التربية العربية: واقعها ومرتجاها

«في الأزمات الكبرى التي تعصف بحياة الأمم، ترنو الأنظار إلى التربية، لتجد فيها الخلاص، ذلك أن التربية القائمة في مجتمع من المجتمعات تتراءى وكأنها المعبرة في النهاية عن المستوى الحضاري الذي وصل إليه ذلك المجتمع. ومن هنا تبدو المسؤولة عن ذلك المستوى ويبدو تجاوزها السبيل الطبيعي لتجاوزه».
الدكتور عبد الله عبد الدائم: «أزمة التطور الحضاري في البلاد العربية ودور التربية في مواجهتها».
تنطلق هذه الدراسة من تقرير واقعة عنيدة لا سبيل إلى نكرانها أو التملص من أخذها بعين الاعتبار أو اللجوء إلى إغفالها وتجاهلها وبالتالي إلى طمس معالمها الحقيقية والتهرب من معالجتها على صعيد الجدية العلمية ومن زاوية المسؤولية الواعية لكافة أبعاد المشكلة والمتسلحة بنظرة موضوعية متجردة للأمور والوقائع الراهنة. ومؤدى الواقعة المشار إليها هي أن التربية في البلاد العربية تعاني صعوبات ومشكلات جمة على مختلف الأصعدة والمستويات: ثمة «أزمة» تواجهها التربية العربية في شكلها الحاضر، ولابد من البحث عن السبل الكفيلة بتجاوز هذه الأزمة والتغلب على الصعوبات التي تعتري مسيرة التطور التربوي في مطلع الربع الأخير من القرن العشرين، وقد تعيق انطلاق الجهد التربوي في إطلالته على أبعاد المستقبل ومواكبته للتقدم العلمي والتكنولوجي واستعداده لاستلهام «رؤى القرن الحادي والعشرين» ونقلها إلى حيز التطبيق العملي.
وتهدف مقالتنا هذه إلى عرض الأفكار والتحليلات التي تتضمنها كتابات الدكتور عبد الله عبد الدائم الصادرة حديثاً(*) في موضوع التربية بمعناها الواسع والشامل، ولا سيما على صعيد التخطيط التربوي والدور المنوط به والمراحل الأساسية التي تنطوي عليها عملية التخطيط التربوي، ومن زاوية المشكلات التي تعاني منها التربية في البلاد العربية. وإذا كانت التنمية أو الجهد الإنمائي يؤلف الطابع المميز للتطور الذي نشهده اليوم في ميدان التقدم العلمي والتكنولوجي، فإن تنمية الموارد البشرية تؤلف بدورها «العنصر الأساسي في تنمية سائر الموارد». حقاً، إن لفظة «التنمية» تحاط اليوم بهالة من الإجلال والتقديس إلى درجة أضفت عليها مفعول السحر الذي يفتن الأذهان ويخلب الألباب. لكن حديث الدكتور عبد الدائم عن التنمية والتخطيط في حقل التربية يتصف برصانة علمية وتجرد موضوعي، قلما نعثر على أثر لهما في العديد من الكتابات والأبحاث التي تحاول التصدي لموضوع أزمة التربية في البلاد العربية. فهو لا يكتفي مثلاً بوصف العلاج الإنمائي أو التخطيطي لمشكلات التربية، ولا يقع تحت تأثير المفعول السحري لكلمة «تنمية» أو لفظة «تخطيط»، بل ينظر إلى الأمور من زاوية المردود والعائدات، وعلى صعيد زيادة «الإنتاجية» وتحقيق الفعالية التامة. إنه يدعو إلى صياغة نظام تربوي جديد يتحقق من خلاله مبدأ «الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة» ويؤدي بالتالي إلى رفع نسبة الكفاءة بشقيها الداخلي والخارجي في نظام التعليم.
والجهد الإنمائي لابد من أن يتوفر له الإنسان القادر على تحقيق التنمية، وصاحب الخبرة والكفاءة التي تجعله مؤهلاً لإحداث التغيير المرتجى. وليس من قبيل الغلو اعتبار الإنسان بأنه يؤلف محور التربية ومدار الجهد التربوي، فالتربية الواسعة الشاملة قد غدت في عصرنا الحالي بمثابة صناعة للإنسان في المجتمعات المتقدمة والنامية على السواء. والأمر بات يتطلب القيام بـ «ثورة تربوية تكنولوجية» تستهدف تغيير الإطار التربوي التقليدي بالإضافة إلى محتوى التربية مثلما أنها ترمي إلى «تعليم أكبر عدد ممكن من الناس تعليماً أفضل وأقدر على الاستجابة لحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية».
فالبلاد العربية تقف اليوم دون ريب أمام منعطف خطير، في سعيها نحو تجاوز التخلف وتخطي الأزمة والتصدي لتحديات العصر والانطلاق لبناء غد أفضل في ظل الثورتين اللتين يشهدهما عالمنا المعاصر: الثورة الصناعية الثانية والثورة العلمية والتكنولوجية. والدكتور عبد الدائم يوجز القول في هذا الإطار على النحو التالي: «لابد أن يكون شعار التربية الأول في بلداننا العربية الساعية نحو التنمية السريعة ونحو التقدم العلمي والتكنولوجي السريع، الربط الوثيق بين التربية وبين حاجات الإنتاج».
وعندما يتحدث الدكتور عبد الدائم في تصدير كتابه «التربية في البلاد العربية – حاضرها ومشكلاتها ومستقبلها» عن موضوع الدعوة إلى بناء تربية المستقبل في البلاد العربية،
فإنه يتمنى على هذه البلاد – مثل جميع البلدان السائرة في طريق النمو – «أن تدرك أعمق الإدراك أن أي جهد تبذله في ميدان تنمية الاقتصاد أو البنية الاجتماعية أو القوة الدفاعية أو النظم السياسية، لابد أن يقصر عن مداه ويتراجع عن مقصده، إذا لم تصحبه وتعززه تنمية الإنسان القادر على تسيير عجلة التنمية، المؤهل لإحداث التغيير السريع المنشود في شتى ميادين الحياة» (ص 6).
ولكي لا يتحول الحديث عن التنمية والتخطيط، في حقل التربية بنوع خاص، إلى عملية استحضار لمفعول السحر وتكرار شعائري للأخذ بأسباب الإنماء واستنباط الخطة التربوية القادرة على اجتراح العجائب وصنع المعجزات، نجد المنحى العلمي في تفكير الدكتور عبد الدائم وقد اتسم بمنطق رزين في تقريره لبعض المقدمات والحقائق البدهية التي لا مناص من اعتبارها والتنبه لما تنطوي عليه من أمور أساسية واستدراكات مبدئية. فهو يقرر بادئ ذي بدء حقيقية أصبحت بمثابة بدهية من زاوية الدور الحاسم الذي يلعبه إعداد الإنسان وتكوينه في التنمية، حيث تفيد هذه البدهية ما يلي: «أن أي خطة توضع لتحقيق التنمية في أي جانب من جوانب حياة بلد من البلدان، تنقلب خطة نظرية وآمالاً حالمة، ما لم تكملها وترتبط بها خطة لتنمية الموارد البشرية والكفاءات الإنسانية اللازمة لها».
والحقيقة الثانية التي يقررها تتعلق بطبيعة محرك التنمية خاصة في عصر التقدم التكنولوجي والعلمي. إن هذا المحرك لم يعد وقفاً على الثروة المادية أو رهناً بما تنطوي عليه الكتلة البشرية من حجم عددي، «بل غدا أولاً وقبل كل شيء الخبرة العلمية والفنية العالية التي تلعب الدور الحاسم في مرحلة «ما قبل الإنتاج» والتي تستطيع وحدها أن تزيد في «إنتاجية» أي مشروع وأن تجني من الموارد المادية والمالية والبشرية التي توظف فيه أكبر «عائد» وأقصى مردود».
والواقعة الثالثة تشير إلى كون الجهد الإنمائي العربي يفتقر أشد الافتقار إلى الخبرة القادرة على تحقيق أفضل استثمار ممكن للموارد المتوافرة وعلى الحؤول دون ضياع الطاقات الضخمة وإهدارها. ولكي لا يتبادر إلى الذهن بأن المسألة تدور في حلقة مفرغة أطرافها المتصلة على سبيل الدور هي التنمية والخبرة والتربية، فإن المفكر التربوي لا يسعه إلا الإقرار بأن «سبيل تكوين هذه الخبرة هي التربية بشتى أشكالها وصورها، وبمعناها الواسع الشامل».
أما الخطوة الرابعة في مقدمات المنطق الإنمائي فإنها تحرص على تأكيد حقيقة أساسية بالنسبة لعصر التقدم العلمي والتكنولوجي، لئلا نتعجل القفز إلى النتائج وإحاطة «التربية» بهالة من السحر مماثلة لهالة التنمية. إذ لا تؤلف التربية دون تمييز وبشكل عام «أداة صالحة لتحقيق التنمية في مجتمع من المجتمعات». فالأمر ليس ملقى على عواهنه، والمسألة تتعلق في الدرجة الأولى بكون التربية «أداة فعالة» في تحقيق التقدم والتنمية. ولو تساءلنا متى تتوافر للتربية تلك الفعالية المرجوة، لطالعنا الرد الموجز التالي: «إن التربية لا تكون أداة فعالة من أدوات التقدم والتنمية إلا إذا اتصفت بمواصفات معينة تربط بين بنيتها ومحتواها وسياسة القبول بها وبين أهداف التنمية الشاملة» (ص 7).
وبناء على ما تقدم من حقائق ووقائع على صعيد الإطار النظري العام فإن البلاد العربية ملزمة – في سعيها نحو تجاوز التخلف ومواكبة التقدم و«الإطلال على رؤى القرن الحادي والعشرين» – بأن توجه أنظارها في الدرجة الأولى إلى التربية، لكي تعيد النظر فيها و«ترسم لها الخطة القادرة على أن تجعل منها أداة ناجعة من أدوات تعجيل التنمية في شتى صورها وأبعادها». والمقصود بإعادة النظر هو النظام التربوي الموروث الذي جرى نقله واقتباسه عن تجارب أمم أخرى دون ربطه على نحو وثيق بحاجات الإنتاج والتنمية النابعة من صميم الواقع العربي. والخبراء التربويون العرب أو علماء التخطيط التربوي في البلاد العربية يجب أن يعيدوا النظر في النظام التربوي بطابعه الموروث والمنقول، وذلك في عملية درس وتمحيص تضع النظام المذكور «موضع التساؤل والبحث وترسم له سبلاً جديدة تستجيب لطبيعة المشكلات التي تعاني منها وللتغييرات الكبرى التي تحدث في العصر الذي تعيش فيه والتي ستتخذ أبعاداً وأشكالاً محدثة في العقود القليلة القادمة» (ص 7).
تحليل بنية التربية القائمة:
تأتي مقالات الدكتور عبد الدائم التي يضمها كتابه عن «التربية في البلاد العربية: حاضرها ومشكلاتها ومستقبلها» بمثابة محاولة لتشخيص معالم الأزمة الراهنة في مجال التربية العربية. فهي تجسيد لجهد علمي مثلث الأهداف على النحو الآتي: 1- من أجل تحليل البنية التربوية القائمة في البلاد العربية، 2- الكشف عن مشكلات التربية العربية وصعوباتها والأزمة التي تعانيها، و3- تبيان السبل العلمية الكفيلة بتخطي الأزمة الراهنة والتغلب على كافة المشكلات والصعوبات التي تواجه بنية التربية القائمة في البلاد العربية. وهي محاولة تكتنفها مشقات جمة، بيد أنها تجعل رائدها عملية مسح شامل للوضع التربوي القائم أو عملية من الرصد النقدي للتطور التربوي الذي طرأ في البلاد العربية خلال العقدين الماضيين. فلا تتوقف عند الرصد النقدي فحسب، بل تبادر إلى وضع التطور التربوي «على محك الواقع الذي تمليه مستلزمات النمو الاقتصادي الاجتماعي السريع» مثلما تقوم بإبراز الملامح الرئيسية للتطور آنف الذكر في ضوء الاتجاهات التربوية المحدثة في العالم. على أن مسح الوضع التربوي القائم ورصد المنحى الذي سار فيه تطوره حتى الآن، بالإضافة إلى الكشف عن مشكلات التربية وتبين أزمة التربية العربية – وهو ما ترصده الفصول الثلاثة الأولى من الكتاب – يضع نصب عينيه هدفاً واضح المعالم، لا بل مطلباً ضخماً على حد قول المؤلف، وذلك «من أجل الاهتداء في النهاية إلى السياسة التربوية الجديدة القمينة بأن تحيل الجهد التربوي جهداً فعالاً منتجاً يلعب دوره المرتقب في شتى جوانب التنمية، ويرقى بالبلاد العربية إلى المستوى الذي تتطلع إليه وسط الركب العالمي المغذ في سيره» (ص 8). فالحديث عن التربية وتنمية الموارد البشرية وعن أزمة التربية في البلاد العربية ينطوي على مسألة هامة قوامها كيف السبيل إلى وضع التربية العربية في خدمة التقدم والتنمية.
ولا غرو فإن دراسة تحليلية من هذا النوع لا يسعها إلا النظر إلى التربية «بوصفها ظاهرة اجتماعية تتأثر وتؤثر في جملة الظواهر الاجتماعية الأخرى». ولابد للقيمين على رسم السياسة التربوية من الاستناد إلى أساس علمي وموضوعي في محاولتهم الرامية إلى تطوير النظام التربوي القائم. لذا فإن هذه الدراسة التحليلية تحاول الوقوف على طبيعة الأسباب الكامنة وراء تكوين النظام التربوي بالشكل الذي يقوم فيه.
لقد شهدت معظم الدول العربية قفزتها التربوية خلال الخمسينات واستمر النمو التربوي عبر الستينات أيضاً. والدكتور عبد الدائم يعرض بشكل عام مستنداً إلى طائفة من البيانات الإحصائية لأهم الملامح التي تميز بها النمو التربوي الكمي في البلاد العربية خلال الستينات. فالقفزة التي بدأت حوالي العام 1950 – على اعتبار أن السنوات المتحلقة حول هذا العام، وهي سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، تؤلف «منعطفاً أساسياً للتربية في أكثر البلدان العربية» – شهدت خلال الستينات بروز عدد من المشكلات التي تميزت بحدتها وجاءت مصاحبة لنمو التعليم. وهو يعدد أهم تلك المشكلات وأبرزها كالآتي:
– تقصير الإمكانات والموارد المالية عن حاجات النمو التربوي.
– بروز الطلاق بين النمو التربوي وحاجات النمو الاقتصادي والاجتماعي.
– فقدان التوازن في النمو بين مراحل التعليم المختلفة ثم بين أنواع التعليم المختلفة.
– بروز مشكلات تعليم الكبار ومكافحة الأمية.
فلو أخذنا «القفزة الكبرى التي حققها نمو التعليم الابتدائي» – حيث بلغ هذا النمو درجة التشبع في كثير من البلدان العربية – لتبين لنا من عملية استقراء الجداول الإحصائية المتوافرة أن التوسع في مرحلة التعليم الابتدائي في المدن ولدى الذكور لا يعاني من الصعوبة بمقدار ما يعانيه توسيع هذا التعليم في ميدانين أساسيين: ميدان الريف، وميدان إدخال الإناث في التعليم. وإذا كان مؤتمر طرابلس (ليبيا) قد قرر عام 1966 اعتبار السنة 1980 بمثابة الحد الزمني لبلوغ تعميم التعليم الابتدائي في البلاد العربية، فإن معدل النمو الحالي يشير إلى تعذر تحقيق هذا الهدف قبل عام 1989.
وعلى صعيد مرحلة التعليم الثانوي نجد أن نسبة المسجلين في التعليم المهني والفني هي نسبة متدنية قياساً على مجموع الطلاب المسجلين في التعليم الثانوي. أما التعليم العالي فقد شهد تطوراً بطيئاً لصالح تعليم العلوم، و«مع ذلك فإن الأرقام النسبية ما تزال تشير إلى طغيان الآداب والحقوق». كما أن حظ البنات من التعليم في مراحله الثلاث ما يزال متدني النسبة بالقياس إلى الذكور – «ولعلها من أدنى النسب في العالم» (ص 29). بيد أن أزمة التعليم العالي في البلاد العربية تحتاج إلى دراسة منفصلة لا يتسع لها هذا المجال.
أزمة التربية في البلاد العربية
مما لا ريب فيه أن الحديث عن «أزمة التربية» لا يقتصر على البلدان العربية وحدها دون سواها، بل هو حديث غدا واسع الانتشار في شتى بلدان العالم خلال السنوات الأخيرة. ولن نتوقف هنا عند السؤال عن قوام أزمة التربية في العالم بشكل عام، لذا نكتفي بإيراد العبارة التي يسوقها الدكتور عبد الدائم في معرض تلخيصه لأزمة التربية في البلدان النامية ومن جملتها البلدان العربية. وهي عبارة تنطوي على «حقيقة قاسية» مفادها كالآتي:
«تتزايد الحاجات والمطالب التربوية في البلاد العربية تزايداً سريعاً تقصر عنه الإمكانات المتاحة من مالية ومادية وبشرية» (ص 33).
فالإنفاق على التعليم شهد تزايداً كبيراً ترجع أسبابه إلى التزايد أو الانفجار السكاني في البلدان العربية وإلى الضغط الاجتماعي وازدياد الطلب الاجتماعي على التعليم، وإلى اتساع الجوانب الأكثر كلفة في التعليم، بالإضافة إلى التوسع الذي طرأ على نظام التعليم في تقديمه لشتى الخدمات الاجتماعية والصحية والرياضية، وإلى العناية المتزايدة بالتعليم المهني وضرورة الاستجابة لحاجات التنمية. وهناك نفقات «يتطلبها تطوير المناهج وطرائق التعليم وإدخال الوسائل الحديثة السمعية والبصرية»، والعناية بتدريب المعلم، وتجويد الكتب المدرسية وغير ذلك من أبواب الإنفاق المتزايد. حتى أن الإنفاق على التعليم يذهب في كثير من الأحيان هدراً وتبذيراً بالقياس إلى تعاظم ظاهرة الرسوب والتسرب (مغادرة مرحلة التعليم قبل نهايتها)، ونظراً «لعدم الأخذ بسياسة عقلانية في تجميع المدارس» وتحسين البناء المدرسي واختيار موقعه الملائم واعتماد السياسة الوظيفية إلى درجة أكبر.
وعلى الرغم من ازدياد الإنفاق فإنه لا يسد حاجات التربية في البلاد العربية. فالخدمات التعليمية لا تزال مقصرة عن بلوغ الشأن المطلوب. وفيما يتعلق بتعميم التعليم الابتدائي
يقرر الدكتور عبد الدائم بأن هذا التعميم «وهو أضعف الإيمان في الجهد التربوي المطلوب – ما يزال مطلباً بعيد المنال، في حين أن معظم الدول المتقدمة استطاعت أن تعمم التعليم منذ القرن التاسع عشر (الدانمرك عام 1817 – اليابان عام 1886 – إنكلترا عام 1870 وفرنسا عام 1882) ويكاد يصل معظمها اليوم إلى تعميم التعليم الثانوي». فالتقصير ليس محصوراً في البعد الكمي للتعليم فحسب، بل يتعاظم أمره على صعيد محتوى التعليم وبعده الكيفي. وهنا لابد من التوكيد على حقيقة أبرزتها الدراسات الحديثة بالنسبة للدور الحاسم الذي تلعبه التربية في عملية التنمية، دون أن تغفل التشديد على قيد أساسي وهو «أن التوسع في التعليم ليس دوماً وأبداً أداة من أدوات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بل قد ينقلب أحياناً إلى أداة معاكسة معادية للتنمية» (ص 38).
ويعمد الدكتور عبد الدائم إلى الأخذ بالقياسات الحديثة في تقديره لجهود التربية في البلاد العربية. فالثورة التربوية التكنولوجية في سعيها نحو صياغة نظام تربوي جديد تهدف إلى خلق «المجتمع المتعلم» بدلاً من جعل التعليم مقصوراً على جزء من المجتمع هو «الجمهور المدرسي». ولو نظرنا إلى الجهد التربوي العربي في شكله الحاضر من زاوية شعار «التربية الدائمة» أو «التربية المستمرة»، لتبين لنا مقدار التقصير على صعيد الاعتبارات النوعية والكيفية. فالأزمة ليست وقفاً على نمو التعليم وتعجيل التنمية. وفي ذلك يقول مفكرنا ما يلي:
«فنمو التعليم ليس في حد ذاته عصا سحرية تقلب البلاد والعباد وتؤدي إلى التنمية. وهو
لا يكون كذلك ما لم نضع في قلبه وجوهره أغراض هذه التنمية. أي ما لم يقم على خطة
تربوية علمية تربط ربطاً وثيقاً بين نمو التعليم كماً وكيفاً وبين حاجات التقدم الاقتصادي والاجتماعي» (ص 39).
ويمكن القول على سبيل الإيجاز أن المفهوم التربوي الذي تنطلق منه الثورة التربوية التكنولوجية في مسعاها الدائب لنسف الأطر التقليدية للنظام التربوي وتحقيق مبدأ «الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة» واعتماد شعار «التربية الفعالة» القادرة على الاستفادة من «احتياطي القابليات» وتعبئة الطاقات في سبيل التنمية ومن أجل إنجاز الثورة العلمية المنشودة – هو مفهوم يحدد قسمات التربية بصورة شاملة ومتحركة، ويربطها بحاجات الإنتاج و«بمستلزمات «تغيير المجتمع» عن طريق الإنسان». ولقد أوجز مفكرنا دلالة مفهومه على النحو التالي:
«.. التربية الحقة المرتبطة بمستلزمات التطور العلمي السريع هي التربية المستمرة لأفراد المجتمع جميعهم، في أي عمر كانوا أو في أي موقع من مواقع العمل والإنتاج أقاموا. إنها التربية المتجددة دوماً وأبداً مع تجدد الحياة ومع تغير المعرفة العلمية والمهارات التكنولوجية ومع تغير بنية العمل والاستخدام وحاجات سوق العمل».
إن جوهر الأزمة التي تعاني منها التربية في البلاد العربية يمكن إيجازه بعبارة واحدة مؤداها: أن الأعباء التربوية ما تزال ضخمة ومتكاثرة، تقصر عنها الإمكانات المتاحة. ويرى الدكتور عبد الدائم أن مسيرة التربية العربية قد وصلت اليوم «إلى ما يشبه الطريق المسدود». ومن الصعب الإقناع والاقتناع بأن محدودية الموارد المالية تقف عقبة كأداء أمام اضطلاع التربية العربية بالمهمات الملقاة على عاتقها. فالوجه الصحيح لأزمة التربية العربية يطالعنا على لسان الدكتور عبد الدائم في مستهل الخاتمة التي ذيل بها الفصل الثالث من كتابه حيث قال: «التربية المتخلفة نتاج طبيعي للمجتمع المتخلف، وتفرزه بنيته السكانية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وسبيل تجاوزها يتطلب جهداً مزدوجاً متسقاً: إنه يتطلب جهداً يستهدف تغيير البنى الأساسية المتخلفة وتطويرها، يوازيه ويسعفه جهد تربوي يعمل على تطوير ذاته أولاً كيما يستطيع أن يطور المجتمع من حوله.. مثل هذا التغيير الجذري في التربية في البلدان العربية لا يمكن أن يتم عن طريق نقل فتات التجارب التربوية العالمية التي حدثت هنا وهناك في مناطق العالم المتقدم. فالتجربة التربوية العالمية لا تعني – بالقياس إلى التربية في البلدان العربية – إلا إمكانات مفتوحة واحتمالات ممكنة، لا تتخذ معناها إلا من خلال التحليل العلمي الموضوعي لواقع التربية في البلدان العربية في علاقتها بجملة ميادين الحياة» (ص 107-108).
من هنا تنبع الحاجة الماسة إلى تنشيط البحث التربوي العلمي، على أن يرتبط ذلك بمؤسسة راسخة تقوم بدور الدماغ الموجه. فالتجديد التربوي لابد له من مؤسسة تضطلع بمهامه وتشرف على تحقيقه ضمن الإطار العلمي الصحيح. والدعوة التي ينادي بها مفكرنا في هذا السباق هي جديرة بكل اهتمام جدي. فهو يطالب بقيام «مؤسسات خاصة تُعنى بالبحث التربوي» لكي تعمل هذه المؤسسات على التنسيق بين الدراسات التربوية وبين إطار المجتمع والواقع، ولكي «تحاول أن تكيف التجارب العالمية وفق متطلبات ذلك الواقع». ويحسن بنا إيراد قوله التالي لما ينطوي عليه الأمر من أهمية بارزة في يومنا الحاضر:
«إن إنشاء مؤسسة أو مؤسسات عربية للبحث والتجديد التربوي، لا يؤدي فقط إلى وضع التطور التربوي في إطاره العلمي السليم وإلى دفعه في طريق التنمية السريعة للمجتمع بل يؤدي أيضاً إلى اقتصاد في الإنفاق التربوي نفسه حين يجعل النظم التربوية نظماً «فعالة» ويجنبها الكثير من الهدر والضياع، ويؤدي بها إلى الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة» (ص 108-109). لكن هذه الخطوات والتدابير الإصلاحية لا تشكل بديلاً للثورة المرجوة في عالم التربية العربية، نظراً لطبيعة المشكلات وخطورة الأزمة التي تعصف بالبنيان التربوي القائم.
مقومات الثورة التربوية:
إن التصدي لبناء التربية – ولا سيما إمعان النظر في مشكلات التربية العربية اللاهثة وراء التقدم – لا يسعه إلا الانطلاق من حقيقة أساسية لا بل من معادلة جوهرية يتعذر عليه إغفالها أو التقصير عن استيعابها والتبصر في مغزاها العميق. فالتربية التي نتحدث عنها لا تختلف عن الثقافة وعن الحضارة من حيث كونها «نتاج المجتمع وحصيلته بمقدار ما هي صانعته وخالقته». والنظر إلى التربية العربية بمنظور النكبات التي شهدتها البلاد العربية – وفي طليعتها نكبة فلسطين – يكشف لنا عن أبعاد هذا الترابط العضوي بين التربية ومواجهة التحدي الحضاري: «فالنكبات في حياة الشعوب تكشف دوماً عن أدواء عريقة بعيدة الجذور والأصول، وتفضح بوجه خاص البنى الثقافية التقليدية وتعلن إفلاسها، وتنادي ببنى ثقافية جديد قادرة على خلق مجتمع صامد أمام التحديات الحضارية التي تواجهه».
حين يتحدث الدكتور عبد الدائم عن التطور التربوي الذي شهدته البلاد العربية خلال العقدين المنصرمين نجده يعدد النقائص التي اعترت مسيرة هذا التطور، بعد إتيانه على ذكر ملامحه الرئيسية. ومن جملة النقائص التي يذكرها: ضعف نسبة البنات إلى البنين – التطور البطيء في التعليم الفني – الاتساع الكمي للتعليم لم يرافقه تحسن في المستوى الكيفي – توسع غير متوازن في مختلف مراحل التعليم – البنية الإدارية التقليدية – التخطيط التربوي الذي لا يرتبط ارتباطاً وثيقاً واللجوء إلى نظام الفترتين أو الثلاث فترات – المردود الداخلي الضعيف لنظام التعليم – البنية الإدارية التقليدية – التخطيط التربوي الذي لا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتخطيط الاقتصادي والاجتماعي – هجرة الأدمغة. ويمكننا أن نضيف إلى هذه القائمة ظواهر أخرى أضحت واسعة الانتشار مثل باطلة المثقفين أو ما اصطلح على تسميته بالبروليتاريا الجامعية Academic Proletariat وغير ذلك من مشكلات التعليم العالي بنوع خاص. وهي ظاهرة جديرة بالدرس وتتطلب حلولاً فعالة وناجحة.
وقبل الانتقال إلى تحليل العوامل الكامنة وراء الأزمة كمقدمة إلى تجاوز هذه الأزمة وإحداث الثورة التربوية المنشودة، لابد لنا من إلقاء نظرة عجلى وخاطفة على تلك العوامل المؤثرة في توجيه التطور التربوي العربي. فالتطور الذي طرأ على المجتمع في البلاد العربية مازالت تعوزه الدراسات التاريخية والاجتماعية التي يمكن التعويل عليها في دراسة تطور التربية. والتحليل الذي يقدمه مفكرنا هو تحليل أولي يستند فيه إلى عدد محدود من المصادر، بالإضافة إلى خبراته ومعاناته الشخصية في هذا المجال. إنه يحصر العوامل المختلفة التي قامت على توجيه التطور التربوي بخمسة عوامل رئيسية على النحو التالي:
1- عوامل التزايد السكاني، حيث ترك شكل الهرم السكاني أثراً واضحاً في شكل الهرم التعليمي.
2- العوامل الاجتماعية أو تزايد الطلب الاجتماعي على التعليم، وهي تنقسم إلى نوعين:
أ- العوامل الاجتماعية البنيوية Structures وأهمها:
– تغير البنية السكانية وتزايد فتوة السكان.
– عوامل الهجرة الداخلية والخارجية: الهجرة الواسعة من الريف إلى المدينة والتوسع الحضري السريع، والهجرة إلى خارج البلد.
– تغير التركيب الطبقي للمجتمع ولا سيما في الريف.
– ظهور طبقة عمالية صناعية في المدن.
– توطين البدو وبروز مطالب المجتمعات البدوية المتوطنة.
ب- العوامل الاجتماعية الثقافية:
والمقصود بهذه العوامل «كل ما يتعلق بمواقف الأفراد والفئات والجماعات، وما ينبثق عنها من نظم للقيم وأهداف مشتركة ومنازع وصبوات خاصة». وأهمها في نظره ما يلي:
– تطور تقبل الناس للتعليم Receptivité.
– تطور تقبل الناس لتعليم الفتاة.
(وأهم العوامل الكامنة وراء حدوث هذا التطور هي:
«تطور النظرة الدينية، وتحرر المرأة، والإدراك المتزايد للدور الاقتصادي الذي يلعبه تعليم الفتاة، وتأخر سن الزواج وزوال النظام العائلي الأبوي Patriarchal تدريجاً..».
– تطور تقبل الناس للتعليم المهني والفني.
– الرغبة في الارتقاء الاجتماعي («التعليم هو السلم الأساسي للارتقاء الاجتماعي ولتحسين المنزلة الاجتماعية Social Status»).
– تناقض دور الزمر الاجتماعية الضاغطة Pressure groups مما أدى بالتالي إلى زوال القسر الاجتماعي Social Coeretion.
– تطور القيم الاجتماعية وتطور تصور المجتمع للنظام الأمثل في حياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
3- العوامل السياسية:
على صعيد جهود الحكومات في سبيل تشجيع التعليم وتطويره ومنها العوامل التالية:
أ- التشريعات التي أدت إلى تشجيع التعليم وتطويره.
ب- التشريعات المتعلقة بتحديد سن العمل.
ج- ظهور نظم سياسية أكدت أهمية التعليم ودوره:
سياسة البعثات العلمية، والالتحاق بالتعليم العالي وإعادة تنظيم رحلة التعليم الثانوي.
د- نمو التضامن بين البلدان العربية والجهود المبذولة لتحقيق التقارب بين مختلف نظم التربية العربية والاتفاق على مناهج مشتركة في موضوعات التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية وتبادل الأساتذة والمعلمين، وظهور منظمة الدول العربية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو العربي) عام 1970.
هـ- الأثر الذي أحدثته التقلبات السياسية، حيث جرى اعتبار رأس المال الثقافي بمثابة «رأس المال الثابت والباقي وسط هذه التقلبات». أي أن التربية بدت كعامل من عوامل الطمأنينة في مجتمع سريع التغير.
4- العوامل الاقتصادية:
أ- ظاهرة الانتقال المهني. فاليد العاملة انتقلت من قطاع الزراعة إلى قطاع الصناعة ومن ثم إلى قطاع الخدمات، مثلما أنه قد ظهرت في عصر التحديث والتصنيع والتقدم التكنولوجي مهن وصناعات جديدة في مجالات الكهرباء والإلكترونات والكيمياء والإدارة وغيرها.
ب- اتساع مجالات العمل أمام المرأة (في قطاع التعليم والخدمات، وعلى صعيد «الاختصاص بالمهن الكتابية وأعمال السكرتارية»).
ج- ظهور التخطيط الاقتصادي والاجتماعي العام: جهود منظمة اليونسكو في سبيل إطلاق عملية التخطيط التربوي في البلاد العربية والعمل على تحقيق الربط الوثيق بين نمو التربية وبين التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وإنشاء المركز الإقليمي لتخطيط التربية وإدارتها في البلاد العربية (مركزه بيروت) منذ عام 1961.
د- الحاجة المتزايدة إلى الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة «إذ تزايدت أعباء التربية تزايداً واضحاً لا يقابل التزايد في الموارد المالية المخصصة للتربية (بعد أن بلغت ميزانية التربية في معظم البلدان العربية أكثر من 20% من مجموع ميزانية الدولة، وبعد أن وصل الإنفاق على التربية في بعضها إلى أكثر من 6% من الدخل القومي)» (ص 67).
هـ- اتساع ظاهرة بطالة المثقفين نتيجة للتوسع الاعتباطي في التعليم دون الالتفات إلى حاجات الطاقة العاملة وأخذ حاجات سوق العمل بعين الاعتبار.
5- العوامل الراجعة إلى تطور فلسفة التربية وعلم التربية:
أ- التقدم الذي أحرزته الأفكار التربوية بالإضافة إلى الدراسات والبحوث في حقل التربية، وقد تجلى هذا التيار في: «بروز عدد من المربين العرب وفي إنشاء بعض مراكز البحث التربوي وفي وضع العديد من الكتب والدراسات والأبحاث، وفي نقل كثير من التجارب التربوية العالمية والفكر التربوي العالمي».
ب- أثر الجهود التربوية الدولية والعالمية:
منظمة اليونسكو: اللجان الثقافية الوطنية، المؤتمرات والحلقات الدراسية، المنح والمساعدات الفنية، وإنشاء المركز الإقليمي لتخطيط التربية وإدارتها في البلاد العربية.
المؤتمرات الإقليمية لوزراء التربية والوزراء المسؤولين عن التخطيط الاقتصادي في البلاد العربية (طرابلس الغرب 1966، مراكش 1970). وقد طرحت هذه المؤتمرات والحلقات موضوعات جديدة، منها: * ربط حاجات التربية بحاجات القوى العاملة وحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، * البحث في كلفة التعليم، * دراسة الإهدار في التعليم، * تمويل التعليم وميزانيات التعليم، * زيادة فعالية النظام التربوي، * التجديد في تكنولوجيا التربية، * الطرائق الإدارية الحديثة واستخدامها في التربية، * والبرمجة Programming وعقلنة القرارات، بالإضافة إلى الخارطة المدرسية والخارطة التربوية.
ج- تطور التدريب والإعداد (قبل الخدمة وأثناء الخدمة وبعد الخدمة) وإعادة التأهيل.
د- التطور الذي طرأ على الفلسفة التربوية، حيث تكونت بالتدريج الخطوط الأساسية لفلسفة تربوية عربية جديدة، ومن أبرز معالم هذه الفلسفة التي تؤثر في أهداف التربية وسياستها ما يلي:
* الأخذ بوحدة الثقافة في إطار من التنوع.
* دمج التراث العربي بالتراث الإنساني.
* التأكيد على المعرفة العلمية وأسلوب التفكير العلمي وعلى تنمية الاتجاهات العلمية.
* بناء التربية على أساس العمل والإنتاج وعلى أساس الإيمان بوحدة العمل اليدوي والفكري.
* تنمية روح الابتكار والإبداع والتجديد.
* تنمية روح العمل الجماعي والتعاوني المشترك.
على أن تحليل النظام التربوي القائم في البلاد العربية وإدراك مقوماته بالإضافة إلى مشكلاته والأزمة التي يعانيها لابد له من الانتقال إلى مرحلة التفكير بإحداث ثورة تكنولوجية في التربية تفجر الأطر التقليدية في حقل النظام التعليمي وتفيد من التقنيات الحديثة في ضوء استخدام أفضل للموارد المتاحة. فالتغلب على الأزمة وإحداث التغيير الجذري والتطلع صوب أبعاد المستقبل لا يسعه أن يتحقق إلا من خلال اللجوء إلى تدابير معينة تأتي في طليعتها:
أ- زيادة فعالية النظام التعليمي وكفاءته الداخلية.
ب- اللجوء إلى أشكال جديدة من التربية تتجاوز الإطار التقليدي وتأخذ بالتقنيات الحديثة في التربية.
ج- تعليم عدد أكبر من الطلاب تعليماً أفضل بنفس الموارد المتوافرة.
د- زيادة فعالية الإدارة التربوية ونقلها من مستوى «الإدارة الحرفية» إلى مستوى الإدارة العلمية «المصنعة».
وليس التغلب على الأزمة القائمة في التربية هو السبيل الوحيد لولوج باب المستقبل وتجاوز المشكلات الراهنة. ثمة مهمات أخرى ملقاة على عاتق التغيير الجذري المنشود، وهي من المهمات الكبرى المطلوبة من التربية لكي تتجاوز واقعها وتبلغ مرتجاها، يذكرها مفكرنا على النحو الآتي:
1- الاتجاه نحو الأخذ بمفهوم «المجتمع المتعلم»، وتبني فكرة التربية الدائمة والمستمرة والمتجددة («من المهد إلى اللحد») «أي نحو تربية لا تقف عند عمر معين، ولا تقتصر على قطاع محدود من الناس، بل تصيب خيراتها المجتمع كله، بأشكال مختلفة ملائمة للأعمار المختلفة والبيئات الاجتماعية المختلفة والفئات العاملة المتباينة» (ص 92). ومن شأن هذه النظرة أن تؤدي إلى انقلاب في «منطق الأولويات» الذي يسود عالم التربية التقليدية، حيث يؤثر هذا الانقلاب في بنية التربية ومراحلها كما أنه يؤثر في إطار التربية نفسه.
2- زيادة «الكفاءة الخارجية للنظام التعليمي» External & Hiciency تحقيق الربط الوثيق بين التربية وبين حاجات سوق العمل وحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
3- اعتماد أسلوب التخطيط التربوي العلمي من أجل تحقيق التنمية في حقل التربية بصورة سريعة ومتوازنة. ولا غرو فإن القسم الأعظم من كتاب الدكتور عبد الدائم – أي من الفصل الرابع وحتى الفصل الحادي عشر – يتناول موضوع الخطة التربوية اللازمة لتجاوز الوضع القائم والتغلب على الأزمة. فهو يكرس حيزاً لا يستهان به لشرح الأوجه الهامة والأساسية في الخطة التربوية، ويشدد على ضرورة تحديد الأهداف المنشودة في التخطيط بالاستناد إلى دراسة علمية دقيقة لأبرز معالم الواقع السكاني والاقتصادي والاجتماعي والتربوي، مثلما أنه يترك للمجتمع أمر رسم الأهداف المرجوة في المستقبل في ضوء فلسفته الاجتماعية وحاجات مواكبة ركب التقدم العالمي. فهو يقول عن التخطيط التربوي ما يلي:
«ليس مجرد بدعة جديدة ندخلها إلى نظام التعليم، ولا هو ترف ونفل زائد، بل هو أسلوب علمي وفني في معالجة المشكلات التربوية لا نستطيع التصدي بدونه للواقع الذي بين يدينا. إنه حاجة ماسة وضرورة ملحة لمواجهة أزمة التربية في بلادنا. إنه موقف واقعي عملي، يريد أن يتدخل في مجرى التربية تدخلاً علمياً يضمن لها توسعها السليم، ويحول بيننا وبين أن نقف أخيراً مكتوفي الأيدي أمام مشكلات التربية المتعاظمة» (ص 117).
والتخطيط التربوي في البلاد العربية يحتاج إلى شرطين أساسيين لكي يتوفر له النجاح والاكتمال: أولاً، يجب أن ترتبط عملية التخطيط التربوي بالإدارة التربوية، وهناك وسائل عديدة لتحقيق هذا الربط، وثانياً، لابد من ربط الإدارة التربوية بأغراض التخطيط التربوي. فالشرط الواحد يأتي مكملاً للآخر، على نحو ما جاء في القول المأثور: «إن التخطيط التربوي بدون الإدارة فارغ، وإن الإدارة بدون التخطيط عمياء» (ص 248). أي أنه ليس من الجائز الفصل بين التخطيط والإدارة، ونحن لا نهدف إلى وضع خطة تربوية ثم نترك للظروف أمر تنفيذها، بل إلى جعل «الإدارة التربوية كلها إدارة مخطَّطة ومخطِّطة تسير في سياستها وفق أهداف رسمتها، وتقوم بأعمالها اليومية من خلال تنفيذها لما ارتضته من تخطيط».
ولا تستقيم المهمات الكبرى الملقاة على عاتق التغيير الجذري في حقل التربية العربية إلا متى جاءت مستوحاة لا بل منبثقة عن مهمتين ذات صلة وثيقة بروح التربية وجوهرها. فالتربية كما يفهمها الدكتور عبد الدائم من خلال نظرته إلى مستقبل التربية العربية بالذات، يجب أن تولي عنايتها واهتمامها في كافة مراحلها وشتى أشكالها إلى مسألة «خلق إرادة العمل المشترك لدى المواطنين في سبيل أهداف مشتركة». وهنا يبرز المفهوم القومي في التربية بصيغة معتدلة وعقلانية. فهو ينشد للتربية المرجوة أن تؤلف أداة من أدوات الوحدة الثقافية وأن تكون قادرة على إيجاد التماسك الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد. وينبه القارئ إلى طبيعة الوحدة التي يقصدها، بقوله أنها «وحدة لا تنفي التنوع ولكنها تنفي التعدد والتضارب» ولا يقف الأمر عند حد الوحدة الثقافية والتماسك الاجتماعي، بل يتعداه إلى «توليد إرادة الحياة المشتركة».
والمهمة العظمى الثانية التي ينبغي للتربية أن تضطلع بها هي الانشغال الجدي والعميق «بتكوين المواقف النفسية الملائمة لما يحتاج إليه التقدم العلمي والتكنولوجي من خلق وإبداع»، فالتربية مدعوة إلى تكوين «المهاد اللازم للتقدم العلمي» وإلى غرس روح الخلق والإبداع والابتكار في نفس الطفل منذ نعومة أظفاره. وفي تزاوج طريف بين البرغسونية وتعاليم الأسلوب الظاهراتي في الفلسفة المعاصرة يعلن مفكرنا أن «اللقاح بين الإنسان الصانع Homo Faber والإنسان الحامل للهدف المشرئب نحو القيم (القصدية) هو الذي يولد التقدم» (ص 107). فالتقدم العلمي والتكنولوجي يحتاج إلى توفر المناخ الفكري والنفسي الملائم، ومهمة خلق هذا المناخ تقع على عاتق التربية المتجددة.
الفلسفة التربوية العربية: التحرير
يتجنب الدكتور عبد الدائم في الفصل الذي عنوانه «نحو فلسفة تربوية عربية» الخوض في موضوعه من زاوية ترداد «قصة الفلسفة التربوية العربية، التي ينبغي أن تجمع بين الأصالة والتجديد، بين التراث القومي والحضارة الإنسانية، بين التليد والطريف» (ص 319). فالهدف اللازم للتربية العربية لا يختلف عن هدف كل تربية ومنها التربية في البلدان النامية: «هو أن نجد الطريق لتفتيح طاقات الإنسان حتى أقصى مداها، وأن نعزم أمرنا على صياغة تربية تحرر الإنسان من الجمود والقيود، وتطلق قوى الخلق والإبداع والتجديد عنده». إن الهدف المنشود ليس وقفاً على الربط بين نمو التربية ونمو الاقتصاد وحاجاته، ولا هو مقصور على دمج الفرد في جسم المجتمع وتهيئته لكي يستوعب تراث هذا المجتمع وأهدافه ونظرته إلى الحياة، ولا هو بالتالي في خلق المواطن الصالح فحسب. بل إن «ذلك الهدف الذي بدونه لا يكون أي هدف، هو أن يتم كل شيء من خلال إطلاق مواهب الإنسان وطاقاته وقوى التجديد والمبادرة والخلق عنده» (ص 320).
لابد لنا من التخلي عن مفهوم (النمو) بمعناه الضيق وإطراحه جانباً، لكي نأخذ بمفهوم «التغيير» بمعناه الأشمل والأعمق، «مفهوم النمو عن طريق التغيير، تغيير الفرد وتغيير أسس البنى الاجتماعية والاقتصادية عن طريقه». من هنا يجب أن تبدأ الفلسفة التربوية المجددة، والتربية العربية التقليدية عاجزة في تحجرها وجمودها عن الاضطلاع بمسؤولية التغيير المنشود. فالكائن الإنساني، وليس النمو الاقتصادي، هو هدف التربية الحق. وغاية هذه التربية المرجوة أن تسعى أولاً وأخيراً نحو «إعداد هذا الكائن الإنساني وتفتيح قواه بحيث يصبح قادراً على أن يضع نظام مجتمعه ووسائله وغاياته موضع التساؤل والبحث، وبحيث يغدو عاملاً دائماً من عوامل التجديد فيه. ورغم أن ارتباط التربية الوثيق بكل من المجتمع والتراث الاجتماعي، حيث تأتي التربية الاجتماعية المحضة تربية اتباعية لا إبداعية، فإن الكائن الإنساني مدعو إلى تجاوز عائق هذا المجتمع وتخطي حدوده، إذ يعمد إلى استخدام «طبيعته الفطرية وجسده وميوله، من أجل التحرر من المجتمع والارتفاع فوقه، من أجل أن يغدو ما يصبو إلى أن يكون». والتحرير مسألة يأخذ الكائن زمامها بنفسه وعلى عاتقه. فلا يتم له هذا التحرير عن طريق الآخرين، ونكاد نقول من خلال قيود المجتمع وحدوده وسدوده. والتحرير هنا معناه تجاوز الذات وتنقيتها من الزيف وإطلاق القوى والطاقات المحبوسة من عقالها.
وفي ذلك يقول الدكتور عبد الدائم ما يلي:
«تلك هي الفلسفة التربوية المنشودة في نظرنا. إنها الفلسفة المؤمنة بقدرة الإنسان على تجاوز ذاته ومجتمعه وعلى الارتقاء في معارج الإنسانية الحقة وعلى خلق المجتمع الإنساني المتحضر حقاً، والمؤمنة بالتالي أن غاية كل غاية وأصل كل تربية أن تقتلع الزيف الذي يعصف بتكوين الإنسان، فيغل قواه، ويعطل إبداعه، ويشل تحركه نحو التجدد. إنها الفلسفة التي تجعل همها احترام تلك القوى الدفينة والإمكانات المحبوسة، قوى التجاوز والارتقاء والإبداع، وإمكانات البحث والكشف والتنقيب.. إنها الفلسفة التي تدرك أنها نفسها قيد وحد، مهما يكن شأوها، وأن تيار التقدم كامن أولاً وآخراً في مفاجآت الطاقة الإنسانية حين تنطلق حرة أصيلة متصلة بنبع الحياة» (ص 324-5).
إن هذه الأفكار لا تخلو من نفحة برغسونية بالإضافة إلى كونها توحي بالكثير من آراء تيار دي شاردان. والشيء الأهم من ذلك كله هو أننا نتساءل مع مفكرنا: «هل هذه الفلسفة التربوية العربية المرجوة؟». فالدكتور عبد الدائم يتعمد الامتناع عن تكرار الحديث عن دور التربية في حياة المجتمع والأمة اقتناعاً منه بأن مثل هذا التكرار «لن يجعلنا نتقدم خطوة واحدة في طريق فلسفة التربية». ما العمل، إذن؟ لابد من إرساء دعائم جديدة للفلسفة التربوية العربية في تطلعها إلى صنع الإنسان الجديد والمتسلح بالقدرة على التغيير واستشراف أبعاد المستقبل. وعليه، فإن فلسفة التحرير تغدو بنظر الدكتور عبد الدائم هي الفلسفة التربوية الصحيحة، إذ يقول في خاتمة كتابه: «إن الفلسفة التربوية الحقة هي التي تعالج أزمة النضوب والعقم، تلك الأزمة المسؤولة عن تردي حياتنا الفردية والاجتماعية والقومية وسواها. إنها الفلسفة التي تحرر طاقات الإنسان وتطلق قوى الإبداع لديه، ليستطيع حقاً أن يبني نفسه ومجتمعه. إنها الفلسفة التي تريد أن تخلق الإنسان الجديد، القادر وحده على تحطيم البنى الاقتصادية والاجتماعية الجامدة، بفضل اتصاله الحي بالكون من حوله، وبفضل ما أفسح من مجال أمام توقه إلى التنقيب والبحث والتأثير» (ص 336). يبقى السؤال عن السمة المميزة لهذه الفلسفة التربوية العربية في سعيها نحو معاصرة هذا القرن ومنجزاته ونحو الإطلال على القرن الحادي والعشرين، والعيش منذ الآن في مناخ عصر «الأوتوماتية والسبرانية والإلكترون» والأخذ بأسباب الثورة الصناعية الثانية، ونحو تربية أبناء مجتمع ما بعد الصناعة. هنا يجيب الدكتور عبد الدائم إجابة مقتضبة للغاية فيقول: «السمة الخاصة للفلسفة العربية تتأتى من شيء واحد: هو أن تخلق الأشكال والأطر والمحتويات التربوية الجديدة بعد تعرف على واقع البلد وإمكاناته، وأن يكون رسمها لإطار التربية ووسائلها مستقى من تجارب وأبحاث ميدانية، مستمدة من مشكلات بلادنا وإمكاناتها. وما سوى ذلك لفظ وعقم وتجريد». فالفلسفة التربوية المنشودة لابد لها من التجذر في الواقع والانطلاق من معطياته الراهنة واعتماد الأبحاث الميدانية والبيانات الإحصائية والتحدث بلغة العلم والأرقام دون الوقوع فريسة لوهم هذه الأرقام والإحصاءات.
وخلاصة القول في خاتمة هذا العرض هو أن الفلسفة التربوية التي يعتنقها الدكتور عبد الدائم هي «التحرير، تحرير الفرد من قيود المدرسة التقليدية وإطارها ووسائلها». فلا حاجة إلى أن تعترينا الدهشة والاستغراب، إذ يستطرد في تبرير السمة التحريرية وتعليلها على النحو الآتي: «أجل، وهل من هدف أسمى وأشمل وأعمق من هدف التحرير، تحرير الإنسان العربي من الأغلال، أغلال الجهل المنظم الذي تمارسه المدرسة، وأغلال العقم الذي تكرهه عليها؟ إن شرارة التحرير الأولى للمجتمع، ثارية هناك، في الثورة التربوية التي تسمح للإنسان بأن يرى ويكتشف ويبدع، والتي تطلقه في طريق توق ذاتي لا يكل وجهد ذاتي لا يتوقف، يرقى بهما إلى غير حد، ويرتقي بمجتمعه دون ما سد».
وعلى سبيل العود إلى ما بدأنا به من أن التربية هي «نتاج المجتمع وحصيلته بمقدار ما هي صانعته وخالقته» نصل مع الدكتور عبد الدائم إلى حلقة التفاعل المتبادل بين الإنسان – المجتمع من جهة وبين التربية والفكر التربوي من جهة ثانية. وهي حلقة من ضمن العلاقة المتبادلة القائمة بين الإنسان والحضارة، حيث أن الإنسان هو صانع الأشياء ومبتكر الأدوات الحضارية، وبالتالي فهو صنيعة للمحتوى الحضاري. ولكي نفهم دعوة التحرير التي تنطوي عليها الفلسفة التربوية العربية المرجوة حيال أزمة العقم والنضوب، لابد من اعتبار هدف التحرير المنشود بمثابة تجاوز للقيود التي تشل طاقات الإبداع والخلق، وتفتح الآفاق أمام الارتقاء في سلم التطور الكوني وتوفير الحياة الكريمة للإنسان الجديد. فالتربية في واقعها الراهن هي فريسة شتى أنواع القيود والأغلال، وفي مرتجاها يجب أن تتطلع صوب الثورة التربوية، حيث تثوي «شرارة التحرير الأولى للمجتمع»، وحيث يغدو التغيير الجذري هو السبيل الصحيح لجعل التربية تسترد الشطر المعطل من دورها الإيجابي والمبدع فتصبح جديرة بالقول أنها صانعة المجتمع وخالقته، وليس مجرد نتاجه وحصيلته فحسب، وتؤدي دورها في تحرير الإنسان على خير وجه.