الأدب ووحدة الثقافة العربية

الآداب – العدد الثاني – شباط/فبراير 1978

الأدب ووَحَدة الثقافة العَرَبيَّة
بقلم الدّكتور عَبد الله عَبد الدائِم

لعل الأدب – من بين مظاهر الحضارة الأخرى – أحفلها تعبيراً عن شخصية الأمة وهويتها القومية، لا بوصفه مرآة لتلك الشخصية فحسب، ولكن بوصفه أعمق أداة لخلقها وتجديدها أيضاً. إن سائر قسمات الحضارة، من علم واقتصاد وعمران وسواها، نتاج لإبداع الأمة وعبقريتها وقدرتها على تسخير الطبيعة للإنسان. أما الأدب – ومعه الفن والفلسفة – فهو الذي يكشف عن الملامح الذاتية الخاصة للأمة حاملاً منه نظرتها إلى الكون والوجود وتصورها لدور الإنسان فيهما. إنه وعي الأمة لحقيقتها ورسالتها، وإنه الدور المشع عبر العصور يختزن معه كل يوم رؤاها العميقة وصبواتها المتشوفة المتجددة وطموحها الخلاق إلى إبداع مصيرها ومصير الإنسان عامة.
وهو إذ يفعل ذلك، يندسّ في أعماق الشعور، بل في أقاصي اللاشعور، ويحفر مجراه في النفوس عارماً قوياً باقياً لا تزعزعه الغواشي ولا تنال منه الأحداث. أصالة الأمة ثاوية أولاً في أدبها، لأنه تعبير عما تنفرد به، ولأن أداته اللغة القومية التي تحمل معها دوماً فلسفة الأمة وتجربتها، ولأن ميدانه الجماهير الواسعة العريضة، يغذي ويغتذي بها، ويرفدها وترفده، ويحيا بها ومنها. والأدب العربي من أكثر الآداب العالمية التصاقاً بهوية الأمة وأصالتها ورسالتها لا لأنه أدب غني وحسب، بل لأنه كان وما يزال أبرز ما اختصت به الأمة العربية منذ بداية تاريخها حتى اليوم.
وليس من قبيل الطرفة أن نروي ما أثر عن ابن المقفع في هذا الشأن:
جاء في «الإمتاع والمؤانسة» لأبي حيان التوحيدي ما يأتي:
«قال شبيب بن شبة: أنا لوقوف في عرصة المربد – وهو موقف الإشراف ومجتمع الناس وقد حضر أعيان المصر – إذ طلع ابن المقفع، فما فينا أحد إلا هشّ له وارتاح إلى مساءلته. ثم أقبل علينا فقال: أي الأمم أعقل؟ فظننا أنه يريد الفرس. فقلنا: فارس أعقل الأمم، نقصد مقاربته ونتوخى مصانعته. فقال: كلا، ليس ذلك لها ولا فيها، هم قوم علموا فتعلموا، ومثل لهم فامتثلوا واقتدوا، وبدئوا بأمر فصاروا إلى أتباعه، وليس لهم استنباط ولا استخراج. فقلنا له الروم. فقال: ليس ذلك عندها، بل لهم أبدان وثيقة، وهم أصحاب بناء وهندسة لا يعرفون سواهما ولا يحسنون غيرهما. قلنا: فالصين. قال: أصحاب أثاث وصنعة، لا فكر لها ولا روية. قلنا: فالترك. قال: سباع للهراش. قلنا: فالهند. قال: أصحاب وهم ومخرقة وشعبذة وحيلة. قلنا: فالزنج. قال: بهائم هاملة. فرددنا الأمر إليه. قال: العرب. فتلاحظنا وهمس بعضنا إلى بعض. فغاظه ذلك منا وامتقع لونه ثم قال: كأنكم تظنون فيّ مقاربتكم، فوالله لوددت أن الأمر ليس لكم ولا فيكم، ولكن كرهت أن فاتني الأمر أن يفوتني الصواب. إلى أن يقول: «إن العرب ليس لها أول تؤمه ولا كتاب يدلها. أهل بلد فقر ووحشة من الأنس، احتاج كل واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله..». وبعد أن يبين كيف قادهم ذلك إلى تنظيم أمور معاشهم وحياتهم وابتكار آدابهم وعلومهم، ينتهي إلى القول: «وجعلوا بينهم (يعني العرب) شيئاً ينتهون به عن المنكر، ويرغبهم في الجميل، ويتجنبون به الدناءة ويحضهم على المكارم. حتى أن الرجل منهم وهو في فج من الأرض يصف المكارم فما يبقي من نعتها شيئاً، ويسرف في ذم المساوئ فلا يقصر. ليس لهم كلام إلا وهم يحاضون به على اصطناع المعروف ثم حفظ الجار وبذل المال وابتناء المحامد. كل واحد منهم يصيب ذلك بعقله، ويستخرجه بفطنته وفكرته، فلا يتعلمون ولا يتأدبون، بل نحائز مؤدبة وعقول عارفة، فلذلك قلت لكم: إنهم أعقل الأمم لصحة الفطرة واعتدال البنية وصواب الفكر وذكاء الفهم»».
ليس قصدنا من رواية هذا الحديث أن نفاضل بين العرب وسواهم وأن ندعي لهم السبق والفضل على من عداهم، فنحن ننكر مثل هذا المذهب في مديح أمة وتجريح سواها. غير أننا نؤمن – وتؤمن معنا الدراسات الحديثة – أن ثمة خصائص تميز أمة من أمة كالخصائص التي تميز طباع الأفراد بعضها من بعض. وليس في ذلك حكم قيمة وتفضيل لخاصة على أخرى وبالتالي لأمة على أخرى، بل تقرير لواقع ووصف لحقيقة. ومثل هذا المعنى هو الذي ينتهي إليه صاحب «الإمتاع والمؤانسة» إذ يقول معقباً على كلام ابن المقفع:
«فلكل أمة فضائل ورذائل، ولكل قوم محاسن ومساوئ، ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحلها وعقدها كمال وتقصير. وهذا يقضي بأن الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مفاضة على جميع الخلق، مفضوضة بين كلهم. فللفرس السياسة والآداب والحدود والرسوم، وللروم العلم والحكمة، وللهند الفكر والرواية والخفة والسحر والأناة، وللترك الشجاعة والإقدام، وللزنج الصبر والكد والفرح، وللعرب النجدة والقرى والوفاء والبلاء والجود والذمام والخطابة والبيان».
على أننا حين نذكر أن الأدب هو السمة الغالبة التي امتازت بها الأمة العربية لا نعني بذلك أن نعاود خطأ شائعاً، وهو أن المنازع العلمية التجريبية بعيدة عن عطاء العرب وحضارتهم. فنحن نؤمن أن أهم ما تتصف به الحضارة العربية أنها استطاعت -ولا سيما في أوج ازدهارها- أن تجمع جمعاً وثيقاً بين المنازع الأدبية الفكرية وبين المنازع العلمية التجريبية، في حين اقتصرت الحضارة اليونانية كما يقول راندال، في كتابه عن «تكوين العقل الحديث» على النتاج الفكري والفلسفي، ودار فيها العقل حول ذاته بدلاً من أن يدور حول الأشياء. وحسبنا دليلاً على ذلك «بيت الحكمة» في بغداد وعطاؤه العلمي وأبحاثه التجريبية، إلى جانب العطاء الأدبي والفكري الذي نعرف. وهذا المنزع العلمي التجريبي لدى العرب – الذي ولد الحضارة الحديثة في الغرب – هو الذي يحلو لكاتب مثل «فانتيجو» أن يدعوه باسم المعجزة العربية.
وبعد، هذا حديث ذو شجون قد يذهب بنا بعيداً وقد ينأى بنا عن مقاصد بحثنا. ولعل خير ما نفعل للتدليل على صحة ما قدمنا من قول حول الالتحام العميق بين الأدب وحياة العرب ونظرتهم إلى العالم، أن نتقرى بعض صفحات الأدب العربي في ماضيه وحاضره، وأن نرى خاصة كيف عبر هذا الأدب عن ثقافة موحدة وكيف كان في الوقت نفسه أداة لتوحيد الثقافة.
وهنا نود – رغبة منا في جمع شتات مثل هذا البحث الواسع الشائك – أن نتحدث عن هذه الصلة بين الأدب ووحدة الثقافة العربية خلال فترتين من فترات حياة الأمة العربية، فنتحدث أولاً عن دور الأدب في وحدة الثقافة العربية، بل وفي سلامة الأمة العربية وحفظها، بعد تداعي الدولة العربية الإسلامية على يد الأعاجم حتى بواكير النهضة العربية في مطلع القرن التاسع عشر حتى اليوم، ثم نخلص من هذا إلى إيضاح مفهومنا للدور الذي ينبغي أن يلعبه الأدب في المستقبل من أجل توطيد وحدة الثقافة العربية وتعميق مجراها وإغناء عطائها.
فنحن في هذا لابد أن نقتصر على عرض خاطف سريع، فشعاب البحث كثيرة هيهات أن تفي بها أسفار برأسها.
أما دور الأدب في وحدة الثقافة العربية في عصر تكونها في الجاهلية والإسلام وفي عصور ازدهارها أيام بني أمية والعباس فندعه جانباً لاتساع أبعاده ونطاقه ولأن شأنه بين لا يحتاج إلى فضل من إيضاح.

أولاً – الأدب ووحدة الثقافة العربية أيام انحطاط الدولة العربية:
لابد من التنبيه أولاً أن عصر الانحطاط هذا متصل بما قبله موصول بما بعده، وأن فصلنا له هو من باب تيسير الدراسة والبحث. كذلك لابد من التنبيه أن ما يدعى باسم عصر الانحطاط عرف في الحقيقة ومضات مشرقة، وعرف يقظات سياسية نامية هنا وهناك في أرجاء الوطن العربي، وحمل في أعماقه بذور النهضة التي تلته. ولم يكن عصر الانحطاط سباتاً وركوداً كله، بل كان أقرب ما يكون إلى عصر انتظار وترقب وتحفز تنضج فيه التجربة العربية من خلال الألم ومرارة الهزيمة العسكرية، وتقيم في الأعماق قواها المتطلعة إلى الانبعاث.
وههنا أيضاً نكتفي بالقليل، محاولين الاقتصار على جوهر الأمر، وجوهر الأمر عندنا أن الأمة العربية حين غلبت على يد أخلاط المغول والترك والتتر، ولا سيما بعد سقوط بغداد عام 1258 هـ هزمت عسكرياً ولم تهزم ثقافياً. ولقد كان ارتيادها المستمر لمعين أدبها وما يحمله من تعبير عن هويتها القومية وعن قيمها التي تدين بها، أهم عامل في الإبقاء على وجودها وفي مقارعتها للدخلاء ومناهضتها للغزاة. لقد ظلت المعاني التي حملها الأدب العربي في العصور الخالية شائعة لدى أبناء الأمة في جميع أقطارهم في فترة التقهقر هذه، يغتذون بها ويستمدون منها شعوراً بالأصالة وبوحدة الارتباط ووحدة المصير، ويمتاحون من خلالها العزم على الانبعاث والنهضة. وأهم ما في الأمر أن تلك المعاني الأدبية لم تكن شائعة لدى الصفوة من المتعلمين وحدهم، بل كانت حظاً مشتركاً بين أبناء البلاد العربية، على اختلاف حظوظهم من الثقافة. كانت تلك الآداب تنقل من الآباء إلى الأبناء، ويتناقلها جيل عن جيل، وتنبث في معاهد التعليم على اختلاف مستوياتها، كتاتيب أو مدارس، وتشيع في دور العلم غير النظامية، كمجالس العلماء ودور الوراقين والمساجد والزوايا والربط وسواها. كانت الأجيال تأخذها كابراً عن كابر، وفي كل دنيا العرب، شامخة حاملة لتراث واحد وقيم واحدة ومنازع واحدة، مكونة مواقف وأنماطاً من السلوك واحدة، أي ثقافة واحدة.
الأشعار التي تروى والأمثال التي تتداول والحكم التي تتبادلها الألسن والأقوال المأثورة التي تسير بها الركبان، كانت كلها ثروة من الفكر الواحد والقيم الواحدة. تشد أبناء الأمة العربية بعضهم إلى بعض وتلف الأقطار العربية كلها بإطار من الشعور بالانتساب إلى الأصل الواحد والانتماء إلى المحتد الأصيل.
لقد كانت لقاء عبر الحدود والسدود، ومن وراء الضغط والإكراه، تجمع الأمة العربية على كلمة واحدة وتزودها بما يشد من عزيمتها ويلهب آمالها ويذكي نضالها.
وهل نحتاج إلى الشواهد وهي أكثر من الكثير؟
مآثر الجاهلية الذائعة في حكم زهير وأوابد امرئ القيس وعنترة والنابغة والأعشى وسواهم، وأقوال الأعراب المنثورة وأمثالهم، وسوى ذلك كثير تطل عبر القرون تنبث في ذاكر الأجيال تمتاح منها الكثير من أخلاق العرب الأصيلة من كرم ونجدة وشجاعة ووفاء بالعهد ورعاية للجار ونصرة للمظلوم.
وأدب الدعوة الإسلامية ينقل إلى الأجيال صفحات من روح الإسلام وجهاده في سبيل نشر القيم العربية الإنسانية الخالدة. والأقوال المأثورة عن الصحابة والخلفاء الراشدين وسواهم من بناة الوثبة الإسلامية العربية تطبع في النفوس معاني الرسالة التي أوكلها الإسلام للعرب، والأخلاق العربية التي بعث الرسول ليتممها، وتعمل على خلق بنيان نفسي موحد وتربة فكرية متكاملة.
والأحاديث الشريفة تعلم الجهاد والنضال ومكارم الأخلاق، وترسم سبل السلوك والعمل، وتذيع بين أفراد الأمة تبني شخصيتها المتماسكة وسلوكها الموحد. والقرآن الكريم – كتاب العربية الأكبر – يأسر بإعجازه وبلاغته ولسانه العربي المبين نفوس العرب، ويجمعهم على كلمة واحدة وقيم واحدة، ويؤلف بين قلوبهم، ويحيل وجودهم وجوداً إنسانياً شاملاً، ويجعل منهم أمناء على نظرة واحدة، حملة لمنطلقات واحدة، رواداً لبناء عالم إنساني جديد، ويحفظ فوق هذا وقبل هذا لغتهم القومية ويغنيها ويتخذ منها الأداة الأولى لوحدتهم الحافظة لكيانهم الحاملة لرسالتهم.
والتراث الأدبي في العصر الأموي – شعره ونثره – يذكي روح العروبة ويجند العصبية العربية في بناء الدولة الجديدة ويسجل خطوات العرب في انطلاقهم نحو الفتح المادي والمعنوي ونحو العمران الحضاري.
وأدب العصر العباسي وما بعده – أيام ازدهار الدولة العربية الإسلامية – يسجل نضال الأمة العربية في سبيل الإبقاء على هويتها أمام هجمات الشعوب الأخرى، ويعطي الصورة السليمة لمزج الثقافة العربية بالثقافات الأعجمية، ويرد دعاوى الشعوبية، ويبرز من جديد شأن العرب ودورهم وقيمهم وأخلاقهم. وهيهات أن نوفي هذا التراث الأدبي الموحَّد الموحِّد بعض حقه في مثل هذا المقام. ووراء ما ذكرنا أجواء وآفاق فسيحة من الأدب العربي الذي ذاع وشاع بين الجماهير في شتى الأقطار العربية وأشاع معه مواقف ونظرات ومثلاً قوية الوشائج، مفصحة عن أصالة الأمة العربية وخصائصها، باعثة على امتطاء طريق واحدة للعمل والبلاء.
وإذا كانت الثقافة تعني في نهاية الأمر – كما تبين الدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية الحديثة – أنماط لسلوك الشائعة لدى شعب من الشعوب، سواء كانت مادية أو معنوية، فلا شك أن أنماط السلوك لدى الإنسان العربي قد صاغتها الآداب العربية صياغة واحدة متينة أصيلة، جعلت من الوجود العربي جسداً واحداً يختلج وينشط مؤتلفاً متسقاً متناغماً.
لقد أوجد الأدب ضرباً من الشعور الجماعي، بل من اللاشعور الجماعي، وتغلغل الكيان العضوي للفرد العربي أنى كان وخالط منه اللحم والدم، ووسمه بسمات واحدة ونظرات جامعة تنبثق من الأعماق في كل مناسبة ترده إلى أصوله وجذوره مهما تأتمر عليه الأحداث.
ولقد استطاعت هذه الثقافة الأدبية العربية الموحدة، أشعاراً وأمثالاً وأقوالاً مأثورة وحكماً وأقاصيص ونصوصاً أدبية وأحاديث شريفة وآيات، أن تبقى خاصة على هوية الإنسان العربي في عهود الغلبة الأجنبية، ولا سيما بعد الغزو الاستعماري الأوروبي، وأن تكون لديه قيماً متماثلة ونظرات متشاكلة وعزيمة موحدة في سبيل الخلاص من أثقاله والانطلاق نحو تجديد رسالته. إنها إلى جانب التراث الإسلامي في تمامه وكماله، بل عن طريق التضامن الكامل بينها وبينه، حفظت الشخصية العربية من الضياع وأنقذتها من مخاطر الاغتراب والاستلاب الثقافي، وجعلتها قادرة على مقاومة ما تعرض له المجتمع العربي لاسيما بعد غزو الاستعمار من أخطار تهدد قيمه وبنيانه وتاريخه، بل تهدد وجوده. وهنا لابد من كلمة حق تقال وهي أن الذي وفر الحماية الثقافية والحماية القومية السياسية وبالتالي للوجود العربي بعد غزوات الاستعمار الغربي خاصة منذ أيام الحملات الإيبيرية حتى غزوات الاستعمار الحديث، لم يكن كما قد يخيل للمرء أولئك المثقفين الذين اغتذوا بالثقافة الأجنبية وحاولوا نقلها إلى أوطانهم. فبعض هؤلاء المثقفين كثيراً ما خدعوا ببريق الثقافة الغربية الوافدة وبقيمها المحدثة خداعاً أنساهم في كثير من الأحيان جذورهم وأصولهم العريقة. بل إن فريقاً منهم لم ينج من أن يكون لعبة في يد المستعمر يجنده في معركته الضارية ضد الوجود العربي، تلك المعركة التي وعى المستعمر منذ البداية أنها لن تفلح سياسياً وعسكرياً إذا لم تفلح ثقافياً، أي إذا لم يتم اقتلاع الإنسان العربي من تربة ثقافته القومية تمهيداً لاقتلاع شخصيته المستقلة ولذوبانه في شخصية الغازي. لقد أراد الاستعمار أولاً وقبل كل شيء – ومحاولته العنيدة في المغرب العربي أكبر شاهد على ذلك – أن يخلق لدى الإنسان العربي إكباراً لثقافة الأجنبي المحتل يوازيه إزراء بالثقافة العربية، ووعى بوضوح أن النصر العسكري والسياسي لن يتأتى له إلا إذا حقق النصر الثقافي. هذا الهدف الاستعماري أيدت جهوده مع الأسف فئات مثقفة في البلاد العربية – عن وعي منها أو عن غير وعي – حسبت أن تخلف البلاد العربية مرده إلى تخلف ثقافتها وقيمها، وإن سبيل التقدم هو اصطناع الثقافة الغربية والمعايير الغربية.
ومن هنا فإن الذي حفظ الثقافة العربية حقاً من الضياع والاضمحلال، وحفظ الوجود العربي كله، لم يكن المثقفين بالدرجة الأولى، بل كان جمهرة الناس من أبناء الأمة العربية الذين تختلف حظوظهم الثقافية دون شك ويختلف نصيب كل منهم من ثقافته العربية، غير أنهم جميعهم رضعوا إلى حد كبير من معين تراثهم القومي الكبير وأدبهم العربي الموحد.
نقول هذا ونحن ندرك أن فريقاً من المثقفين قيض لهم أن ينجوا من هذا التشويه والانحراف الثقافي، وعرفوا كيف يستمدون من ثقافة الأجنبي ما يردهم إلى جذورهم وما يوظفونه في خدمة ثقافتهم وأمتهم وما يحاربون به الدخيل عن طريق سلاحه نفسه.
والحق أن مقارعة الاحتلال الأجنبي لجأت في كثير من الأحيان إلى سلاح الثقافة العربية الأصيلة وجعلت وسيلتها إحياء الآداب العربية والتراث العربي. فكما ناهض المجتمع العربي في العصور القديمة الهجمات الشعوبية عن طريق إحياء الآداب العربية وبيان مآثر العرب في الجاهلية وما بعدها، فعلة الجاحظ وابن قتيبة وسواهما، قارع المثقفون المؤمنون بأمتهم الاحتلال العثماني، ومن بعده الاحتلال الغربي، عن طريق نشر الثقافة العربية وإحيائها. هذا ما فعله الشيخ طاهر الجزائري في دمشق، وما فعله إبراهيم اليازجي والشيخ عبد القادر الأسير وبطرس البستاني وحسن بيهم في لبنان في محاربتهم للعثمانيين، وهذا ما فعله «العلماء» في الجزائر وما فعله كثير سواهم في سائر أرجاء الوطن العربي من أجل محاربة الاستعمار الحديث.
ثانياً – دور الأدب في وحدة الثقافة العربية في العصور الحديثة:
العصور الحديثة في التاريخ العربي نجد بذورها كما قلنا في مرحلة الانحطاط نفسها التي لم تخل من ومضات وخلجات انبعاثية. وهنا أيضاً لا نستطيع أن نفصل هذه العصور عما سبقتها وأن نضع لها حدوداً زمنية دقيقة. ولعل حملة نابليون على مصر في مطلع القرن التاسع عشر إحدى الصور الهامة التي تشير إلى بداية تلك العصور.
على أنه ليس من شأننا أن نتحدث حديثاً تاريخياً عن تلك العصور وأن نبين عوامل نشأتها وخصائصها. والذي يعنينا أن نتحدث عن سماتها الأدبية. وأبرز سمة أدبية لتلك العصور ظهور آداب المحدثين هؤلاء بالتجربة الأدبية العالمية.

وظهور أدب المحدثين هذا إلى جانب الآداب العربية القديمة طرح في قوة وقسوة مسألة الصراع بين القديم والحديث، وبتعبير أوضح طرح الصراع بين الاتجاهات الأدبية التي سقت جذورها أولاً وقبل كل شيء من الآداب الأجنبية وبين الاتجاهات التي ظلت تنهل من معين الآداب العربية القديمة.
وإذا توخينا الإيجاز المفرط في هذا المجال قلنا إن الأدب العربي الحديث ترجّح في الواقع بين تيارات ثلاثة أساسية:
أولها- التيار الذي يسقي معظم عطائه ونتاجه من الأدب العربي القديم ويحاول إحياء التجربة الأدبية العربية إحياء حرفياً عن طريق الرجوع إلى مظانها الأصيلة عن طريق نشر تلك المظان وإشاعتها.
وثانيها- التيار الذي أعرض عن الأدب العربي والثقافة العربية القديمة واستهتر بهما، بل عمل على الإزراء بشأنهما، سعياً إلى نشر قيم الحضارة الغربية الوافدة وإلى تقليد أساليبها وفنونها الأدبية. ويرتبط بهذا التيار تيار الأدب المحلي الإقليمي الذي حاول أن ينسلخ عن ربط الثقافة في بعض الأقطار العربية بالثقافة العربية وأن يربطها في آن واحد بالثقافات التاريخية القديمة والثقافات القطرية المحلية والثقافات الأجنبية.
وثالثها- التيار الذي حاول مزج الثقافة العربية بالثقافة الأجنبية فاصطنع لغة العصر الحديث وأساليبه المحدثة في نشر الثقافة العربية وفي إبداع ثقافة عربية جديدة تسقي موضوعاتها من التراث العربي في الماضي أو من حياة المجتمع العربي في الحاضر.
ولن نتريث عند كل واحد من هذه التيارات الثلاثة، فالحديث عن مثل هذا لن يتسع له هذا المقام. وحسبنا أن نقول أن التيار الذي مكن لنفسه واستطاع أن يحيا ويتطور هو التيار الثالث، تيار المزج بين الثقافة العربية والثقافة الأجنبية. أما التياران الآخران فلا نقول إنهما زالا وانقرضا، فهما ما يزالان قائمين حتى اليوم. غير أنهما فقدا القدرة على التأثير وعاشا ويعيشان إلى حد كبير في عزلة عن جملة الجو الثقافي الذائع لدى جمهرة أبناء الأمة العربية. على أن هذا التيار الثالث نفسه، تيار المزج بين القديم والحديث، كان وما يزال مراتب ودرجات وأنواعاً. ومن المفيد أن نرصد بإيجاز تلك المراتب والأنواع، لأن في ذلك دليلاً يهدينا إلى ما نريد لمستقبل الثقافة العربية.

فالجمع بين القديم والحديث أخذ أحياناً مظهر الإضافة والضم. بمعنى أنه جمع بين وجهتين من أوجه الأدب، الأدب العربي والأدب العالمي الحديث، جمعاً حفظ لكل منهما هويته وطابعه دون أن يستطيع إقامة اللحمة اللازمة بينهما ودون أن يتمكن في النهاية من توليد أدب عربي الطابع والموضوعات حديث الأسلوب والنهج. لقد كان هذا النوع من الأدب يعرض صورتين من الأدب، الأدب العربي والأدب الأجنبي، دون أن يقوى على استخراج مركب جديد أصيل وحديث معاً.
وفي أحيان أخرى أخذ هذا المزج بين القديم والحديث مظهراً آخر، مظهر أدب يحاول في ظاهر الأمر أن يعالج مشكلات الإنسان العربي والمجتمع العربي ولكنه في الواقع – تأثراً منه بالآداب الأجنبية وجهداً منه لحقيقة مشكلات المجتمع العربي – أثار في معظم الأحيان مشكلات منقولة مجلوبة أراد أن يحملها للوجود العربي بل أن يفرضها عليه.
وراء هذا وذاك قام جهد أصيل للمزج بين القديم والحديث، انطلق أولاً من الواقع العربي ومن مشكلاته وهمومه، واصطنع للتعبير عنها كل ما يقربه من ذلك، ولا سيما الأساليب الحديثة في الفنون الأدبية. لقد سقي أصحاب هذا الاتجاه من معين التراث ومن نبع الواقع العربي، وعرفوا حياة المجتمع العربي ومشكلاته، وعاشوا مع الجماهير العربية في همومها ونضالها وتطلعاتها، وصاغوا تجربتهم العربية الطابع في إطار أدب أصيل لا تبدو عليه آثار العجمة وإن يكن قد اغتذى من لبان الأدب العالمي.
وهذا النوع الثالث من مزج القديم بالحديث أو التالد بالطريف أو الأصيل بالمحدث، هو الذي يعنينا أمره، لأنه التعبير السليم عن الصيغة المرجوة لوحدة الثقافة العربية. ولا نقصد بهذا القول أن هذا النوع من الأدب قد نجح نجاحاً كاملاً في مهمته، وأنه لم يتعثر في مشيته هذه، ولم يترجح بين التيارات الأخرى أحياناً. فالأدب العربي الأصيل الحديث الذي ننشد هو تجربة موصولة قطعت شوطاً كبيراً ولكن أمامها أشواطاً، بل أمامها ما لا حدّ له ولا نهاية من الجد والكد في سبيل توليد أدب ذي قوام عربي وذي قدرة على الخلق والإبداع الإنساني. وأهم سمة تسم هذا الأدب بل تكوّن معادلاته، هي التصاقه بالجماهير وتعبيره عن حياة الشعب العربي وتطلعاته، في كتله العريضة وجموعه الكبيرة.
ولا نغلو إذا قلنا إن الأنواع الأخرى من مزج الثقافة، ومن ورائها التياران اللذان أشرنا إليهما، تيار قديم القديم وتيار الحديث المجلوب، كانت في معظم الأحيان من صنع طبقة من الأدباء أرستقراطية النشأة أو العقلية، كما كانت موجهة في كثير من الأوقات إلى علية القوم من أمراء وحكام وحفنة ثقافية محدودة. ومن هنا لم تستطع تلك الطبقة، رغم ثقافتها المزدوجة أحياناً، القديمة والحديثة، أن تولد أدباً أصيلاً يعبر عن واقع المجتمع العربي ويتقرّى حاضره آملاً في بناء مستقبله. لقد افتقدت هذه الأنواع من الأدب غالباً مصدر وحيها الأصيل، حين لم تعرف جماهير الشعب العربي ولم تحي معها همومها وتطلعاتها. بل لقد كانت النظرة المستترة وراء نتاج هذه الطبقة، النظرة إلى الأدب بوصفه متعة أو حيلة أو براعة في اللفظ أو إكثاراً من الطرف والنوادر. لم يكن أدب تلك الفئة مدفوعاً بوعي الجماهير موجهاً إليها، بل كان إلى حد كبير أدب المتأنق اللاهي، يطرب للكلم الجميل ويطرب به، ويأنس بالغريب أياً كان شأنه ومصدره، ويؤثر التعالم والتفيهق على التأثر بحياة الشعب والتأثير فيها. قلما كانت تلك الفئة تطرح على نفسها هذا السؤال الذي لا يكون أدب حق بدونه: لماذا نكتب ولمن نكتب؟ ولعل الكتابة عندها غاية في ذاتها، ليس لها معيار إلا معيار الجمال الشكلي والرونق المعجب. لقد كان الأدب لديها ألهية، وكان المبنى مقدماً على المعنى، وكانت تركب المركب السهل، مركب اللعب اللفظي الذي ساد أيام انحطاط الدولة العربية.
غير أن مثل هذا الطراز من الأدب المترف ما لبث حتى فقد شأنه وبطل دوره بعد تغير المجتمع العربي وتطوره، وبعد أن أصبحت القضية الأولى في حياة العرب قضية البناء الاجتماعي وخلق الكيان العربي المستقل النامي المتحرر من أثقال أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية السيئة. ومن هنا نشأ ذلك النوع الحي من الأدب، الأدب الذي يبحث عن الأصالة والجودة والإبداع في أعماق حياة الجماهير العربية وفي حرارة انطلاقتها نحو بناء مجتمع جديد. بل لقد كان هذا التيار الجديد في الأدب من القوة والزخم بحيث أكره الأنواع الأخرى من الأدب على تأثر خطاه وإن لم تفلح في ذلك إلا ظاهراً.
إن الثقافة العربية في العصور الحديثة التي عرفت غزو المستعمر وغزو الثقافة الدخيلة، وعرفت الصراع بين الأمة العربية وبين أعدائها، وأخذ فيها النضال القومي صورة النضال ضد الاستعمار والتخلف معاً، نقول إن الثقافة العربية في العصور الحديثة لم تعد تعني – كما كانت من قبل – مجرد إحياء التراث العربي وجلائه وبيان مواطن الابتكار والقوة فيه، كما لا تعني أيضاً الاستلقاء المسترخي في أحضان الثقافة الأجنبية. لقد أصبح للثقافة العربية الأصيلة تعريف واحد لا ثاني له وهو أنها التعبير عن واقع حياة الأمة ومشكلاتها وسعيها لبناء حياتها الجديدة. ووحدة الثقافة العربية بالتالي لم تعد تعني مجرد الانتساب إلى تراث عربي قديم موحد له شأنه وقيمته دون شك، كما لا يمكن أن تعني ارتداء ثوب الثقافة الغربية، بل أصبح قوامها ذلك الأدب الذي امتد من المحيط إلى الخليج، يجلو حياة الشعب العربي ويعبر عن مشكلات المجتمع العربي ويرسم طريق الخلاص للأمة العربية.
وتلكم هي سمات الأدب الأصيل في كل عصر ومصر. إنه لا يستطيع أن ينسلخ عن حرارة مشكلات مجتمعه، ولا يستطيع أن يملك مفجرات الإبداع ودوافع الخلق الأدبي إذا هو لم يحي عصره ولم يعش هموم شعبه ولم يشارك في تطلعات أمته وصبواتها، بل إذا هو لم يتصدر المعركة، ويرهص بما هو آت ويتحسس قبل سواه دفقة التيارات العميقة التي تثور في أعماق الأمة وتحركها نحو عهد جديد، أوليس الأديب والفنان أصلاً وجوهراً من كان أقدر على تحسس مشاعر الناس الدفينة قبل انبجاسها وعلى التعبير عن تطلعاتهم الخفية قبل ظهورها والإرهاص بمستقبلهم الذي يومئ إليه حاضرهم؟ أوليس الأديب أشبه بميزان حساس يهتز للتيارات الخفية وينذر بوجودها ويخرجها من حال الوجود بالقوة إلى حال الوجود بالفعل؟ وإذا كان الأدب مرتبطاً – كما يحلو لبعضهم أن يقول – بعواطف الأديب الذاتية وأحاسيسه الداخلية، أفيمكن الفصل – وعلم النفس يشهد على ما نقول – بين ذات الأديب وذات المجتمع الحالة فيه؟ أوليست الأنا الفردية والأنا العليا – على حد تعبير أصحاب التحليل النفسي – مرتبطين ارتباطاً عضوياً بحياة الجماعة وتربتها وثقافتها؟ وهل هنالك عواطف وأحاسيس إنسانية معلقة بين السماء والأرض، مفصولة عن هواء مجتمع قومي وإنساني معين؟
نقول هذا وفي ذهننا تلك النظرة التي توحد بين القومية والإنسانية وترى في التربية القومية المكان الطبيعي لتفتح المشاعر الإنسانية. والإنسان عندها لا يكون إنساناً حقاً إن لم يكن أولاً ابن قومه وأمته، ولا يكون شيئاً إذا لم يكن أولاً من هو، أي ذلك الإنسان الذي اختلط وجوده بوجود أمته، وأطلّ من خلال ذلك الوجود على الوجود الإنساني كله. هذا هو الدرس الذي تعلمنا إياه الحضارة العربية وتعلمنا إياه أي حضارة. إن أي حضارة لا تعطي للإنسانية إذا لم تع ذاتها وخصائصها لتسهم من خلال ذلك في العطاء الإنساني.
وتحضرني بهذه المناسبة بعض أقوال الشاعر القروي. لقد عبّر أصدق تعبير عن هذا الالتحام بين القومية والإنسانية حين بيّن أن الأولى طريق الثانية وأن الحديث عن نزعة إنسانية مفصولة عن الجذور القومية لا يعدو أن يكون ضرباً من اللهو أو ضرباً من التضليل، إن لم يكن تعبيراً عن خور وضعف. فالنزعة الإنسانية المجردة الخلوة من دمها الحي، دم القومية، بضاعة مجلوبة حاول الاستعمار أن يدسها في المجتمع العربي وفي سائر الدول الضعيفة من أجل الاستمرار في إذلالها والسيطرة عليها. وحتى شعار السلام، وهو شعار رفيع الشأن، ينقلب إلى ضرب من الاستسلام عندما يدين به الضعفاء من دون الأقوياء. وعندما يكون السلام الذي يفرضه الغالب على المغلوب. يقول الشاعر القروي:
أما السلام فإننا أعداؤه
حتى يدين بحبه أقوانا

ويقول أيضاً:
أتيناهم بإنجيل المسيح
فجاؤونا بآيات الفتوح

ويعبر الشاعر القروي تعبيراً بليغاً عن هذا المعنى في مقدمة ديوانه الشعري «الأعاصير». ويذكر من يأخذ عليه غلوه في الشعر القومي أنه لا يستطيع أن يجترح المعجزات فيري الأزهار والورود في جو يسوده أزيز الرصاص ويعفره جو المعركة الدائرة بين الشعب العربي وبين المستعمر الدخيل.
وبعد، هذا أيضاً حديث ذو شجون، ولعلكم تطمحون إلى أن أحدثكم عن شواهد من ذلك التيار الأدبي العربي الأصيل الذي عبر عن هموم المجتمع العربي وتطلعاته، والذي عنت الحداثة والأصالة عنده العودة إلى الأصول والينابيع، أصول الوجود العربي في سرّائه وضرّائه، في قلقه وطمأنينته، في كرّه وفرّه، في نضاله الموصول من أجل بناء كيان عربي جدير بحضارة الأمة وتراثها، قمين بحاضرها ومستقبلها.
غير أن هذا المطلب تقصر عنه مجلدات بكاملها، ونخشى إن نحن اقتصرنا على القليل أن نغمط الموضوع حقه وأن نقع في تقصير مخلّ. وهنالك من بينكم، وفي الوطن العربي، من هو أقدر منا على القيام بمثل هذه الدراسة التي نأمل أن يتوفر عليها أدباؤنا.
وحسبي أن أشير إشارات تلغرافية إلى بعض مظاهر هذا التيار:
أدب المقاومة، أدب الثورة الفلسطينية بعض منه، وأدب الكفاح والنضال ضد المستعمر طرف من أطرافه، والروايات والأقاصيص المعبرة عن أوضاع الشعب الاجتماعية القاسية أو عن تطلعاته حلقة من حلقاته، وعطاء الشعراء الملتزمين بأمتهم، المعبرين عن صبواتها، المفصحين عن شؤونها وشجونها، جانب من جوانبه، وأدب المفكرين والمنظرين لحياتنا القومية والاجتماعية وجه أصيل له، والأدب الشعبي الذي يحكي حياة المجتمع العربي وأجواءه وأتراحه مظهر من مظاهره، والأدب الذي يعرف أن يسقي من تراث العرب الماضي بواعث الحاضر وأن يصل ماضي الأمة بمستقبلها شكل بارز من أشكاله..
أ/ا الأسماء التي عبرت عن هذا الأدب فكثيرة أستميحكم المعذرة إن عجزت عن تعداد بعضها في هذه الفرصة المحدودة. ولعل من الصحيح بعد ذلك أن هذا النوع من الأدب تيار قبل أن يكون أسماء، ولعلنا نجده مبثوثاً في نتاج واسع عريض أكثر مما نجده متحلقاً حول أسماء بعينها. غير أنه في هذه الأحوال كلها قائم هناك، يزكو وينمو ويشتد عوده يوماً بعد يوم. إنه في آن واحد تعبير عن وحدة الثقافة العربية بمعناها الصحيح والأصيل، وبناء لهذه الوحدة الثقافية. وهل يقوى على توحيد الثقافة العربية إلا أدب يمتاح ثراءه من وجود الأمة ومطالبها وحاجاتها؟ وهل ثمة ما يوجد الثقافة العربية غير هذا التيار الذي يقتحم الحلبة ويومئ بمستقبل الوجود العربي؟ ولقد شقّ هذا التيار طريقه في الأقطار العربية جميعها، وإن يكن حظه من النمو يختلف من قطر إلى قطر.
إن سائر التيارات الأدبية في نظرنا لا تستحق من المحلل لواقع الثقافة العربية أن يتوقف عندها. إن الذي يعبر عن حياة الأمة الحقة دوماً وأبداً ليست التيارات الجانبية، ولا الهوامش الشاذة، ولا بقايا ومخلفات العهود الماضية، ولا تخبطات ثقافة مغتربة ضلت وجودها وأخطأت مشيتها، بل الذي يعبر حقاً عن حياة الأمة ووحدتها التيار الفعال المحرك الذي يشق طريقه في ثبات وقوة، ما دام موطئ قدمه واقع مجتمعه وتطلعات شعبه وصبوة أمته.
قد يعيش الأدب البعيد عن الأصالة في خزائن المكتبات، أما الأدب الذي يعيش في النفوس، ويحفر مجراه في العقول، ويدخل القلوب قبل الآذان، فهو الذي يعبر عن حاجة حقيقية ويجيب على تساؤلات حية ويستجيب لنداءات عميقة صادرة عن لجة الجماهير، لجة الحياة.
لقد قلنا ونقول إن قوى الإبداع الضخمة والحقيقية في أمتنا ثاوية في الجماهير المحرومة. وما الاشتراكية إلا سبيل لتفتح قوى الإبداع تلك، عن طريق تحريرها من أغلال أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية السيئة التي تقتل قوى الإبداع لديها في مهدها وتحول دون كامل عطائها. والأدب من أبرز مظاهر الخلق والإبداع: إنه أيضاً هناك، في الجماهير الواسعة العريضة، يغترف منها الأديب الحق وحيه ورؤاه، ويأبى الأديب الصادق أن يغترب عنها، ولا يرضى إلا أن تكون مواقعه مواقعها ومواقفه مواقفها. بل إن الأديب من خرج من صفوفها وتكوّن في الحياة المشتركة التي خاضها معها، ثم رد إليها بضاعتها أدباً صافياً نقياً لا يصطنع بل يجود بما أخذ، ولا ينحت من صخر بل يغرف من بحر، ولا ينطق بلسانه بل ينطقه لسان الجماهير. والكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.

أجل لابد أن يكون للكلام رصيد وإلا كان لغواً ولهواً. ورصيد كلام الأديب معاناته لحياة الجماهير ومشاركته فيها وإسهامه في تطويرها. والأدب كالنقد يعاني من التضخم شر معاناة، ويفقد مثله قيمته عندما يجاوز رصيده.
إن اقتران القول بالعمل أهم ما يميز بعض جوانب الأدب العربي القديم في جاهليته وإسلامه. وإن المعاظلة وفضول القول مما رفضه تاريخ تطور الأدب العربي. ولعل من أقوى مظاهر البلاغة والبيان في الأدب العربي في كثير من عصوره وضع القول في موضعه السليم وتعبيره الدقيق عن سلوك معين أو موقف معين. «إذا استطعت أن تجعل كلامك مثل التوقيع فافعل»: هذا شعار من شعارات الأدب العربي. إنه يوصي بالإيجاز الذي يؤدي إلى مطابقة اللفظ للمعنى، والمعنى عمل وسلوك. أما الجنوح إلى المعنى وتغليب الألفاظ على المعاني، فمن سمات عصور التخلف في الحضارة العربية.
وإذا كان من حق الأدباء وواجبهم أن يتأسوا الماضي، فلهم في أدب الرسول الكريم وأدب الصحابة وأدب الخلفاء الراشدين وأدب رجالات الدولة العربية الإسلامية من بعد، قدوة حسنة. لقد كان أدبهم حقاً تعبيراً مقتصداً عن موقف وعن عمل. هو أدب بليغ لأنه تعبير صادق دقيق عن موقف يفصح عن قيمة خلقية أو فكرية أو إنسانية.
وعصرنا هذا لا يقبل لغو القول. إن فيه من الأعباء الجادة والمهمات الضخمة ما ينكر فضول الكلم. إن التأثير في الأشياء وفي الواقع شعار المدنية الحديثة في شتى الميادين، ولابد أن يكون شعارها في الأدب. الأدب شكل وشكل هام من القوى المحركة للمجتمع الدافعة له إلى أمام. وأدبنا العربي أمامه من هموم أمته ومشكلاتها ومطالبها ما يملأ وجوده، وأمامه من المشكلات الجادة ما لا يسمح له بأن يتلهى بسواها. أجل، الأدب جد، والأدب يتفتح ويزكو جمالاً وروعة وخلقاً عندما يكون جاداً. ليس الجمال نقيض الجدية في الأدب بل هو خدينها ووليدها. الجمال الحق يستقي روعته من الصدق، الصدق مع الذات ومع الآخرين. إنه جمال مشرق لأنه مقتصد غير مسرف، ولأنه مطبوع غير مصنوع، ولأنه نزيه غير مصانع. إنه نتاج طبيعي لمن رقى في معارج المشاعر الإنسانية عن طريق احترامه لقيم الإنسان الحقة وعن طرق سعيه لنثها وتعميق جذورها.
ونود ههنا ألا يحمل قولنا هذا على غير محمله، وأن يظن أننا نرى أن يحبس الأديب نفسه في إطار موضوعات محدودة لا يتجاوزها تجنح إلى الموضوعات القومية والسياسية. فما ندعو إليه في الواقع هو أن يرتبط الأديب بمجتمعه وبالإنسانية من خلال مجتمعه وأن يعبر تعبيراً صادقاً عن هموم ذلك المجتمع وتطلعاته. وواقع المجتمع وتطلعاته ميدان رحب فسيح، بل ميدان يمكن التنويع والتفريع فيه دون ما حد. إنه يشمل المشكلات الاجتماعية وما أكثرها وما أشد تنوعها وما أوثق اتصالها بمشكلات الإنسان الفردية. وإنه يضم المشكلات النفسية – الاجتماعية، وهي أرض خصيب للتعرض إلى ما لا حد له من العواطف والمشاعر الإنسانية التي تحيا وتتحرك في إطار مجتمع معين. وإنه يشمل كل ما هو لصيق برسالة الإنسان على الأرض ونظرته إلى الكون من خلال مجتمعه وأمته. وغير ذلك كثير. إن تعرية بعض القيم الاجتماعية البالية مثلاً لا يقل شأناً عن النضال في سبيل تطوير المجتمع وتحريره وتقدمه، بل هو جزء من هذا النضال، وإن الدعوة إلى تحرير المرأة من رقّ أثقالها الاجتماعية التي تغلّ عطاء نصف الأمة ليس أدنى شأناً من النضال في سبيل التحرر من العبودية السياسية والعبودية الاقتصادية. وإن تنمية الذوق الرفيع والإحساس الفني الرهيف جزء من العمل على إصلاح المجتمع وتقويم عوجه. غير أن الذي نؤكد عليه أن يصدر هذا كله لدى الكاتب عن شخصية متكاملة وعن نظرة فلسفية متآخذة، وأن يكون لكل نوع من النتاج مكانه وموقعه في صلب الحياة الاجتماعية وفي جملة المعركة القومية التي هي – كما قلنا ونقول – معركة إنسانية في الوقت نفسه. ويقيننا أن الأديب الذي يسقي حقاً من معين إنسان مجتمعه لابد أن يلامس النضال في سبيل تطوير ذلك المجتمع في أي موضوع يطرقه، ولابد أن يصبّ عطاؤه حوله في رصيد المسيرة القومية. ولا نعني بذلك اصطناع الربط بين أي موضوع وبين حركة النضال الاجتماعي، بل نعتقد أن هذا الربط لابد أن يتحقق سهواً رهواً عفو الخاطر لمن تكاملت نظرته إلى مجتمعه وأدرك دوره فيه واستمد أمثلته وشواهده من لحمه ودمه. أولم يتذكر عنترة حبه لعبلة وهو في وسط المعركة:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم
ج
أو لم يجد الشاعر القروي في حبه للفتاة الإنكليزية «مود» مناسبة تذكره ارتباطه بقومه:
وحقك يا مود لولا ذووك

لما فرق الحب بين العباد

الأدب حياة، والحياة كل متآخذ، والأديب المبدع من سقى نتاجه من النظرة المتكاملة إلى المجتمع والناس والكون. قد يغلِّب بحكم طبعه جانباً على جانب، وقد يغلب هذا الجانب حيناً وذلك الجانب حيناً آخر، ولكنه في هذا كله وحدة من الفكر والنظرة والشعور، يرى رسالته الاجتماعية القومية الإنسانية في كل شيء ويرى كل شيء في رسالته الاجتماعية القومية الإنسانية. إنه قد يرى في زهرة الصباح تتفتح عن أكمامها تباشير الفجر لأمته، كما قد يرى في شدو الطير حنين الشعب وأنينه. قد تكون الأمة عنده أنثى وقد تكون الأنثى أمة، وقد يكون النهر الجارف فورة قومه وجيشان شعبه، وقد يكون هديره زأرة العربي وقد ثار على المستعمر كما في قصيدة شهيرة للشاعر القروي.
ألم يقل «تولستوي» إن كل شيء متصل بكل شيء؟ الإبداع الحق هو الذي يعرف أن يلفّ الأشياء كلها في إطار نظرة واحدة موحدة لحمتها وسداتها إنسان مجتمعه وقومه، لا ذلك الإنسان الخيالي الذي خلت عروقه من نبض الحياة أو تقيحت دماؤه في أسن الاغتراب عن هوائه وتربته. ليس الأدب عطاء مفصولاً عن الزمان والمكان، وليست العاطفة الأدبية أحاسيس مجردة تقيم في أطر خاوية. الأدب ومجتمع زمان ومكان معين وجهان لحقيقة واحدة. وكل ما في الأمر أن علينا ألا ننسى أننا نتحدث عن مجتمع مفتوح ولا عن مجتمع مغلق، عن مجتمع يجاوز ذاته ويرقى بوجوده عن طريق اتصاله بعالم القيم، وذلك العالم الذي هو دوماً أمامنا وليس وراءنا. يعدو أمامنا كالأفق ونبدعه دوماً ونجدده كما يبدعنا ويجددنا، ونخلق من خلال هذا السعي الموصول إنساناً يزداد إنسانية ويرقى في معارج الإنسانية إلى غير حد.
إن هذا التيار الأدبي الذي ندعو إليه والذي ظهرت تباشيره، حين يغرف من معين حياة الشعب في شتى أقطار البلدان العربية، وحين يعبر عن تطلعات هذا الشعب ونضاله من أجل تجديد وجوده، يكشف عن وحدة الثقافة العربية لدى الجماهير العريضة واقعاً وتطلعاً، ويؤكد وحدة الشعب العربي في نضاله على طريق معركة المصير الواحد. غير أنه فوق هذا يجلو وحدة الثقافة العربية من منظار آخر حين يكشف عن واقع هام: إنه يبين كيف أن هذه الوحدة الثقافية تمتلك حقاً أهم مقوّم لأي وحدة، نعني الوحدة في إطار التنوع. فالمجتمع العربي الذي يصف شؤونه وشجونه يتبدى من خلال ذلك مجتمعاً يتوافر له التنوع الذي يغني وحدته ويجعلها خصيبة. والوحدة العميقة كما نعلم، سواء في الثقافة أو سواها، هي الوحدة التي تتكون من تنوع الأجواء والتجارب وأنماط الحياة، ضمن إطار واحد شامل يجمع بينها. إنها الوحدة من خلال التنوع، وهو غير التعدد والانقسام بطبيعة الحال. كذلكم المجتمع العربي لمن عرف أن يجلو معالمه ويبرز قسماته: إنه مجتمع يملك أرضية مشتركة من أنماط الحياة والسلوك والمشاعر، غير أنها تلبس تبعاً لكل بيئة، أزياء وأشكالاً خاصة تزيد في إغناء الكل الذي تنتسب إليه. هذا الوجود العربي المتنوع في إطار الوحدة الموحد من خلال التنوع، هو الذي تعمل التجربة الأدبية الحية على جلاء صورته وكشف أبعاده. إنها تفصح من خلال الالتحام الحي بهذا الوجود، كيف تعمل صوره وأشكاله متناغمة متسقة في إطار اللحن الأساسي الذي يحكمها جميعاً. إنه يقدم عن طريق الاتصال المباشر الحي بالواقع، الحجة الدامغة التي تدحض ادعاءات القائلين بتباين الحياة العربية وتباعد ألوانها وتناقض أنماطها. إنه يظهر أن الحياة العربية لدى الأفراد والجماعات، على غنى أشكالها وألوانها، تنضح بمشاعر واحدة وتعاني من مشكلات واحدة وتلتقي حول أهداف واحدة. إنه يكشف عن أن وراء القشرة الظاهرة المشوهة التي ترين على الوجود العربي بحكم عوامل التخلف الطويل والاستعمار المديد، واقعاً حياً متشوفاً يحمل تجارب الأمة العربية في الماضي والحاضر، ويحمل تطلعها وصبوتها إلى حياة جديدة وإلى مصير واحد.
ذلكم أن الجوهر الأصيل للأمة ثاوٍ هناك، هناك في أعماق حياة الكثرة الكاثرة من أبنائها، وحين يلامس الأديب المبدع تلك الأعماق ويصل إلى كنهها وقوامها، يلتقي التقاء عفوياً صادقاً بذلك الجوهر، ويكشف عن أصالته ووحدته وعمقه. عند ذلك تتكشف له وحدة الهموم والمشكلات ووحدة القيم والأهداف لدى القروي في قريته، ولدى المزارع في حقله، ولدى العامل في مصنعه، ولدى الجندي في خندقه، ولدى الطالب في مدرسته، ويرى كيف تفصح عن هذه الأنماط المتنوعة من الحياة عن مشكلات واحدة وتومئ بحلول واحدة بل يتكشف له قبل هذا لقاء هذه الصور من الحياة عبر الحدود والسدود في شتى أنحاء الوطن العربي مشرقه ومغربه، ضاحكة من المسافات التي تباعد بينها، متحدية تلك البنى المصطنعة التي تفرض عليها الانفصام والانقسام.
أجل إن وحدة الثقافة العربية وحدة ديناميكية متحركة لا ساكنة، تتجلى قواها الدافعة المحركة وراء السطح الظاهر منها. والأديب الحق هو الذي يتصل بتلك التيارات السارية في الأعماق، وبالمشاعر التي تعصف من داخل، وبالومضات التي تبدد ظلمة الأقنعة الدخيلة، ويحيا معها توفزها وتطلعها إلى الانبثاق والظهور، بل يستبق ذلك التطلع ويراه وهو في طريقه إلى الانبعاث ويقبض عليه في حركته المبدعة المجددة.

إن حياة الشعوب لا تبنيها التراكمات السطحية والترسبات الطارئة، بل تبنيها الحركة الداخلية الحية التي تصهرها وتصوغها صياغة جذرية شاملة. وتلك الحركة الداخلية الحية، تلك الدفقة الحيوية التي تثور في الأعماق، هي التي يقوى الأديب المبدع على الإمساك بها وإدراك منطلقها ووجهتها ومعناها. «أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».
الأديب المبدع، كأي إنسان مبدع، لا تخيفه المياه الآسنة التي تغزو وجود أي أمة بل يدرك أن النهر الجارف هو الذي يشق المسيرة ويغمر الأرجاء ويزيل الزيف. إن وجود هذه البراكين الداخلية المتفجرة في أعماق الحياة العربية، أنى كانت وأين حلت، حقيقة واقعة تجاوز كل وجود ظاهري زائف. والأدب الأصيل هو الأدب الموصل إلى الأعماق، المدرك لحركتها، الراصد لتيارها المرهص بفجرها. والثقافة الحقة اليوم تقوم عند نقطة التلاقي بين الإبداع وبين القدرة على التحريك، بل هي حصاد التفاعل بينهما.
أما الأديب الذي يحسب الظاهر باطناً، والدخيل أصلاً وجوهراً، ويخال الورم شحماً ولحماً، والبثور والأمراض العارضة بنية مقيمة، فهو الذي لم يستطع أن ينفذ إلى حقيقة الحياة والوجود، ورضي بأن يكون أدبه صورة فوتوغرافية جامدة. وأي معنى للأدب إذا لم يعرف النظرة الحادة النفاذة ولم يستشرف الواقع من خلال رؤية شاملة محيطة، ولم يتحسس البذور النامية التي تحرك مسيرته.
ومن هنا تلك المسألة الزائفة، مسألة الأدب أيكون للعامة أو الخاصة، للجماهير أو النخبة. فالأدب جوهراً وتعريفاً لا يمكن أن يكون شيئاً آخر سوى أدب الجماهير. منها يستقي رؤاه وإليها يرد نتاجه. ولا نقصد بالأدب طبعاً تاريخ الأدب، فلهذا شأن آخر ودور آخر لا ننكره حين يوضع في موضعه السليم. إننا نعني الأدب الجديد الأدب الخلاق، الأدب القادر على التعبير عن حياة مجتمع معين. أما الأدب الماضي، فهو عند الأديب المبدع ليس مجرد إرث تاريخي جامد أو مواقد انطفأت ولم تخلف سوى الرماد، بل جمرات ما تزال مشتعلة في نفوس الناس يتوجب إذكاؤها عن طريق تجديدها. والأدب القوي لا يرفض ذلك الإرث المكتسب، ولكنه يدمجه بالتجربة الحية ويتجاوزه. والأدب المكتسب عنده نقطة ارتكاز وليس عائقاً. الأدب الحقيقي هو في آن واحد انفصال عن الأدب المكتسب وتمثل وهضم نقدي له، وهو بهذا المعنى ثورة.

ولا يتسع المجال للحديث عما تمليه مثل هذه الثورة الثقافية في الأدب من إعادة نظر جذرية في مضمون تعليم الأدب في المدارس وفي طرائقه. وحسبنا أن نشير عابرين إلى مطلب واحد أساسي وهو أن يكون هدف هذا التعليم تنمية روح الخلق والإبداع لا روح التقليد والاتباع، عن طريق الاتصال الحي بمحركاتها ودوافعها، نعني حياة المجتمع العربي، بحيث يصبح الإبداع الأدبي ثورة لا تقل شأناً عن الثورة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بل إن هاتين الأخيرتين لا تقومان في الواقع بدون الثورة الأدبية الثقافية.
وبعد، هل استطعت حقاً أن أتحدث عن دور الأدب في وحدة الثقافة العربية؟ لعل حديثي عما ينبغي أن يكون قد غلب على حديثي عما هو كائن. وهذا في رأيي أمر طبيعي، فأي هدف بناء وليس اكتشافاً. والثقافة العربية الموحدة هدف نبنيه وإن كنا نعرف أن بذوره قائمة. نحن ندرك أوضح الإدراك أن وحدة الثقافة لم تتأت لأمة كما تأتت للأمة العربية. فهي هناك تجأر وتجهر بصوتها. ولكن هل داخلنا الشك يوماً بأن أي وجود مهما يكن قوياً غنياً، في حاجة إلى تعهد وتطوير وتجديد؟ الثقافة العربية الموحدة حقيقة قائمة دون شك، والتيار الأدبي الأصيل الذي أشرنا إلى معالمه آخذ طريقه إلى الاكتمال والنضج. ولكن هيهات أن ينسينا ذلك دورنا في إغناء هذا التيار الثقافي الموحد وفي تطويره وتعميقه. وهيهات أن ننسى أن هذا التيار الأدبي الأصيل يغالب قوى دخيلة كثيرة ويشق طريقه عبر عقبات وصعاب، بل كثيراً ما يشك فيه المشككون ويغمزون من قناته.
إن لهذا الملتقى معاني كثيرة، ولكن لعل أبرز معانيه أن يظهر للملأ زخم هذا التيار الأدبي الجاد، وأن يتعاهد مرتادوه على كل كلمة سواء بينهم: أن يناضلوا من أجل نصرة هذا الأدب نتاجاً وتوضيحاً وشرحاً وتحليلاً.
مزيفو الوجود العربي في الأدب، شأنهم في السياسة، كثيرون. والمتخاذلون أمام رسالة الأمة العربية في شتى الميادين يفلسفون التخاذل ويبررونه. ولكن الرسالة بطولة، والبطولة لفظاً وتعريفاً ما لا يأبه للصعاب. وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجساد. ولم يبن الحضارة يوماً مفسرو الفساد وشارحوه ومبرروه، بل يبنيها دوماً وأبداً من يثبت زيفه وبطلانه بعمله وجهده وقدرته على الانفصال عنه.
وآداب الأمم الحية كانت دوماً السباقة إلى بناء نهضتها، وكانت المهاد الذي قامت عليه يقظة الأمة وانبعاثها. ويا له من دور جليل: أن تجند الأقلام في سبيل البعث العربي المنشود، في سبيل الأمة العربية الواحدة، ورسالتها الخالدة إلى الإنسانية..