كتاب الثورة التكنولوجية في التربية العربية

كتاب الثورة التكنولوجية في التربية العربية
تأليف
الدكتور عبد الله عبد الدائم

تصدير الطبعة الثانية عام 1981
التربية في البلاد العربية
أمام تحدي الثورة العلمية والتكنولوجية
بقلم عبد الله عبد الدائم
لا شك أن التحدي الأول والأكبر الذي يواجه البلدان العربية، في أواخر القرن العشرين وأمام مشارف القرن الحادي والعشرين، هو تجاوز هوة التخلف الكبيرة والمتعاظمة بينها وبين البلدان المتقدمة.
تلك حقيقة غدت بدهية وذلك قول أصبح مكروراً. ومع ذلك فالسير الجدي المؤدي إلى مواجهة ذلك التحدي وتجاوز هذا التخلف، ما يزال مقصراً عن الشأو المطلوب وما برح يمشي على بطء ويسير على استحياء.
ولا يرجع هذا التقصير عن مواجهة التحدي إلى مجرد ضعف في العزيمة أو إلى العقبات التي تضعها البلدان المتقدمة نفسها أمام انطلاقة الدول النامية أو إلى الظروف القاسية الصعبة التي يفرضها الوجود الصهيوني على الوجود العربي. فهذه الأسباب وسواها – على أهميتها – لا تكفي في نظرنا لتفسير تباطؤ الجهد العربي في معركة التنمية والتحديث واللحاق بركب التقدم. وعندنا أن وراء هذه الأسباب جميعها – بل قبلها – سببٌ أعمق وأخطر، هو التقصير عن فهم طبيعة الهوة التي تفصل بين البلدان العربية والبلدان المتقدمة، والعجز بالتالي عن رسم أنجح السبل وأقصر الطرق المؤدية إلى تجاوز تلك الهوة.
فمن بدهيات العمل من أجل «التغيير» أننا لا نستطيع أن نغيّر ونؤثر ونفعل إلا إذا عرفنا واقعنا الذي نسعى إلى تغييره، وإلا إذا عرفنا في الوقت نفسه معرفة واضحة وعميقة واقع البلدان المتقدمة التي نسعى إلى اللحاق بها. ولعلنا نجهل كلا الواقعين إلى حد بعيد.
ولن نتحدث ههنا عن جهلنا بواقعنا، فله غير هذا المقام(1)، وحسبنا أن نتريث عند الوجه الآخر لهذا الجهل، نعني جهلنا بواقع البلدان المتقدمة التي نستهدف الانطلاق نحوها. ونحن إذ نتريث عند هذا الوجه الثاني للمسألة نفعل ذلك لأن الدراسات حول هذا الموضوع قلما أدركت حقيقة الأمر، ولأن الكثيرين ممن يتحدثون عن الهوة بين البلدان العربية والبلدان المتقدمة يظنون أن طبيعة التفوق الذي تمتاز به البلدان المتقدمة طبيعة واضحة لا تحتاج إلى مزيد من تحليل.
والحق إن كلمة «تقدم» التي نصف بها البلدان التي سبقتنا، كثيراً ما نفهمها فهماً عاماً غامضاً دون أن نتبين عناصرها ومعالمها. وعندما نصف ذلك التقدم بأنه تقدم علمي تكنولوجي، كثيراً ما ندرك هذا الوصف أيضاً إدراكاً غائماً غير محدد، لا يضيف في الواقع إلى كلمة تقدم وصفاً جديداً واضح القسمات.
ذلك أننا قليلاً ما ندرك أن الثورة العلمية التكنولوجية التي نعيش بين ظهرانيها، والتي تلهج ألسنتنا بها، والتي نسعى – فيما نقول – إلى بلوغها، ثورة لها خصائصها المحددة وصفاتها الخاصة، وأنها في نهاية الأمر غير الثورة التي عرفها العالم في القرن الماضي وحتى منتصف هذا القرن.
فهذه الثورة العلمية التكنولوجية، كما سنرى في الكتاب، ثورة من طبيعة محدثة، وهي غير الثورة الصناعية الأولى التي قامت في الغرب في القرن التاسع عشر خاصة. ولهذا تدعى في كثير من الأحيان باسم الثورة الصناعية الثانية. وهي في عرف العالمين من أربابها لا تكوّن مجرد امتداد للثورة الصناعية الأولى أو تطور لها، بل تكوّن ثورة مختلفة عنها في الطبيعة لا في الدرجة كما يقال. وسنرى تفصيل ذلك عبر فصول هذا الكتاب. وحسبنا ههنا أن نقول إن هذه الثورة الصناعية الثانية تنطلق من «الأوتوماتية» لا من الآلة (وشتان بين الأمرين) وتقوم على أساس تحرير الإنسان من عملية الإنتاج المباشرة وإيكالها للآلة الأوتوماتية وتستند بالتالي إلى توجيه فعالية الإنسان ونشاطه نحو المجالات الألصق بطبيعته كإنسان، نعني مجالات البحث العلمي والخلق والإبداع والتأثير في الكون تأثيراً يصل إلى حد التحرر من العدد المحدود من المواد الأولية فيه واستنباط مواد جديدة متكاثرة، والاستغناء بالتالي عن قيود الموارد الطبيعية والاستقلال عنها. إنها ثورة تنقل نشاط الإنسان – بوجيز العبارة – من مرحلة الإنتاج إلى المرحلة «السابقة على الإنتاج» مرحلة البحث والخلق والتنظيم والسيطرة على الكون بل والسيطرة على المستقبل، كما سنرى.
ولا نريد في هذا التصدير أن نسترسل في الحديث عن مقومات هذه الثورة العلمية التكنولوجية وعن آمالها ووعودها، فقد وقفنا عنده في أكثر من موضع عبر فصول هذا الكتاب. والذي نريد أن نؤكده ههنا هو أن قدرتنا على ولوج هذه الثورة الصناعية الثانية – ثورة النصف الثاني من هذا القرن والقرن القادم – رهينٌ بمدى إدراكنا لمعناها وروحها وجوهرها. ما نريد أن نؤكّده أنها ليست مجرد آلات وأجهزة تكنولوجية ننقلها، وإنما هي عقلية جديدة وتقنيات جديدة.
هذا الفهم الجديد للثورة العلمية التكنولوجية ولتقنياتها هو الذي أردنا أن نوضحه في كتابنا هذا، ومن هنا وقفنا عند طبيعة هذه الثورة وعند رؤاها المستقبلية، ولاسيما في القسم الأول منه.
وطبيعي أن يكون لهذا الفهم الجديد لطبيعة الثورة العلمية والتكنولوجية انعكاساته على التربية. فالتربية لا تستطيع أن تحيا في معزل عن روح هذه الثورة وأساليبها. وإذا كانت التربية هي سبيل تجاوز التخلف في بلادنا وسواها، فإنها لن تكون كذلك إلا إذا حققت في ذاتها وداخلها أولاً الثورة العلمية والتكنولوجية التي تسعى إلى تفجيرها، وإلا إذا امتلكت أساليبها وتقنياتها. ومن الخلف المنطقي أن نتحدث عن توليد ثورة علمية تكنولوجية عن طريق تربية محافظة تقليدية، بعيدة عن روح العصر، مجافيةٍ لتقنياته وأساليبه.
لقد أدركت الدول المتقدمة نفسها أن التربية عندها ما تزال متخلفة عن ركب التطور، وأنها ما تزال تعيش في أجواء الثورة الصناعية الأولى. ومن هنا جهدت لتوليد نظم تربوية جديدة، ولإحداث «ثورة تكنولوجية» في التربية تتفق وأغراض الثورة العلمية والتكنولوجية عامة. وقد قادها ذلك إلى أن تعيد النظر إعادة جذرية في بنية التربية وإطارها التقليدي ومناهجها وطرائقها وإدارتها، لاسيما بعد انتشار وسائل البثِّ الجماعية والتقنيات السمعية البصرية. ومع ذلك ما نزال نرى التربية مثقلة بإرثها التقليدي، عاجزة عن مجاراة الركب.
وما يصدق على البلدان المتقدمة، يصدق أكثر على بلداننا السائر في طريق النمو. لاسيما إذا ذكرنا أن المؤسسات الاقتصادية والصناعية والإنتاجية المختلفة في تلك البلدان المتقدمة تعوِّض إلى حد بعيد عن تخلف التربية والنظام التربوي. أما عندنا فالداء مزدوج، ما دامت مؤسسات المجتمع الأخرى بعيدة عن تلك الثورة العلمية والتكنولوجية، وما دمنا ننتظر من التربية وحدها تقريباً أن تخلق مثل هذه الثورة في شتى مرافق الحياة.
يضاف إلى هذا أن تقدم التربية نفسه في بلداننا – ولو من الوجهة الكمية وحدها – لا يمكن أن يتحقق إلا بإدخال هذه الثورة التكنولوجية إلى عالم التربية فالتربية في البلدات العربية – كما سنرى – تشكو من أزمة كمية – بالإضافة إلى أزمتها النوعية – قوامها عجزها عن استيعاب الأعداد الكبيرة المتدافعة من طلاب العلم في مجتمع يتصف سكانه بالفتوة ويتعاظم فيه الطلب الاجتماعي على التعليم. ذلك أن الموارد المالية والبشرية – مهما يكن شأنها – عاجزة عن الاستجابة لهذه المطالب التعليمية المتزايدة. ولا سبيل إلى الاستجابة لهذه المطالب المتعاظمة التي تنوء بحملها ميزانيات الدول العربية ومواردها البشرية، إلا باللجوء إلى تغيير جذري في بنية التربية وطرائقها يؤدي إلى الاستخدام الأمثل للموارد ويقود في النهاية إلى تقديم تعليم أفضل لعدد أكبر من الطلاب بنفس الإمكانات المالية والبشرية المتوافرة(1).
ومثل هذا الاستخدام الأمثل للإمكانات في التربية وسواها، لا يتحقق إلا عن طريق اصطناع أساليب وتقنيات جديدة، أي عن طريق القيام بثورة تكنولوجية في ميدان التربية.
هذه الثورة التكنولوجية في التربية، التي نرجوها لمواجهة أزمة التربية الكمية ولرفع مستوى إنتاجها النوعي، هي التي أردنا أن نتحدث عن بعض جوانبها في القسم الثاني من هذا الكتاب.
على أن أبرز مقومات الثورة العلمية التكنولوجية الثورة الإدارية، الثورة في ميدان التنظيم والتسيير. حتى أن بعض الباحثين يعتبرون الثورة التي تعيشها أكثر بلدان العالم تقدماً ثورة إدارية تنظيمية قبل أي شيء آخر، ويرون أن الهوة بين البلدان المتقدمة والبلدان الأقل تقدماً ثم البلدان المتخلفة «هوة إدارية» قبل أن تكون «هوة تكنولوجية» بالمعنى الضيّق للكلمة.
والحق إن من أهم ما أنتجته الثورة العلمية التكنولوجية، بل من أهم ما أنتجها هي، تلك الثورة في الإدارة والتسيير والتنظيم، التي أدَّت إلى حسن استخدام الموارد المتاحة، وزادت من فعالية الإنتاج وعطائه ومردوده. ومن هنا ولدت «تقنيات إدارية جديدة»، قامت في ميدان الحرب أولاً ثم امتدت إلى سائر الميادين، وزحفت مؤخراً نحو التربية. على رأس تلك التقنيات تلك التي تنتسب إلى منهج «تحليل النظم» وإلى «طرائق التحليل الإجرائي».
ومن هنا توقفنا في القسم الثالث من هذا الكتاب عند بعض هذه الطرائق، وحاولنا أن نعطي وصفاً سريعاً لأكثرها، وأردنا أن نكون أصرح وأوضح فقدمنا صورة عملية تطبيقية عن واحدة منها هي طريقة «بيرت Pert» أو طريقة «الدرب الحرج» أو طريقة «التحليل الشبكي»، وقد استهدفنا من وراء التوقف عند تقنيات هذه الطريقة أن نصيب غرضين: الأول أن نقدم صورة مشخصة ملموسة عن هذه الثورة الإدارية وتقنياتها. والثاني – وهو الأهم عندنا – أن نتلمّس من خلال هذا الإدراك المحسوس لإحدى تقنيات الثورة العلمية والتكنولوجية، روح هذه الثورة وطبيعتها. فمن شأن تعرفنا على مثل هذه الطريقة – كما سنرى – أن يجعلنا ندرك بوضوح أكبر الأساليب التي تلجأ إليها الثورة العلمية التكنولوجية في استخدامها الأمثل للموارد المتاحة وفي اجتناب الهدر والضياع في المال والوقت والرجال. ومن شأنه أيضاً أن يرينا معنى طموح هذه الثورة العلمية التكنولوجية إلى السيطرة على المستقبل وصناعة الغد وامتلاك ناصيته. إن هذه الطريقة تومئ لنا إيماءات واضحة إلى أهم ما يميّز هذه الثورة – كما سبق أن قلنا – نعني توليد الدراسات والأبحاث «السابقة على مرحلة الإنتاج» والتي من شأنها أن تزيد في هذا الإنتاج وتقوده وفق إرادة الإنسان. إنها ترشدنا – بوجيز العبارة – إلى ما «لعقلنة القرار» من دور حاسم في الثورة الجديدة التي يريد بها الإنسان أن يسيطر على المستقبل.
وبعد، لا نزعم أننا استطعنا – خلال هذا الكتاب المتواضع – أن نلمّ بهذه الجوانب جميعها إلمامة وافية، وأن نتحدث عن أبعاد الثورة العلمية التكنولوجية كلها وعن انعكاساتها على التربية في بلادنا. وما قدمناه لا يعدو أن يكون لمسات رفيقة عابرة لموضوع ضخم يستغرق المجلدات الطوال. وحسبنا أننا طرحنا المسألة – وإجادة طرح المسألة نصف العلم – وأننا أشرنا إلى أهم قسماتها. حسبنا أننا وضعنا التربية في البلاد العربية في موضعها الصحيح من مستلزمات الثورة العلمية والتكنولوجية، وأننا أشرنا إلى الطريق الأَمَم الذي علينا أن نسلكه إذا نحن أردنا أن تغدو التربية حقاً أداة من أدوات بلوغ تلك الثورة، ووسيلة من وسائل اللحاق بالعصر.
إن هدفنا أولاً وآخراً أن ندلّ على حقيقة المسألة، أن نتعرف على طبيعة التقدم العلمي التكنولوجي الذي تلهج به ألسنتنا دون أن تدرك معناه دوماً، أن نرى دور التربية ودور «الثورة التكنولوجية» التربوية في بلوغ ذلك التقدم. حتى إذا استبان لنا ذلك كله، غدا من السهل أن نرسم السبل المؤدية إلى ذلك التقدم الذي نرجوه، وأن نشد رحالنا إلى رحاب الثورة العلمية والتكنولوجية وأن نعيش عصرنا وزماننا، ونبني مجتمع القرن الحادي والعشرين في بلادنا.
إن بلادنا العربية التي تتعاظم إمكاناتها المالية، والتي يقدر احتياطها من النقد عام 1980 بثلث احتياطي العالم، لن تحقق التقدم عن طريق هذه الإمكانات المالية الضخمة وحدها، وعن طريق رأس المال المادي الكبير وحده، بل هي تحققه عن طريق تسليط رأس المال البشري على تلك الإمكانات، بحيث يحسن استغلالها والإفادة منها، وبحيث يستخدمها استخداماً أمثل، وبحيث يولد منها بنيةً ذاتية متطورة تعزز التقدم وتعزز الثورة العلمية التكنولوجية في أقصر وقت ممكن. ولا يتأتى لها ذلك إلا إذا أحاطت بتقنيات هذه الثورة وامتلكت روحها وأساليبها، ودخلت البيوت من أبوابها، وأصابت الهدف مباشرة بدلاً من أن تدور حول الحمى.
وأمل هذا الكتاب – على كونه محدوداً وعلى كونه يجمع دراسات وأبحاثاً كتبناها في مناسبات متفرقة – أن يضع لبنة في هذا الطريق، وأن يومئ إلى سبل التقدم الحقيقية عن طريق توضيحه لها وشرحه معناها. وحسبه أن يضع نظم التربية في البلاد العربية موضع التساؤل وأن يطلب إليها أن تلتفت إلى ذاتها وتعود إلى تحليل نفسها، وأن تسائل عن الصيغ الجديدة التي تجعلها قادرة على اللحاق بركب العصر.
بيروت في 19/1/1974
عبد الله عبد الدائم