية حالياً في كثير من الاجتماعات واللقاءات التي ساعدت على تطوير سياسة التربية في العديد من البلاد العربية، من مثل اليمن الجنوبية وقطر والبحرين واتحاد الإمارات العربية وسواها، فضلاً عن الدورات التدريبية المحلية العديدة التي عقدها في كثير من البلاد العربية والتي أسهمت في توضيح أسس السياسة التعليمية فيها.
-6 وبعد هذا كله، نجد في بعض البلاد العربية مصدراً آخر يوجه السياسة التربوية بشكل مباشر أو غير مباشر، هو توجيهات الأحزاب الحاكمة فيها:
هذا ما نجده في سورية مثلا. فهنالك دستور حزب البعث العربي الاشتراكي الذي أشار إلى سياسة الحزب التربوية وذكر أنها ترمي إلى خلق جيل عربي جديد مؤمن بوحدة أمته وخلود رسالته، مزود بالتفكير العلمي، طليق من قيود الخرافات والتقاليد الرجعية، مشبع بروح التفاؤل والنضال والتضامن مع مواطنيه في سبيل تحقيق الانقلاب العربي الشامل وتقدم الإنسانية.
وهنالك أهداف التربية التي حددها الحزب عام 1966م والتي أشار فيها إلى الأساس الفردي الاجتماعي والأساس الإنساني للسياسة التربوية. وهنالك مقررات المؤتمر القطرية المتعددة للحزب وقد تضمنت جميعها أسساً هامة للسياسة التربوية في سورية وقد كانت حصيلة ذلك كله الأهداف العامة للتربية في سورية التي وضعت مؤخراً بالتعاون بين وزارة التربية (مديرية البحوث) وبين القيادة القطرية للحزب (مكتب الشؤون التربوية) وقد اشتملت على غايات هامة للتربية، كما اشتملت على أهداف التربية في كل مرحلة من مراحل التعليم وفي كل نوع من أنواعه. وتقع هذه الأهداف في حوالي (17) صفحة، ولا مجال لذكرها هنا.
ومثل هذا نجده في العراق، حيث يشترك مكتب الشؤون التربوية في القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي في رسم السياسة التربوية وتوجيهها.
وفي مصر يشارك الاتحاد الاشتراكي في رسم السياسة التربوية، وكذلك في ليبيا. وفي الجزائر وفي تونس تشارك قيادات الحزبين الحاكمين في كل منهما في وضع أسس السياسة التعليمية.

هذه نظرة سريعة إلى مصادر السياسة التربوية في البلاد العربية، ما ظهر منه وما بطن.
وهي تبين لنا في الجملة تنوع هذه المصادر واختلافها من بلد عربي إلى آخر، كما تبين في الوقت نفسه كيف تبُنى السياسة التربوية في البلدان العربية من مصادر مشتركة في كثير من الأحيان نتيجة للمؤتمرات والحلقات العربية والدولية ونتيجة لسياسة التعاون التربوي والثقافي فيما بينها.
على أن أبرز ما تكشف عنه هذه النظرة السريعة تعدد مصادر السياسة التربوية في البلد الواحد تعدداً لا يتم دوماً في إطار متكامل، وقيام سياسات تربوية متعاقبة في البلد الواحد لا يربط بينها في الغالب خيط ناظم ولا يضمها جهد متراكم. هذا بالإضافة إلى عدم وضوح السياسة التربوية رغم هذه الجهود كلها في معظم البلدان العربية، وإلى اكتفائها في كثير من الحالات بإشارات عامة غامضة إلى غايات التربية وأهدافها. وسنرى في الجزء التالي ضعف الارتباط بين هذه السياسات التربوية في كثير من الأحيان وبين السياسة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية العامة.
رابعاً: مدى الارتباط بين السياسة التربوية في البلدان العربية وبين السياسة العامة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية:
بعد هذه الجولة المفصلة بعض الشيء على مصادر السياسة التربوية في البلاد العربية لن نحتاج إلى وقفة طويلة عند موضوع الارتباط بين هذه السياسة التربوية وبين السياسة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية العامة.
والحق أن محاولة الربط بين السياسة التربوية والسياسة العامة للبلاد، قد أخذت في الظهور بوجه خاص بعد ولادة التخطيط التربوي في العالم وفي البلاد العربية. فغني عن البيان أن من أهم منطلقات التخطيط التربوي تحقيق التكامل بين رأس المال البشري ورأس المال المادي، وضمان تفاعل مشترك بين تنمية الاقتصاد وبين تنمية التربية، ثم بين التنمية الاجتماعية عامة وبين التنمية التربوية.
ومن هنا ولد التخطيط التربوي في معظم بلدان العالم من قلب التخطيط الاقتصادي وجاء ليكمل أغراضه بالإضافة إلى أغراض التربية الخاصة. وهذا ما حدث أيضاً في البلدان العربية فقد ظهر التخطيط التربوي فيها في إطار التخطيط الاقتصادي والاجتماعي العام وكانت كثير من الخطط التربوية كما رأينا جزءاً من الخطط الاقتصادية والاجتماعية العامة وباباً من أبوابها (كما في الأردن والسعودية والسودان والمغرب والجزائر وليبيا).
ومع ذلك هيهات أن يعني هذا الترابط الظاهري بين الخطط التربوية والخطط الاقتصادية والاجتماعية العامة وجود ترابط عضوي حقيقي بين الجانبين. ذلك أن أهم أدوات الربط الفعلي بين التنمية التربوية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية أن توجد خطة للقوى البشرية وأن تحدد حاجات التوسّع التربوي في ضوء حاجات القوى العاملة لا نقع عليه في معظم البلدان العربية وهو إن وجد لا يتكامل غالباً مع الخطط التربوية(1).
على أننا إذا أردنا أن نظل في حدود السياسات التربوية (دون أن نعرج على الاستراتيجيات) وإذا اكتفينا بظواهر الأمور، استطعنا أن نجد في السياسات التربوية العربية التي أشرنا إليها في الجزء السابق ما يشير إلى الاهتمام بهذا الربط بين الأهداف التربوية والأهداف الاقتصادية والاجتماعية العامة. ولا يتسع المجال لاستعراض النصوص التي أثبتت هذه العلاقة.
غير أن ما هو أهم من النصوص مدى الارتباط بين الأجهزة التي تضع السياسة التربوية والأجهزة التي تضع السياسة الاقتصادية والاجتماعية العامة. وفي هذا أيضاً لا نرى دوما ما يشير إلى التكامل والتآزر بين هذين الجانبين. وقلما نجد في الهيئات التي ترسم السياسة التربوية ممثلين عن الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى. والارتباط الذي نجده بين الطرفين يتجلى تبعاً للبلدان العربية المختلفة في المظاهر التالية:
-1 في عدد قليل من البلدان العربية مجالس أو لجان عليا التخطيط التربوي تضم المعنيين بالتربية إلى جانب ممثلي النشاطات الاقتصادية والاجتماعية ذات العلاقة بالتربية.
-2 في بلدان عربية أخرى نجد في مراحل إعداد الخطة وفي الجهات التي تتولى كل مرحلة ما يشير إلى التعاون بين وزارة التربية وجهات التخطيط الفني وبين وزارة التخطيط أو ما يماثلها. هذا ما نجده في مصر (كما رأينا) وهذا ما نجده في سورية وفي المغرب وفي ليبيا.
-3 في بعض البلدان العربية نجد في صلب وزارة التخطيط أو ما يماثلها مكتباً خاصاً بالتخطيط التربوي أو بالتخطيط الاجتماعي جملة (ومنه التخطيط التربوي) يفترض أن يعنى بتحقيق الربط بين السياسة التربوية والسياسة العامة للدولة. على أن الواقع يبين أن عناية مثل هذا المكتب منصبة على ما يتصل بالإستراتيجية التربوية وقلما يعنى برسم السياسة التربوية، بحكم تكوينه والسلطات المحدودة التي يملكها.
-4 في بلدان عربية أخرى يتولى تحديد السياسة التربوية والسياسة العامة معا من حيث المبدأ الحزب الحاكم. ويفترض في هذه الحال أن تأتي الساسة التربوية وثيقة الارتباط بالسياسة الاقتصادية والاجتماعية. ومع ذلك، وحتى في مثل هذه الأحوال، لا نجد دوماً ربطاً وثيقاً بين الجانبين.
-5 قد يقوم الجهاز المسؤول عن التخطيط التربوي في بعض البلدان العربية بمحاولة الربط بين السياسة التربوية والسياسة العامة، في ضوء الدراسات التي يقوم بها والبيانات والإحصاءات التي يجمعها. ومع ذلك فمثل هذا الجهاز غالباً يتكون من فنيين لا يملكون سلطة القرار السياسي، ومن هنا تبقى دراساتهم ومقترحاتهم بعيدة عن أن تلقى القبول اللازم.
وفي الجملة ما تزال أدوات الربط بين السياسة التربوية والسياسة العامة للدولة مفككة إلى حد بعيد. ونستطيع أن نقول أن السياسة التربوية تسير في معزل عن السياسة الاقتصادية والاجتماعية العامة في معظم الدول العربية. والذي يحدد هذه السياسات التربوية في الغالب أمران:
أولهما عامل الاستمرار، استمرار السياسات التربوية الموروثة، مع تعديلات جزئية لا تتناسب مع ما تستلزمه الحاجات المستجدة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية من تغيرات تربوية حاسمة وجذرية.
وثانيهما عامل الطلب الاجتماعي على التعليم وضرورة الاستجابة لرغبات المواطنين، بصرف النظر عن حاجات البلد الحقيقية.
ولعل أبرز مظاهر الانفصام بين السياسة التربوية والسياسة الاقتصادية والاجتماعية ما نجده في الواقع من بطالة واسعة لدى المثقفين (ولدى أصحاب الاختصاصات التقنية أنفسهم)، وما نجده في الوقت نفسه من حاجة المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية إلى الكثير من الاختصاصات التي لا يوفرها نظام التربية السائد.
ومن مظاهر هذا الانفصام البارزة بين الجانبين، ضعف العناية بتعليم الكبار وضعف العناية بشتى أشكال التربية غير النظامية، رغم الدور الكبير الذي تلعبه في التنمية الاقتصادية والاجتماعية السريعة.
ومن مظاهر هذا الانفصام كذلك ضعف الكفاية الداخلية للنظم التربوية، وارتفاع معدلات الرسوب والتسرب، وارتفاع كلفة التعليم بالتالي، في بلدان تنفق الكثير من المال على التربية (ما يقرب من ربع ميزانية الدولة وما يداني %6 من الدخل القومي) دون أن تحصد إلا النزر اليسير من المتخرجين ودون أن تستوعب في المدارس إلا جانباً محدوداً ممن هم في سن التعليم (في المتوسط – في جملة البلدان العربية – % 60 من الأطفال في المرحلة الابتدائية و% 20 في المرحلة الثانوية و% 4 في التعليم العالي و% 3 في رياض الأطفال).
خامساً: كيف توضع الاستراتيجيات التربوية في البلاد العربية؟
ولندع السياسات التربوية، لنلتفت إلى الاستراتيجيات التربوية. وها هنا قد تكون الصورة أوضح لأن الذي يحدد هذه الاستراتيجيات في معظم البلدان العربية – بعد نشأة التخطيط التربوي – هو الخطط التربوية (بصرف النظر مؤقتاً عن مدى تطبيق هذه الخطط).
بل لعل هذه الخطط التربوية – كما سبق أن رأينا – تعنى بالاستراتيجيات أكثر من عنايتها بالسياسات. ومن هنا تبرز منذ البداية نقطة ضعف أساسية في هذه الخطط. إذ لا يمكن أن تأخذ الاستراتيجيات معناها الحقيقي إلا من خلال السياسات المرسومة. وهذه الاستراتيجيات هي بالتعريف – كما سبق أن ذكرنا في المقدمة – وسائل تحقيق السياسات، أي المرامي المحددة التي تؤدي إلى الأهداف والغايات.
والحق أن التخطيط التربوي كما ظهر في البلاد العربية بدا في كثير من الأحيان وكأنه بديل عن السياسات التربوية أو مهرب منها. ولقد حسبت كثير من البلدان العربية أن التخطيط التربوي تمرين رياضي كمي يعني مجرد القيام بالإحصاءات والإسقاطات وإجراء الحسابات والنبوءات، وتحديد الأرقام التي ستدخل التعليم في سنوات مقبلة، وأنه بذلك قادر على أن يخط للبلد نظامه التربوي المنشود. ونسيت هذه البلدان أن الحسابات والمعدلات والإسقاطات لا تأخذ معناها إلا من خلال أهداف تربوية سليمة ومرام تربوية تعبر عنها بعد ذلك، تبنى على دراسة دقيقة للواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وتستند إلى تصورات واضحة لمستقبل البلد.
ولا نغلو إذا قلنا أن الأرقام والمعدلات التي تحددها معظم الخطط التربوية – والتي تمثل في الغالب استراتيجيات تربوية – تبنى في غالبها استناداً إلى الأرقام والمعدلات المادية والمالية المتوافرة.
يضاف إلى هذا كله أننا قلما نقع في هذه الاستراتيجيات التي ترسمها الخطط التربوية على إستراتيجية للكيف والنوع، وأنها تقتصر في الغالب على المرامي الكمية، حتى ليصح أن نسمي معظمها ميزانيات لخمس سنوات أو عشر، بدلاً من أن تكون خططاً تربوية حقيقية بالمعنى العلمي لهذه الكلمة.
من هنا نرى ذلك التغير في الخطط التربوية الموضوعة وذلك المد والجزر. ومن هنا يستبين عند التطبيق أن كثيرا من الاستراتيجيات التي رسمت فيها غير قابلة للتنفيذ، أو هي تؤدي عند إنفاذها إلى تضخيم مشكلات التربية ومشكلات التنمية العامة بدلاً من أن تساعد على حلها. ولا غرابة بعد ذلك أن نرى فراقاً كبيراً في كثير من الأحيان بين الخطط التي توضع على الورق وبين التطبيق الفعلي والممارسة التربوية الواقعية، حتى ليصح أن نعتبر بعض الخطط التربوية (وغير التربوية) في بعض البلدان العربية مجرد كتاب مرجع، أكثر من كونها ناظماً فعلياً للعمل التربوي وموجهاً له.
وجوهر الأمر أن أسلوب وضع الاستراتيجيات التربوية في معظم البلدان العربية – أي أسلوب وضع الخطط التربوية – لا يسير وفق المنهج العلمي السليم:
-1 فمن المفروض أن تكون هنالك أولاً هيئة عليا (أياً كانت التسمية التي تعطي لها) تتولى ترجمة السياسة العامة للبلد (الأهداف والغايات) إلى إستراتيجية محددة أي إلى مرام. ومثل هذه الهيئة العليا لا بد أن تمثل فيها قطاعات النشاط المختلفة المرتبطة بالتربية.
-2 والقرارات التي تتخذها مثل هذه الهيئة لا بد أن تستند إلى دراسات علمية واسعة حول الواقع الاقتصادي والاجتماعي والتربوي القائم، ولا بد أن تستند كذلك إلى دراسات تحسبية تظهر تطلعات البلد المستقبلية في شتى المجالات.
-3 وأهم ما ينبغي أن تأخذه مثل هذه الهيئة بعين الاعتبار، وهي تضع إستراتيجية التربية، حاجات القوى العاملة في السنوات المقبلة في ضوء الأهداف الاقتصادية والاجتماعية. ومثل هذه الدراسة لحاجات القوى العاملة قلما تتوافر – كما سبق أن ذكرنا – في معظم البلدان العربية.
-4 أما الجهاز الفني الذي يترجم إستراتيجية الخطة إلى أرقام وإسقاطات ونبوءات فمهمته تأتي بعد إنجاز مهمة مثل هذه الهيئة العليا. في حين أن الواقع يشير إلى أن الجهاز الفني كثيراً ما يتولى بنفسه تحديد مرامي الإستراتيجية. وفي أحوال أخرى تتولى هذه المهمة لجان مؤقتة تنظر في هذه المرامي نظرة عجلى، دون أن تكون بين يديها البيانات والوثائق اللازمة لتحديدها تحديداً علمياً صحيحاً.
-5 لا تشترك الجهات التي تمتلك سلطة القرار السياسي اشتراكاً فعلياً في وضع الإستراتيجية التربوية في كثير من البلاد العربية، وإن هي اشتركت لا تجد أمامها من البيانات والدراسات ما يجعلها تتخذ قراراتها عن بينة ومعرفة بالواقع. فمجالس التخطيط أو مجالس الوزراء أو الهيئات العليا للتخطيط أو قيادات الأحزاب الحاكمة لا تشارك مشاركة فعلية في رسم الإستراتيجية التربوية ولا تتخذ قراراتها حولها استناداً إلى دراسات علمية مسبقة واضحة تيسر اتخاذ القرار وتجعله عقلانياً.
ولا حاجة إلى القول أن الفارق الأساسي الذي يفرق بين التخطيط التربوي السليم وبين سواه من أساليب رسم الإستراتيجية التربوية، هو كون مرامي التربية في التخطيط التربوي السليم لا توضع على أساس الاجتهاد الشخصي أو التقديرات المجانية أو مجرد مستلزمات الزيادة السكانية أو حدود الإمكانات المادية والمالية، بل تبنى أولا وقبل كل شيء استناداً إلى دراسة الواقع الاقتصادي والاجتماعي القائم والحاجات الاقتصادية والاجتماعية المقبلة والمرجوة.
وأهم من هذا كله أن الإستراتيجية التربوية السليمة – في إطار الواقع العربي وفي إطار الاتجاهات التربوية الحديثة – هي التي تأخذ بعين الاعتبار عند تحديدها للمرامي إمكانات التجديد التربوي وضرورته، وتدرك أن كثيراً من المرامي ينبغي أن تحدد في ضوء التغيرات النوعية – التي قد تكون جذرية – التي ينبغي إدخالها على بنية التربية ومراحلها وطرائقها وتقنياتها. فتجديد النظام التربوي مطلب لازم، لا سيما في مثل البلدان العربية التي تعاني من تقصير الموارد المالية والمادية والبشرية المتاحة عن حاجات التربية المتزايدة ومطالبها المتكاثرة. ولا بد بالتالي أن يرتبط تحديد المرامي ارتباطاً عضوياً بما ينبغي أن يدخله النظام التربوي من تجديد وتغير. لا بد، بتعبير آخر، أن تكون إستراتيجية الكم جزءاً لا يتجزأ من إستراتيجية الكيف. وهذا ما لا نجده في التربية العربية إلا نادراً.
وهل نحن في حاجة إلى أن نذكر أن أهم هدف من أهداف الإستراتيجية التربوية في البلاد العربية هو العمل على رسم أساليب تربوية جديدة ونظم تربوية جديدة تؤدي إلى تعليم أكبر عدد ممكن من الناس تعليماً أفضل بنفس القدر من الإمكانات المتاحة.
هل نحن في حاجة إلى القول أن تعميم التعليم الابتدائي وتحقيق توسيع كاف في التعليم الثانوي والعالي مطالب – على تواضعها – لا يمكن بلوغها إلا بعد سنوات طويلة بالأساليب التقليدية والاستراتيجيات التربوية المألوفة؟
ولقد كان بودنا أن نقوم بتحليل مفصل بعض الشيء للإستراتيجية التربوية القائمة في كل بلد عربي ولأساليب إعدادها وللمشتركين في وضعها، وذلك لكي نتبين بوضوح الملامح الهامة التي أشرنا إليها. غير أن مثل هذا المطلب يحتاج إلى سفر برأسه. ولهذا تكتفي ببعض الأمثلة القليلة نستقيها من هنا وهناك متوخين أن تتمثل فيها تجارب متنوعة:
-1في مصر وضعت الخطة العشرية للتربية (82/1981-74/1973) إستراتيجية واضحة، مستندة إلى الأهداف العامة (السياسة العامة) التي وردت في الخطة والتي سبق أن أشرنا إليها بإيجاز في الجزء الثاني من هذا البحث.
ومن مزايا هذه الإستراتيجية أنها اشتملت على مرام كمية وأخرى نوعية، وإن لم تحقق التكامل بينها.
غير أن الملاحظ أن هذه الإستراتيجية (التي دعيت في الخطة باسم الأسس والاتجاهات التي بنيت عليها) هي في منزلة وسط بين السياسة الإستراتيجية. فأحياناً نجد فيها رسماً لمرامي محددة كمية غالباً، وأحياناً أخرى نجد أنفسنا أمام عودة الأهداف العامة.
وأهم عناصر هذه الإستراتيجية العناصر التالية:
أ- تعميم الإلزام خلال عشر سنوات، عن طريق توفير مكان في التعليم الابتدائي لجميع الأطفال الذين هم في سن الإلزام (من 8-6 سنوات)، وتوصيل التعليم الابتدائي إلى كل مكان ولا سيما الجهات النائية، والقضاء على ظاهرة التسرب.
ب- التمهيد لرفع سن الإلزام إلى 15 سنة وذلك بالتوسع في المرحلة الإعدادية.
ج- التوسع في المرحلة الثانوية عن طريق توفير الأماكن في المدرس الثانوية العامة والفنية لكي تستوعب % 65 من الناجحين في الشهادة الإعدادية.
د- تحسين نوعية التعليم (وهذا مرمى كيفي ). وقد اكتفت الخطة بالإشارة إلى العوامل التي تؤدي إلى ذلك: صلاحية المبنى المدرسي – استيفاء التجهيزات – المحافظة على الكثافة المعقولة – كفاءة الإدارة المدرسية – تحسين طرائق إعداد المعلم وتدريبه – المراجعة المستمرة للمناهج والكتب المدرسية – الاستفادة من الدراسات المقارنة في تطوير المناهج.
هـ- تطوير التعليم العام بحيث تداخله روح المدرسة الفنية وتتأكد فيه ممارسة العمل اليدوي.
و- دعم التعليم الفني من أجل الملاءمة بينه وبين احتياجات المجتمع،من أجل تلبية مطالب التنمية الشاملة اقتصادياً واجتماعياً ومن أجل تزويد القوات المسلحة باحتياجاتها من الفنيين في مرحلة تطويرها. وهذا الهدف العام لا ترسم له الخطة إستراتيجية واضحة وتكتفي بإبراز الاتجاهات التي يحسن الأخذ بها.
ز- توفير المباني المدرسية الصالحة عن طريق استغلال المبنى المدرسي في التعليم الابتدائي والثانوي بما لا يزيد على فترتين على أكثر تقدير، وعن طريق وضع خطة طويلة الأجل للمباني في المحافظات، والتركيز في إنشاء المباني المدرسية على الأحياء السكنية الجديدة ومناطق التجمع السكاني.
ح- العناية بإعداد المعلمين وتدريبهم. وههنا أيضا اكتفت الخطة برسم بعض الاتجاهات: التعاون مع وزارة التعليم العالي للتوسع في إنشاء كليات التربية الإقليمية – تطوير نظم إعداد المعلم بدور المعلمين والمعلمات (مع الإشارة إلى أهم معالم ذلك التطوير) – رصد الميزانية الكافية لبرامج إعداد المعلمين وتربيتهم وتوجيه التدريب توجيهاً علمياً مثمراً – توفير الرعاية الواجبة للمعلمين.
وواضح من هذا العرض السريع أن ما ورد في الخطة العشرية لا يكوّن إستراتيجية كاملة واضحة، وأنه في منزلة بين المنزلتين، بين السياسة التربوية والإستراتيجية التربوية.
-2 وفي سورية بنيت الخطة التربوية الخمسية الثالثة (1975/1971) على أساس تصورات طويلة الأجل (1975/1971) وهذه خطوة جيدة. على أننا لا نجد هنا أيضاً إستراتيجية واضحة، بل نجد مزيجاً من الأهداف والمرامي. وأهم ما ورد في الخطة في هذا المجال يتلخص فيما يأتي:
أ- البدء بتوحيد مرحلتي التعليم الابتدائي والإعدادي في مرحلة واحدة تدعى مرحلة التعليم الأساسي.
ب- إيجاد اختصاصات جديدة في المرحلة الثانوية تغطي احتياجات خطة التنمية.
ج- تنفيذ الإلزامية في السنوات الست الأولى من مرحلة التعليم الأساسي في بعض المناطق من مختلف المحافظات.
د- تكوين جهاز تعليمي كامل ومؤهل لمرحلة السنوات الست الأولى وللمرحلة الثانوية العامة والفنية.
هـ- إعادة النظر في المناهج بحيث تساير الوضع الجديد للمجتمع وتدعم التطور الاقتصادي للقطر وتواكب العلم والمعرفة في العالم وتؤكد على الناحية العلمية.
و- رفع مستوى التعليم الفني عن طريق تطوير الأجهزة والآلات بما يتلاءم مع تطورها في العالم وعن طريق تطوير التمارين بحيث تحقق تدريباً إنتاجياً.
ز- ألا يتجاوز عدد الطلاب في الصف الواحد (40) طالباً في مرحلة السنوات الست الأولى، و(45) طالباً في مرحلة السنوات الثلاث الأخيرة من مرحلة التعليم الإلزامي، و(45) طالباً في التعليم الثانوي العام و(40) طالباً في التعليم الثانوي الفني.
ح- الوصول إلى قبول %80 ممن هم في سن الإلزام في مرحلة التعليم الأساسي ورفع نسبة المقبولين في التعليم الثانوي الفني في مقابل خفض نسبة المقبولين في التعليم الثانوي العام.
ط- تشييد عدد من الأبنية المدرسية (تحدده الخطة).
ي- تحسين الخدمات الصحية والاجتماعية المساعدة والعناية بالنشاطات المختلفة من رياضية وعسكرية وسواها.
ك- تخفيض أسعار الكتب المدرسية ورفع مستواها.
ل- توسيع مدى استعمال الأساليب التربوية الحديثة.
م- توسيع ملاك الجهاز الإداري كي يساير نمو الجهاز التعليمي.
-3 وفي العراق نقع على الإستراتيجية التربوية في مقررات الحلقة الدراسية لتخطيط السياسة التربوية، وهي القرارات التي سبق أن أشرنا إليها. وفيها نجد أن واضعي هذه المقررات (وهم عدد من المربين العرب مع عدد من المسؤولين عن التربية في العراق) بدأوا أولاً بوضع الفلسفة والأهداف التربوية انطلاقاً من الفلسفة الاجتماعية العامة للبلد. ثم حاولوا ترجمة الأهداف التربوية العامة إلى أهداف سلوكية. وبعد ذلك رسموا ما يسمونه بالسياسة التربوية في كل مرحلة من مراحل التعليم. وهذه السياسة التربوية التي رسموها تشتمل على الكثير من المرامي المحددة التي يمكن أن توضع في باب الإستراتيجية (من مثل تنفيذ التعليم الابتدائي قبل عام 1980، وإنشاء صفوف للأطفال الذين يتقدمون للقبول في المدارس الابتدائية ممن تزيد أعمارهم عن السن المحددة (15-10 سنة) وجعل طلاب الصف الواحد في المدرسة الابتدائية عشرين طالباً على الأقل، الخ …).
أما الإستراتيجية التربوية المفصلة فنقع عليها في الخطة التي وضعت لتعميم التعليم الابتدائي وفي خطة التعليم المتوسط. ولا يتسع المجال لعرض هاتين الخطتين الهامتين، اللتين بنيتا على أسس تخطيط علمية. وحسبنا أن نشير إلى أن خطة تعميم التعليم الابتدائي رسمت المبادئ الرئيسية التالية(1):
أ- إيصال الخدمة التعليمية إلى أكبر قدر من الأطفال في سن التعليم الابتدائي ليتحقق هدف تعميم التعليم عام 81/1980 قدر الإمكان.
ب- العمل على تطوير التعليم الابتدائي في رفع كفاءته الكمية والنوعية بحيث يصبح بالفعل قوة تسهم في التطور الاقتصادي والاجتماعي للبلاد.
ج- مراعاة مبدأ الاقتصاد في الإنفاق على التعليم والعمل على خفض كلفته.
د- مراعاة الواقعية في تحديد الأهداف والاعتماد على الإحصاءات والمعلومات الدقيقة وحساب الإمكانات الاقتصادية والظروف الحضارية والاجتماعية للبلاد.
هـ- النظر إلى التعليم الابتدائي ونموه في إطار الصورة العامة للتعليم ككل.
وانطلاقاً من هذه المبادئ الرئيسية رسم مشروع الخطة المرامي الواضحة لها (مما لا مجال لذكره مفصلاً هنا).
-4 وفي ليبيا تم وضع الخطة العشرية للتربية 73/1972 – 82-1981 (والخطة الثلاثية القصيرة التي انبثقت عنها) استناداً إلى أهداف خطة التنمية العامة. وتضمنت الخطة إستراتيجية واضحة تحدد مراميها في ضوء الأهداف المرسومة. وأهم جوانب تلك الإستراتيجية ما يأتي:
أ- نشر التعليم الإلزامي (الابتدائي والإعدادي) وتوصيله إلى القرى والجهات النائية (مع تقدير عدد الفصول المطلوبة لذلك).
ب- العمل على تصحيح الهرم التعليمي وإيجاد نوع من التنسيق بين قاعدته وتدرجاته حتى قمته (مع تحديد كمي لهذا الهدف).
ج- حفز البنت على التعليم (مع تحديد المرمى الكمي الذي يراد الوصول إليه).
د- قبول % 22.5 من الناجحين في الشهادة الإعدادية في التعليم الفني.
هـ- التوسع في إنشاء معاهد المعلمين (مع تقدير عدد الطلاب الذين سيلتحقون بها).
غير أننا لا نجد في الخطة إستراتيجية واضحة للجوانب الكيفية (النوعية) وإن كنا نجد فيها اتجاهات عامة بهذا الشأن، علماً بأن الإستراتيجية في هذا المجال النوعي توجهها في الغالب مقررات ميثاق طرابلس.
-5 وفي السعودية نجد في الفصل الخامس من خطة التنمية التي وضعت عام 1390هـ – 1970م – التي سبق أن أشرنا إليها – تحديداً مركزاً للإستراتيجية التربوية فيه رسم لمرام كمية واضحة فيما يتصل بالتعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي وتدريب المعلمين والتعليم المهني، وفيما يتصل بالتعليم العالي والتعليم الديني والبرامج الدراسية الخاصة. ففي هذه المجالات جميعها نجد مرامي كمية واضحة محددة، غير أن الجوانب الكيفية (النوعية) في هذه الإستراتيجية ضامرة إلى حد بعيد.
على أن أهم ما في خطة التنمية المشار إليها أنها تشتمل على فصل خاص (الفصل الرابع) بمصادر القوى البشرية والتنمية، وفيه نجد ربطاً بين حاجات القوى العاملة وبين الإستراتيجية التربوية، ورسماً للأساليب التي تؤدي إلى التغلب على العجز في إعداد القوى البشرية المطلوبة ورفع مستوياتها التربوية المنشودة. وهذه المحاولة جديرة بالاهتمام.
-6 أما المخطط الرباعي للتربية في الجزائر (1973-1970) فمن مزاياه أنه يربط بين محاولات التجديد في التربية وبين الإستراتيجية التربوية المنشودة. ومن هنا يبدأ بتحديد المرامي النوعية للتربية، ثم ينتقل إلى تحديد المرامي الكمية. وأهم ما ورد فيه في مجال المرامي الكمية:
أ- قبول ما يقارب من % 75 من فئة السن (13-6) في التعليم الابتدائي.
ب- تحقيق توازن بين أنواع التعليم الثانوي المختلفة، بحيث لا يمثل التعليم الثانوي العام أكثر من %50 من مجموع الطلاب، مع رفع نسبة المقبولين في التعليم الثانوي عامة.
ج- السير نحو تحقيق ديمقراطية التعليم العالي (مع تحديد المرامي الكمية اللازمة لذلك).
د- العناية بأشكال التربية غير النظامية كمحو الأمية وتعليم الكبار والتعليم في مراكز التدريب (مع تحديد المرامي الكمية لهذا كله).
وتتضمن الخطة كما ذكرنا مرامي كيفية محددة هدفها تجديد النظام التربوي وتركز على مطلبين أساسيين: إعادة النظر في الخارطة المدرسية، وتحسين مردود النظام التربوي (كفايته الداخلية) عن طريق القضاء على الهدر الناجم عن التسرب والرسوب.
وبالإضافة إلى هذا كله تضع الخطة تصورات بعيدة المدى لمدة عشر سنوات (1980-1970) تحدد فيها أهداف التربية وإستراتيجيتها على المدى الطويل، وههنا نجد تحديداً واضحاً لمختلف المرامي الكمية والكيفية التي تنشدها التربية خلال تلك الحقبة الزمنية.
هذه نظرة منقوصة إلى بعض ما نجده من استراتيجيات تربوية في البلاد العربية. ومنها نرى أن هذه الاستراتيجيات تتفاوت في وضوحها وفي مدى تحديدها للمرامي الكمية، وأنها كثيراً ما تكون في منزلة وسطى بين الاستراتيجيات والسياسات التربوية وأن المرامي الكيفية (النوعية) فيها ضامرة غالباً وغير محدّدة تحديداً واضحاً إجرائياً في معظم الأحيان.
على أن أهم ثغرة في هذه الاستراتيجيات تتجلى في أسلوب وضعها وصياغتها، كما سبق أن ذكرنا. إذ قلما تشارك في وضع هذه الاستراتيجيات الجهات القادرة على رسمها رسماً يعبر عن واقع البلد الاقتصادي والاجتماعي والتربوي وعن حاجاته المقبلة. وقليلاً ما تستند المرامي فيها إلى دراسات وبيانات كافية تمكن من اختيارها اختيارياً عقلانياً.
ومع ذلك لا بد أن نقرر أن كثيراً من البلاد العربية خطت في السنوات الأخيرة خطوات إيجابية في هذا السبيل، وأن الأسلوب العلمي في رسم الإستراتيجية بدأ ينبث في حياتها التربوية. يضاف إلى هذا أن مظاهر الربط بين التجديد التربوي وبين الإستراتيجية العلمية أخذت تتضح بعض الشيء، وإن تكن ما تزال مقصرة عن الشأو المطلوب.
سادساً: ما هو مدى تطبيق الاستراتيجيات التربوية الموضوعة في البلاد العربية؟
لا غرابة بعد الذي قلناه في الجزء السابق أن الفراق كبير بين الاستراتيجيات التربوية العربية – وبالتالي الخطط التربية – التي توضع وبين ما يطبق منها بالفعل.
-1 فهنالك خطط تربوية (وبالتالي استراتيجيات تربوية) توضع ثم يعدل عنها بعد حين ويستبدل بها غيرها. وقد أشرنا إلى ذلك حين تحدثنا عن الخطط التربوية المتتالية في مصر، وحين تحدثنا عن الخطط التربوية في الأردن (التي قامت في إطار برامج السنوات الخمس للتنمية الاقتصادية الذي استبدل به بعد حين برنامج السنوات السبع).
-2 وهنالك خطط تربوية توضع، ثم تصبح بعد حين نسياً منسياً، وتسير التربية الفعلية في معزل عنها. ولا حاجة إلى ذكر أمثلة على ذلك فهي عديدة.
-3 وهنالك خطط تربوية تطبق مبدئياً، غير أن مراميها تخضع أثناء التطبيق، لا لتعديلات جزئية (وهذا طبيعي)، بل لتغييرات جذرية لا تبقي منها ولا تذر. ونظرة الى ما طبق من الخطة الخمسية الأولى في مصر أو من الخطة الخمسية الأولى والثانية في سورية أو إلى ما طبق من الخطة التربوية في السودان أو في اليمن الشمالية أو سواها تكفي لتبين ذلك.
أما أسباب ذلك فعديدة، أشرنا إلى بعضها في الجزء السابق، وأهمها:
-1 عدم استناد الإستراتيجية التي ترسمها الخطط التربوية في معظم الأحيان إلى دراسة كافية للواقع الاقتصادي والاجتماعي والتربوي القائم، كما سبق أن ذكرنا.
-2 طموح كثير من المرامي التي تحددها الاستراتيجيات التربوية (الخطط التربوية)، حتى ليخيل للمرء أنها وضعت مغالية عن قصد، وأن التخطيط التربوي في عرف بعض الفنيين أو المسؤولين عن التربية هو فن المستحيل لا فن الممكن والواجب.
-3 عدم إشراك الإداريين الذين يمارسون السياسة التربوية الفعلية، في وضع استراتيجية التربية وقيام انفصال في كثير من الأحيان بين الجهاز الإداري المنفذ وبين الجهاز الفني المخطط، بل قيام صراع بينهما في بعض الحالات.
-4 ضعف جهاز المتابعة أو غيابه، وضعف الإشراف بالتالي على تنفيذ الاستراتيجية التربوية المرسومة.
-5 تبدل الاستراتيجيات التربوية الموضوعة تبدلاً مرتجلاً بسبب تبدل الحكومات أو تبدل النظم السياسية.
-6 عدم اشتمال الاستراتيجيات التربوية (الخطط التربوية) التي توضع، على رسم مسبق لوسائل التنفيذ، والاقتصار على ترجمتها في معظم الأحيان إلى أرقام وأعداد وتنبؤات كمية، بدلاً من قلبها إلى برامج ومشروعات محددة ترسم وسائل تنفيذها والمراحل الزمنية اللازمة لذلك. ويلحق بذلك ما نجده من ضيق الفترة الزمنية غالباً بين الانتهاء من وضع الخطة التربوية وبين البدء بإنفاذها، مما يحول دون إعداد العدة اللازمة للتنفيذ، ويقود – في السنوات الأولى من الخطة على الأقل – إلى ابتعاد المرامي المتحققة عن المرامي الموضوعة.
-7 عدم استناد الإستراتيجية التربوية التي توضع للمدى القصير أو المتوسط (من ثلاث إلى سبع سنوات) إلى إستراتيجية على المدى الطويل، تحدد مرامي التربية لفترة بعيدة نسبياً (حوالي خمس عشرة سنة). والعمل التربوي – كما نعلم – عمل طويل المدى بعيد الآثار، وينبغي أن ترسم مراميه وتحدد على المدى الطويل أولاً، ثم على المدى المتوسط أو القصير بعد ذلك. على أننا بدأنا نجد في بعض البلدان العربية بعض العناية بالتصورات البعيدة المدى، كما نجد في الخطة الخمسية الثالثة في سورية وكما نجد في المخطط الرباعي للتربية في الجزائر.
-8 وأخيراً – وليس آخراً – وضع مرام كمية يصعب تحقيقها دون إحداث تغير جذري في الأساليب والوسائل التربوية التقليدية المتبعة. أي عدم الربط – كما سبق أن ذكرنا – بين إستراتيجية الكم وإستراتيجية الكيف.
سابعاً: وسائل العلاج:
ليس هدفنا في هذا المجال أن نرسم تصوراً كاملاً لما ينبغي أن يتبع في وضع السياسات التربوية العربية. ونكتفي بأن نشير إلى أهم ما ينبغي أن توجه إليه الأنظار، من خلال النتائج التي انتهينا إليها في دراستنا هذه:
-1 لا تحتل صياغة السياسة التربوية في البلدان العربية حتى الآن المكانة التي تستحقها بل كثيراً ما نجد ضرباً من الهروب من رسم الفلسفة التربوية والسياسة التربوية اللازمة للبلد. ويرجع ذلك إما لصعوبة الموضوع أو لعدم وضوح الرؤية أو لعوامل ترجع إلى القوى المتصارعة والمؤثرة في مسيرة التربية في البلد وإلى ارتباط السياسة التربوية غالباً بنظرات أيديولوجية كثيراً ما يدور الخلاف حولها. ومن هنا كانت مسيرة التربية في كثير من البلاد العربية مسيرة عمياء، لا تستهدي فلسفة واضحة أو فلسفة اجتماعية محددة. وهذا الواقع لابد من تغييره، ومن غير الجائز أن تعتبر السياسة التربوية ومن ورائها الفلسفة التربوية ضربا من النفْل الزائد. فهي في جوهر الأمر الدماغ المحرك لأي نظام تربوي سليم.
-2 في صياغة السياسة التربوية لابد أن يشترك أكبر عدد ممكن من المعنيين بالتربية ومن أصحاب العلاقة بها، بحيث تكون هذه السياسة عملاً من صنع المجتمع كله. وفي هذا الإطار يحسن أن يشترك في صياغة هذه السياسة، عن طريق طرحها في ندوات أو محاضرات أو في الصحف أو بوساطة وسائل الإعلام المختلفة. ولا بد – في أية حال – أن يشترك في وضع هذه السياسة الرأي العام التربوي (الإداريون والمعلمون والطلاب)، بالإضافة إلى ممثلي قطاعات النشاط الاقتصادي والاجتماعي المختلفة وإلى ممثلي النقابات والتنظيمات المهنية، وبالإضافة إلى كبار المربين والمختصين بالدراسات الاجتماعية والاقتصادية.
-3 لابد أن تقر السياسة التربوية، بعد وضعها، السلطة التي تملك حق القرار السياسي كي تكون تلك السياسة قابلة للتنفيذ.
-4 يحسن أن تعرض السياسة التربوية التي توضع في بلد عربي معين على فريق من الخبراء العرب.
-5 لابد من تحقيق الارتباط بين الجهات التي تصنع السياسة التربوية وبين الجهات التي تترجمها إلى إستراتيجية تربوية ومن الضروري لهذه الغاية أن يشترك في وضع السياسة التربوية بعض الذين يرسمون إستراتيجيتها، والعكس بالعكس.
-6 لا بد أن يقوم أخذ وعطاء متبادل بين وضع السياسة التربوية وبين رسم الإستراتيجية المناسبة لها، بحيث يساعد رسم الإستراتيجية على إعادة النظر في السياسة التربوية وبحيث تشتمل السياسة التربوية على قدر من الوضوح والتحديد ييسر ترجمتها إلى استراتيجيات.
وبوجه خاص، ينبغي أن ترسم عدة استراتيجيات ممكنة لتحقيق أهداف السياسات الموضوعة، وأن يجري اختيار أفضلها عن طريق حوار مشترك بين واضعي السياسة وبين واضعي الاستراتيجيات.
-7 ينبغي أن تشتمل الاستراتيجيات الموضوعة في صلبها على وسائل تنفيذها، أي أن تترجم إلى برامج ومشروعات، بدلاً من الاكتفاء بالأرقام والتنبؤات.
-8 لابد من إشراك الجهاز الإداري المنفذ للسياسة التربوية وللإستراتيجية التربوية (وبوجه خاص الجهاز الإداري في المناطق والمحافظات) في مناقشة السياسة التربوية والإستراتيجية التربوية، بحيث يؤدي ذلك إلى إحكام الربط بين الخطة وبين التنفيذ.
-9 ينبغي أن تتكون قناعة كاملة بأهداف السياسة التربوية والإستراتيجية التربوية، لدى المعلمين والطلاب والآباء، وذلك عن طريق الحوار ووسائل الأعلام.
-10 لابد أن تتكون عناية خاصة بمتابعة تنفيذ السياسة التربوية والإستراتيجية التربوية وأن تقوم مراجعة متصلة لما يتحقق منها ومعالجة مستمرة للمشكلات التي تواجهها.
-11 وأخيراً – وليس بآخر – لابد أن يملك كبار المسؤولين عن التربية دراية فنية واضحة بأساليب وضع السياسة التربوية وأساليب رسم الاستراتيجيات التربوية. ويمكن أن يتم ذلك عن طريق مؤتمرات عربية ودولية تعتمد خاصة لهذا الغرض، ولعل مؤتمرات وزارة التربية تحقق جزءا من هذا المطلب.

أهم مصادر البحث:
-1 التقرير النهائي للمؤتمر الإقليمي الثالث لوزراء التربية والوزراء المسؤولين عن التخطيط الاقتصادي في الدول العربية (مراكش من 20-12 كانون الثاني/ يناير 1970). نشر منظمة اليونسكو/ باريس نيسان 1970.
-2 التقرير النهائي لمؤتمر وزراء التربية والتعليم والوزراء المسؤولين عن التخطيط الاقتصادي في الدول العربية (طرابلس ليبيا من 14-9 نيسان/ أبريل 1966) نشر منظمة اليونسكو/ باريس/ حزيران/ يونيو 1966.
-3 نص اتفاق دمشق – عمان حول الوحدة الثقافية العربية (1957/3/25-1957/3/30 ) نشر المكتب الدائم للوحدة الثقافية العربية.
-4 التقرير النهائي للمؤتمر الثاني لخبراء التربية والتعليم لدول ميثاق طرابلس (الخرطوم كانون الأول/ ديسمبر 1970). نشر مركز التوثيق التربوي وزارة التربية والتعليم العالي/ جمهورية السودان.
-5 المؤتمر الثاني لوزراء المعارف والتربية والتعليم العرب (بغداد 22-1964/2/29) نشر الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية.
-6 مشكلات التخطيط التربوي في البلاد العربية. أعمال المؤتمر الثقافي العربي السابع (القاهرة 6-13 آذار/ مارس 1967) نشر الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية القاهرة 1970.
-7 الاتجاهات السائدة في التعليم العام والمهني في الدول العربية. نشر منظمة اليونسكو/ 1970.
-8 الدكتور محمد أحمد الغنام: إستراتيجية التربية في العالم العربي ورقة أعدت للمؤتمر التربوي لتطوير التعليم قبل الجامعي المنعقد بدمشق (من 8-3 آب/ أغسطس 1974) نشر مكتبة اليونسكو الإقليمي / بيروت 1974.
-9 الدكتور عبد الله عبد الدائم: التربية في البلاد العربية/ حاضرها ومشكلاتها ومستقبلها نشر دار العلم للملايين/ بيروت/ 1974.
-10 الدكتور عبد الله عبد الدائم/ الثورة التكنولوجية في التربية العربية. نشر دار العلم للملايين/ بيروت 1974.
-11الخطة السداسية للتنمية في لبنان (1977-1972) وزارة التعليم – الجمهورية اللبنانية 1972.
-12 خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الخمسية الأولى بالكويت (72-1971/68-1967) نشر مجلس التخطيط الكويت 1968.
-13 خطة التنمية للمملكة العربية السعودية (1390هـ / 1970م) نشر الهيئة المركزية للتخطيط، المملكة العربية السعودية.
-14 برنامج السنوات الخمس للتنمية الاقتصادية في الأردن (1967-1962). مجلس الإعمار الأردني المملكة الأردنية الهاشمية.
-15 برنامج السنوات السبع للتنمية الاقتصادية في الأردن (71/1970-65/1964). مجلس الإعمار الأردني، المملكة الأردنية الهاشمية.
-16 مقررات الحلقة الدراسية لتخطيط السياسة التربوية في العراق، وزارة التربية والتعليم، الجمهورية العراقية، نيسان/ أبريل 1970.
-17 مقررات الحلقة الدراسية الثانية لتخطيط السياسة التربوية في العراق، وزارة التربية والتعليم، الجمهورية العراقية، أيلول/ سبتمبر 1970.
-18 مقررات وتوصيات الحلقة الدراسية الثالثة للتخطيط للتعليم العام (13-4 أيار/ مايو(1971، وزارة التربية والتعليم، الجمهورية العراقية.
-19 تقرير حلقة تخطيط التعليم العالي في العراق (المنعقدة في بيروت من 14-8 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970)، وزارة التربية والتعليم والبحث العلمي، الجمهورية العراقية 1971.
-20 برنامج وزارة التربية والتعليم بالإقليم السوري في خطة التنمية للسنوات الخمس المقبلة (65-1964/61-1960). ، وزارة التربية والتعليم، الإقليم الشمالي، الجمهورية العربية المتحدة.
-21 الخطة الخمسية الثانية لوزارة التربية والتعليم للأعوام 1970-1965. ، وزارة التربية والتعليم، الجمهورية العربية السورية.
-22 الخطة الخمسية الثالثة لقطاع التربية في القطر العربي السوري (1975-1971)، هيئة تخطيط الدولة، الجمهورية العربية السورية.
-23 النتائج والتقرير النهائي لحلقة الدراسة لتخطيط السياسة التعليمية باليمن (المنعقدة من 14-8 كانون الأول/ ديسمبر1970 بصنعاء) وزارة التربية والتعليم الجمهورية العربية اليمنية.

-24 عبد الوهاب الواسع: التعليم في المملكة العربية السعودية، دار الكاتب العربي بيروت 1970.
-25 تقرير عن تطوير وزارة التربية والتعليم في الجمهورية العربية الليبية في العامين71/1970 و 72/1971 واتجاهاتها للعام 73/1972، وزارة التربية والتعليم، الجمهورية العربية الليبية.
-26 التطوير التربوي في الجمهورية العربية الليبية خلال العامين 71/1970-1970/1969، وزارة التربية والإرشاد القومي، الجمهورية العربية الليبية.
-27 مشروع السنوات الخمس بالجمهورية العربية المتحدة (65/1964-61/1960)، مكتب الوكيل للتخطيط بوزارة التربية والتعليم (70/1969) وزارة التربية والتعليم.
-28 الخطة التربوية الثانية بالجمهورية العربية المتحدة (70/1969-66/1965) وزارة التربية والتعليم.
-29 مشروع الخطة السبعية للتربية (72/1971-66/1965)، وزارة التربية والتعليم، الجمهورية العربية المتحدة.
-30 نظرة بشأن المشروع المبدئي لخطة سنوات الإنجاز لقطاع التعليم (70/1969-68/1967)، وزارة التربية والتعليم، الجمهورية العربية المتحدة.
-31 التخطيط التربوي في الجمهورية العربية المتحدة، مركز الوثاق والبحوث التربوية، القاهرة1967.
-32 الخطة الخمسية للتنمية التربوية بالسودان (74/1973-70/1969) وزارة التربية والتعليم، جمهورية السودان.
-33 المخطط الرباعي لتنمية التربية في الجزائر (1973-1970) وزارة التربية الوطنية، الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية.
-34 انبعاثنا التربوي منذ الاستقلال، كتابة الدولة للتربية القومية، الجمهورية التونسية 1963.
-35 التخطيط العشري للتعليم (69/1968-60/1959) كتابة الدولة للتربية القومية، الجمهورية التونسية.
-36 البرنامج الجديد لإصلاح التعليم بالمملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية والفنون الجميلة والشبيبة والرياضة، المملكة المغربية 1966.
-37 مصطفى الزعترني: الإدارة التربوية في لبنان، المركز الإقليمي ببيروت1971.
-38 الدكتور متّي عقراوي: التعليم العربي في خمسين عاماً. محاضرة ألقيت في المكتبة العامة بعمان، في كانون الثاني/ يناير1967.
-39 الدكتور عبد العزيز لنوصي: التعليم في العالم العربي، صحيفة التخطيط التربوي، المركز الإقليمي، العدد 22 (كانون الثاني/ يناير- نيسان/ أبريل 1970).