الثقافة العربية الاسلامية والثقافة العالمية

دراسة غير منشورة – كانون الثاني/يناير 1980
كتبت لمؤتمر كان من المقرر عقده بباريس وسط أجواء ما سمي بالصحوة الإسلامية

الثقافة العربية الإسلامية والثقافة العالمية*
1- مفهوم الثقافة:
نود في مطلع هذه الكلمة أن نثبت بعض الحقائق العامة المتصلة بمفهوم الثقافة، كيما نستطيع أن نمضي مطمئنين في حديثنا عن الثقافة العربية الإسلامية وعن دورها الموعود في عصرنا:
1- أولى هذه الحقائق أن أي ثقافة إرث اجتماعي تاريخي يحدد سلوك الأفراد الذين ينتمون إليها، وأنها تشمل بالتالي جملة من أنماط السلوك المعنوي والمادي الموروثة من المجتمع والمنقولة عبره. إنها بقول موجز نمط الحياة الخاص بجماعة إنسانية معينة في عصر معين.
2- وثانية هذه الحقائق، أن الثقافة بهذا المعنى ليست ساكنة جامدة بل هي واقع متحرك يستمر ويبقى من خلال التغيرات التي يخضع لها. إنها نظام مرن معروض دوماً للتغير والتجدد عن طريق الابتكار من داخل نفسه وعن طريق الاقتباس من المجتمعات الأخرى. وليست هنالك بالتالي ثقافة ثابتة صافية تسم مجتمعاً إنسانياً معيناً، بل إن خصب أي ثقافة يرجع إلى مدى اتساع تفاعلها مع الثقافات الأخرى. يصدق هذا على الثقافة اليونانية القديمة وعلى الثقافة العربية الإسلامية في أوج ازدهارها وعلى الثقافة العربية الإسلامية الحديثة وعلى الثقافة الغربية الحديثة، كما يصدق على أي ثقافة عالمية حية في الماضي والحاضر.
3- وثالث هذه الحقائق أن من الخطأ أن نعتبر أن هنالك نموذجاً نموذجياً للثقافة، هو نموذج الثقافة الغربية في عصرنا الحاضر، لابد أن تعدو سائر الثقافات نحوه وأن تتطلع إليه، وأن نرى في أي ثقافة مقصرة عن هذا النموذج ثقافة متخلفة، عليها أن تسعى إلى ردْم هوة التخلف بينها وبينه، ولو تمّ ذلك على حساب التفريط النهائي بمزاياها الخاصة. ومن هنا لابد أن نرفض تلك النظرية التي يمكن أن نطلق عليها اسم «نظرية التسوية Théorie du nivellement»، والتي ترهص ببزوغ «مجتمع عالمي» متشاكل تزول فيه الهويات الثقافية المتميزة وتذوب جميعها في نموذج واحد تعتبره قدر الإنسانية ومحط رحالها.
2- معنى الثقافة العربية الإسلامية:
وإلى جانب هذه الحقائق العامة المتصلة بمفهوم الثقافة نود أن نثبت بعض الحقائق الأخرى المتصلة بالثقافة الإسلامية:
1- هنالك دون شك ثقافة إسلامية شاملة تشترك فيها جميع الشعوب التي تدين بالإسلام، وتقيم فيما بينهم حظاً مشتركاً من النظرة إلى الكون والمجتمع ومن أنماط السلوك.
2- هذه الثقافة الإسلامية الشاملة هي محصلة التفاعل بين الإسلام كدين وبين الثقافة العربية التي لعبت دوراً بارزاً وأساسياً في حمل رسالة هذا الدين وفي توضيح مضمونه ومفهومه وأبعاده وقيمه، وبين الثقافات الأخرى التي لقيها الإسلام في البلدان التي انتشر فيها، وأخيراً بين سائر الثقافات في البلدان غير الإسلامية.
3- وإلى جانب هذه الثقافة الإسلامية الشاملة التي تكون قاسماً مشتركاً بين القوميات المختلفة التي تدين بالإسلام، هنالك ثقافات إسلامية قومية تضاف إليها وتغيّر من معالمها، مولدة هويات خاصة بكل قومية، لا تتعارض مع الثقافة الإسلامية الشاملة ولكنها تضعها في إطار جديد وصيغة جديدة وتضفي عليها طابعاً متميزاً خاصاً.
4- الثقافة الإسلامية في البلدان العربية إرث مشترك بين المسلمين وسواهم، ومن تفاعل هذه الثقافة مع البنى الدينية المختلفة القائمة في البلدان العربية، تولدت ثقافة عربية مشتركة، ينتسب إليها المسلمون ومن عداهم على حد سواء، على الرغم من وجود بعض الفروق الثقافية التي ترجع إلى عوامل دينية أو قومية غير عربية، هي من طبيعة أي ثقافة، ومن شأنها أن تغني الثقافة العربية المشتركة وأن تخلق فيها تنوعاً خصيباً دون أن تولّد تعدداً ممزِّقاً.
وحديثنا ههنا ينصرف إلى هذه الثقافة الإسلامية العربية خاصة وإن يكن يصدق في كثير من جوانبه على الثقافات الإسلامية الأخرى، التي لا يتسع هذا البحث للتريث عندها.

3- دور الثقافة العربية الإسلامية في عصرنا:
والسؤال الأساسي الذي نطرحه يتصل بالدور المنتظر في عصرنا لهذه الثقافة الإسلامية العربية. وهنا أيضاً ننطلق من بعض الحقائق:
1- لقد مضى الوقت الذي كان البحث فيه يدور حول مدى قدرة هذه الثقافة على التكيف مع متطلبات العصر الحديث والحضارة الحديثة. وقد كاد يقوم ضرب من الإجماع اليوم على رفض القول بأن في الثقافة الإسلامية العربية ما يحول دون أخذها بمستلزمات التقدم العالمي، ودون إفادتها من حصاد التجربة العلمية التكنولوجية الحديثة. ولقد أغنانا العديد من المفكرين الإسلاميين القدامى والمحدثين عن الرد على بعض المفكرين الغربيين أو العرب الذين كانوا يتهمون الإسلام بالعجز عن استيعاب التقدم والذين كانوا ينسبون إليه السبب في تأخر العالم الإسلامي.
2- لم تعد المسألة إذن مسألة قدرة الحضارة الإسلامية على التطور والاستجابة لمطالب العصر الحديث، أو الزعم بأن في منطلقات الإسلام الدينية ما يحول دون الإسهام في الحضارة العلمية التكنولوجية الحديثة، بل إن الدراسات المختلفة التي ظهرت منذ أواخر أيام الدولة العثمانية حتى اليوم تؤكد أن في مبادئ الدين الإسلامي وفقهه وأسسه وتراثه ما يفتح المجال واسعاً أمام التجديد والتحديث، وأن الحضارة الإسلامية بعد ذلك بل قبل ذلك هي التي فجرت شرارة العلم الحديث وأطلقت في العالم روح البحث القائم على المشاهدة والتجربة وتسخير الكون للإنسان.
والمسألة المطروحة بالتالي تدور حول السؤال الآتي: ما هي الإضافة النوعية المتميزة الخاصة التي تستطيع أن تقدمها الحضارة العربية الإسلامية للتجربة العالمية، وما هي مقوماتها الذاتية في إطار تفاعلها مع العصر؟ وهل تستطيع الحضارة العربية الإسلامية أن تولّد نظاماً جديداً يستوعب التجربة العالمية ويتجاوزها، وأن تقدم نظرية مبتكرة تقدم حلولاً فضلى للمشكلات العالمية المطروحة وتسهم بالتالي في إغناء الحضارة العالمية وتطويرها؟
وهنالك اعتقاد بدأ يشتد ويقوى يوماً بعد يوم بأن الحضارة العربية الإسلامية مؤهلة لأن تلعب مثل هذا الدور، وهنالك اتجاه عام – لدى العرب والمسلمين وبعض الغربيين أنفسهم – يرفض أن يكون دور هذه الحضارة دور المقلد، ويرفض أن يعتبر النموذج الغربي – على قيمته وشأنه – النموذج المثالي الذي ينبغي أن يحتذى. بل إن هنالك آمالاً معقودة لدى كثيرين على الحضارة العربية الإسلامية في تطوير الحضارة العالمية وعلاج نقائصها العديدة التي يقر بها أصحابها. ومنطلق مثل هذه المعتقدات والآمال الإيمان أولاً بأهمية الحفاظ على الهويات الثقافية المتميزة وبدورها في توليد ثقافة عالمية تغتني من حصاد الثقافات المتنوعة، والشعور ثانياً بأن في الحضارة العربية الإسلامية وأصالتها وماضيها وإمكانات حاضرها ما يجعلها قمينة بأن تقدم للعالم رفداً جديداً، ثم التشكيك بعد ذلك في قدرة الثقافة الغربية في منطلقاتها الحالية على تقديم الحلول المرجوة لسعادة الإنسان وللحضارة الجديرة بالإنسان.
غير أن هذه المعتقدات والآمال لم يصاحبها قدر كاف من التنظير والبحث يستطيع أن يقدم صورة واضحة عن هذا العطاء الحضاري الجديد الذي تستطيع الثقافة العربية الإسلامية أن تقدمه للعالم.
ولا يعني هذا أننا ننكر أهمية العديد من الدراسات التي ظهرت في البلدان العربية والأجنبية بهذا الشأن. فإلى جانب دراسات الرواد الأوائل من مفكري الإسلام في العصر الحديث أمثال رفيق العظم ومصطفى الغلاييني وعبد القادر المغربي وعبد الحميد بن باديس وشكيب أرسلان ومحمد فريد وجدي وخير الدين التونسي ومحب الدين الخطيب إلى محمد عبده ورشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي، نجد اليوم بذور دراسات أعمق وأوضح حول الرؤية الإسلامية العربية للحضارة. ويكفي أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر الدراسات التي نجدها لدى أمثال عبد القادر عودة وسيد قطب وعلال الفاسي ومصطفى السباعي وعبد الرحمن البزاز ومحمد أسد وأبي الحسين الندوي وخالد محمد خالد وحسن البنا وأحمد عباس صالح ومالك بن بني ومحمد الطاهر بن عاشور ومحجوب بن ميلاد وأحمد عروة ومحمد عزيز الحبابي ومحمد البهي وعباس محمود العقاد وسواهم.
غير أن معظم هذه الدراسات ما تزال إلى حد بعيد ردود فعل آنية مباشرة يولدها الصدام المستمر بين الفكر الإسلامي وبين الرؤى التي طرحتها الأيديولوجيات الأجنبية المختلفة التي غزت العالم العربي والإسلامي والتي وجدت من يتبناها أحياناً في النظم السياسية القائمة فيه. ولم تستطع تلك الدراسات بعد، أن ترقى إلى مستوى النظرية المتكاملة الشاملة التي تحدد معالم النظرة الإسلامية الخاصة. وبتعبير آخر، إن واقع الثقافة العربية الإسلامية وسط الثقافات العالمية وعلى رأسها الثقافة الغربية، يفرض اليوم على الفكر العربي الإسلامي أن يتجاوز موقف رد الفعل وأن يقوم بمبادرة أصيلة، أساسها ومنطلقها هضم الثقافات الأجنبية والثقافة العربية الإسلامية هضماً عميقاً من أجل توليد نظرية مبتكرة تطرح رؤية كاملة متكاملة، ولا تكتفي بمجرد التوفيق أو التلفيق بين الرؤية العربية الإسلامية والرؤية الغربية خاصة.
4- معالم النظرية العربية الإسلامية الأصيلة:
ولسنا ندعي أننا قادرون في هذه الدراسة المحدودة على تقديم تصور أوضح لتلك النظرية العربية الإسلامية الأصيلة. وحسبنا أن نشير إلى بعض الصّوى التي يمكن أن تهدينا عبر هذا الطريق الطويل الشاق:
1- لابد أولاً من مراجعة الفقه الإسلامي وأصول الدين الإسلامي مراجعة شاملة، لاستبعاد ما علق بها من شوائب ومن مواقف دخيلة عليها، ولتفسيرها وتأويلها وتطويرها ضمن سياق الواقع الاجتماعي المعاصر. ولا حاجة إلى القول أن مثل هذه المراجعة لا تناقض مبادئ الدين وأسسه الكبرى الثابتة، بل هي مما تدعو إليه هذه المبادئ والأسس. ومثل هذه المراجعة، أو بتعبير آخر مثل هذه الحركة الإصلاحية الدينية، ينبغي أن يضطلع بها أولاً وقبل كل شيء، رجال الدين أنفسهم. ولقد قامت بعض المحاولات الإصلاحية كما نعلم منذ بداية عصر النهضة العربية الإسلامية بل حتى في أيام الدولة العربية الإسلامية قديماً، غير أنها لم تلق من يواصل السعي فيها ولم تستطع أن تتغلب على الجمود الديني الذي ظل غالباً.
2- وثمة مسائل تتصل بالعقيدة الإسلامية واللاهوت الإسلامي إن صح التعبير لابد أيضاً من توضيحها وتصحيح النظرة إليها. وعلى رأس تلك المسائل العلاقة بين الفعل الإنساني والفعل الإلهي وما يتبعها من مشكلات الحرية الفردية والقضاء والقدر وسواها. وعلى الرغم من أن هذه المسألة قد درست طويلاً منذ أيام الدولة العربية الإسلامية حتى الآن ووقف عندها المعتزلة والأشاعرة خاصة منذ القديم، وعلى الرغم من أنها وضعت من قبل كثير من المفكرين الإسلاميين المحدثين في موضعها الصحيح، فإنها ما تزال محفوفة بالغموض وسوء الفهم، لا سيما في واقع الحياة الدينية لدى عامة الناس. ولابد بالتالي من التأكيد من جديد على المعنى الحقيقي للقضاء والقدر في الإسلام، ذلك المعنى الذي يرفض التواكل ويرفض الجبرية ويحض على العمل ويؤكد دور الإنسان في صنع مصيره ويؤمن بدوره في حركة التاريخ وحركة التقدم، وبضرورة تسخير الكون لمصلحته. ويلحق بهذا نزع التصور التشاؤمي لتطور العالم وإبطال ما علق في الفكر الإسلامي أحياناً من اعتقاد بحتمية تقدم الإنسانية نحو ما هو أسوأ.
3- ينبغي توضيح المعالم الخاصة للنظرة الإنسانية الأخلاقية التي ينادي بها الإسلام. ذلك أن في تلك النظرة الخلقية جوانب مشتركة بين الإسلام وبين معظم الديانات هي من جوهر معظم الديانات الكبرى، كما أن فيها، وهذا هو الأهم، جوانب خاصة بها ترجع إلى مصدرين أساسيين: الأول هو القيم الخلقية والإنسانية التي امتاز بها الإسلام على كثير من الديانات وفاق عليها، والثاني هو القيم التي تولدت من تفاعل الإسلام كدين مع الوجود العربي والحياة العربية والتقاليد والقيم العربية قبل الإسلام وبعده. فالإسلام جاء ليتمم مكارم الأخلاق، والإنسان العربي الذي حمل لواء الإسلام وتجسدت فيه القيم التي جاء بها الدين ترك بصماته الخاصة وطابعه الخاص على تلك القيم وفَهمِهَا فهماً حياً ومتجدداً من خلال حياته لها. وهذه المعالم الخاصة للقيم الخلقية الإنسانية للإسلام على نحو ما تجسدت من خلال التاريخ العربي الإسلامي ما تزال في حاجة إلى جلاء وتوضيح، ومن جلائها وتوضيحها يستبين الرفد الخاص الذي يمكن أن تقدمه الحضارة العربية الإسلامية للعالم في هذا المجال.
4- على الرغم مما قيل ويقال عن الصلة بين الإسلام كدين وبين الإسلام كنظام اجتماعي، لابد من الإقرار بأن الإسلام، خلافاً لمعظم الديانات الأخرى، نظام اجتماعي واقتصادي وسياسي. وكبار المفكرين الإسلاميين يتفقون ولا شك مع النظرية التي ترفض أن تجعل من الإسلام ديناً معنياً بالعبادات وحدها، ينظم علاقة الإنسان بربه، والتي ترى فيه على العكس تشريعاً يتناول تنظيم شؤون المجتمع ويدعو إلى ذلك. غير أن هذه الحقيقة تستلزم نظرة متفحصة متجددة للنظام الاجتماعي في الإسلام وتفرض على المجتهدين عبئاً كبيراً يستهدف ربط هذا النظام بإطار العصر وبسياق التطور العالمي، ويرفض النقل الحرفي لما كان قائماً من نظم اجتماعية سياسية عبر مسيرة التطور الإسلامي، وينطلق مما في الدين الإسلامي من مبادئ تؤكد على تغير الأحكام بتغير الأزمان، وتقيم الوزن الأكبر لروح المبادئ الإسلامية ومقاصدها وللصور والأشكال التي اتخذتها، ويقف وقفة خاصة عند القواعد التي أرساها فيما يتصل بالاجتهاد وتغليب المصلحة الاجتماعية والقول بالمصالح المرسلة وسد الذرائع والاستحسان والعرف وغير تلك من المبادئ التي تمنح النظام الإسلامي مرونة كبرى وتجعله قادراً دوماً على مواجهة المواقف الجديدة.
وعلى رأس المسائل التي تنبغي العناية بها في هذا المجال نظام الحكم في الإسلام، ومسألة الصلة بين الحاكم والمحكوم، وما يتبعها من موضوع الإمامة والخلافة وسواها. ولا حاجة إلى القول أن موقف الإسلام من هذا الأمر قد اعتراه التشويه والتحريف والتحوير تبعاً للظروف السياسية التي مر بها العالم الإسلامي. ورغم الدراسات القيمة التي ظهرت في هذا المجال قديماً وحديثاً، ورغم تأكيدها على مبدأ الشورى ورفض الحكم المطلق، وعلى ما يحمله مبدأ التوحيد من معان ترد الحرية إلى الإنسان، ظهرت نزعات ثيوقراطية غريبة عن الإسلام تحاول تأليه الحكام وتبرير سلطانهم المطلق وترى في طاعتهم واجباً دينياً بل ترى في مشاركة الأمة في تدبير شؤونها وإطلاق حرية الانتقاء لها ما يخل بنظام الحكم ويخالف السياسة الشرعية. ومن هنا لابد من توضيح أمر الخلافة والإمامة في الإسلام (وهما مفهومان دخيلان عليه) ومن إبراز أهمية مبدأ الشورى ودور أهل الحل والعقد (أي ممثلي الشعب) وحق هؤلاء في الاحتساب والمشاركة وغير تلك من المبادئ التي تنفي الاستبداد السياسي القائم على الاستبداد الديني والتي أوضح الكثير منها عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد». لابد من التأكيد – كما فعل عبد الحميد بن باديس – على أن من أهم أصول الحكم في الإسلام أن «لا حق لأحد في ولاية أمر من أمور الأمة إلا بتولية الأمة» وإن الشعب بالتالي هو صاحب الحق والسلطة في الولاية والعزل وفي مراقبة أولي الأمر ومحاسبتهم على أعمالهم وحملهم على ما يراه هو لا ما يرونه هم.
5- على الرغم من أهمية تنمية العلاقات بين الشعوب التي تدين بالإسلام، وعلى الرغم من كون هذه الشعوب يجمع بينها، إلى جانب ثقافاتها القومية الخاصة، قدر كبير من الثقافة المشتركة النابعة من الإسلام، لابد من استبعاد بعض الاتجاهات القليلة التي تقول بضرورة تكوين دولة إسلامية واحدة. فمثل هذا القول نوع من «الطوبياء» في عصرنا الحاضر، فضلاً عن أنه يناقض منطق التطور التاريخي للشعوب الذي أدى إلى تأكيد الوجود القومي للشعوب وغلبته على أي وجود آخر. إن تطور المجتمعات الحديثة وواقعها اليوم يبيّنان بما لا يدع مجالاً للشك بأن الحقيقة القومية حقيقة لا يمكن تجاوزها، بل ينبغي تدعيمها في إطار التعاون بين القوميات لا في إطار التصارع والعداء. والصلة بين القومية والإنسانية أصبحت اليوم واضحة بينة، وازداد التأكيد يوماً بعد يوم على أن التربة القومية والمناخ القومي هما المنطلق السليم والواقعي والصحيح لخلق عالم إنساني متآزر في إطار هويات ثقافية متميزة متنوعة. وجدير بالذكر ههنا أن فكرة «الدولة الإسلامية» استبعدها معظم المفكرين المسلمين منذ أيام الدولة العثمانية حتى اليوم، (وعلى رأسهم أمثال محمد عبده وعبد الحميد الزهراوي ورفيق العظم وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد كرد علي وعبد الرحمن البزاز وعبد العزيز الدوري) وإن يكن بعضهم قد قدم صيغة معتدلة للجامعة الإسلامية أطلق عليها اسم «كومنولث إسلامي». بل إن معظم المتحمسين القدامى للجامعة الإسلامية بين العرب قديماً وحديثاً قد أخذوا يتجهون اتجاهاً قومياً عربياً صريحاً، أمام ما تكشف لهم من دروس الواقع ومن كون الدعوة إلى الحكومة الإسلامية «دعوة غير واقعية».
أما الدولة الإسلامية التي قامت قديماً منذ أيام الفتوح الإسلامية، فإلى جانب كونها قد قامت في مرحلة سابقة من التقدم الإنساني تجاوزها هذا التقدم، كانت في الواقع ضرورة أملاها الدور الذي أُنيط بالعرب في نشر الدعوة الإسلامية إلى الناس كافة، كما كانت بمعنى من المعاني تعبيراً عن منازع العرب الإنسانية ورغبتهم في نشر ثقافتهم. ورغم حرارة الدعوة الإسلامية في نشأتها الأولى، لم تقو هذه الدعوة رغم كل شيء على إذابة الهويات القومية للأمم التي دانت بالإسلام، بل لم تكن تستهدف ذلك من حيث الأصل والجوهر. «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم».
6- إن رائد الدراسات المرجوة في هذه الميادين جميعها، ينبغي ألا يكون مجرد الرجوع إلى النصوص الدينية وتأويلها بما يتفق مع مطالب العصر، بل ينبغي أن يضاف إلى ذلك التأكيد على روح المبادئ الدينية وأهدافها ومقاصدها واتخاذ تلك الروح أساساً للإصلاح، انطلاقاً من تلك المبادئ الدينية نفسها التي تدعو إلى الاجتهاد والقياس وتحكيم العقل وتغليب المصلحة العامة والتي ترى، على حد تعبير الشيخ محمد بيرم التونسي مفتي الديار التونسية أيام الحكم العثماني، أن أمر السياسة الشرعية «هو ما يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولم ينزل به الوحي». أو لم يدع ابن قيّم الجوزية نفسه إلى مثل هذا الاتجاه حين قال: «إن أمارات العدل إذا ظهرت بأي طريق كان فهناك شرع الله ودينه»؟
خاتمة:
من خلال هذه الجهود التي ينبغي أن تبذل في المجالات التي أشرنا إليها، يمكن في نظرنا أن تولد رؤية إسلامية عربية متكاملة، وأن توضح النظرة الحقيقية التي ينظر بها الإسلام إلى شؤون الكون والحياة. وفي رأينا أن هذه النظرة، عندما تتضح من خلال الإدراك العميق والأصيل والمتجدد لروح الإسلام، قادرة على أن تقدم نظاماً إسلامياً عربياً قميناً بأن يحاور النظم الفكرية والإيديولوجية الأخرى في العالم وبأن يضيف إليها أبعاداً جديدة، بل لا نغلو إذا قلنا إنها قد تكون قادرة على تجاوز تلك النظم ووضع بعض منطلقاتها موضع التساؤل، وترميم ثغراتها ونقائصها.
ذلك أن أي تقدم إنساني، مهما يكن شأوه، يظل تقدماً نسبياً، والمستقبل المرجو للإنسان هو دوماً أمامه وليس وراءه، وليس هنالك من هدف للتقدم إلا المزيد من التقدم. وليس هنالك اليوم من يدعي أن الصيغ المختلفة التي قدمتها الحضارة الغربية (في الغرب والشرق) صيغ قادرة على توفير السعادة اللازمة للإنسان وعلى رسم صورة المجتمع الجدير بالإنسان. ويكاد يكون هنالك إجماع على القول بأن الحضارة الحديثة جعلت الإنسان أكثر تقدماً في كثير من المجالات ولكنها لم تجعله أكثر سعادة. ومن هنا فالبحث عن مستقبل الإنسان لابد أن يكون ضالة المجتمع الإنساني كله تسهم في بنائه الثقافات المختلفة. وفي ظننا أن الثقافة العربية الإسلامية خاصة قادرة على أن تلعب دوراً بارزاً في هذا السبيل عندما تعي ذاتها أولاً وتدرك مكانتها الحقيقية في إطار العصر وتطرح نظرية أصيلة وحديثة معاً تبرز خصائصها النوعية وسمات عطائها الخاص.
ولا نسرف إن قلنا إن الأيديولوجيات الحديثة، غربيها وشرقيها، لم تستطع أن تقدم حلولاً مقبولة لحياة الإنسان، وأن كلاً من الأيديولوجيتين العالميتين الكبيرتين تستمد قيمتها وقوتها من نقدها لنقائص الأيديولوجية الأخرى أكثر مما تستمده من ذاتها، ومن هنا فالحلبة العالمية مفتوحة على رحبها للاجتهاد الإيديولوجي. والثقافة العربية الإسلامية لابد أن تدلي بدلوها في هذا المضمار وأن تضم جهودها إلى جهود سائر الثقافات. ولعل في منطلقاتها الأساسية التي تؤكد العدالة الاجتماعية والتكافل الاجتماعي والمصلحة الاجتماعية، مقتربة بذلك من الأيديولوجية الاشتراكية، والتي تؤكد في الوقت نفسه الديمقراطية السياسية، ما يجعل دورها بارزاً وأساسياً.
وعندما نقول ذلك لا يقوم في ذهننا قط أن نشير إلى الأطروحة التقليدية الشائعة التي تريد أن تقول إن حضارة الغرب حضارة مادية وإن ما تستطيع أن تقدمه حضارة كالحضارة العربية الإسلامية هو الجانب الروحي والخلقي الذي يعوزها. فلسنا ممن يؤمن بأن الحضارة الغربية لم تولد قيماً إنسانية وخلقية، وإن لم تفلح في تحقيق التوازن بين التطور المادي والإنساني. كما أننا لسنا ممن يقول بأن الحضارة العربية الإسلامية في واقعها المتخلف حضارة توفر للإنسان مناخه الإنساني الخلقي والقيمي. وفي اعتقادنا أن الحضارة العربية الإسلامية، شأن سائر الحضارات، مدعوة إلى الإسهام في بناء مستقبل الإنسان بجانبيه المادي والمعنوي، وأن في تاريخها العريق الذي استطاع في أيام نهضتها أن يحقق قدراً كبيراً من التوازن بين مطالب التقدم المادي ومطالب التقدم الخلقي الإنساني ما يؤهلها لمعاودة هذه المهمة. ونقول مرة أخرى، أن تلك الحضارة – أو تلك المعجزة العربية على حد تعبير فانتيجو، Ventéjoux – هي التي نقلت التجربة الإنسانية من الدوران حول العقل – كما فعلت الحضارة اليونانية إلى حد بعيد – إلى الدوران حول الواقع عن طريق ما أطلقته من بدايات البحث العلمي التجريبي. وعندما تنطلق اليوم نحو الإسهام في الحضارة العلمية التكنولوجية وفي معالجة الواقع المادي، يحق لها أن تقول: هذه بضاعتنا ردّت إلينا.
إننا ممن يعتقد أن في الحضارة العربية الإسلامية رصيداً نوعياً متميزاً من القيم الإنسانية التي تستطيع أن تغني تجربة العالم، كما أن في أسس نظرتها إلى نظام المجتمع الاقتصادي والسياسي ما يمكنها من توليد إيديولوجية اجتماعية تضيف الكثير إلى حصاد التجربة العالمية وتسهم في تطويرها. غير أن هذا كله يشترط كما قلنا ونقول أن تدرك ذاتها وحقيقتها إدراكاً واعياً ومتجدداً، وأن تنضو عنها ما علق بها من جمود دخيل ومن تخلف طويل.
يبقى بعد هذا كله أن تقوم النظرية العربية الإسلامية التي تبرز معالم هذا الرفد النوعي المتميز الذي تستطيع أن تقدمه في ميدان القيم الإنسانية وفي ميدان النظام الاجتماعي المنشود. وتلك مهمة شاقة وطويلة ينبغي أن تجند لها الأفكار وتعبأ القوى. ومثل هذا العمل الشاق لابد أن يهون أمام ما يعد به من آمال كبرى تتصل بمستقبل الإنسان في البقعة العربية الإسلامية وبمستقبل الإنسان أنى كان.