فضيحة الأدب التقدمي

جريدة المحرر الأربعاء 12/شباط 1975

فضيحة الأدب «التقدمي»

– مسيو سارتر: لماذا تقف هذا الموقف العدائي من فلسطين؟
– مسيو سارتر: اطمئن.. لا جواب.. فكل أدباء لبنان معك!
هذا الموضوع كان يجب أن ينشر قبل شهرين. وتحديداً عقب أن اتخذت منظمة اليونيسكو قرارها الشهير ضد إسرائيل، وقام المثقفون والمفكرون والأدباء الفرنسيون، وفي طليعتهم جان بول سارتر، بالتظاهر العلني ضد هذا القرار احتجاجاً على الأونيسكو وتأييداً لإسرائيل؟!
ورأينا هنا، في هذه الصفحة، أن نطرح هذا لسؤال: كيف يمكن لمفكر مثقف ومناضل تقدمي مثل جان بول سارتر أن يقف مؤيداً، عبر تاريخه الفكري، لكل حركات التحرر والتقدم في العالم، ثم يقف هذا الموقف العدائي من القضية الفلسطينية وهي أكثر حركات التحرر حقاً وعدالة؟!
لماذا هذا التناقض؟ ما سره؟ ما سببه؟!
سؤال رأينا أن نطرحه على عدد من الأدباء والمفكرين اللبنانيين، وذلك في معرض الحماسة والاقتناع بأنهم أدباء وأنهم مفكرون. وكانت النتيجة أن السؤال بقي ينتظر الجواب شهرين وما… من مجيب؟! فقد أوفدت الصفحة الثقافية في المحرر مندوبها إليهم فظل شهرين يطرق الأبواب ولا أحد يفتح!!. جميعهم بلا استثناء تهربوا وبينهم تقدميون ومناضلون ويساريون ووطنيون أو متاجرون بالتقدمية والوطنية واليسار!!
وخطر لنا في بادئ الأمر ظن عارض، من باب التسرع في الحماس أيضاً، فتساءلنا: هل خشي هؤلاء «الأدباء» أن «يعتب» عليهم سارتر ويمارس عليهم عقوبة «الفلق» باعتبار أن بعضهم يرتبط به بمصلحة مادية أو عمالة فكرية أو أنه «يقرأ» لهم و«يعرفهم» ويرشح بعضهم لنيل جائزة نوبل؟
طرحنا على أنفسنا مثل هذا السؤال الأحمق، بطبيعة الحال، ثم اكتشفنا أنه زعم لا يدخل في باب المنطق إطلاقاً وشرف لا يمكن لهؤلاء أن يدعوه بأي حال من الأحوال…

إذن لم يبق إلا رأي واحد: هو أن هؤلاء الأدباء يؤيدون سارتر في موقفه الاحتجاجي من اليونيسكو والعدائي ضد القضية الفلسطينية… وإلا فما معنى صمتهم وتهربهم من الجواب؟
ولأن انتظار الرد طال، فقد تأخر نشر هذا الموضوع…
لقد تفضل الدكتور عبد الله عبد الدائم، وحده مشكوراً، بالإجابة على هذا السؤال بكلمة موضوعية، واعية، نحن على يقين بأن الذين تهربوا من الأدباء (وسنعف عن ذكر أسمائهم) كانوا أضعف من أن يوردوا كلمة مماثلة لها… ذلك أن أكثر ما يميز لبنان أنه البلد الوحيد الذي يصنع «أراجوزات» على كل صعيد… فهنا سيرك كبير وما أكثر المهرجين!!
وجيه رضوان
كتب الدكتور عبد الله عبد الدائم يقول:
يكاد المثقفون في البلاد العربية لا يصدقون مواقف سارتر المتكررة المؤيدة لإسرائيل المتجاهلة لحق العرب في فلسطين. ذلك أن مواقف سارتر تبدو لهم بمثابة النفي والإنكار لخطه الفكري العام ولالتزاماته السياسية الأصيلة.
فالمثقفون العرب لا ينسون نضال سارتر الطويل والمرير ضد الاستعمار والعنف، لا ينسون أن مجلته «الأزمنة الحديثة» كانت السباقة، منذ عام 1946 إلى الحملة على السياسة الفرنسية الاستعمارية في الهند الصينية آنذاك، وهم يذكرون بالكثير من الإعجاب مواقفه ومواقف العديد من كتاب اليسار الفرنسي من صراع الجزائر مع فرنسا، وحملاته العنيفة على التعذيب المنهجي الذي مارسه الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وثورته العارمة على سياسة الحكومة الفرنسية عام 1958، وتعبيره بذلك عن الارتباط بين أدبه الوجودي والتزامه السياسي الإنساني التحرري، ذلك الارتباط الذي تجلى إذ ذاك في مسرحيته الشهيرة «سجناء التونا» 1959.
ويمر هؤلاء المثقفون بالذاكرة على تلك الفترة العصيبة من حياة سارتر بين عام 1957 وعام 1962، يوم نظم مع «فرانسيس جانسون» شبكة من الداعين لرفض الخدمة العسكرية في الجزائر، ويعرجون على مواقفه المؤيدة للثورة الكوبية، وعلى حملاته العنيفة ضد الاستعمار البلجيكي في الكونغو، ومقاله الطويل عام 1963 عن القائد الإفريقي الثائر باتريس لومومبا الذي اغتاله الاستعماريون. وعلى مقدمته إلهامه لكتاب «فرانز فانون» «المعذبون في الأرض»، وعلى مواقف عديدة مشهودة موصولة ضد الاستعمار وضد اضطهاد الإنسان. فيطالعهم شريط الذكريات هذه وقد جللها الكثير من الضباب وعصفت بها رياح الشك، نتيجة لمواقف سارتر من القضية الفلسطينية، تلك المواقف التي تكاد تمثل الضد والنقيض لبلائه السياسي ونضاله الفكري.
من هنا يحاول هؤلاء المثقفون أن يجدوا تفسيراً لمواقف سارتر هذه من تلك القضية الإنسانية التحررية الكبرى، قضية فلسطين، مدركين تمام الإدراك أن العثور على التفسير لا يمكن أن يكون تبريراً لتلك المواقف أو تبرئة لصاحبها، بمقدار ما هو تعرية لها وكشف عن بواعثها. والتفسير، كما يبدو لنا يمكن أن يرتد إلى الأمور الآتية:
1- موقف سارتر القديم والعريق من العداء للسامية، كما عرضه في كتابه المعروف «تأملات حول المسألة اليهودية» عام 1954. ففي رأينا أن مواقف بعض الكتاب الفكرية المبدئية، التي يعبرون عنها في مرحلة مبكرة من حياتهم، تظل تراودهم بعد ذلك، مهما تغيرت الظروف ويظل استمساكهم بأصولها ضرباً من تأكيد الذات وإثبات وحدة الخط الفكري، ولو اضطروا إلى المعاندة والمكابرة في سبيل ذلك.
وليس هدفنا أن نعود إلى أفكار سارتر التي عرضها في ذلك الكتاب. وحسبنا أن نقول أنه اعتبر العداء للسامية ظاهرة برجوازية شاذة بل ظاهرة تحتاج إلى التحليل النفسي. وأهم من هذا أنه اشتق دفاعه عن اليهود من حملته على اضطهاد النازية لهم، وانتهى به التحليل بسبب ذلك إلى تقرير نتائج غريبة وهي «أن اليهود أرق الناس وأشدهم عداء للعنف» وأن وجودهم وسط مجتمع معاد للسامية يخلق لديهم شعوراً بعدم الأصالة يدعوهم إلى التفكير في إنشاء وطن يهودي يكون بمثابة الإطار لهويتهم وشخصيتهم. ومن هذه النتائج الغريبة يخلص إلى نتيجة النتائج وهي أن مصير اليهود ينبغي أن يعني كل فرنسي وكل إنسان. وأن الفرنسي أو سواه لن يكون حراً، إذا لم يكن اليهود أحراراً. وأن أي فرنسي لن يكون مطمئناً سواء في فرنسا أو في العالم كله – ما دام هنالك يهودي واحد تتعرض حياته للخطر.
2- من خلال هذا الموقف الأصلي الذي ينتصر لليهودي «المعذب» انتصاره لقضية إنسانية، والذي ينكر غربته في المجتمعات التي يعيش فيها، والذي لا يرى حرجاً بالتالي من قيام «إناء» «كالوطن اليهودي» يخرجه من ضياعه هذا، تابع سارتر خطه الفكري والسياسي، عبر الانزلاق التدريجي من معاداة اللاسامية إلى تبني الصهيونية رغم أنها طراز جديد وخطير من المعاداة للشعوب الأخرى..
وقد أكد هذا الخط عنده لقاؤه مع مجموعة من المفكرين اليهود الماركسيين الذين تربطه بهم صداقات فكرية عميقة ويجمعه معهم العمل في مجلة «الأزمنة الحديثة».
3- كلنا يعلم رغبة سارتر في التفرد والاستقلال عن الاتحاد السوفياتي. وهذا موقف عبر عنه في أكثر من مناسبة. ولئن أدت هذه الرغبة عنده إلى بعض المواقف التي تثبت أصالته الفكرية، فلقد أدت في بعض الأحيان إلى بعض الضياع والغموض والتناقض في أفكاره الثورية.
هذه الرغبة في التفرد والتميز عن الاتحاد السوفياتي لقيت هوى عند سارتر فيما يتصل بموقف الاتحاد السوفياتي من القضية الفلسطينية. فلقد أراد أن يثبت لنفسه ولأصدقائه من اليهود الماركسيين مرة أخرى. أنه ملتزم دوماً بما يبدو له تعبيراً عن الحرية والإنسانية، ولو كان ذلك ضد مواقف الاتحاد السوفياتي، بل لأنه ضد هذه المواقف.
وليس من قبيل الصدفة أن نرى سارتر في مؤتمر «كلود لانزمان» الصحفي يقول بالحرف الواحد «هل سأضطر يوماً إلى المناداة «ليحي جونسون؟» أجل إذا كانت الولايات المتحدة هي وحدها التي تمانع في إبادة إسرائيل.. ».
وكلنا يدرك كم تلقى مثل هذه الأفكار المضللة من هوى لدى من يرغب في إبراز موقفه المتفرد تجاه الاتحاد السوفياتي.
هذه بعض المنطلقات نضعها على الطريق في محاولتنا لتفسير مواقف سارتر من القضية الفلسطينية، ولا شك أن هنالك منطلقات أخرى وأحداثاً معينة وضروباً من المعاناة، أكدت لديه هذه المواقف. غير أننا نرى في الجملة أن هذه المنطلقات الثلاثة الكبرى تكاد تكون النواة التي يتحلق حولها موقف سارتر من القضية الفلسطينية.
الدكتور عبد الله عبد الدائم