من فيخته إلى القومية العربية

مجلة الشورى الليبية – العدد /11/ فبراير 1975

من فيخته إلى القومية العربية
الدكتور: عبد الله عبد الدائم
قد يبدو العود إلى «فيشته» فيلسوف القومية في القرن التاسع عشر عوداً غير محبب. فلقد ارتبط اسم «فيشته» بما ظهر من بعده من نزعات قومية ألمانية استعلائية، وكان يعد في نظر بعض المفكرين المسؤول عن غلو النازية والفاشية.
غير أن قراءة جديدة لفيشته في منابع فكره نفسها، تجعلنا ندرك ما لقيه فكره من تشويه مقصود أو غير مقصود، وتدفعنا – نحن العرب خاصة – إلى التوقف طويلاً عند الكثير مما أتى به. بل لعل القراءة الدقيقة لأفكاره ولرسائله إلى الأمة الألمانية، قمينة بان تولد لدينا الشعور بأننا في حاجة إلى فيشته جديد، إلى فيشته عربي ومعاصر. لاسيما إذا أضفنا إلى حقيقة أفكاره – التي تلتقي في كثير من جنباتها مع تصورات القومية العربية – الواقع العربي الذي نحياه اليوم، والذي تجتمع فيه جملة من المآسي والهزائم والانحرافات الفكرية، تشبه إلى حد كبير ما كانت تعاني منه ألمانيا يوم كتب فيشته «رسائله» رداً على التحديات التي تواجه تلك الأمة العريقة، وعلى رأسها هزيمة بروسيا عام 1806 أمام جيوش نابليون. والمنطلق الذي ننطلق منه في هذا العود المفاجئ إلى «فيشته» بعد أن كاد ينسى، يصدر عندنا عن أسباب عديدة:
1- أولها أن من الواجب أن نميز بين أفكار «فيشته» الأصيلة وبين الاتجاهات والمنازع التي أفادت منه وحرفت كلمه عن مواضعه. فأفكار «فيشته» كما سنرى أفكار قومية إنسانية، تختلف اختلافاً جذرياً عن الأفكار التي جاءت بها النازية ومن قبلها ألمانيا غليوم الثاني، ولا تأتلف بحال من الأحوال مع الفلسفات العرقية والتوسعية والتسلطية التي نادى بها أمثال «نيتشه» و«شبنغلر» و«روزنبرغ» وسواهم. وعندنا أن «فيشته» ذهب ضحية أمثال هؤلاء الغالين من الفلاسفة والساسة الألمان، وأنه أحد المفكرين القوميين الممتازين الذين هزمت أفكارهم وسط ضجيج السياسة والمذاهب في ألمانيا القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
2- وثانيها أن أفكار «فيشته» انطلقت من واقع ألماني تعيس، هو واقع ألمانيا بعد هزيمتها أمام نابليون، وولدت رؤاها وتصوراتها بالتالي من خلال واقع الهزيمة ومطالب مجابهتها والتغلب عليها. ومنطلقها هذا يجعلها وشيجة النسب بالواقع العربي اليوم وبما يعاني من هزيمة أمام العدو الصهيوني وأمام النزعات الإمبريالية العالمية المتحكمة في مصير الشعوب (والتي تشبه نزعات نابليون التوسعية في ذلك الحين).
3- وثالثها أن شعار القومية العربية اليوم في أمس الحاجة إلى تجديد وإحياء، بعد أن كادت شعلته تنطفئ. وإحياء هذا الشعار في رأينا لن يكون إلا عن طريق الإحياء الفكري أولاً، فعلة «فيشته» عندما أراد أن يحيي الأمة الألمانية. فشعار القومية العربية الذي بدأ على يد المفكرين العرب منذ أيام الحكم العثماني والذي اشتد ونما تحت وطأة الاستعمار، والذي عرف وثبة جديدة بعد قيام الكيان الصهيونية الدخيل، يتعرض اليوم في رأينا إلى محنة كبرى وإلى الكثير من الانحسار بعد أن انتزعه السياسيون من أيدي المفكرين، وبعد أن انكفأ عنه كثير من هؤلاء المفكرين. وفي مثل هذا الجو السياسي المشوه والقلق الفكري المعطل تجد أفكار «فيشته» وأمثاله دورها وتستعيد مبررات وجودها.
4- ورابعها أن الاتجاهات التي أخذت تداخل الوجود العربي في السنوات الأخيرة والتي تحكمها روح «تنازلية» يقال عنها إنها «عملية»، في حاجة إلى أن تتصدى لها رؤى فكرية كبيرة ونظرات قومية عميقة، تكشف زيف ادعاءاتها العملية والواقعية وتظهر المعاني الصحيحة للتفكير الواقعي في أمة مهددة، تتعرض لمؤامرات تستهدف القضاء على هويتها ووجودها القومي. وههنا أيضاً تجد أفكار «فيشته» مكانها الطبيعي، وتبرز رداً أصيلاً على مثل هذه النزعات المبررة للعجز، كما كانت أيام ظهورها في القرن التاسع عشر رداً على الاتجاهات الاستخذائية لما عرف في ذلك الحين باسم «فلسفة التنوير».
والحق أن أفكار «فيشته» ما تزال في معظمها أفكاراً جديرة بان توجه الحركات القومية في العالم، وهي في صلبها وجوهرها مصدر حي غني تستطيع القومية العربية خاصة أن تؤكد به منطلقاتها وأن تجدد ذاتها. وإذا جاوزنا القليل من الأفكار المغالية لتي نجدها عند ذلك الفيلسوف والتي ترجع إلى المرحلة الزمنية التي كتب فيها ما كتب، وجدنا في معظم تك الأفكار ما هو جدير بالتأمل والاقتباس حتى يومنا هذا بل في يومنا هذا خاصة.
وقد يكون من الصعب، كما قد يبدو من مكرور القول، أن نشير إلى أفكار «فيشته» بالتفصيل، وأن نحلّل رسائله الكثيرة إلى الأمة الألمانية. ولهذا نؤثر أن نتوقف عند الجوانب التي تفيدنا أكثر من سواها، وأن نتريث عندما يكشف عن تلك الأفكار في حقيقتها وجوهرها السليم، قبل أن نعصف بها رياح التشويه والتحريف.
ولعلنا نستطيع في هذا الإطار أن نؤكد بوجه خاص الملامح الآتية:
1- القومية والتحديات الاستعمارية:
في رده على التحديات التوسعية التي ولدها انتصار نابليون على بروسيا عام 1806، يؤكد «فيشته» منطلقاً هاماً، وهو أن الروح القومية التي تستطيع أن تواجه تلك التحديات لا يمكن أن تنبثق من خلال اعتبارات «واقعية» في ظاهرها، تتصل برفاهية المواطنين وإخلاصهم للواقع القائم. بل لا بد أن ينبثق الرد عنده من إرادة قومية، يحركها الإيمان برسالة، وتوجهها روح الشباب وروح الأجيال الجديدة. فتجريبية «عصر التنوير» لا ترضيه، وهي التي كانت في نظره سبب الهزيمة البروسية. والجيل القديم، الذي تأثر «عقلانية» ذلك العصر ونزعاته «البراغماتية» كما نقول اليوم، لا يستطيع أن يرد على هزيمة يُسأل عنها.
2- القومية والثورة الاجتماعية:
على أن الفيلسوف «فيشته»، في رده على نزعات «عصر التنوير» هذه، لا يلتقي مع بعض الرومانطيقيين المحافظين ومع النزعات البورجوازية أو الإقطاعية أو التقليدية، ولا يحمّل النزعة القومية بالتالي طابعاً غنائياً فارغاً من المحتوى. بل هو يمزج المزج العميق بين الفكرة القومية وبين الثورة الاجتماعية، ويبشر بكثيرٍ من مبادئ الثورة الفرنسية نفسها، التي يرى أن نابليون قد أجهضها ودفنها. وفي رأيه أن عدو الانبعاث الألماني لم يكن نابليون وحده، بل أيضاً وخاصة الحكام الألمان، وما يمثلونه من محافظة وما يمارسونه من استبداد وتحكم بالشعب وخنق لحرياته. والحرب الفكرية التي أراد أن يشنها هي حرب على السلوك السياسي «الاعتباطي» التحكمي، وعلى الحكم البروسي الذي جعل من دولة بروسيا «آلة كبيرة ميتة»، بسبب إبعاده الشعب عن مقدراته والحيلولة دون إشراكه في إدارة البلاد. ولا سبيل إلى الخلاص إلا عن طريق وثبة ثورية تستلهم روح الثورة الفرنسية الأصيلة التي أفسدها نابليون، وتستهدي خاصة مبادئها الديمقراطية. بل هو يذهب إلى أبعد من ذلك فيرى في العصور الوسطى الألمانية ما يؤكد منازعه الثورية الديمقراطية هذه. فتمجيده لتلك العصور يغدو عنده تمجيداً للاتجاهات الديمقراطية الأصيلة لدى الشعب الألماني ودفاعاً عنها. وكل تقدم إنساني أصابته الأمة الألمانية، فيما يؤكد، تقدم انبثق عن الشعب، وهذا الشعب هو الذي حمل دوماً المهمات القومية الكبرى.
ولا حاجة إلى الكشف عن أوجه اللقاء العميقة بين أفكار «فيشته» هذه وبين مطالب «القومية العربية» في أيامنا هذه.
3- القومية والإنسانية:
وأهم من هذا كله، أن «فيشته»، حين يمجد الأمة الألمانية وحين يعمل على إحياء دورها الإنساني لا ينطلق – كما قد يُظن وكما أسيء فهمه – من نظرات قومية تعصبية ضيقة. فالقومية التي ينادي بها ترفض رفضاً جذرياً «حلم السيطرة العالمية» (كما يبدو ذلك واضحاً في الرسالة الثالثة عشرة). وهو من أعدى أعداء سيطرة أمة متفوقة على سواها من الأمم. ورسالة الأمة الألمانية رسالة إنسانية بالمعنى الروحي للكلمة، لأن الفكر الألماني عنده يرتد في النهاية إلى فكرة الحرية. بل هو يذهب إلى أبعد من هذا فيمنح «الألماني» معنى إنسانياً كاملاً ويرى فيه كل من يبشر بالمثالية ويؤمن بالحرية الخلاَّقة، دون تمييز بين قومية أو لغة. والألمان (كما يؤكد في الرسالة الرابعة) ليسوا أصفى عرقاً من سواهم. ومصدر تفوقهم يكمن فقط في أنهم احتفظوا بلغتهم (ولم يتبنوا لغات لاتينية محلية كما فعل سواهم في أوروبا) وفي أنهم أقاموا تعادلاً بين عرقهم ولغتهم. وهذا التفوق الذي يملكه الألمان لا يبرر لهم أن يضطهدوا القوميات الأخرى وأن «يُجرمنوها» إن صح التعبير. وفيشته يحترم احتراماً عميقاً تعدد العبقريات القومية وتنوعها. ويتفق في هذا، إلى حد كبير، مع الفيلسوف الألماني «هردر».
ويزيد «فيشته» في تعميق فكرته هذه وتوضيحها، فيرى أن العبقرية الألمانية ليست متفوقة على سواها إلا لأنها أكثر إنسانية من سواها وأبعد من غيرها عن التشويه القومي والتعصبي. بل هو يوحّد بين رسالة ألمانيا ورسالة الإنسانية (كما ترى ذلك واضحاً في الرسالة السابعة). والقومية الألمانية عنده قومية محورها خلق وجود إنساني موحد، وكل ما هنالك أن ألمانيا هي التي تقود مثل هذه الدعوة الإنسانية، بحكم إيمانها بها واستعداد الشعب لها، وبسبب لغتها التي تحمل طابعاً إنسانياً خاصاً كما سنرى، ولكون الشعب الألماني «شعب المستقبل» قبل أن يكون شعب الماضي. فهو شعب بريء أصيل، لا تاريخ له، إذا فهمنا من التاريخ الظروف والعوامل التي تبعد شعباً عن «فطرته» وأصالته. ومن هنا كانت محبة الأمة والوطن لدى الشعب الألماني متحدة بمحبة الإنسانية الفضلى. وهو لا يحب في الأمة الألمانية «خصوصيتها»، بل يحب فيها ما هو إنساني خالد، يتجاوز الأزمنة والبلدان, وهو بهذا يكاد يأخذ بالمفهوم المسيحي للعالمية بعد أن ينزع عنه طابعه الديني. ونقيض القومية عنده ليس العالمية (بالمعنى الإنساني للكلمة) بل «الخصوصية». فجوهر القومية أن تحقق أمة من الأمم في بلدها الغاية التي تستهدف العالمية تحقيقها للإنسانية جمعاء. إنها إذن التحقيق العملي التطبيقي للعالمية ضمن الإطار القومي.
ولا حاجة ههنا أيضاً إلى عقد مقارنة بين هذا المعنى الذي أعطاه «فيشته» للقومية الألمانية وبين المعاني التي تحرص القومية العربية اليوم على تأكيدها. فالقومية العربية منذ ظهورها رفضت فكرة السيطرة على الأمم الأخرى، وحمّلت مضمونها معنى إنسانياً نابعاً من صلبها، من تاريخها ومن نظرتها المستقبلية. وفوق هذا وذاك، حملت القومية العربية كثيراً من المنازع العالمية والإنسانية التي نادى بها الدين الإسلامي، كما حملت الدعوة الألمانية على يد فيشته المنازع العالمية التي نادت بها المسيحية.
وأهم من هذه المقارنة عندنا، أن ندرك أهمية التأكيد على هذا المنزع الإنساني للقومية، في فترة تناضل فيها الأمة العربية ضد شكل جديد وخطير من أشكال العود إلى القومية المتحكمة المسيطرة، على نحو ما نجد في فلسفة الكيان الصهيوني. ولعل أعماق ما يغذي نضال الأمة العربية ضد مثل هذه «الشوفينية» الجديدة. أن يكون رائدها العمل مع الشعوب المتحررة في العالم على مقاومة مثل هذه الردة في تاريخ الإنسانية، وأن تبين للعالم أن حربها ضد الصهيونية حرب تستهدف أولاً وقبل كل شيء تحرير الإنسانية من النزعات المعادية للإنسانية ومن محاولات الرجعة بتاريخ الشعوب إلى أيام الصراع والتحكم والادعاءات الاستعمارية.
4- الروح الإقليمية:
وفوق هذا كله، نجد في أفكار «فيشته» ردوداً رائعة على واقع التجزئة وروح التجزئة التي نجدها في البلاد العربية اليوم. فلقد أدرك منذ ذلك الحين أن العدو الأول لأي أمة هو الروح الإقليمية، وأن منطلق إحياء أي شعب هو عودة الروح إليه، عن طريق الوحدة. فالمآسي الماضية والحاضرة التي عانت منها ألمانيا، ترجع عنده إلى الروح الإقليمية التي تسيطر على المقاطعات الألمانية. والرد الطبيعي عليها هو في الدعوة إلى الوحدة السياسية لألمانيا. على أنه في هذا المجال أيضاً يخلص لأفكاره الإنسانية والديمقراطية. فهو يدين أي محاولة وحدوية يقوم بها أمير ألماني لتوحيد ألمانيا بدافع نزعة توسعية استعدائية. فمثل هذه الوحدة لن تكون إلا توحيداً للاستبداد. والوحدة الحقيقية عنده هي التي يقودها الشعب ويوجهها. والحرية تظل الوقود الحي الخلاق الذي يجعل أي أمة تجدد ذاتها وتخلق وجودها خلقاً متصلاً.
5- القومية واللغة:
ومن أبرز جوانب اللقاء بين أفكار القومية العربية والأفكار التي نادى بها «فيشته» تأكيده على أهمية اللغة في البناء القومي والوحدة القومية. وهو في هذا الإطار يحمل على البلدان الأوروبية التي أخذت بلغات لاتينية محلية، وعلى رأسها فرنسا. ويرى أن مثل هذا الاقتباس من شأنه أن يولد طلاقاً بين الحياة والثقافة، بين الشعب وبين الطبقات المثقفة. بل إن الشعوب التي تتبنّى غير لغتها الأصيلة – فيما يقول – لا ترى في الثقافة إلا زينة وتسلية، وهي قد تملك الفكر ولكنها لا تملك العمق ولا تملك الشخصية. واللغة الفرنسية بهذا المعنى (في ذلك الحين) لغة خائنة، تقوم على ما هو تقريبي وتنهض على الأكاذيب، ولا تستطيع أن تعكس جوهر الشعب الفرنسي وأصالته، فلغة أي شعب، وبالتالي ثقافته، ينبغي أن تنبثق من الشعب نفسه. والطابع القومي الذي يميز أي أمة لا يرجع عنده إلى العرق (خلافاً لما سيقوله فيلسوف النازية «روزنبرغ»)، بل إلى العلاقة القائمة بين العرق واللغة. وروعة الإسلام، كما يذكر، في البلدان التي فتحها (كإسبانيا والمغرب وفارس وسواها) تجلت في قدرته على نقل اللغة العربية إلى تلك البلاد وإلى تبني أهل البلاد لها، رغم أنهم من عرق آخر ومن لغة أخرى. فاللغة المشتقة، اللغة التي لا ترجع إلى أصول قومية، لا تستطيع أن تولد فلسفة أو أدباً أو شعراً حقيقياً.
أو نحن في حاجة هنا أيضاً إلى الإشارة إلى ما تحمله هذه الأفكار من معان هامة تتعلق بالعلاقة بين اللغة العربية والقومية العربية؟
6- القومية والتربية:
على أن أهم جوانب الفلسفة القومية التي نادى بها «فيشته» جانبها التربوي. فالقومية التي نادى بها، القائمة على الديمقراطية وعلى روح الرسالة وعلى إرادة البناء القومي، لا تصل إلى أغراضها إلا عن طريق نظام تربوي جديد يستهدف أهدافها. وإحياء ألمانيا هو أولاً وآخراً إحياء فكري وروحي، سداته ولُحمته التربية. و«فيشته» في حقيقة الأمر لا يتوقع انبعاث أمته عن طريق الإصلاح السياسي، بل عن طريق الإصلاح التربوي. أو هو بتعبير آخر، يود أن يصلح الدولة عن طريق إصلاح التربية، كما نادى بذلك المربي «بيستالوتزي» من قبله. وهو أيضاً – مثل هذا المربي السويسري الشهير – لا يقول بتربية موجهة للنبلاء والأمراء، بل ينادي بتربية شاملة تعم الألمان جميعهم، دون ما تمييز بين الطبقات. فلا سبيل إلى تحقيق الوحدة الروحية لدى الألمان إلا عن طريق تحقيق الوحدة الثقافية أولاً وعن طريق توفير الفرص التربوية المتكافئة بين الجنسين وبين الطبقات الاجتماعية. ومن هنا ينادي «فيشته» بنظام تربوية ثوري، لا من الوجهة التربوية فحسب، بل من الوجهة السياسية.
والمدرسة التي يرجوها «فيشته» مدرسة مثالية أيضاً مثالية الأفكار التي ينادي بها. فهي تهدف إلى تكوين أناس أحرار، وإلى تعهد إرادة الخير وإلى تنمية روح العطاء الخيّر المنزه عن الغرض. وهي تربية تهدف إلى تكوين الخلق والطبع قبل أن تهدف إلى تكوين المعرفة، وهي فوق هذا وقبل هذا تربية همها أن تخلق لدى المواطنين الإيمان برسالة، وإرادة العلم المشترك والبناء المشترك.
ومهما تكن أفكار «فيشته» التربوية محدودة بحدود عصره، فإنها تحمل في منطلقاتها الكبرى الكثير من المبادئ التي تصلح لحركات الانبعاث القومي عامة، ولحركة الانبعاث القومي خاصة. فهي – كما رأينا – تؤكد على دور التربة في خلق المواطن المؤمن بأمته وبالإنسانية، المالك لإرادة العمل المشترك، وهي تبرز دور تكوين الخلق والطبع والإرادة في مراحل البناء القومي خاصة، وهي تظهر أهمية التربية المبذولة للشعب كله دون ما تمييز، وتنطلق من الأخذ بديمقراطية التربية.
نحو فكر قومي أصيل:
وبعد، هذه لمحات عابرة من فكر قومي إنساني غني غذى أفكار كثير من الفلاسفة والساسة حقبة من الزمن، ثم انحرفت به عن مقاصده بعض الأفكار اللاحقة وتجهمت صورته، وكاد ينساه الكثيرون في بلادنا وفي العالم. وإذا كنا نتوقف عنده اليوم، فلأننا نعتقد أن كثيراً من مبررات وجوده في عصره وفي ألمانيا تطرح نفسها اليوم من جديد في عصرنا وفي بلادنا العربية خاصة. ونحن من المؤمنين بان المهاد الفكري الذي وضعه أمثال «فيشته» واستطاعوا بفضله أن يحققوا لألمانيا النهوض من كبوتها والثأر لما أصابها جديرٌ بأن يتخذه المفكرون العرب متكأً ومنطلقاً عميقاً لانبعاث عربي قادر على أن يمحو هزيمة الأمة العربية وعلى أن يوفر لها صمودها في وجه التحديات الكبرى التي تواجهها، وعلى رأسها التحدي الصهيوني.
ولا أدل على مدى الحاجة إلى هذا الجهد الفكري القومي الأصيل، من أننا نشعر اليوم. ونحن ندعو إليه، وكأننا نبشر بدعوة جديدة. ذلك أن كثيراً من الجهود الفكرية القومية التي ظهرت في البلاد العربية والتي لقي الكثيرون في سبيلها العنت والخسف والموت كادت توضع في السنوات الأخيرة وراء ستار أمام الهجمات الصاعقة للفكر الدخيل الذي أخذ يشكك بها، وأمام الممارسة السياسية التي قدمت صورة مشوهة عنها.
الكثير الكثير من الفكر القومي الأصيل نحتاج إليه، أمام هذا الانحسار. وفي ظننا أن الأمة العربية لن تستطيع الحفاظ على وجودها وبناء مستقبلها والإسهام في حضارة الإنسانية، إلا إذا استطاع مثل هذا الفكر القومي الأصيل أن يمسك زمام القيادة وأن يدخل في حياة الجماهير الشعبية، وأن يفجر إرادة شعبية واعية مصممة.
إن الروح «التجريبية» الزائفة التي حاربها «فيشته» لن تستطيع حماية الوجود العربي فضلاً عن تفجير طاقات الإبداع فيه. والأمة العربية لن تستطيع أن تبنى حضارة إنسانية إلا من خلال إرادة قومية تحرك قواها وتجمع عطاءها وتنظم جهودها المختلفة.