دور التربية في مستقبل الوطن العربي في عالم متغير

دور التربية في مستقبل الوطن العربي في عالم متغير( )

عبد الله عبد الدائم
مدخل:
من الحق ومن السرف في آن واحد أن تحمّل التربية أعباء بناء المستقبل العربي. ولئن كان دورها في هذا دوراً له حدوده، كما سنرى، فإن هامش العمل المتاح لها ليس بالضئيل إذا أجيد رسمه وإنفاذه. ولا بد أن يكون المنطلق في هذا المجال، شأنه في سائر المجالات الأخذ بمنطق العلاقة الدائرية القائمة بين الظواهر الاجتماعية، ورفض الأخذ بمنطق العلاقة الخطية، علاقة العلة بالمعلول. فالظواهر الاجتماعية – والتربية من أبرزها – ظواهر متآخذة متعانقة يقوم بينها تأثر وتأثير متبادلان، وليست أي واحدة منها علة لسواها أو معطلة لدور أترابها.
من خلال هذا الإدراك المتكامل للعلاقة بين التربية وبين سائر ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، سوف نحاول أن نبحث إذن في دور التربية العربية في مستقبل الوطن العربي في إطار عالم متغير. ومثل هذا البحث يستلزم في رأينا التريث بإيجاز عند أسئلة أربعة أساسية: ما هو مستقبل العالم؟ وما هو مستقبل الوطن العربي في إطاره؟ وما هو مستقبل التربية العربية إن هي مضت في مسيرتها الحالية؟ وما هو في خاتمة المطاف دور التربية العربية إن هي أرادت أن يكون لها في صنع المستقبل العربي شأن ونصيب؟
ولئن كانت الإجابة على الأسئلة الثلاثة الأولى محمّلة بالتشاؤم ومنذرة بالمخاوف، فإنها
لا تدعو في أي حال من الأحوال إلى الركون إلى اليأس والقنوط بل من شأنها على العكس أن تشحذ الهمم وتعبئ الجهود من أجل اجتناب ما يمكن أن تقود إليه صورة العالم وصورة الوطن العربي، في حاضرها وفي امتداد اتجاهات حاضرها، وهو أولاً وآخراً وليد القرارات التي يتخذها أبناء اليوم. أولسنا في عصر “التحسب”، عصر الإرهاص بما ينبئ عنه المستقبل، من أجل تغييره وتصحيح مسيرته؟ أوليس الواجب الأول المطروح أمام أولي الشأن في العالم كله أن يكتبوا “تاريخ الغد”، وأن يكون لهم في صياغته بلاء حسن وعطاء؟
ونستدرك منذ البداية فنقول: إن البحث كما رسمنا إطاره قمين بأن تحرر فيه أسفار ضخمة، وأن ما سنذكره لا يعدو أن يكون أفكاراً خاطفة، نخطها بلغة أقرب إلى لغة البرقيات، التزاماً بحدود الدراسة على نحو ما طلبت إلينا. وقد قيل في هذا كله وكتب فيه الشيء الكثير. ولعلنا بالغون بعض ما نقصد إن نحن استخلصنا من جهود السابقين مركباً يشتمل على المفاصل الأساسية للأمر وبياناً لأهم معالم الدرب المؤدية إلى الخروج من المأزق.
1- مستقبل العالم:
الدراسات التحسبية والتنبؤية حول مستقبل العالم خلال العقدين الأخيرين من هذا القرن تقدم صورة قاتمة تنذر بمشكلات عالمية كبيرة، تنطلق من الواقع الاقتصادي لتعمّ الواقع الاجتماعي والسياسي، حاملة معها أزمات نفسية وخلقية وإنسانية وبيئية ضخمة.
وبإيجاز شديد نقول إن القوى في العالم آخذة في التشكل على النحو التالي:
أ- القوى العظمى: وتتسم بقدر كبير من الاكتفاء الذاتي، ولاسيما في ميدان الطاقة، ولديها من الأراضي الشاسعة والثروات الطبيعية واحتياطي الطاقة، فضلاً عن التقدم العلمي والتكنولوجي، ما يمكّنها من قيادة مقادير العالم. ونعني بها الولايات المتحدة وروسيا والصين.
ب- القوى الكبرى: ونعني بها دول أوبا الغربية واليابان، وهي على الرغم من إمكاناتها العلمية والتكنولوجية الخلاقة، تشكو من ضآلة مصادر الطاقة والمواد الأولية في أراضيها الضيقة نسبياً.
جـ- الدول البترولية في العالم الثالث (ولاسيما في البلاد العربية) وهي غنية بما تتلقاه من عملة صعبة بسبب تصدير النفط، ولكن إلى أمد محدود. غير أنها فقيرة في قدرتها على النمو نمواً يلبي حاجات الأعداد السكانية المتزايدة. ومن هنا فهي مدعوة إلى أن تعد العدة لعصر ما بعد النفط الذي يبدأ حوالي عام 2000 والذي يستلزم منها قرارات سريعة حاسمة.
د- بلدان العالم الثالث الفقيرة: وتكوّن الأكثرية من سكان العالم، وآمالها في تجاوز التخلف محدودة، والهوة بينها وبين البلدان المتقدمة آخذة في التزايد، ومستقبلها يجلله السواد في شتى جوانب الحياة.
ولا شك أن التعاون بين هذه المجموعات الأربع هو السبيل المثلى من أجل خلق نظام اقتصادي واجتماعي عالمي جديد، بل هو السبيل السليمة أمام بلدان العالم المتقدم نفسها من أجل تجاوز أزماتها الاقتصادية وسواها فضلاً عن أزمات العالم من حولها. غير أن الجهود في سبيل تحقيق هذا التعاون ما تزال في مستوى الأمنيات إلى حد كبير، ينادي بها المفكرون والمنظرون لمستقبل العالم، وتعطّلها المصالح الآنية الضخمة للقوى المالية والسياسية التي تحكم العالم.
على أن الذي يعنينا، في إطار هذه الصورة العالمية، هو التعاون بشكل خاص بين الدول البترولية (في الوطن العربي) وبين بلدان العالم الثالث الفقيرة (ولاسيما البلدان العربية). وهذا ما سنتريث عنده فيما يلي.
2- مستقبل الوطن العربي:
الوطن العربي يشكو من تناقض أساسي: فهو من جانب المالك لأضخم ثروة بترولية في العالم، وهو من جانب ثان من أكثر مناطق العالم تخلفاً في ميادين التنمية الذاتية. ويكفي أن نذكر أن متوسط دخل الفرد في الوطن العربي (إذا استثنينا النفط) لا يتجاوز 584 دولاراً في العام الواحد.
ويتجلى هذا القصور الكبير في التنمية الذاتية في شتى جوانب النشاط الاقتصادي:
أ- ففي ميدان الزراعة، يشكو الوطن العربي من ضآلة الأراضي القابلة للزراعة (10%من المساحة الكلية) ومن نقص وسائل الري، ومن ضعف تأهيل القوى العاملة التي تشتغل بالزراعة، ومن ضعف التكيف مع التقنيات الحديثة التي من شأنها أن ترفع النتاج الزراعي كماً وكيفاً. ومن المقدر أن حوالي 20-30 مليون شخص سوف يشكون من نقص التغذية في البلاد العربية حوالي أواخر هذا القرن. كما أن من المقدر أن هذه البلاد سوف تحتاج في نهاية القرن إلى استيراد حوالي 100 مليون طن من الحبوب أي حوالي نصف حاجتها منه. وفي الوقت نفسه نجد أن الوطن العربي يملك حوالي 50 مليون هكتار من الأراضي القابلة للزراعة، يزرع ثلثاها فقط. ومن هنا تجد البلدان العربية نفسها منذ الآن وخلال العقدين القادمين أمام مشكلة حيوية حادة، مشكلة الأمن الغذائي، يتوجب عليها حلّها عن طريق الجهد العربي المشترك.
ب- وفي ميدان الصناعة: نجد أن النمو الصناعي في الوطن العربي حديث نسبياً ومتباين بين بلد وآخر. ونجد أن معظم الصناعات مركزة حول إرضاء حاجات الاستهلاك (ولاسيما الغذائية)، بالإضافة إلى جهود في ميدان الصناعة الثقيلة، ما يزال البحث في عائداتها ونجعها مجال جدل ونقاش. وفي مقابل ذلك، نجد أن الصناعات البتروكيماوية، ولاسيما الأسمدة، يتجاوز نتاجها مقدرة السوق العربية على امتصاصها. وتملك البلاد العربية، بالإضافة إلى النفط والغاز، ثروات معدنية هامة يمكن استغلالها، وعلى رأسها الحديد والفوسفات والكبريت. على أن الصناعة التي تحظى بالقدر الأكبر من الاهتمام هي صناعة البناء، وهي تشهد قفزة غير عادية، وكثيراً ما تتم على حساب سواها من الصناعات، بل كثيراً ما تجاوز الحاجات الفعلية.
والنظرة العجلى إلى واقع الصناعة العربية ومستقبلها تومئ إلى حقيقة أولى أساسية: وهي أن التجربة دلت، في مختلف بلدان العالم، أن التصنيع لا يمكن أن يحقق نجاحاً كبيراً إذا تمّ في إطار رقعة بلد ضيق، وأن مستقبل الصناعة في البلاد العربية لا يبشر بالخير الأكمل إلا إذا تم في إطار التعاون والتنسيق بين أجزاء الوطن العربي بكامله.
جـ- وفي مجال الطاقة لا حاجة إلى القول أن الثروات النفطية الكبيرة التي يملكها الوطن العربية ما تزال مقصرة عن أن تخلق التنمية الذاتية في البلدان النفطية نفسها وفي سائر البلدان العربي، وأن احتياطي النفط محدود قريب الزوال، وأن الإعداد لعصر ما بعد النفط يستلزم بدوره جهداً عربياً مشتركاً. غير أن ما نجده جديراً بالذكر هو أن حاجات البلدان العربية من استهلاك النفط آخذة نفسها في التزايد، وأن هذه الحاجات سوف تبلغ عام 2000 حوالي 50% من الإنتاج الحالي للنفط في هذه البلدان.
من هذا العرض السريع تستبين حقيقة أساسية فيما يتصل بمستقبل الوطن العربي: وهي أن التحدي الأساسي الذي يواجهه هو تحدي التعاون والتكامل العربي. والسؤال الكبير الذي يطرحه هذا التحدي هو الآتي: كيف تستطيع البلدان العربية أن تستخدم ما تملكه من غنى نسبي في ميدان الثروات البترولية ومن ثروات بشرية طيبة رغم حاجتها إلى مزيد من النماء، من أجل توليد تنمية ذاتية للمنطقة العربية بكاملها؟ وعن هذا السؤال الكبير تتفرع أسئلة جزئية:
1- كيف يمكن استخدام النفط من أجل توليد انطلاقة تنموية ذاتية على المدى البعيد؟
2- ما هي العوائق الأساسية التي تحول دون التنمية (بالإضافة إلى العوائق المالية)، وكيف يمكن التغلب عليها؟ (الأراضي الزراعية والري – الثروة البشرية المؤهلة – طرق المواصلات وسواها؟)
3- ما السبيل إلى تطوير البنية الاقتصادية السياسية بحيث لا تعيق التنمية؟
4- ما هو الأسلوب الملائم لإدارة التنمية وتنظيمها أمام الضغوط الخارجية التي تمارسها الشركات الصناعية المتقدمة في العالم؟
5- ما الطريق إلى تعبئة المشاعر القومية المشتركة وجعلها عاملاً أساسياً من عوامل التعاون الاقتصادي والسياسي؟
ولعل الجواب على هذه التساؤلات جميعها يكمن في إقامة سوق اقتصادية عربية مشتركة، فعالة وقادرة، تقدم الإطار اللازم لاستخدام الثروات العربية (ولاسيما النفطية) من أجل تنمية الوطن العربي من أقصاه إلى أدناه.
ومثل هذه السوق الاقتصادية المشتركة هي التي يمكن أن يتم من خلالها التعاون السليم بين البلدان العربية وبلدان العالم المتقدم، من أجل تحقيق التعاون العلمي والتكنولوجي، ولكن في إطار ترسمه سياسة البلدان العربية المشتركة وحاجاتها الفعلية، لا في إطار ترسمه سياسات القوى العالمية أو الشركات الاقتصادية الكبرى في العالم.
3- مستقبل التربية العربية:
التربية، بوصفها صناعة كبيرة، لا تختلف فيما ينتظرها في البلاد العربية عن سواها من الصناعات ومجالات التنمية. ودورها في تحقيق التنمية الذاتية التي أشرنا إليها دور هام. غير أن اتجاهاتها خلال العقدين الأخيرين، إن تابعت مسيرتها الماضية والحالية، لن تمكنها من تحقيق هذا الهدف الأساسي ومن أن تلعب دورها في توليد هذه التنمية الذاتية المرجوة. فهي بدءاً من منطلقاتها الحالية، لن تقوى على توفير التطور الكمي اللازم للتربية، ولن تستطيع خاصة أن تحقق التغير النوعي اللازم للتربية إن أرادت أن تلعب دوراً هاماً في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
والدراسات التي تنبئ عن تطور التربية العربية، كماً وكيفاً، خلال العقدين القادمين من هذا القرن أصبحت عديدة ولا حاجة إلى تكرار نتائجها في هذه الدراسة المحدودة(1).
وحسبنا أن نشير إلى أمهات المسائل التي تواجها التربية في البلاد العربية، فيما لو استمرت الاتجاهات الحالية في المستقبل:
أ- التطور الكمي الكبير الذي عرفته التربية العربية منذ الستينات خاصة، كاد يصل إلى مرحلة يصعب تجاوزها، ومعدل تزايد الطلاب في مراحل التعليم المختلفة (ولاسيما المرحلة الابتدائية والثانوية) بدأ يأخذ بالتناقض. ويرجع ذلك إلى أسباب عديدة: صعوبة تعميم التعليم في المناطق الريفية والمحرومة ولدى الإناث – الأعباء المالية الكبيرة التي يمليها توسع التعليم – على ميزانية الدول وعلى دخلها القومي – نقص العاملين في التربية (ولاسيما المعلمون والقيادات التربوية الفنية) – صعوبة توفير الأبنية والتجهيزات المدرسية اللازمة للتوسع السريع – إعادة النظر في السياسات التعليمية وتحديد نسب القبول (في ضوء قدرة سوق العمل على امتصاص الخريجين وفي ضوء تحقيق التوازن بين الإنفاق على التربية والإنفاق على سائر ميادين التنمية) – الخ…
ب- التطور الكيفي النوعي في ميدان التربية تقف دونه غالباً مطالب التطور الكمي، بدلاً من أن يكون سبيلاً لمعالجة مشكلات التطور الكمي هذه. وهو بالتالي شعار مطروح لا يأخذ سبيله إلى التنفيذ إلا لماماً وعلى استحياء. ويرجع ذلك إلى أسباب عديدة أهمها: غموض المفاهيم المتصلة بالتطور النوعي والتشكيك في صلاحها – الخوف من التجديد الذي لم يجرّب وإيثار الاحتماء بالقديم على علاته – نقص القيادات التربوية القادرة على التطوير والتجديد – التقصير عن إعداد نوعية جديدة من المعلمين القادرين على إنفاذ التطوير والتجديد – ضعف التعاون وتبادل الخبرات بين البلدان العربية في ميدان التجديد والتطوير – العجز عن الإفادة الكاملة من جهود التعاون الدولي، بسبب ضعف البنى الوطنية القادرة على متابعة هذه الجهود – ضعف الارتباط العلمي بين الخطط التربوية وخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة – الخ…
ولا شك أن رفع المستوى النوعي للتربية، فضلاً عن تحقيق ديمقراطية التربية، يشكل التحدي الأساسي الذي يواجه التربية العربية خلال العقدين القادمين. ويرجع ذلك إلى أسباب رئيسية أهمها:
أ- إن التغلب على أزمة النمو الكمي لا يمكن أن تتم إلا عن طريق توليد أنماط تربوية جديدة، من شأنها أن تؤدي إلى الاستثمار الأمثل للموارد المتاحة للتربية (من معلمين وأبنية وأموال) وإلى تعليم عدد أكبر تعليماً أفضل بنفس الإمكانات المتاحة.
ب- إن القضاء على الهدر والضياع (الناجم عن الرسوب والتسرب خاصة) لا يمكن أن يتم إلا بتجويد نوعية التعليم.
جـ- إن رفع المردود الخارجي للتربية (نعني تخريج أناس قادرين على الإسهام في تحقيق حاجات التنمية الشاملة) لا يتوافر إلا عن طريق تطوير محتوى التربية، فضلاً عن تنويع مساقاتها وتفريعها، وعن ربط التربية بالعمل المنتج.
د- إن المطلب الأساسي الذي ينبغي أن تسعى إليه التربية العربية، إذا هي أرادت أن يكون لها دور فعال في مستقبل الوطن العربي، هو نقل المجتمع العربي من منزلة المستهلك للحضارة إلى منزلة المسهم في إنتاجها المشارك في خلقها وإبداعها. ولا يتأتى ذلك إلا عن طريق توليد مناهج وأساليب تربوية قادرة على أن تخلق منذ نعومة الأظفار المواقف اللازمة لدى الطلاب من أجل الإبداع، وعلى أن تكوّن القدرات والمهارات اللازمة لهذا الإبداع.
وجملة القول إن التربية العربية، إن تابعت مسيرتها الحالية، سوف تجد نفسها في نهاية القرن عاجزة عن استيعاب الطلاب حتى في التعليم الابتدائي(1) وعاجزة خاصة عن أن تكوّن الثروة البشرية اللازمة للتنمية الشاملة، ومقصّرة عن هدف الأهداف: نعني الإسهام في توليد حضارة عربية ذاتية، تحقق تنميتها الخاصة العلمية والتكنولوجية والثقافية، وترقى بالوجود العربي إلى مستوى يلائم إمكاناته الكبرى ودوره المنتظر.
4- الدور المرتقب للتربية العربية:
في إطار هذه الصورة المستقبلية عن حال الوطن العربي خلال العقدين القادمين في حال استمرار خطاه الحالية، في شتى مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، وعن موقعه في صورة العالم على نحو ما عرضناها بإيجاز، لا بد أن يكون للتربية العربية دور فعال في اجتناب ما تومئ إليه هذه الصورة وما تنذر به من مشكلات ومآزق.
وقبل أن نمضي في الحديث عن هذا الدور الموعود، لا بد أن نذكر أن التربية، أنّى كانت، ليست العصا السحرية التي تغير البلاد والعباد، وأن مهمتها لا بد أن تكون محدودة، لكونها جزءاً من مهمات أشمل لا بد أن تتكامل معها. ومن غير الجائز كما سبق أن ذكرنا أن نحمّل التربية أكثر مما تحتمل وأن ننسى أنها عنصر من جملة عناصر متآخذة لا تتم التنمية، تربوية كانت أو شاملة، إلا بتكاملها وتوازن مسيرتها وتطورها. فمن نفل الكلام أن نقول أن التربية نظام فرعي من نظام كلي تنتسب إليه (هو النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي جملة)، وأن تطوير المجتمع لا يكون إلا في إطار نظرة شاملة إلى الأمور وسياسة متعانقة الجوانب، تأخذ التربية فيها دورها ومكانها. بل إن تطوير التربية نفسها – كماً ونوعاً – يخضع في كثير من جوانبه إلى عوامل خارجة عنه، فضلاً عن أن تطويرها لا يمكن أن يستقيم إلا إذا نبع من فلسفة تربوية هي بدورها جزء من فلسفة اجتماعية واقتصادية وسياسة عامة.
ومن هنا لا بد للتربية العربية، إن أرادت أن تسهم في التنمية المرجوة في الوطن العربي، أن تعمل في تفاعل وتكامل مع الخطط الاقتصادية والاجتماعية، من أجل خلق نظام تربوي قادر على تحقيق التطور النوعي المطلوب، وعلى معالجة أزمة التطور الكمي نفسها عن طريق تجديد التربية وزيادة فعالياتها ومردودها بوجه خاص.
وواضح، في ضوء ما ذكرنا عن واقع الوطن العربي ومستقبله، وفي ضوء إمكاناته المالية والبشرية، أن مثل هذا العمل لخلق نظام تربوي جديد لا تكفي فيه الجهود التي تتم على مستوى كل بلد عربي على حدة، بل لا بد فيه من لقاء الجهد العربي المشترك، بحيث تنضاف الإمكانات المالية المتوافرة إلى الإمكانات البشرية القائمة، وبحيث يؤدي التكامل بينها إلى صياغة تربية عربية نامية كماً ونوعاً، محققة لأهداف التنمية الشاملة. والجهود التربوية التي ينبغي أن تتم خاصة في إطار العمل العربي المشترك كثيرة، لا مجال لتعدادها، وقد أشبعتها الدراسات والمؤتمرات بحثاً وتفصيلاً. على أننا نود أن نركز على ما هو جدير بأن يقدّم على سواه وأن يولى شأناً خاصاً، بوصفه شرطاً لازباً لما عداه:
أ- تكوين القيادات التربوية العليا التي تستطيع أن تقود مسيرة التربية في البلاد العربية، انطلاقاً من أسس علمية وفنية رصينة، ومن نظرة مشتركة موحدة إلى مستلزمات تطوير التربية. ويشمل إعداد هذه القيادات إعداد الهيئة التدريسية الجامعية، وإعداد المختصين في بعض الجوانب الفنية الهامة من عملية التربية، وهي جوانب ما تزال تشكو من ندرة في الفنيين ذوي المستوى الرفيع: التخطيط التربوي – الإدارة التربوية – تطوير المناهج – تكنولوجيا التربية – البحث التربوي – الأبنية المدرسية والخارطة المدرسية – اقتصاديات التربية – الخ…
ب- تنظيم الجهود العربية المشتركة من أجل تجديد النظام التربوي في البلاد العربية، والتعاون بين المربين العرب في سبيل توليد صيغ تربوية جديدة، مؤيدة بدراسات علمية وتجريبية موثوق بها، تتناول بنية التربية ومحتواها وطرائقها.
جـ- تأصيل التربية العربية والتخلص من نقل الصيغ التربوية المجلوبة، والعمل على دمج الثقافة والمعرفة التي تقدم للطلاب دمجاً عضوياً بالتراث العربي وبحاجات المجتمع العربي الفعلية.
د- العناية بالتربية الموازية التي تتم عبر وسائل الإعلام وأساليب الاتصال الجماعية، وتنسيق الربط بينها وبين التربية المدرسية.
هـ- العناية بالتربية المستمرة، التربية من المهد إلى اللحد، وتوليد أنماط تربوية جديدة، تعيد النظر في التربية النظامية (مدة ومحتوى وطرائق) في ضوء هذا المفهوم وتكفل قيام تربية حية ديناميكية مرنة، تقدم لخريجي المدارس إعداداً متغيراً ومتجدداً يتفق مع تطور حاجات القوى العاملة ومع تطور بنية الاقتصاد وبنية المجتمع، في عالم تتقدم فيه المعارف بسرعة وتتقادم بسرعة.
و- تنظيم جهود المربين في الوطن العربي وتعاونهم من أجل وضع أسس مشتركة للعمل من أجل بثّ الاتجاهات الفكرية والنفسية السليمة لدى الطالب العربي والمواطن العربي: تنمية إرادة العمل المشترك عامة والعمل القومي المشترك خاصة والتوعية بأهميته وأهدافه – تأصيل الثقافة العربية – الاستمساك بالقيم الخلقية والإنسانية السامية – غرس الإيمان بالعمل المنتج – النشاط المبدع الخلاق – الخ…
ز- الاستخدام الأمثل للموارد المالية والبشرية المتاحة للتربية، عن طريق العمل العربي المشترك خاصة، وعن طريق تجويد محتوى التربية وطرائقها وإدارتها، من أجل الوصول إلى تعليم أكبر عدد ممكن من الطلاب تعليماً أفضل بنفس الإمكانات المتاحة.
ح- إحكام الربط بين الخطط التربوية والخطط التنموية الشاملة، وتنظيم تطور النظام التربوي في كمه ومحتواه انطلاقاً من حاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وهذا كله يستلزم شرطين أساسيين:
أولهما وضع فلسفة تربوية عربية تنطلق من فلسفة اجتماعية وحضارية عربية متميزة.
وثانيهما وضع خطة إجرائية لإنفاذ أهداف هذه السياسة. ولا حاجة إلى القول إن رسم أساليب التنفيذ لا يقل أهمية عن رسم الأهداف والغايات، بل هو جزءٌ لا يتجزأ منها، وإن ما يعوز البلدان النامية خاصة هو إحكام وسائل التسيير والتدبير إلى جانب إحكام التفكير والتنظير.
وبعد، إن الوطن العربي يواجه في مقبلات أعوامه مآزق تستلزم منه قفزة جادة في مستوى ما يقوم به من جهود في شتى ميادين التنمية. إنه مدعو إلى تغيير مسيرته الحالية تغييراً جذرياً، من أجل استخدام ثرواته المالية (وهي قصيرة العمر) وثرواته البشرية (وهي ما تزال مقصّرة عن الشأو المطلوب) في سبيل بناء مجتمع عربي قادر على تحقيق التنمية الذاتية وجدير بأن يحتل مكانته في بناء الحضارة العالمية. ومثل هذا الهدف لا يستطيع بلوغه إلا عن طريق الجهد العربي المشترك والتعاون العربي الخصيب. إنه أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن يجد نفسه بعد حين عاجزاً عن تلبية حاجاته الاقتصادية وتحقيق نهضته العلمية الحضارية، وإما أن يعدّ العدة منذ اليوم لبناء مجتمع حضاري قادر على النمو بذاته، وذلك عن طريق تعبئة ما يملكه من إمكانات تعبئة متكاملة. وهذا المطلب الأخير يستلزم بوجه خاص اجتماع القدرات العربية. ماليّها وبشريها، ويستلزم على نحو أخص تعاوناً عربياً محكماً في ميدان تنمية الثروات البشرية عن طريق توليد نظام تربوي عربي القسمات حديث المحتوى والبنية، متجدد الأنماط والصيغ، لا يأخذ بعين الاعتبار مطالب كل دولة عربية على حدة فحسب، بل مطالب تنمية الوطن العربي بأسره.
إن مما يرفضه الواقع والواجب أن تقبل البلدان العربية على مشارف القرن الحادي والعشرين فتجد جمهرة كبيرة من الأطفال (حوالي 18% ممن هم في سن التعليم) لم تستطع ارتياد التعليم الابتدائي نفسه(1)، وتجد التعليم الثانوي عاجزاً عن استيعاب حوالي 40% ممن هم في سن هذه المرحلة، وتجد التعليم العالي مقصراً عن استيعاب أكثر من 28.2% من هم في سن هذا التعليم (كما تدل الإسقاطات الحالية). بل إن ما هو أدهى وأمر أن تجد هذه البلدان أن الأعداد الكبيرة ممن يختلفون إلى مراحل التعليم المختلفة لا يتلقون إلا زاداً تقليدياً من المعرفة والمهارات، ولا يقدم لهم نظام التربية في بناه ومحتواه ما يمكنهم من الإسهام الفعلي في تحقيق التنمية الشاملة المطلوبة.
إن أبناء القرن الحادي والعشرين قد ولدوا، وهم على مقاعد الدراسة، ولا بد من إعدادهم إعداداً يلائم ما ينتظرهم في عالم جديد متغير، وفي إطار واقع عالمي متناقض متصارع، وفي نطاق وطن عربي لا بد له أن يحقق وثبته الحضارية الذاتية وسط هذا العالم.
والسبيل إلى هذا بيّنة، غير أنها تحتاج إلى اجتماع العقول العربية والإرادات العربية من أجل رسم مسيرتها وتحديد وسائل الوصول إليها. ولن تأتي المعجزة على أية حال من خارج، بل هي حالة فيما يعزم عليه أبناء البلاد العربية من أمر، وفيما يرسمون من طريق جديدة موصلة إلى الهدف.
عبد الله عبد الدائم