نحو حضارة عربية علمية تكنولوجية: الثورة العلمية التكنولوجية وأبعادها الاجتماعية والإنسانية

نشر في مجلة قضايا عربية العدد /7/ – تشرين الثاني 1974

نحو حضارة عربية علمية تكنولوجية
الثورة العلمية التكنولوجية وأبعادها الاجتماعية والإنسانية

قد يبدو هذا الحديث عن طبيعة الثورة العلمية التكنولوجية ضرباً من تحصيل الحاصل. فلقد شاع استخدام هذا المصلح في السنوات الأخيرة ولاكته الألسن وطرقته الأقلام، حتى كاد يظن أنه مفهوم بيّنٌ بذاته، وإن التعريف به أشبه بمحاولة تفسير الماء بالماء.
وما الأمر كذلك في جوهره. فهذا المصطلح أصابه ما أصاب كثيراً من المصطلحات الشائعة الذائعة التي يكثر استخدامها دون تدقيق في معناها وخصائصها، والتي تستخدم غالباً في غير مواضعها وفي غير معانيها المحددة.
والحق أن هذا المصطلح يستخدم غالباً في معناه العام الغامض، وكأنه مرادف للتقدم جملة وللتطور عامة. وإذا ما حاول بعض الباحثين أن يخصوه بمعاني أدق، عنوا به بشكل عام التقدم الذي يتم عن طريق العلم وعن طريق التكنولوجيا، دون أن يشيروا إلى الخصائص التي تميز مثل هذا التقدم عن سواه.
وقد يلجأ قلة من الباحثين إلى توضيح خصائص هذه الثورة العلمية والتكنولوجية، غير أنهم قلما يشيرون إلى الفوارق الأساسية القائمة بين هذه الثورة وبين الثورة الصناعية التي سبقتها منذ القرن التاسع عشر، وكثيراً ما يحسبون الأولى امتداداً عادياً للثانية.
وأهم من هذا كله، أن قليل القليل من الباحثين يفطن إلى التغييرات الجذرية التي تحدثها الثورة العلمية التكنولوجية في شتى ميادين الحياة، وفي ميدان الحياة الاجتماعية والإنسانية خاصة.
ومن هنا كان أي بحث في الثورة العلمية التكنولوجية وفي آثارها بحثاً ضالاً في نظرنا إذا هو لم يبدأ بتحديد المفهوم الدقيق لهذا المصطلح، وإذا هو لم يوجه عنايته نحو الخصائص التي تميز مثل هذه الثورة عن سواها، والتي من شأنها أن تولد حضارة جديدة ومستقبلاً إنسانياً جديداً.
وإذا كان مثل هذا التحديد لمفهوم الثورة العلمية التكنولوجية لازماً في كل بلد، فهو في بلداننا السائرة في طريق النمو ألزم وأوجب. فهذه البلدان، في سعيها لدخول هذه الثورة، لا بد أن تفهم حقيقة أمرها وأن تدرك طبيعتها وروحها المحركة لها، وبدون هذا الفهم العميق الدقيق لطبيعة هذه الثورة ولدينامياتها الموجهة لها، يظل حديث هذه البلدان عنها حديثاً لفظياً، وتظل محاولاتها الدائبة لاصطناعها وتبنيها محاولات لا تصيب الهدف.
فما هي إذن طبيعة هذه الثورة العلمية التكنولوجية؟ وما هي الفوارق بينها وبين سواها، ولا سيما بنها وبين الثورة الصناعية الأولى؟ وما هي آثار هذه الثورة حاضراً ومستقبلاً على علاقات الإنسان بالإنسان وعلى الوجود الاجتماعي للإنسان وعلى النظريات الاجتماعية والفكرية التي تبحث في مصير الإنسان؟ تلك هي الأسئلة التي سنحاول الإجابة عليها.
(أولاً) الفوارق الأساسية بين الثورة العلمية التكنولوجية وبين الثورة الصناعية الأولى:
وأول ما يوضح أبعاد هذه الثورة العلمية التكنولوجية – في نظرنا – أن نبين الفوارق الجذرية القائمة بينها وبين الثورة الصناعية الأولى.
ونقول منذ البداية أن منطلقنا هو أن الثورة العلمية التكنولوجية التي عرفها الإنسان في العقود الأخيرة خاصة، والتي ستسود العالم المتقدم حوالي نهاية هذا القرن، مختلفة في الطبيعة والنوع، لا في الدرجة والكم، عن الثورة الصناعية الأولى التي عرفها الإنسان منذ القرن التاسع عشر.
ونسارع إلى القول أن هذا التمييز القاطع بين الثورتين قد يبدو صنعياً ومغالياً، إذا لم نشر إلى حقائق ثلاث:
أولاها: أن هاتين الثورتين ما تزالان تتعايشان في مجتمعنا المعاصر، وأن الثورة العلمية التكنولوجية تنتشر في قلب الثورة الصناعية الأولى، ومن خلالها وإلى جانبها. وهذا التعايش قد يخلق بعض الالتباس ويجعل التمييز بينهما صعباً، ويحمل بعض الباحثين على اعتبار الثانية مجرد امتداد للأولى أو مجرد تطوير لها.
وثانيها أننا حين نتحدث عن خصائص الثورة العلمية التكنولوجية، فإنما نتحدث عن تلك الخصائص في شكلها الخالص النقي – إن صح التعبير – إيثاراً منا للوضوح وأخذاً بمنهج علمي صارم.
وثالثها أن هذه الخصائص المميزة النقية التي تتصف بها الثورة العلمية التكنولوجية في جوهرها وأعماقها هي التي ستكون خصائصها الفعلية الكاملة في المستقبل، وهي التي ستصير إليها تلك الثورة عندما تنمو وتنتشر وتصبح الطراز السائد في المجتمعات المتقدمة حوالي نهاية هذا القرن، على نحو ما تدل التنبؤات والدراسات التحسبية.
وبكلمة موجزة إن همنا أن نلتقط روح هذه الثورة العلمية والتكنولوجية في نقائها وصفائها وصفاتها الخاصة المميزة، وأن ندرك، من خلال ذلك، الدفعة الحضارية التي توجه مسيرتها، وأن ننظر إليها بالتالي من منظار الغد ومن منظار ما تبشر به وتعد، بدلاً من الاكتفاء بالنظر إلى واقعها وكأنه واقع ساكن لا يومئ إلى مصير ولا يشير إلى نهاية.
ولا حاجة إلى القول أن المنهج العلمي – في شتى ميادين البحث – يفرض اليوم أن ندرك الظواهر من خلال مستقبلها لا من خلال ما فيها، وأن نتعرف عليها تعرفاً حقيقياً من خلال النظر إلى امتداداتها المقبلة، أي من خلال نظرة مستقبلية تحسبية.
فقيمة الظاهرة لا تكمن فيما هي عليه بل فيما ستصير إليه، وحقيقتها لا تستوي في تجلياتها الراهنة بل في الاتجاه الذي يشير إلى مستقبلها وفي التطلع الذي يحركها.
إن إغفال هذه النظرة المستقبلية هو الذي جعل الكثير من الباحثين الممتازين يهملون الطابع الخاص المميز للثورة العلمية التكنولوجية ولا يدركون الفوارق الحاسمة بينها وبين الثورة الصناعية الأولى، ولا سيما من وجهتي النظر الاجتماعية والإنسانية. فالانتقال من الثورة الصناعية الأولى إلى الثورة العلمية التكنولوجية يبدو لهم – من وجهة النظر العملية الواقعية – نوعاً من التحرك البطيء المتصل، مما يجعلهم يضلون بالتالي الطبيعة المتفجرة للثورة الجديدة في قواها الأساسية المحركة. وهذا كله هو الذي سنحاول توضيحه:
1- ما هي أولاً الثورة الصناعية الأولى؟
نحن الآن في خواتيم حضارة ولدت خلال القرنين الماضيين، بعد الثورة الصناعية التي قامت في القرن التاسع عشر. وقوام تلك الحضارة الإنتاج الصناعي الكبير الذي يتم في المصانع، والذي ساد الاقتصاد في مجموعه وفرض طابعه المميز على الحياة الإنسانية كلها. والعنصر الأساسي في مثل هذه الحضارة الصناعية – كما نعلم – هو الماكينات (الماكينات المصفوفة، الماكينات الميكانيكية) وإلى جانبها جيوش العمال الذين يتولون أمرها والذين يقوم كل واحد منهم بعمل جزئي صغير يضاف إلى العمل الجماعي الكلي الكبير. وبتعبير آخر إن طراز الإنتاج السائد في مثل تلك الحضارة الصناعية هو الطراز القائم على الماكينات وعلى كتلة من العمال مقابلة لها. أو بكلمة موجزة إنه إنتاج قوامه منظومة من الماكينات تستخدم كتلة من اليد العاملة. ودور اليد العاملة في هذا الإنتاج دور عملي تنفيذي محض، لا يعدو تحريك الآلة أو تسديدها وضبطها.
وأصل الثورة الصناعية وبدايتها – كما نعلم – كانت ماكينة العمل. غير أن ماكينة العمل هذه لم تنتشر ولم تعم إلا بفضل اكتشاف الماكينة المحركة، الماكينة البخارية. ثم تطورت هذه الآلة البخارية بدورها وتطورت عناصر النقل أو الاتصال فيها، ولا سيما بعد ظهور الكهرباء كأداة للنقل والاتصال. وبذلك وصلت الثورة الصناعية الأولى إلى أوجها.
ولا شك أن هذه الثورة الصناعية الأولى – في أشكالها المتطورة العديدة التي أشرنا إليها – قد ولدت نتائج إيجابية في عمليات الإنتاج وفي علاقات الإنتاج، لا سيما إذا قيست بمرحلة الإنتاج السابقة عليها، نعني مرحلة الإنتاج الحرفي. ففي مرحلة الإنتاج الحرفي تلك، كانت الوحدة الأساسية للإنتاج هي المنتج الفرد (كما في الحرف اليدوية) أو مجموعة من العمليات الجزئية (كما في صناعة الجملة Manufacture). أما في الثورة الصناعية الأولى فقد زالت وحدة الإنتاج الشخصية الذاتية هذه، وحلت محلها وحدة موضوعية قوامها منظومة الماكينات التي يخضع لها العامل الجماعي.
2- ما هي الثورة العلمية التكنولوجية؟
في العقود الأخيرة، أدت الانطلاقة العنيدة للعلم والتكنولوجيا إلى البدء بتحطيم إطار الثورة الصناعية هذه، وإلى ظهور بني جديدة وديناميات جديدة وسط قوى الإنتاج. وأبرز مظاهر هذه البنى الجديدة والديناميات الجديدة ما يأتي:
أ- تجاوزت أدوات العمل حدود الآلات الميكانيكية ودخلت مرحلة الأوتوماتية وأصبحت بذلك مركبات مستقلة للإنتاج تعمل إلى حد بعيد في معزل عن العامل.
ب- كذلك حدث انقلاب جذري في موضوعات العمل (أو في مواده): فأصبح من الممكن توليد ما لا حصر له من المواد، وتجاوز ذلك العدد المحدود من المواد الطبيعية التي كانت تعمل عليها الثورة الصناعية الأولى دون أن تتعدى تغيير نسبها ومقاديرها (كالحديد والخشب والمواد الزراعية الأولى وسواها…).
جـ- كذلك تغير – بفضل الثورة العلمية التكنولوجية – المظهر الذاتي أو الشخصي للإنتاج، بعد أن ظل ثابتاً طوال قرون. فلقد أخذت بالزوال تدريجياً وظائف الإنتاج المباشر، التي كانت تقوم بها قوى العمل البسيطة (القوى الجسدية خاصة)، وأخذ التقدم التكنولوجي يحرر الإنسان شيئاً بعد شيء من وظائف الإنتاج المباشر، وظائف التنفيذ والمعالجة اليدوية والضبط، بعد أن تولت الآلة الأوتوماتية هذه المهمات كلها أو جلها.
د- وفوق هذا وقبل هذا ظهرت قوى إنتاج جديدة، على رأسها العلم وتطبيقاته التقنية. وبرزت في عملية الإنتاج – نتيجة لذلك – الطاقات الإنسانية وأصبحت وراء كل إنتاج ووراء كل نشاط مبدع خلاق.
وهذه الظاهرة الأخيرة أهم الظواهر وجوهرها. فالذي يجعل الثورة العلمية التكنولوجية ثورة جديرة بهذه التسمية، هو ما تؤدي إليه من تغيير شامل في قوى الإنتاج جميعها، وما تقود إليه بالتالي من تغيير جذري لموقع الإنسان في الإنتاج، بل لموقعه في الكون. وهذا المظهر هو الذي يجعل من هذه الثورة قوة محركة دائمة لقوى الإنتاج جميعها. ويبعدها عن أن تكون مجرد اضطراب مؤقت يجري على سطح الحضارة الحديثة.
فانطلاقة التقنية تحذف شيئاً بعد شيء القوى الجسدية والفكرية المحدودة للإنسان وتلغي دورها في الإنتاج المباشر، وتمنح الإنتاج وحدة تقنية داخلية، تجعله ينمو نمواً عضوياً ذاتياً. وموطن الجدة فيها أنها تحقق انتصار المبدأ الأوتوماتي، بالمعنى الواسع لهذه اللفظة. ونقطة الانطلاق في هذا الإنتاج الأوتوماتي ليس الآلة المعزولة، بل عملية إنتاج كاملة آلية لا تتوقف. وتبدو عملية الإنتاج الدائمة هذه في التوليد الدائم للطاقة وللمواد الكيماوية وللمعادن، وفي الإنتاج الكبير المتكرر في الصناعات التحويلية وفي عمليات الإدارة والتسيير المقننة…
وهكذا يجد الإنسان نفسه على هامش عملية الإنتاج المباشر، بعد أن كان في الثورة الصناعية الأولى مبدأها الأساسي المحرك. إن طاقة العمل البسيطة التي يملكها الإنسان
لا تقوى على منافسة ما تنتجه المركبات التقنية للإنتاج: فمتوسط قوة العمل البسيطة التي يملكها الإنسان لا تكاد تبلغ 20 واط، وزمن الرجع عنده (زمن رد الفعل أو الارتكاس) هو في حدود عشر الثانية، وذاكرته محدودة ولا يطمأن إليها. وهو لا يتفوق على أفضل مخلوقاته (أي على الآلات الأوتوماتية) إلا بما يملكه من طاقة الخلق والإبداع ومن انفتاح على آفاق الثقافة. ومن هنا يؤدي الاستخدام التقليدي للإنسان كقوة عمل بسيطة وغير مؤهلة (كما في الثورة الصناعية الأولى) إلى الحد من نمو قواه المنتجة وإلى هدر كفاءاته الإنسانية الحقة. وعندما يأخذ الإنسان تدريجياً في استخدام نتاج نشاطه السابق، أي في استخدام الآلات الأوتوماتية التي تحل محله، وعندما تغيب اليد العاملة الإنسانية من عملية الإنتاج المباشر، تظهر قوة جديدة أمضى وأفعل، قوة العلم بوصفه طاقة إنتاجية مباشرة. وبهذا يغدو محور عملية الإنتاج «فهم الطبيعة» وإدراكها أي امتلاك الإنسان لطاقته المنتجة الخاصة، وما وراءها من «تراكم للمعرفة الإنسانية» أي من «علم».
وسنحاول التفصيل في كل مظهر من هذه المظاهر الأربعة التي تتصف بها البنى الجديدة والديناميات الجديدة للإنتاج في الثورة العلمية التكنولوجية. وحسبنا أن نقول منذ الآن أن هذه المظاهر الجديدة هي التي تجعل من الثورة العلمية التكنولوجية ثورة مباينة في الطبيعة والجوهر للثورة الصناعية الأولى، وهي التي تجعل بعض الباحثين يطلقون عليها اسم الثورة الصناعية الثانية، وهي التي تبشر – في رأي كبار المنظرين والمفكرين – بولادة حضارة إنسانية من نوع جديد، تتحلق حول الإنسان وحاجاته ومطالبه، وتجعل الآلة مسخرة له ولسعادته ولتحقيق المزيد من إنسانيته، بعد أن كان إلى حد كبير مسخراً لها، وبعد أن كادت تؤدي إلى «استلاب» إنسانيته وتشويهها.
(ثانياً) تغير أدوات الإنتاج ومصادر الإنتاج في الثورة العلمية التكنولوجية:
لا شك أن أهم تغيير في أدوات الإنتاج ومصادره أدخلته الثورة العلمية التكنولوجية هو «مبدأ الأوتوماتية» كما سبق أن ذكرنا. وعندما نتحدث عن هذا المبدأ – بالمعنى الواسع
للكلمة – فإنما نعني جملة من العوامل المركبة له:
1- فهنالك أولاً عنصر «السبرانية(*) Cybernétique»، وهو أوضح عنصر وأبرزه. ففي النظم الآلية المتطورة أصبحت التجهيزات الأوتوماتية تحرك ذاتها بذاتها وتقود نفسها بنفسها (كلمة سبرنتيك الأجنبية مشتقة كما نعلم من Kybernetes اليونانية ومعناها الربان أو القائد، وهي من فعل Kybernan ومعناه القيادة والتوجيه). ففيها «اللامسات» (الحواس الصنعية) التي تقضي على آخر آثار المعالجة اليدوية من قبل الإنسان ولا تبقي له إلا على بعض «عمليات الضبط والإحكام». وعندما نكون «أمام منظومة من الآلات»، نجد «مراكز المراقبة والتوجيه الذاتي» وهي جهاز أشبه بالفعل المنعكس التقني، يمارس الارتكاس والاستجابة ورد الفعل، ولا يحتاج إلى أي شكل من أشكال القيادة والتوجيه، ما عدا القيادة الخارجية التي تتم بوساطة أجهزة خاصة، أو القيادة الناجمة عن البرنامج المرسوم للآلة. وهكذا يصبح الإنسان على هامش الإنتاج المباشر، كما قلنا ونقول.
تبلغ الأوتوماتية مرحلتها المتقدمة عن طريق الحاسبات الإلكترونية (الأدمغة الإلكترونية). فهذه الحاسبات – كما نعلم – تستأثر بالإنتاج كله وتنفرد به، وتبعد نهائياً نشاط الإنسان عن مجال الإنتاج المباشر وتقصره على المراحل «السابقة على الإنتاج»، نعني مراحل التحضير التكنولوجي والبحث العلمي وسواها من الجوانب اللصيقة بالإنسان. وكلنا يعلم الدور الكبير الذي أخذت تقوم به هذه الحاسبات الإلكترونية في شتى جنبات الإنتاج. وتبين الدراسات التحسبية أنها ستكون في المستقبل – حوالي عام 2000 – جزءاً لا يتجزأ،
لا من الإنتاج الصناعي وحده، بل من المواصلات والتجارة وسائر الخدمات. وقد بدأت تمارس طرفاً من مهماتها منذ أيامنا.
2- وهنالك بعد ذلك – في صلب مبدأ الأوتوماتية وفي صلب الثورة العلمية التكنولوجية بالتالي – عنصر «التحويل الكيمياوي» (Chimisation): فالثورة الصناعية الأولى قد ساعدت بوجه خاص على نمو أنواع الإنتاج التي تستند إلى الدور الفعال لوسائل العمل الميكانيكية. أما الثورة العلمية التكنولوجية فتُعنى بشتى الميادين التي يمكن أن يطبق فيها المبدأ الآلي، بفضل تطويرها لموضوعات العمل ومواده الأولية. وأبرز تلك الميادين ميدان الإنتاج الكيماوي الذي يؤدي، من جهة، إلى اقتصاد في قوى العمل البسيطة، والذي يؤدي، من جهة ثانية، إلى إطلاق طاقات الإنسان العليا. وهذا الإنتاج الكيماوي يفتح المجال واسعاً أمام إمكانات التطبيق العلمي اللامتناهية، كما أنه يخضع خضوعاً واضحاً للمعالجة الأوتوماتية. يضاف إلى هذا أن «التحويل الكيماوي للاقتصاد» يكون في حد ذاته عنصراً من عناصر الأوتوماتية له فعالية فائقة. من هنا كان مدى تقدم هذا التحويل الكيماوي للاقتصاد مؤشراً صادقاً يدل على مدى تقدم الثورة العلمية والتكنولوجية في بلد من البلدان.
إن الإنتاج الكيماوي يزداد اليوم – بوجه عام – ضعف سائر الإنتاج الصناعي. والإنتاج العالمي من المواد التركيبية والمواد البلاستيكية، يتضاعف تقريباً كل خمسة أعوام أو كل ستة أعوام مرة. وإذا تابع هذا الإنتاج سيرته الحالية، فإن من المتوقع أن يعادل إنتاج المواد التركيبية في نهاية هذا القرن إنتاج الفولاذ في الآونة الحالية.
وأهم من هذا كله أن ظاهرة التحويل الكيماوي هذه تحرر الإنسان من العدد المحدود من المواد الأولية التي نجدها في الطبيعة، ومن الصفات الثابتة التي تتصف بها، وتحل محله عدداً هائلاً من المواد التركيبية التي يتم اختيارها وفق إرادة الإنسان وحاجاته. وهي فوق هذا تتيح للإنسان أن يستخدم على نطاق واسع، في مجال الإنتاج الشامل، مبادئ للحركة أعلى من المبادئ الميكانيكية.
ومثل هذه الآفاق الأوتوماتية التي يفتحها «التحويل الكيماوي»، تنفتح أمام الإنتاج البيولوجي وأمام «علم النسل génétique». ولا يتسع المجال للتفصيل فيها ههنا(1).
3- ويتجلى مبدأ الأوتوماتية كذلك في زيادة مصادر الطاقة، ولا سيما الطاقة الإلكترونية والطاقة النووية. فإنتاج الطاقة الكهربائية يزداد بمقدار ثلاث مرات كل عشرة أعوام في الاتحاد السوفياتي، ويتضاعف في الولايات المتحدة خلال الفترة نفسها. واستثمار الطاقة النووية نتيجة طبيعية للنمو الشامل في قوى الإنتاج، ومن شأنه أن يوفر موارد للطاقة غير محدودة، ييسرها ويطلقها مبدأ الأوتوماتية في هذا المجال بوصفه تقنية لازبة. وتبين التنبؤات التي تنشرها البلدان المتقدمة أن جانباً كبيراً (50%) من إنتاج الطاقة الكهربائية سوف يتم عن طريق مصادر الطاقة النووية هذه.
بل إن هذه التنبؤات تشير إلى أن نصيب الطاقة الإنسانية في الإنتاج خلال العقود القادمة لن يجاوز 1% من مصادر الطاقة التقنية، وإلى أن الطاقة النووية سوف تحتل المرتبة الأولى بين سائر مصادر الطاقة في نهاية هذا القرن.
هذه بعض مظاهر مبدأ الأوتوماتية وبعض نتائجه. على أن من الحق أن نقول أننا ما زلنا في بدايات الطريق، وأن الانتقال إلى الإنتاج الأوتوماتي لم يزل في أوله حتى في أكثر البلدان تقدماً. على أنه يتقدم تقدماً سريعاً بل مذهلاً. ومن المقدر له أن يعم معظم جوانب الإنتاج في نهاية هذا القرن، وأن يقلب بالتالي بنية الإنتاج الحالية رأساً على عقب. ومن هنا يأتي تريثنا الطويل عنده. وقد أشرنا منذ البداية إلى أننا لا ندرس خصائص الثورة العلمية التكنولوجية في واقعها الساكن بل في تطورها المتحرك وفيما تومئ إليه وفيما ستصير إليه.

(ثالثاً) «العنصر الذاتي» في الإنتاج ومنزلة الإنسان في الحضارة العلمية التكنولوجية:
من هنا يحق لنا القول أن ظاهرة «الأوتوماتية» وما يرافقها من تقدم تقني عام ليست مجرد ملحق وتابع لظاهرة «المكننة». إنها في أعماقها المبدأ الأعلى لتقدم الإنتاج. ذلك أننا إذا نظرنا إليها من مستوى العنصر الإنساني وجدنا أنها تحدث آثاراً تباين وتناقض آثار الثورة الصناعية الأولى:
فالمكننة التي هي سمة الثورة الصناعية الأولى، تجزئ العمل، وتصل بتقسيم العمل الصناعي إلى أقصاه، وتجعل من الاستخدام البسيط والرتيب لليد العاملة أساس الصناعة الحديثة (كما ففي نظام تايلور وفايول وسواهما). وهكذا يؤدي المزيد من تقدم التصنيع ومن تقدم الصناعة إلى المزيد من الطابع المجرد للعمل الإنساني، وإلى المزيد من جيوش العمل التي يتوجب عليه أن تمارس عملاً بسيطاً، وإلى المزيد من المشكلات الإنسانية للصناعة.
أما نتائج الأوتوماتية فمن شأنها أن توقف هذا التدهور بل أن تقلبه. إنها تحذف كتلة العمل البسيطة التي يقوم بها العمال اليدويون، ثم التي يقوم بها العمال المؤهلون أنفسهم، أو التي يقوم بها المستخدمون التقليديون وسواهم، وتهبط بنسبة هؤلاء جميعاً بمقدار 80% أو 90% حسب التقديرات المختلفة. وتستعيض عن هؤلاء في البداية بأنماط جديدة من العمال الذين يعملون في نهاية حدود الإنتاج المباشر (من مثل الميكانيكيين وضابطي الآلة وسواهم)، والذين يحتاجون إلى قدر من التخصص المعقد وإلى دراية أكبر ببعض الأمور العلمية. ونسبة هؤلاء تتجاوز 50% في مؤسسات الإنتاج المتطورة اليوم وفي المؤسسات السائرة نحو الأوتوماتية. وفي مرحلة تالية تأخذ الأوتوماتية بتحويل النشاط الإنساني إلى نمط من الإنتاج المعقد، كإنتاج الفني أو المهندس، يتم على هامش الإنتاج المباشر. ومنذ اليوم تجد نسبة هذا النمط من الإنتاج في بعض المؤسسات الحديثة تتراوح بين 20% و50%. وفي العقود القادمة، نستطيع أن نفترض، بوجه عام، أن عدد ضابطي الآلة والميكانيكيين وعمال المخابر ومن شاكلهم سوف يكون هو الغالب في الإنتاج المباشر (نتيجة للانتشار الجزئي للأوتوماتية). وبعد ذلك، وبعد تقدم الأوتوماتية وذيوعها وبعد تغير البنى التي تصاحبها، سوف يتناقص عدد هؤلاء، ويتزايد في مقابل ذلك عدد الفنيين والمهندسين ومن شابههم. وهكذا نشهد يوماً بعد يوم اتجاهاً ثابتاً إلى تركيز الجانب الأساسي من العمل الإنساني على مرحلة الإعداد للإنتاج وتنظيم الإنتاج، وعلى مشروعات البناء والبحث والتنمية وكل ما يتصل بها. ومن هنا ترتبط الثورة العلمية والتكنولوجية ارتباطاً جذرياً بالتغيير الأساسي الذي يطرأ على مجال نشاط الإنسان، وبمنزلته الجديدة في عالم القوى المنتجة، وبالتالي بمنزلته الجديدة في الكون بوجه عام.
وهذا التغيير الاجتماعي والإنساني الهائل هو أحد الأبعاد الأساسية للثورة العلمية التكنولوجية. ولن نقوى في الواقع على أن ندرك جوهر هذه الثورة وروحها وأن نعي دورها وأهميتها، إذا نحن لم نر فيها سوى انقلاب داخلي في تقنيات الإنتاج.
والثورة العلمية التكنولوجية في هذا على طرفي نقيض مع الثورة الصناعية الأولى. فخلال تلك الثورة الصناعية الأولى كانت زيادة الإنتاج ترافقها زيادة في معدلات الاستخدام (معدلات عدد العاملين) في الفروع الصناعية. أما في الثورة العلمية التكنولوجية – منذ بواكيرها – فالإنتاج يزداد دون أن تزداد كمية العمل التي تستخدم في الإنتاج المباشر. بل العكس هو الصحيح، إذ تتناقص كمية العمل في الإنتاج المباشر التقليدي أو يقصر مداها. ففي الولايات المتحدة مثلاً، بين عام 1953 وعام 1963، تناقص عدد الأشخاص العاملين في الصناعات الاستخراجية بمقدار 35.6%، وفي الزراعة بمقدار 24.7%، وفي المواصلات والإنتاج الكهربائي والغاز بمقدار 7.2%، وفي الصناعات التحويلية بمقدار 1.4%(2). وفي كل أسبوع يحذف تطور التقنية ثلاثين ألف عمل أو أربعين ألف عمل في الولايات المتحدة أيضاً. وبين العاطلين عن العمل نجد 59% ممن لا يحملون مؤهلات البتة، و19% من العمال المؤهلين، و19% من المستخدمين.
(رابعاً) دور العلم في الثورة العلمية التكنولوجية:
لقد شقت الثورة الصناعية الأولى الطريق أمام العلم كقوة من قوى الإنتاج المباشر. غير أنها، عبر تطورها، ظلت في جوهرها عاجزة عن التخلص من الطرائق غير العلمية، المعتمدة على الخبرة أو التقاليد أو العادات التي انتقلت إلينا من أجيال ماضية. أما بعد الثورة العلمية التكنولوجية فقد غدا تطبيق العلم يأخذ شكلاً أوسع وأعمق. أنه يمحو، حيثما حل، آثار الروتين التي خلفتها المعرفة البشرية، ويقيم الإنتاج من بداياته حتى نهاياته على أساس عقلاني من المعادلات الرياضية. إنه يبدأ بأن يمارس دوراً شاملاً في عملية الإنتاج المباشر، وتكاد الصناعة كلها تغدو «التطبيق التكنولوجي للعلم».
وهكذا يحل العلم وتطبيقاته، في التقنية التنظيم والتسيير وسواها، محل العمل البسيط المجزأ الذي كان قوام الإنتاج فيما مضى. وبعد أن كان ميدان العلم ميداناً معزولاً عن الإنتاج، بداخله من خارجه فقط، وبشكل محدود ومشتت، أصبح هذا الميدان العلمي محركاً للحياة في مجال الإنتاج وفي الحياة الاجتماعية كلها. وبعد أن كان يقتصر على مئات أو آلاف من العلماء، نراه اليوم يتحول إلى قوة مادية كبرى، تتجلى في جيش يتجاوز (11) مليون عالم بينهم (3.5) مليون اختصاصي. وترى بعض التقديرات أن حوالي 20% من مجموع عدد العاملين سوف يشتغل بالعلوم وبالأبحاث العلمية في مطلع القرن الآتي.
وهكذا يتسع ميدان العلم والبحث العلمي ويرقى تدريجياً إلى مستوى الصناعة ليغدو في خاتمة المطاف الميدان الحاسم من ميادين النشاط الإنساني. ويرجع هذا إلى الديناميات الداخلية الاستثنائية للحياة العلمية. فالعلم يعطينا بمقدار ما نطلب منه. وبمقدار ما نلحف عليه في الطلب، يجزل لنا العطاء. ومن هنا تدخل في الميدان مظاهر جديدة للعلم ويتولى وظائف إنتاجية مباشرة. وفي مقابل ذلك، تتحول قطاعات جديدة من الإنتاج إلى «علوم تجريبية» تحولاً دائماً متصلاً.
(خامساً) تغير علاقات الإنتاج في الثورة العلمية التكنولوجية وأثره في المذاهب الاجتماعية:
وواضح أن هذا التغير الذي تحدثه الثورة العلمية التكنولوجية في أدوات الإنتاج وفي موضوعات الإنتاج ومواده وفي مصادر القوى الإنتاجية (وعلى رأسها قوى العلم)، من شأنه أن يحدث تغييراً أساسياً في علاقات الإنتاج، نتيجة لتغير دور الإنسان في الإنتاج.
ذلك أن تراجع دور قوى الإنسان البسيطة في عملية الإنتاج وتعاظم دوره القائم على البحث والتنظيم والإبداع، لا بد أن يغيرا العلاقات بين العمال وأرباب العمل، وأن يطرحا على المذاهب الاقتصادية والاجتماعية مواقف جديدة ومشكلات جديدة لا عهد لها بها من قبل. فمفهوم الطبقة البروليتارية آخذ في التغير في هذا الإطار الجديد، بعد أن أخذ دورها يتضاءل، وبعد أن أخذ الدور الأول في الإنتاج ينتقل إلى الفنيين والاختصاصيين والباحثين العلميين والمنظمين. ومن هنا طالب بعض المفكرين بضرورة إعادة النظر في بعض منطلقات المذاهب الاجتماعية، وعلى رأسها الماركسية، في ضوء هذا التطور الكبير الذي بدأت الثورة العلمية التكنولوجية في إحداثه. ومن أشهر الذين نادوا بضرورة هذه المراجعة المفكر الفرنسي «روجيه غارودي Roger Garaudy» في العديد من كتبه، ولا سيما في كتابه الشهير «منعطف الاشتراكية الكبير»(3). وقد أدت أفكاره هذه، كما نعلم، إلى جدال طويل بينه وبين قادة الحزب الشيوعي في فرنسا وإلى فصله من هذا الحزب أخيراً. وأهم ما قال به «غارودي» أن تطور قوى الإنتاج في عصر العلم والتكنولوجيا يولد تناقضات جديدة، أي علاقات جديدة بين الطبقات الاجتماعية وأشكالاً من الصراع محدثة. وهذه الحقيقة تفرض على أصحاب النظريات الاجتماعية تحليلاً جديداً ينطلقون منه لوضع أسس استراتيجياتهم الجديدة. إن عليهم خاصة أن يطرحوا أسئلة رئيسية أهمها:
1- ما هي الثورة العلمية التكنولوجية الجديدة؟ وما هي نتائجها؟ وهل تتفق مطالبها مع مطالب نمو الديموقراطية وتفتيح الطاقات الخلاقة لدى الإنسان؟
2- ما هي التناقضات التي تولدها هذه الثورة في البلاد الرأسمالية، وبوجه خاص في أغناها وأقواها، أي الولايات المتحدة؟ وما هي الخطوات التي اتخذت ويمكن أن تتخذ في هذه البلدان من أجل تجاوز تلك التناقضات؟
3- ما هي التناقضات التي تولدها هذه الثورة في البلدان الاشتراكية وما هي الخطوات التاريخية التي تمت فيها من أجل تجاوزها؟
4- ما هي التحولات التي تولدها هذه الثورة في العلاقات الدولية؟
ويرى «غارودي» أن الثورة العلمية التكنولوجية تقربنا من الإنسان ومن حاجاته، وأن «ذاتية الإنسان تظهر وتجأر في عصر العلم والتكنولوجيا، وأن قليلاً من التقنية يبعدنا عن الإنسان، وأن الكثير منها يمكن أن يردنا إليه».
ويؤكد «غارودي» كما يؤكد غيره من الباحثين أن التقدم العلمي هو العنصر المحرك لنمو الإنتاج في مثل هذه الثورة، وأنه يسبق الإنتاج ويهيب به ويناديه بدلاً من أن يلحق به.
ويوضح «غارودي» بوجه خاص الآثار الاجتماعية والإنسانية للثورة العلمية والتكنولوجية، ويبين أنه للمرة الأولى في تاريخ الإنسان، تلتقي مطالب النمو الاقتصادي والتقني مع مطالب الديموقراطية ومطالب تنمية الإنسان(4). ومن خلال هذا المنظار يضع تصوراته ورؤاه الجديدة للمجتمع الإنساني وللعلاقات الإنسانية. ومنطلق هذه التصورات أن العقائد الاجتماعية في العالم، والعقيدة الشيوعية خاصة، لا بد أن تمزقها أزمة عنيفة إن هي لم تلجأ سريعاً إلى «مراجعة صارمة» قاسية.

كذلك من أبرز الذين نادوا بضرورة مراجعة المذاهب الاجتماعية والاقتصادية (وعلى رأسها الشيوعية) في ضوء هذه التطورات الجديدة التي أحدثتها الثورة العلمية التكنولوجية في بنية الإنتاج وفي علاقات الإنتاج، مجموعة المفكرين والباحثين التشيكيين الذي كلفتهم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي عام 1966 بالقيام بدراسة علمية في هذا المجال. وقد كان يرأس هذا المجموعة الفيلسوف التشيكي «رادوفان ريشتا Radovan Richta». وقد أدى عملها إلى ولادة ذلك السفر الهام الذي ترجم إلى أكثر من لغة: «الحضارة على مفترق الطرق». وقد انتهت دراسات هذه المجموعة إلى ضرورة استخلاص النتائج الاجتماعية والإنسانية الجديدة التي تنتج عن الثورة العلمية والتكنولوجية، وإلى أهمية دمج هذه الثورة دمجاً جديداً بمعطيات الاشتراكية والماركسية.
(سادساً) الآفاق الإنسانية للثورة العلمية التكنولوجية:
وواضح من هذا كله أن الثورة العلمية التكنولوجية تفتح أمام الإنسان وأمام مصيره آفاقاً جديدة، وأنها تبشر بحياة إنسانية جديدة:
ذلك أن نزوع هذه الثورة – بفضل الأوتوماتية – إلى تحرير الإنسان من وطأة الأعمال الآلية البسيطة، واضطلاع الآلة الأوتوماتية نفسها بمثل هذه الأعمال البعيدة عن جوهر الإنسان وطبيعته، لا بد أن يؤديا إلى خلق حياة جديدة أجدر بالإنسان وألصق بحاجاته. فبفضل تحرر الإنسان شيئاً بعد شيء من أعباء الأعمال الآلية، وبفضل تحرره من وطأة حاجاته المادية نتيجة لارتفاع الإنتاج ارتفاعاً هائلاً وزيادة الدخل الفردي زيادة ضخمة، سوف يكون في وسع هذا الإنسان أن يتفرغ للأعمال اللصيقة بإنسانيته، وأن يعنى بما يحقق السعادة للإنسان. ولا يتسع المجال هنا للإطالة في هذا الموضوع الهام(6)، وحسبنا أن نقول أن كثيراً من المفكرين أخذوا يعقدون على الثورة العلمية التكنولوجية – وما يرافقها من تحرير الإنسان من الأعمال الآلية الروتينية ومن زيادة في دخول الأفراد ومن غلبة للإنتاج الإنساني القائم على البحث والعلم والتنظيم – آمالاً واسعة عريضة، وبدأوا يرون فيها المخرج من المشكلات الإنسانية للصناعة الحديثة.
ومن أوائل الذين حملوا الحضارة العلمية التكنولوجية هذه الآمال الإنسانية العريضة المفكر والاقتصادي الفرنسي «فوراستييه j. Fourastié» في كتابه الشهير «أمل القرن العشرين الكبير»(7). فعنده ان الحضارة التي ولدت من الصناعة سوف تحرر الإنسان من الصناعة. «ولن يكون ثمة شيء ابعد عن الصناعة من الحضارة التي ولدت من قلب الصناعة». فالأوتوماتية سوف تؤدي إلى خلق «مجتمعات ما بعد الصناعة Sociétés Post-industrielles» (على حدّ التسمية التي أطلقها «دانييل بيل Daniel Bell»). وفي هذه المجتمعات سوف تضطلع الآلة الأوتوماتية بأعباء الإنتاج، وسوف يتفرغ الإنسان للمهمات القريبة من إمكاناته الإنسانية ومن رسالته كإنسان. وسوف نشهد بالتالي ولادة حضارة إنسانية جديدة، جديرة بالإنسان وحاجاته.
على أن مفكرين آخرين، أخذوا في دراسة الوجه الآخر من المدالية، وفي تقري الجانب القاتم من الصورة: فالحضارة العلمية التكنولوجية لا تخلف آثاراً حسنة كلها، بل لها مشكلاتها الجديدة. وهي إذ تساعد على حل بعض المشكلات الإنسانية، تخلق في مقابل ذلك مشكلات إنسانية جديدة، على رأسها مشكلات الشبيبة ومشكلات القيم ومخاطر الاستسلام للدعة والراحة واحتمالات ولادة «أبناء مدللين» للحضارة، وافتقاد بواعث العمل وتزعزع الإيمان بضرورته(8). والمخرج من مثل هذه المخاطر الممكنة، في نظر هؤلاء المفكرين، يتم عن طريق التنبؤ بها، بفضل أساليب التنبؤ المستقبلية، وذلك من أجل رسم الأساليب الكفيلة باجتنابها. ذلك أن علم المستقبل يستهدف أولاً وقبل كل شيء دراسة احتمالات هذا المستقبل من أجل السيطرة عليه ومن أجل صياغته صياغة جديدة. وأساس هذا العلم – كما نعلم – أن يقوى الإنسان على صنع مستقبله وعلى «ابتكار مستقبله»، بفضل التنبؤ المسبق بمشاهده (Scénarios). إن هدفه أن يتمكن الإنسان من كتابة «تاريخ غده»، وأن يمسك بزمام مستقبله.
(سابعاً) الثورة العلمية التكنولوجية والبلدان العربية:
ولا بد بعد هذا كله من طرح سؤال أساسي يعنينا في بلادنا العربية: ما هو شأن هذه الثورة العلمية التكنولوجية في البلدان السائرة في طريق النمو؟ وهل نستطيع الحديث عن ثورة علمية تكنولوجية فيها وهي لما تدخل بعد مرحلة الثورة الصناعية الأولى؟

وللإجابة على هذا التساؤل نذكر بعض الحقائق:
1- ما تزال البلدان السائرة في طريق النمو – ومن بينها البلدان العربية – بعيدة عن مرحلة الثورة الصناعية الأولى. وتشير الدراسات التحسبية إلى أنها سوف تعجز عن بلوغ مرحلة الثورة الصناعية الأولى هذه قبل نهاية القرن – على أحسن تقدير – إن هي تابعت خطوات سيرها الحالية ولم تحاول تحقيق قفزة نوعية في حياتها. وتشير هذه الدراسات خاصة إلى أن هذه البلدان سوف تجد نفسها – إن هي استمرت على نمط تطورها الحالي – تحبو نحو التصنيع في نهاية هذا القرن، بينما تكون الدول المتقدمة قد بلغت مرحلة «مجتمعات ما بعد الصناعة» وخلقت – بفضل التطور العلمي التكنولوجي – حضارة جديدة، يتراوح متوسط دخل الفرد فيها بين عشرة آلاف دولار وعشرين ألف دولار في العام، ويعمل الإنسان فيها أياماً معدودة في السنة وأياماً معدودة في الأسبوع (ثلاثة أو أربعة أيام)، ويعمل قدراً لا يجاوز أربعين ألف ساعة في العمر كله، على حد قول «فوراستييه» في كتابه الذي يحمل هذا العنوان (الأربعون ألف ساعة)(9). هذا فضلاً عن أنواع الرخاء المادي والمعنوي الذي ستعرفه مثل هذه المجتمعات التي تبلغ مرحلة ما بعد الصناعة (وتضع بعض الدراسات عدوتنا «إسرائيل» في عداد الدول التي ستبلغ هذه المرحلة في نهاية القرن). ومعنى ذلك أن الهوة ستزداد وتتعاظم بين دولنا السائرة في طريق النمو وبين الدول المتقدمة، وإن بلادنا تكاد تكون مرشحة لأن تغدو جزءاً م عالم العبيد في نهاية هذا القرن (في مقابل عالم الأسياد) إن هي لم تحدث في حياتها تغيرات نوعية جذرية.
2- يرى بعض الاقتصاديين (ومن بينهم «موريس غيرنييه Maurice Guernier)»(10)، أن الأمل الوحيد المفتوح أمام الدول السائرة في طريق النمو من أجل تجاوز الهوة بينها وبين البلدان المتقدمة، هو في محاولة دخول الثورة العلمية التكنولوجية رأساً، دون أن تتريث طويلاً عند الثورة الصناعية الأولى. فليس لزاماً على هذه الدول أن تكرر تاريخ التطور الإنساني وأن تعيد تجربة الدول المتقدمة على حسابها. وفي وسعها أن تفيد من تجارب هذه الدول، وأن تفيد من الإمكانات التقنية الواسعة التي تضعها هذه الدول بين يديها، من أجل الانطلاق تواً نحو الثورة العلمية التكنولوجية.
وهذا ما يذهب إليه أيضاً «أيف باريل Yves Barel» (في مقدمته لكتاب «الحضارة على مفترق الطرق») حين يقول أن الثورة العلمية التكنولوجية – بفضل ما تتيحه من إمكان القفز فوق مرحلة تجمع العمل الجزئي – قد تقدم أساساً موضوعياً يبرر بعض «النزق» الذي نجده لدى بلدان العالم الثالث في محاولتها لتجاوز هوة التخلف سريعاً.
3- ولا شك أن محاولة حرق المراحل هذه، وتجربة القفز من فوق الثورة الصناعية من أجل بلوغ الثورة العلمية والتكنولوجية مباشرة وبضرب من المقربة (القادومية)، لا تخلو من صعوبات. فالثورة العلمية والتكنولوجية في حاجة إلى بنى اقتصادية واجتماعية وعلمية لا توفرها المستويات المتخلفة من الحياة القائمة في البلدان السائرة في طريق النمو. ولكن لا بد مما ليس منه بد، ولا خيار لهذه البلدان أمام قدرها الصارم. يضاف إلى هذا أن من طبيعة الثورة العلمية التكنولوجية – كما رأينا – أن تعتمد أولاً على قلة من الكفاءات العلمية والفنية الممتازة. ومثل هذه القلة الممتازة من أصحاب الاختصاصات العلمية والفنية تستطيع البلدان السائرة في طريق النمو أن تكونها، لا سيما أن منها من يملك إمكانات مالية ضخمة تيسر هذه المهمة (وهذا هو شأن البلدان العربية).
4- على أن جوهر المسألة عندنا أن يعي قادة هذه البلدان حقيقة الثورة العلمية التكنولوجية ومطالبها الأساسية، حتى يستطيعوا أن يوفروا هذه المطالب. وقد رأينا – عبر هذا
البحث – أهم خصائص هذه الثورة ومستلزماتها. ونقول الآن موجزين أن الفضل في هذه الثورة يرجع إلى توافر ثلاثة عوامل رئيسية: المنطق العقلاني والعلمي، دور روح المبادرة والخلق والاكتشاف، والإيمان بالجهد والعمل والتقدم. ومعنى هذا أن إطلاق الثورة العلمية التكنولوجية في بلدان العالم الثالث يحتاج أولاً وقبل كل شيء إلى إحداث ثورة في نظم التربية، قادرة على إيجاد العوامل التي ذكرناها. ولا حاجة إلى القول أن النظم التربوية التقليدية السائدة في مثل هذه البلدان لا تستطيع أن تستجيب لمطالب الثورة الصناعية الأولى فضلاً عن مطالب الثورة العلمية والتكنولوجية. ومن هنا كانت هذه الثورة الأخيرة في حاجة إلى ثورة تكنولوجية في التربية(11).
5- ولا ننسى بعد ذلك أن آثار الثورة العلمية التكنولوجية بدأت تغزونا كبضاعة مجلوبة من العالم المتقدم، قبل أن ندخل هذه الثورة. وهي تغزونا اقتصادياً، عن طريق تطور السلع الاستهلاكية، وهي تغزونا اجتماعياً وإنسانياً بوجه خاص، عن طريق انتقال بعض مشكلاتها الإنسانية إلى رحابنا. ومعنى ذلك أننا بدأن ندفع الكثير من غرم هذه الحضارة الإنسانية الجديدة دون أن نصيب شيئاً من غنمها. ومن هنا أخذت البنى الاجتماعية والخلقية السائدة تتحطم عندنا، دون أن نقوى على خلق بنى جديدة وقيم جديدة. وهكذا نشهد صوراً باهتة وزائفة من صراع الأجيال ومن مشكلات الشبيبة ومن أزمات القيم، دون أن يكون لهذه المشكلات ما يبررها في جملة البنيان الاقتصادي والاجتماعي المتخلف الذي ما زلنا نحيا فيه. ولا حاجة إلى بيان مخاطر مثل هذا الوضع الذي تأخذ فيه ظاهرة «الاستلاب الثقافي Aliénation Culturelle» أسوأ أبعادها، والذي نشهد فيه اقتلاع جذور البنية الاجتماعية القائمة دون أن نشهد البديل.
6- وههنا أيضاً لا بد أن نلتفت إلى النظام التربوي، ولا بد أن نفكر في فلسفة تربوية سليمة قوامها أمور ثلاثة: أولها خلق المهاد العلمي والتكنولوجي اللازم لأحداث الثورة العلمية التكنولوجية، وبالتالي ربط التربية بحاجات هذه الثورة ورفضها، ومحاولة بناء ثقافة أصيلة حديثة معاً. وثالثها تكوين روح الخلق والإبداع عن طريق تعهدها منذ الصغر وفق خطة مدروسة، باعتبار هذه الروح أساس الحضارة العلمية التكنولوجية ومنطلقها(12).
خاتمة: نحو حضارة عربية علمية تكنولوجية:
وبعد، هذه أهم خصائص الثورة العلمية التكنولوجية وهذه أهم مشكلاتها ووعودها بالقياس إلى بلادنا. إننا أمام ظاهرة هامة جديدة، أمام ولاة حضارة جديدة مختلفة في الطبيعة عما عرفنا وشهدنا حتى اليوم. ومن غير الجائز أن يكون موقفنا منها موقف المتلقي المنفعل بالأحداث، تسيره الرياح إلى حيث يريد ولا يريد. ومن غير الجائز أن نظل غرباء عن عصرنا وواقعنا وأن نرتضي لأنفسنا أن نقبع في زمرة القاعدين، وأن نجد أنفسنا في عداد «عبيد» نهاية هذا القرن.
ولسنا في واقع الأمر أمام مهمة مستحيلة وأمام مطالب معجزة. وكل ما في الأمر أن علينا أن نعي العصر وأن نفهم حركته وأن ندرك أبعاد الثورة العلمية التكنولوجية التي يسير نحوها، وأن نتخذ العدة بعد ذلك لدخول تلك الثورة. وبين يدي البلاد العربية من الإمكانات المالية والمادية والبشرية ما يجعل تقاعسها هو الشاذ وما ييسر لها كل جهد. وما عليها إلا أن تدرك ذاتها وعصرها وأن تعزم عزماً أكيداً على «تحقيق الثورة». ولا حاجة إلى القول أخيراً أن الحضارة العربية هي التي قادت في عصور ازدهارها المنزع العلمي التجريبي (منذ أيام بيت الحكمة في بغداد) وأنها حين تعود اليوم لتقتحم الثورة العلمية التكنولوجية فإنما تسترد بضاعتها وتتابع رسالتها.

أهم مصادر البحث:
1- الدكتور عبد الله عبد الدائم: الثورة التكنولوجية في التربية العربية. نشر دار العلم للملايين، بيروت، 1974.
2- الدكتور عبد الله عبد الدائم: التربية في البلاد العربية. نشر دار العلم للملايين، بيروت، 1974.
3- جان فوراستييه: أمل القرن العشرين الكبير. ترجمة عبد الحميد الكاتب. نشر دار عويدات، بيروت، 1966.
4- H. Kahn et A, J. Wiener: L’An 2000. Robert Laffont, Paris, 1968. (مترجم عن الإنكليزية)
5- A. Toffler: Le Choc du Futur. Denoél. Paris, 1971. (مترجم عن الإنكليزية)
6- P. Pigagnol: Maitriser le Progrès. Laffont-Gonthier, Paris, 1968.
7- J. J. Servan-Sehreiber: Le Défi Américain. Denoél, Paris, 1967.
8- M. Guernier: La Derniére Chance du Tiers-monde. R. Laffont, Paris, 1968.
9- Radovan Richta: La Civilisation au Carrefour. Anthropos, Paris, 1969.
10- Roger Garaudy: Le Grand Tournant du Socialisme. N.R.F, Paris, 1969.
11- Erich Jantsch: La Prévision Technologique. O.C.D.E, Paris, 1967.
12- Unesco: Le Développment par la Science, Paris, 1969.
13- O.C.D.E: Problèmes de Politique Scientifique, Paris, 1968.
14- Fondation Européenne de la Culture: L’Europe en l’An 2000. Fayard, Paris, 1972.
15- Prospective des Sciences et Techniques. Cahiers du Centre Econ. et Soe. du Perfectionnement des Cadres, 1967.
16- J.Fourastié: Les Quarante mille heures. Laffont-Gonthier, Paris, 1968.
17- Aurel David: La Cybernétique et l’Humain. N.R.F, Paris, 1965.
18- Jacques Monod: Le Hasard et la Nécessité. Editions du Seuil, Paris, 1970. (Prix Nobel).
19- Alain Beaudot: La Créativité à l’Ecole. P.U.F, Sup, Paris, 1969.