دور التوعية الفكرية للجماهير في تحقيق الوحدة العربية

مجلة الشورى الليبية – العدد /5/ آب/أغسطس 1974
دور التوعية الفكرية للجماهير
في تحقيق الوحدة العربية
الدكتور: عبد الله عبد الدائم
ضم عدد أيار (مايو) الماضي من مجلة «الطليعة» المصرية جملة من الدراسات حول «الوحدة العربية» أراد من خلالها أن يحلل خبراتها الماضية وواقعها والتحديات التي تواجهها.
وقد حاولت هذه الدراسات أن تتساءل خاصة عن العقبات التي حالت وتحول دون قيام الوحدة العربية رغم الإيمان بأهميتها وشأنها، وعن الشروط التي ينبغي أن تتوافر بالتالي لتحقيق هذا الهدف الكبير.
وأول ما يلفت النظر في هذه الدراسات أنها عبرت عن تباين الآراء حول شروط قيام الوحدة، وعن الكثير من البحران الذي يشكو منه الفكر القومي العربي.
فبعضها يرى أن الوحدة العربية لا تتحقق إلا إذا تحققت «عملية التكامل الاقتصادي والاجتماعي» أولاً وأن الوحدة السياسية ينبغي أن تكون محصلة طبيعية لتوحيد الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وسواها مهما يطُل أمر هذا التوحيد.
وبعضها الآخر يرى أن محور الجهد الوحدوي هو «التكامل الاقتصادي» خاصة وأن الاقتصاد المنسق والموحد أو المتكامل يجعل قضية الوحدة السياسية ضرباً من «تحصيل الحاصل».
وطرف منها يعتبر نقطة البداية في أي عمل وحدوي توحيد القوى الثورية والوطنية في كل قطر عربي على حدة.
وكثير منها يؤكد على دور الحركة الجماهيرية – حركة الفلاحين والعمال وسواهم – في حركة الوحدة العربية ويربط ربطاً عضوياً بني قضية الثورة الاجتماعية وقضية الوحدة.
ويتوقف معظمها عند أهمية المناخ الديمقراطي في خلق الوحدة وبقائها والحيلولة دون فشلها، ويشير كثيرها إلى دور الاستعمار والصهيونية في محاربة الوحدة.
الأخطاء المنهجية في دراسة شروط الوحدة:
ولسنا ننتقص من شأن أي عامل من هذه العوامل المختلفة في بناء وحدة عربية تقدمية ثابتة الجذور. غير أننا نأخذ على معظمها جملة من الأخطاء المنهجية أهمها في نظرنا:
1- إن معظمهم يلجأ إلى ضرب من التفسير الأحادي وينسى أننا في الواقع أمام جملة من العوامل المتآخذة المترابطة التي ينبغي أن تعالج بالتالي معالجة متكاملة. ومن الخطأ أن نرد الأمر إلى عامل وحيد تتحلق حوله سائر العوامل وأن نرى فيه سبب الأسباب و«العلة الأولى». فالعامل الاقتصادي عامل هام، غير أنه لا يعمل وحيداً في معزل عن العوامل الأخرى. ومثله العامل الاجتماعي والمناخ الديمقراطي والتحرك الجماهيري الشعبي ودور الاستعمار والصهيونية وغير تلك من الحقائق التي تدور قضية الوحدة في إطارها. ومثل هذا النهج الذي يشترط لتحقيق الوحدة توافر أحد هذه الأسباب بوجه خاص يقع في ضرب من التبسيط الذي يرفضه الواقع ويأباه أسلوب البحث العلمي.
2- إن بعض هذه الدراسات تقف من عجز المحاولات الوحدوية أو فشلها موقف رد الفعل الذي يعتبر العرض جوهراً، إذ تحاول أن تلتمس لذلك كله من مبررات ظاهرة ما تلبث حتى تجملها في مستوى المبادئ العامة والحقائق القاطعة. فالوحدة المصرية السورية مثلاً فشلت في نظر بعضها لأنها هددت مصالح البورجوازية وأصدرت قوانين التأميم الشهيرة. وفشلت في نظر بعضها الآخر لأنها لم تستند إلى دراسة مسبقة تأخذ بعين الاعتبار الظروف الموضوعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية في كل من القطرين. ومحاولات الوحدة تفشل اليوم لأنها – في رأي بعض هذه الدراسات – تنسى التناقض القائم بين الدول العربية الغنية والدول العربية الفقيرة، أو لأنها تقيم تقسيماً جامداً خاطئاً – في نظرها – بين الدول التقدمية والدول المحافظة.. وهذه التفسيرات جميعها – كما نرى – تحمل طابع رد الفعل السطحي والآني، وتحاول أن تقدم تحليلاً مبسطاً لواقع أعمق وأعقد. إنها تفسيرات ترزح تحت وطأة الأحداث السياسية الظاهرية، ولا تلتفت إلى جوهر الأمر، لتحلل واقع الأمة العربية تحليلاً أكمل وأشمل يتجاوز ما يجري على السطح إلى ما يوجه الأعماق.
3- إن بعض هذه الدراسات تستر عجزها عن طريق الاحتماء بما يبدو لها الأسلوب العلمي في معالجة قضية الوحدة. فقضية الوحدة عندها ينبغي أن تستند إلى دراسات اجتماعية حول الواقع العربي، وهي ترى أن «المنهج الوحيد الذي يدعمه البحث العلمي هو المنهج الذي يسمح للتفاعلات الاجتماعية بان تأخذ مداها عبر مرحلة تاريخية – قد تطول وقد تقصر بحسب درجة الاتفاق والاختلاف بين الأبنية الاجتماعية وإطار عملية التكامل». ومن هنا تستبعد بعض هذه الدراسات أي خطوة من خطوات الوحدة السياسية السريعة لأنها تتجاهل في نظرها هذا الواقع الاجتماعي المتباين بين الأقطار العربية ولا تدرك طبيعة «التكامل الاجتماعي». بل تذهب إلى أبعد من هذا فترى أن «عملية الوحدة -بحكم التعريف- عملية اجتماعية تتضمن احتكاك عناصر وأبنية اجتماعية مختلفة بهدف التنسيق بينها أو دمجها في التحليل الأخير» وهي تذهب هذا المذهب العلمي في نظرنا مدركة «أن عملية التكامل الاقتصادي والاجتماعي» التي تدعو إليها «هي عملية طويلة بحكم تعريفها وطبيعتها».
الفكر العربي ينبغي أن يكون موجهاً للأحداث لا مفسراً لها:
هذه الأخطاء المنهجية ترتد في نظرنا إلى ضعف أساسي يشكو منه الفكر العربي في أكثر من ميدان، ونعني به تلون هذا الفكر بلون الأحداث العابرة والسياسات الطارئة، بدلاً من اضطلاعه بمهمته الأساسية، نعني توجيه الأحداث والسياسات وقيادتها. وإذا كنا لا ننكر ضرورة تفاعل الفكر مع الواقع وأهمية إفادته من التحارب والخبرات السياسية وسواها فإننا نكر أني نقلب هذا الفكر مجرد «مفسر» و«شارح» لهذه الأحداث من أجل تبريرها. فمهمة الفكر تظل عندنا أن يصنع العالم لا أن يكتفي بتفسيره. بل إن التفسير يمكن أن يكون بداية لصنع العالم إذا انطلق من فكر أصيل له رؤيته وأهدافه، وله منهجه العلمي الذي يحقق تلك الرؤية والأهداف. إن ثمة منطلقات أساسية لا بد أن ينطلق منها الفكر القومي إذا أراد أن يكون صانعاً للأحداث، خالقاً للوحدة. ونثبت فيما يلي بعض هذه المنطلقات:
1- أن يدرك هذا الفكر إدراكاً عميقاً أن الوحدة العربية ليست ترفاً وليست «إضافة زائدة» على الوجود العربي الراهن، بل هي سبيل لخلاصه الأول، ومن هنا فهي لا يمكن أن تكون مطلباً آجلاً قد يجود به الزمن وقد لا يجود. إنها لا يمكن أن تكون بالتالي نتاج جهد بطيء وعمل متأنق ورصف متمهل لأحجار البناء. إنها قضية حياة أو موت للشعب العربي – ولاسيما أمام ما يتهدده من مخاطر الصهيونية – ولا بد أن يكون العمل لها نضالاً يومياً يعرف أن يختار أقصر الطرق وأسرع الطرق لتحقيقها.
2- أن يعي هذا الفكر أنه أمام مخططات صهيونية واستعمارية تضع في رأس مهماتها تمزيق الوجود العربي، وإضعاف شعوره بوحدته، وقلبه إلى كيانات مستقلة ثابتة الجذور، وتسهيل السيطرة عليه عن هذا الطريق. ولا نقول جديداً إذا قلنا أن أول حقيقة أدركتها الصهيونية ورسمت خطتها بالاستناد إليها، هي أن الكيان الإسرائيلي الذي أقامته بالتعاون مع الاستعمار في قلب الوطن العربي لن يستقر به المقام ولن ينعم بالطمأنينة، ما دام الشعب العربي المحيط به إحاطة السوار بالمعصم يشعر بوحدة مصيره وبغربة ذلك الكيان عن وجوده المتلاحم المتضامن. ومخططات الصهيونية والاستعمار لا بد لها من مخطط عربي في مستواها وحجمها ونجعها. إنها مخططات لن تسمح أصلاً بالتكامل الاقتصادي أو التكامل الثقافي أو التكامل الاجتماعي أو التكامل العسكري. ولا يحبطها إلا مخطط شامل متكامل، يجعل الوصول إلى أنماط التكامل المختلفة جزءاً لا يتجزأ من وحدة سياسية تقوى على حماية أشكال التكامل الأخرى وتهيئ التربة اللازمة لنضجها واكتمالها. وإذا كانت الوحدة السياسية التي تهمل النضال الفوري والمتصل من أجل تعميق التكامل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وحدة تحقق الإطار وتنسى الجوهر والأصل، فتقضي على الإطار نفسه، فإن التكامل الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي الذي يتم في غير إطار الوحدة السياسية تكامل زائف بل مستحيل وضرب من ذر الرماد في العيون.
3- إن أهم دور يتوجب على الفكر القيام به هو أن يبين – عن طريق الدراسة العلمية والبحث الموضوعي – كيف تكون الوحدة السبيل الأوحد لإزالة المخاوف التي تراودها أذهان بعض الناس منها. فهي الرد الطبيعي على الطائفية والإقليمية، وهي طريقة التنمية الاقتصادية التي تعود خيراتها إلى الجميع، وهي المكان الطبيعي لتحقيق الديمقراطية الاجتماعية والسياسية معاً، وهي التربة اللازمة لتفتيح إمكانات الفرد العربي وعطائه وإبداعه. أو لم يقم اتحاد الولايات المتحدة نفسها – على يد أنصارها من أمثال «هاملتون» و«ماديسون» و«جي» وسواهم بفضل مثل هذه الدراسة العلمية التي أقنعت الولايات الثلاث عشر المنفصلة آنذاك بما يقدمه الاتحاد من حماية لها جميعها ومن مكاسب اقتصادية واجتماعية وديمقراطية لا تكون بدونها؟ أفلا تدرك البلاد العربية يوماً بعد يوم أن تحقيق التنمية الاقتصادية والتقدم العلمي التكنولوجي لا يمكن أن يتم في إطار إمكانات كل قطر عربي على حدة؟ أفلا تعي هذه البلدان أن الديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية مهددة دوماً بالفشل والسقوط عندما تتم وسط وجود عربي متعارض المصالح، يعطل بعضه منجزات بعضه الآخر ويحول دون قيام أي تجربة تقدمية عصرية في أي جزء من أجزائه؟ أو لم تدرك هذه البلدان العربية أن أوروبا نفسها مضطرة إلى أن تحمي اقتصادها وتقدمها العلمي وحياتها الديمقراطية وأهدافها الاجتماعية عن طريق التكتل في وجه «التحدي الأمريكي»؟ – إن «الدول العربية الغنية» لن تنعم بغناها حقاً ولن تقضي على التخلف العميق الذي يحفر في أعماقها إلا بفضل التكامل بينها وبين البلدان العربية الأخرى التي سبقتها في ميدان التقدم. وإن «الدول العربية الفقيرة» غنية بمواردها الإنسانية وإمكاناتها الفنية التي لا بد منها لتثمير الإمكانات المالية التي تنوء الدول العربية الغنية بحملها وتغرق في وفرتها.
4- ومن هنا كان التباين في مستوى التقدم الاجتماعي والاقتصادي بين البلدان العربية نتيجة من نتائج غياب الوحدة، ولا يمكن بالتالي أن يكون سبباً يحول دون قيامها. إن الوحدة وحدها – بما تقدمه من تفجير خصيب كامل للإمكانات العربية – هي القادرة على تجاوز هوة التخلف الاجتماعي والاقتصادي القائمة فيما بين البلدان العربية، بل في داخل كل بلد عربي، وتوحيد البنيات الاجتماعية والاقتصادية بين البلدان العربية – أو في داخل أي بلد عربي – أسهل مطلباً وأسرع مقصداً عندما يتم في إطار ذلك الجهد العربي المتكامل الموحد. بل لا نغلو إذا قلنا إن توحيد تلك البنيات يكاد يكون مستحيلاً بدون هذا الجهد الضروري. فمن الذي يضمن لنا ألا تزداد هوة التباين الاجتماعي والثقافي والاقتصادي بن البلدان العربية يوماً بعد يوم عندما يعمل كل منها في إطاره المنعزل؟ وهل نستطيع أن نفترض أو نطلب أن تحقق البلدان العربية المختلفة تطورها الاجتماعي والاقتصادي بحيث لا يتم أي سبق لأحدها على الآخر، وبحيث تكون الحصيلة تشابه البنى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية فيها جميعها؟
العمل للوحدة العربية قفزة جذرية ثورية:
إن تجارب نشوء الأمم، والأمم الكبرى خاصة، تبين أن تحقيق أي تغيير جذري ثوري في حياتها الاقتصادية والاجتماعية، يستلزم قفزة نوعية جذرية ثورية، ولا يتم من خلال جهود مبعثرة وعمليات «ضبط» و«إحكام» خادعة. وهل قامت تجربة الاتحاد السوفيتي إلا بمثل هذه القفزة الثورية، وهل انتظرت تماثل البنى الاجتماعية في بلدها أو في البلدان التي انتشرت فيها حتى تنطلق في تجربتها الرائدة؟ أو لم تشر نبوءات «ماركس» إلى أن الشيوعية لا يمكن أن تقوم إلا في البلدان التي بلغت مرحلة متقدمة من التصنيع (كألمانيا)، ومع ذلك قامت الثورة الشيوعية في روسيا وهي من أبعد البلدان الأوروبية عن التصنيع؟ وهل قبل «لينين» أن تكون المبادئ الماركسية نفسها «أصناماً» تقتل حركة الثورة أم آثر على العكس حركة الثورة ونجاحها على «المبادئ» الجامدة والتصورات المسبقة؟
لا… إن وقود الثورة هو الإرادة الشعبية والقدرة على تعميق هذه الإرادة وإحكام تعبئتها وتوجيهها؟ والفكر العربي لا يجوز أن يكتفي بدراسة الواقع وتحليله – على أهمية ذلك – بل مهمته الأولى أن يتصل بالمشاعر الوحدوية الحية القائمة في نفوس أبناء الأمة العربية ليزيد في تعميقها وتأصيلها وتحريكها وليجعل منها الأداة الأولى لتحقيق الوحدة العربية.
لا بد من اللقاء بين مشاعر الجماهير ووعي المفكرين. إن الوحدة العربية لن تكون إلا نتيجة اللقاء بين الانفعال والعقل، بين العاطفة والديالكتيك إن صح التعبير. فالعاطفة الوحدوية قائمة في نفوس الجمهرة العظمى من أبناء الأمة العربية، ولا بد أن تزداد هذه العاطفة عمقاً وإيماناً وتصميماً عن طريق الجلاء العقلي لمقوماتها ومبرراتها. ومثل هذا الجلاء العقلي يقع على عاتق المفكرين.
إن هذا اللقاء بين المشاعر الشعبية وبين الجهد الفكري المعمق لها حين يأخذ مداه وحين يصل إلى تفجير إرادة شعبية لا تقهر، هو الذي يقوى على التغلب على معوقات الوحدة، مهما يكن شأنها، وهو الذي يستطيع أن يحيلها جميعها إلى أنقاض.
عبث أن نتهم الساسة ومصالحهم أو أن نتهم التخلف الاجتماعي والثقافي أو أن نتهم تضارب المصالح الاقتصادية. فهذا كله سيجعلنا إلى الأبد نراوح في مكاننا. المسألة كلها أن ننطلق من إرادة الشعب وأن نعرف كيف نعمق هذه الإرادة، وعند ذلك تندفع هذه الإرادة كالسبيل الجارف لتحطم ما يقف في سبيلها.
وتعميق الإرادة الشعبية سبيله الفكر الواعي الملتزم الذي ينطلق من حقيقة لا ثاني لها، وهي أن الوحدة العربية مطلب عاجل ومصيري وأن جهود المفكرين وسواهم ينبغي أن تتجه جميعها نحو إنجازه. وعند ذلك يستطيع مثل هذا الفكر الواعي الملتزم أن ينتشر في أوساط الجماهير الشعبية نوراً وحرارة وحياة وأن يفجر لدى هذه الجماهير عزيمة لا تقهرها الصعاب.
ومثل هذا الفكر الواعي الملتزم هو الذي يعرف أن يجعل من تحليله للواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في البلدان العربية سبباً يزيد من أهمية الوحدة وشأنها بدلاً من أن يجعل منه مبرراً للقعود والعجز.
لا علم بلا إيمان ولا إيمان بلا علم:
إننا مع أعمق أعماق الفكر العلمي والبحث الموضوعي. ولكن الفكر العلمي والبحث الموضوعي عندما يكونان أمام القضايا المصيرية لا بد وأن يسلطا أسلحة العلم والموضوعية في سبيل تلك القضايا ومن أجلها لا ضدها.
إن الرسالة الإسلامية لم تنطلق من وحدة القبائل العربية بل انطلقت من ضرورة توحيدها، ولولا روح الرسالة ورفعتها لما توحدت قبائل العرب ولما ألفت قلوبها ولو أنفقت ما في الأرض جميعاً.
وأي تحليل علمي بارد كان يقوى على القول بأن رعاة الإبل والشاة يستطيعون أن يقهروا دولة كسرى وهرقل؟
كلا إن العلم بلا إيمان برسالة ضال ومضلل، كما أن الإيمان بالرسالة دون أن تتسلح هذه الرسالة بأسلحة العلم عاجز معطل. وشرارة التقدم في أي مجتمع هي وليدة اللقاء بين إرادة الحياة المشتركة وبين وسائل العلم وأسلحته التي تحقق تلك الإرادة.
والخطة العلمية المطلوبة – من أجل التعجيل في هدف الوحدة العربية – هي الخطة التي يتعاهد عليها المفكرون في سبيل نشر الوعي الوحدوي وتعميق المشاعر العربية الأصيلة لدى جماهير الناس عن طريق مختلف وسائل البحث العلمي ومختلف وسائل التوعية ومختف أساليب الاتصال الشعبي. إنها الخطة التي تتحلق حول بؤرة واحدة وهي الإيمان بان الوحدة العربية مطلب حيوي عاجل، وبأنها مطلب ممكن حين يعمل العقل لتحقيقه، بدلا من أن يعمل لتجريحه وتشويهه، وحين توضع الخطط الفكرية من أجله لا ضده، وحين يقوى المفكرون العرب على محاربة الخطط المعاكسة التي تضعها الصهيونية ومن وراءها والتي تفعل فعلها تشكيكاً بالوحدة وتحريفاً للواقع وتزييفاً للحقائق.
التوعية الفكرية للجماهير رأس الحرية في معركة الوحدة:
نقول هذا ونحن ندرك أن أي خطوة في طريق تحقيق مزيد من الترابط الثقافي أو التكامل الاقتصادي أو التضامن الاجتماعي أو التنسيق العسكري أو سوى تلك من ألوان التنسيق والتقارب بين البلدان العربية، جهد لا بد من اقتحامه والنضال من أجله. ولكنه يظل عميقاً ويظل بطيئاً بل يظل غير مضمون النتائج إذا لم يسعفه جهد من التوعية الفكرية التي تخلق المناخ اللازم لأي خطوة في طريق الوحدة.
فوعي الجماهير الشعبية الغفيرة لأهداف الوحدة وأبعادها هو الذي يجعلها في أيدي بناتها الحقيقيين، وهو الذي يخلق إرادة قوية خصيبة ولودة قادرة على تذليل العقبات وتجاوزها.
إن الجماهير العربية في مصر وسورية وسائر الأقطار العربية هي التي صنعت الوحدة المصرية السورية، ولم يصنعها الساسة. وإن تلك الوحدة فقدت نفسها ومقومات حياتها وبقائها حين عزلت عنها تلك الجماهير الشعبية التي صنعتها، وحين غدت أمانة الوحدة في أيدي الساسة وحدهم.
لا بد من وضع خطة لتوعية الجماهير في أبعاد الوحدة:
وبعد لا بد أن تنضب جهود المفكرين والباحثين على الوسائل التي تقوى على التعجيل في هدف الوحدة، وعلى رأس تلك الوسائل أن توضع خطة منظمة لتوعية الجماهير ولتعميق إيمانها بالوحدة، بحيث يصبح هذا الإيمان عميقاً باقياً قادراً على الصمود متحدياً للمصاعب.
إن أي تحليل علمي يسوقه المفكرون – مهما يكن شانه – يظل بارداً تائهاً إذا لم يوجهه إيمان عميق بالهدف وإذا لم ينتقل إيمانهم هذا إلى الجماهير الشعبية فيزيدها عزيمة وتصميماً، حين تلتقي مشاعرها الوحدوية الأصيلة مع الحقائق التي يقدمها التحليل العلمي الهادف.
قد يقال إن مثل هذا التحليل العلمي لأبعاد الوحدة وثمراتها أمر قائم، وما هو في حاجة إلى المزيد من البحث والتعميق. ونحن نرى غير هذا، ونرى أن ما قام حتى الآن من دراسات جادة حول معنى الوحدة العربية وشأنها ووعودها المستقبلية أقل من القليل. وأمام الباحثين والمفكرين في هذا المجال ألف درب ودرب. وإن نعجب فعجب أن تتضاءل جهود المفكرين العرب في هذا المجال الخصيب الهام، وأن تغزر وتتكاثر في مجال توضيح المصاعب والعقبات التي تحول دون قيام الوحدة. وإذا كنا لا ننتقص من أهمية البحث في مصاعب الوحدة وعقباتها، فإننا ننكر في الوقت نفسه أن يجري ذلك في غير إطار البحث عن وسائل تذليلها، وننكر فوق هذا وقبل هذا ألا يوجه البحث في العقبات أصلاً إدراك عميق لضرورة الوحدة ومعناها المصيري وطابعها العاجل الحاد.
إن الوسيلة تظل جزءاً من الهدف. والهدف هو الذي يولد الوسيلة الملائمة له. ووضوح الهدف هو الذي يخلق الوسيلة الواضحة. وهدف الوحدة العربية هدف جماهيري لا بد أن تكون وسيلته جماهيرية، وهو هدف حضاري عصري لا بد أن تكون وسيلته التسلح بالعقل العصري من أجل توضيح أبعاده وتعميق الإيمان به.