التربية في مرحلة التعليم الإلزامي وما قبلها ودورها في تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية

(أولاً) التربية والتنمية:
أصبح من مكرور القول أن نؤكد اليوم أن التربية هي الأداة المثلى لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ومن بدهيات الحقائق – بعد دراسات الاقتصاديين عامة واقتصاديي التربية خاصة منذ الخمسينات حتى اليوم – أن نشير إلى عائدات التربية الاقتصادية وإلى دورها في زيادة دخول الأفراد والأمم.
غير أن هنالك حقيقة كثيراً ما تنسى وسط قصائد المديح التي تكال لدور التربية الاقتصادي وكثيراً ما يقود نسيانها أو تناسيها إلى مزالق خطيرة. ونعني بتلك الحقيقة أن التربية على شأوها وشأنها ليست دوماً وأبداً أداة من أدوات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بل قد تكون لتلك التنمية ضداً أو نقيضاً.
لقد أتى حين من الدهر – لما يتقض بعد – ظن فيه الكثيرون أن أي توسع في التربية لا بد أن يثمر تقدماً اقتصادياً واجتماعياً موازياً له، وأن فتح أبواب المدارس واسعة عريضة لأبناء المجتمع هو العصا السحرية القادرة على أن تغير البلاد والعباد، وأن مهمة الدولة أن تفسح المجال أمام الجماهير المتزايدة الراغبة في التعليم، وأن توفر لها الأمكنة، فإذا هي فعلت جاء جزاؤها وجزاء المجتمع سهواً رهواً، وانطلقت التنمية الاقتصادية والاجتماعية حثيثة عفو الخاطر.
مثل هذا الوهم الذي يقوم في أذهان الكثيرين لا بد أن يبدد، ولا بد لنا، في مطلع هذه الكلمة التي تبحث في دور التربية في مرحلة التعليم الإلزامي وما قبلها في تحقيق أهداف التنمية، أن نقول في غير ما غمغمة أو غموض: ليست أي تربية أداة من أدوات التنمية، وليس أي توسع في التعليم سبيلاً أمماً لتجاوز التخلف. بل لعل لتربية تقف عائقاً دون التنمية، ولرب تعليم حصادة تعميق التخلف – الاقتصادي والاجتماعي.
ذلكم إن التربية التي تؤدي إلى التربية لا بد أن تكون تربية من طراز معين، نضع في صلبها – سلفاً أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ونحطم الربط المسبق بينها وبين حاجات تلك التنمية. ومن أخطر ما يمكن أن تمنى به الدول السائرة في طريق النمو خاصة، أن تجهد لنشر التربية وأن تعبئ في سبيل ذلك ما تملك وما لا تملك من إمكانات، دون أن تسائل عن مضمون تلك التربية ونتائجها ودون أن تفكر تفكيراً جدياً في الربط بين جهودها الكبيرة تلك وبين آثار تلك الجهود في بنية المجتمع الاقتصادية والاجتماعية.
وبقول موجز إن نشر التعليم أمر هام ومطلب ضروري لازب، غير أنه لا يؤتي ثمراته الاقتصادية والاجتماعية المرجوة إلا إذا توافرت له شروط وصفات بدونها يغدو عبءاً على التنمية وعلى التقدم.
وبمقدار ما يتسع التعليم وينتشر في بلد من البلدان، تغدو الحاجة أشد إلى التفكير في مضمونه ومحتواه ونتائجه، وتمس الحاجة أكثر إلى الربط بينه وبين أهداف التنمية. أما أن نطلق الحبل على غاربه ونقدم للكثرة الكاثرة تعليماً يعجز – في إطاره وفي بنيته وفي محتواه وفي طرائقه – عن تكوين الاتجاهات والمعارف والمهارات اللازمة للتنمية، فمعنى ذلك أن نخرج مجموعة من أشباه المتعلمين العاطلين عن العمل، وأن نقلب البطالة من بطالة عادية إلى بطالة مثقفة، وأن نحرم سوق العمل من عمالها العاديين التقليديين، لنضمهم في إطار تعليمي جُلُّ عطائه أن ينزع عنهم قدرتهم الإنتاجية، وأن يزودهم بمواقف واتجاهات ومعارف تبعدهم عن حاجات الإنتاج ومستلزماته.
(ثانياً) التعليم الإلزامي والتنمية:
قد يقال بعد هذا أن هذه الحقيقة التي أردنا أن نؤكدها في مطلع هذه الكلمة، تصدق على مراحل التعليم التالية للتعليم الإلزامي، ولا تصدق على مرحلة التعليم الإلزامي التي هي موضوع حديثنا. وقد يظن أن الربط بين التربية وبين التنمية الاقتصادية والاجتماعية ينسحب على التربية في مرحلة التعليم الثانوي – حيث يبدأ تفريغ التعليم وتنويعه وتبدأ العناية بالتعليم المهني والفني – كما ينسحب بوجه أخص على التعليم العالي الذي يضطلع بمهمة تخريج الأطر العليا اللازمة لشتى ميادين العمل ولمختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وقد يقوم في الوهم بالتالي أن التربية في مرحلة التعليم الإلزامي وما قبلها، لا تسأل عن أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولا يعنيها الربط بين الإعداد الذي تقدمه وبين حاجات سوق العمل، ويكفيها أن تقدم الأساس الثقافي العام الذي يمكن الفرد من متابعة دراسته أو من معالجة شؤون الحياة اليومية البسيطة.
والرد على مثل هذه الشكوك في القيمة الاقتصادية والاجتماعية للتربية الإلزامية وما قبلها، أساسي في نظرنا، لأنه يدخلنا في صلب الموضوع الذي نبحث:
1– وأول ما يتوجب التذكير به – أمام هذه الشكوك – أن مراحل التعليم بل أشكال التربية المتعددة متكاملة متآخذة، وأن أهدافها لا بد أن تتكامل بالتالي.
وأخطر النظرات إلى التربية وسواها هي النظرات المجزئة التي لا ترى في الأجزاء صورة الكل، ولا تضع في الفروع أهداف الأصول.
ولا حاجة إلى القول إن المنهج السليم اليوم في معالجة مشكلات التنمية عامة، هو منهج تحليل النظم الذي ينظر إلى عناصر عملية التنمية من خلال ارتباطها بعملية التنمية ككل. والتربية في إطار هذا المنهج نظام فرعي من نظام كلي، هو النظام الاقتصادي والاجتماعي، وأي مرحلة أو شكل من أشكال التربية بعد ذلك جزء من ذلك النظام الفرعي الكبير الذي هو نظام التربية.
ومعنى ذلك أننا لا نصل إلى أهداف التنمية التي نرجوها من مرحلة التعليم الثانوي أو العالي أو سواهما إذا نحن لم نلتفت إلى هذه الأهداف منذ مرحلة التعليم الإلزامي وما قبلها.
2– بل نذهب إلى أبعد من هذا فنقول إن إهمال أهداف التنمية في مرحلة التعليم الإلزامي وما قبلها يجعل من العسير بل من المتعذر تحقيق تلك الأهداف في مراحل التعليم التالية:
فالتعليم الإلزامي هو قاعدة التعليم كله وهو الذي يقدم قبل غيره التربية الأساسية للمواطنين جميعهم. وتحت سقفه ينضوي من حيث المبدأ كل الأطفال الذي يبلغون عمراً معينة. وهو وحده – إلى حين – يتعهد أفراد المجتمع جميعهم ويعنى بتكوينهم دون استثناء.
وفي مرحلة التعليم الإلزامي وما قبلها تتكون الاتجاهات والمواقف الأساسية التي ترافق الأفراد طوال حياتهم، وعلى رأسها الاتجاهات والمواقف المتصلة بالتنمية. ولا حاجة إلى القول أن سنوات الطفولة الأولى هي التي تشملها مرحلة التعليم الإلزامي وما قبلها، وأن هذه السنوات – كما نعلم – تكاد تكون حاسمة في تكوين الشخصية عامة، وفي تكوين الاتجاهات والمواقف خاصة. بل لا نغلو إذا قلنا – بعد الدراسات النفسية الحديثة – أن هذه السنوات ذات أثر كبير في تكوين الذكاء نفسه، وفي رفع نسبة الذكاء لدى الأفراد، فضلاً عن دورها في تكوين روح الخلق والإبداع، كما سنرى. وأهم من هذا كله، أن هذه السنوات الأولى من العمر، هي التي ينبغي أن تتكون فيها الاتجاهات الملائمة للعلم والتكنولوجيا، وإن دورها في هذا المجال يكاد يكون حاسماً أيضاً. ومن هنا جاءت تلك العناية الكبرى بها في العقود الأخيرة لدى الدول المتقدمة، كما نجد خاصة في الاتحاد السوفياتي بعد الإصلاح التعليمي الجديد، وكما نجد في نزعات التجديد التي شاعت وذاعت في مثل الولايات المتحدة).
3– يضاف إلى هذا أن الدراسات النفسية الحديثة والمذاهب التربوية المجددة، لم تشر فقط إلى أهمية هذه السنوات الأولى من العمر في بناء الشخصية وفي بناء اتجاهاتها ومنازعها الأساسية وفي تكوين منطلقات الروح العلمية والمهارات التكنولوجية لديها، بل أشارت فوق هذا إلى الطاقات الهائلة الكامنة فيها. إنها بينت كما نعلم أن لدى الطفل في هذه المرحلة من العمر من الإمكانات والقدرات ما قصرت عن إدراكه الدراسات النفسية والتربوية السابقة، وما يجل عن تصوراتنا المحدودة لمرحلة الطفولة وإمكاناتها. فالطفل في هذه المرحلة – كما بينت الدراسات المحدثة – يستطيع أن يستوعب من المعارف ويكتسب من المهارات والاتجاهات ما لم يكن يخطر لنا ببال، إذا نحن عرفنا أن نحكم الطرائق والأساليب التي نقدم بها المعرفة أو نكون المهارة أو نعد الاتجاه. لا يتسع المجال لضرب الأمثلة على ما انتهت إليه هذه الدراسات الحديثة، وحسبنا أن نقول عابرين إنها بينت فيما بينت أن في وسع الطفل منذ السنوات المبكرة جداً من عمره أن يتعلم القراءة والكتابة والضرب على الآلة الكاتبة والعزف على بعض الآلات الموسيقية وتعلم اللغات الأجنبية، وإن في وسعه في بدايات التعليم الابتدائي أن يتعلم كثيراً من المفاهيم المجردة وأن يدرك المعادلات الرياضية من الدرجة الأولى بل الثانية وأن يفقه كثيراً من أمور الاقتصاد الحديث. (ولا يعني هذا – كما نجد في بعض النزعات الأمريكية المغالية – أن نحمل الطفل أكثر مما يحتمل، وأن ندأب على أن نجعل من أطفالنا منذ المهد أناساً متفوقي الذكاء، وأن نعدهم لدخول الجامعة وهم في القماط، وأن نعلمهم القراءة والكتابة منذ السنة الأولى أو الثانية من العمر، على نحو ما نجد في شعارات بعض شركات الدعاية في الولايات المتحدة. لا يعني هذا أن يصاب الآباء والأمهات بضرب من الحمى والجنون – كما نجد أحياناً في أميركا – فإذا بهم يخفّون إلى أن يجعلوا من أطفالهم الوليدين عباقرة وأفذاذاً يكلمون الناس في المهد ويفعلون فعل المردة. غير أن هذا لا يعني كذلك ألا نقدر إمكانات الطفولة حق قدرها، وألا ندرك ثرواتها الضخمة وألا نعمل على تفجير عطائها بوسائل وأساليب ملائمة. وحسبنا أن نذكر أولاً وآخراً أن سنة من سنوات العمر في هذه المرحلة تعدل في إمكاناتها وطاقاتها سنوات عديدة في المراحل التالية، وأن سنوات العمر لا تملك قيمة واحدة في مراحل العمر جميعها، وأنها في مرحلة الطفولة أغنى وأحفل بالإمكانات وأقدر على التأثر والتكيف.
4– وفوق هذا وقبل هذا، كثيراً ما تكون مرحلة التعليم الإلزامي خاتمة مطاف التعليم لدى الكثير من أفراد المجتمع، في مثل بلادنا. فنسبة المسجلين في المرحلة الإعدادية في سورية، بالقياس إلى فئة السن المقابلة (12 – 14) سنة، كما تشير إحصاءات عام 970/971، لا تجاوز 47% (65% لدى الذكور و 27% لدى الإناث)( ).
ومعنى هذا أن أكثر من نصف الأطفال لا يجاوزون المرحلة الابتدائية، سواء أتموا هذه المرحلة أو غادروها قبل الأوان أو لم يدخلوها أصلاً. هذا إذا قصرنا التعليم الإلزامي على مرحلة التعليم الابتدائي. أما إذا اتجهنا – كما هي السياسة التربوية في سورية، وفي بعض البلدان العربية وفي معظم بلدان العالم – إلى مد مرحلة التعليم الإلزامي حتى نهاية المرحلة الإعدادية، فالمسألة تغدو أبرز وأخطر. ذلك أن نسبة المسجلين في المرحلة الثانوية في سورية بالقياس إلى فئة العمر المقابلة (15 – 17) كما تدل إحصاءات عام 1970/1971 أيضاً، لا تجاوز 24% (35% لدى الذكور و 12% لدى الإناث). ومعنى هذا أن ربع الأطفال فقط يتجاوزون مرحلة التعليم الإلزامي كما ينبغي أن تكون ومن تبقى منهم يقف تعليمهم عندها أو دونها.
وأياً كانت الحال، فمن الواضح أن نسبة كبيرة من الأطفال لا تحصل على أكثر من مرحلة التعليم الإلزامي وأن هذه النسبة الكبيرة في حاجة إلى تربية تستهدف أهداف التنمية وفي حاجة إلى أن تعد إعداداً يمكنها من ممارسة دورها الفعال في الإنتاج. وهذا يعني أن ترتبط التربية في مرحلة التعليم الإلزامي هذه بأهداف التنمية ارتباطاً وثيقاً وأن للتربية في هذه المرحلة آثارها الاقتصادية والاجتماعية الكبرى.
5– وأخيراً وليس آخراً، تكتسب مرحلة التعليم الإلزامي هذه وما قبلها شأناً خاصاً في التنمية الاقتصادية والاجتماعية إذا نظرنا إليها على أنها جزء من تربية أشمل، لا تتم فقط عبر مراحل التعليم الأخرى كما سبق أن ذكرنا بل تتم أيضاً وخاصة عن طريق مختلف أشكال التربية غير النظامية. فمن الهام – كما سنرى – ألا تتوقف تربية العديد من المواطنين عند حدود التعليم الإلزامي، وأن توفر للذين يغادرون هذا التعليم بعد نهايته أو قبلها أشكال مختلفة من متابعة الإعداد والتدريب. وهدف هذا الإعداد والتدريب ربط الذين يغادرون التعليم الإلزامي ربطاً أوثق بحاجات الإنتاج وحاجات سوق العمل، فضلاً عن متابعة إعدادهم الشخصي والاجتماعي والقومي. وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن تكون التربية في مرحلة التعليم الإلزامي نفسها تمهيداً لتلك التربية غير النظامية اللاحقة لها، وأن تأخذ بعين الاعتبار، في مناهجها وطرائقها، المضمون العملي والمهني والفني والاجتماعي الذي تستلزمه متابعة إعداد الذين يغادرونها. أي لا بد لها أن ترتبط بدورها بأهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي سترتبط بها من بعد أشكال التدريب اللاحق الذي سيقدم للكثرة الكاثرة من الأطفال والمراهقين الذي يتركون مرحلة التعلم الإلزامي عند خاتمتها أو قبلها.
(ثالثاً) أمهات مشكلات التربية في مرحلة التعليم الابتدائي في سورية:
وإذا كان لمرحلة التعليم الإلزامي وما قبلها هذا الدور البارز في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فلزام علينا أن نسأل عن حالة التربية في هذه المرحلة في سورية وعن أمهات المشكلات التي تعاني منها.
وسنقصر حديثنا في البداية على مشكلات التعليم الابتدائي، تاركين إلى حين مشكلات التعليم السابق عليه، فضلاً عن مشكلات التعليم الإعدادي فيما لو امتدت مرحلة الإلزام فشملته.
ولن نتيه في شعاب المشكلات المتعددة والمتناثرة التي يعاني منها التعليم الابتدائي في سورية وقد كفانا مؤونة ذلك المشرفون على هذا المؤتمر وما قدموه من تقارير هامة مفصلة.
وحسبنا في حدود أغراض هذه الكلمة – أن نلم المشكلات كلها في مشكلات ثلاث رئيسة، تتحلق حولها سائر المشكلات في نظرنا:
أولها تتصل بمعدلات الالتحاق بالتعليم الابتدائي ويعجز هذا التعليم حتى الآن عن استيعاب جميع الأطفال الذين هم في سنه.
وثانيها تتصل بضعف الكفاية الداخلية لنظام التعليم الابتدائي وبما نجده فيه من هدر ناجم عن التسرب والرسوب.
وثالثها تتصل بضعف الكفاية الخارجية لنظام التعليم الابتدائي وبضعف الارتباط بين محتواه وطرائقه وبين حاجات المجتمع وحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ولنتحدث بإيجاز عن هذه المشكلات الثلاث، مدركين دوماً وأبداً أنها متآخذة ومترابطة إلى حد بعيد، وأن كلا منها يترك أثراً في الآخر:
أولاً – معدلات الالتحاق بالتعليم الابتدائي:
لا شك أن تعميم التعليم الابتدائي – بل تعميم التعليم الإلزامي حتى نهاية المرحلة
الإعدادية – مطلب أساسي من مطالب ديمقراطية التعليم ومن مطالب التنمية في بلداننا. وقد حققت سورية توسعاً كبيراً ومتسارعاً في التعليم الابتدائي دون شك، لا سيما منذ الستينات حتى الآن. وحسبنا أن نذكر في هذا المجال أن عدد الطلاب في التعليم الابتدائي قد زاد من
(483 ألف طالب عام 960/961 إلى (مليون ومائة ألف طالب) عام 72/73، أي بمقدار يفوق الضعف قليلاً. وهي زيادة تبدو كبيرة.
ومع ذلك إذا دققنا في الأرقام وحاولنا أن نجلو الصورة، بدت لنا الأمور على نحو مختلف. فإذا نحن اقتصرنا على الطلاب الذين يرتادون المدارس ممن هم في سن التعليم الابتدائي فعلاً (أي بين السادسة والحادية عشرة من العمر) لوجدنا أن نسبة الزيادة في أعدادهم بين عام 960 وعام 970 لم تجاوز في الجملة 59%، في حين أن الزيادة في عدد الأطفال الذين هم في سن التعليم الابتدائي والذي ينبغي أن يرتادوا المدارس من حيث المبدأ قد بلغت الضعف تقريباً في المناطق الحضرية (مقابل 41% في المناطق الريفية)( ). ومعنى هذا أن الزيادة في أعداد الطلاب الذين هم في سن التعليم الابتدائي كانت مقصرة عن الزيادة السكانية. وتتضح الصورة أكثر إذا نظرنا في معدل الاستيعاب في المرحلة الابتدائية عام 970/1971 أي في نسبة عدد الطلاب الذين في المدارس ممن هم في سن التعليم الابتدائي إلى مجموع عدد الأطفال الذين هم في سن التعليم الابتدائي. إن هذه النسبة قد بلغت في ذلك العام 74% في الجملة (88% لدى الذكور و58% لدى الإناث)( ) أي أن حوالي 26% من الأطفال ظلوا خارج التعليم الابتدائي في ذلك العام.
وأهم من نسبة الاستيعاب هذه نسبة المسجلين الجدد في الصف الأول الابتدائي ممن هم في عمر ذلك الصف إلى مجموع الأطفال الذين هم في سن ذلك الصف (أي إلى من هم في سن السادسة من العمر). فهذه النسبة هي التي تشير في النهاية إلى مدى اقتراب نظام التعليم من تعميم الابتدائي. والإحصاءات في هذا المجال ما تزال ناقصة غير أن بعضها يشير إلى أن هذه النسبة قد بلغت 84% عام 970/971 (96% لدى الذكور و 71% لدى الإناث) وهي نسبة عالية في الجملة، لا سيما لدى الذكور. غير أن الإحصاءات التي نشير إليها قد أدخلت ضمن عدد طلاب الصف الأول الذين هم في السادسة من العمر طلاب ذلك الصف الذين يبلغون السابعة والثامنة من العمر أيضاً( ).
وإذا كان معدل الاستيعاب في التعليم الابتدائي في مجموع القطر معدلاً مرتفعاً بعض الشيء إذا نظرنا في مجموع الطلاب، فإن هذا المعدل غير موزع توزيعاً عادلاً بين محافظات القطر، وهو بشكل خاص أضعف في الريف منه في المدن، وأضعف لدى الإناث منه لدى الذكور.
ولا نملك في هذا المجال إحصاءات دقيقة عن معدلات الاستيعاب في كل من الريف والحضر غير أن الإحصاءات الخاصة بالذكور والإناث تشير كما سبق أن ذكرنا إلى أن معدل استيعابهن في جملة التعلم الابتدائي لا تجاوز 58% عام 972/973 (مقابل 88% لدى الذكور) وإلى نسبة المسجلات الجدد منهن في الصف الأول الابتدائي إلى من هن في السادسة من العمر (مبدئياً) لا تجاوز 71% (مقابل 96% لدى الذكور).
كذلك تشير الأرقام المطلقة إلى أن مجموع عدد الطالبات في التعليم الابتدائي عام 972/973 قد بلغ (423014) طالبة (مقابل 679638 طالباً) أي أن نسبتهن إلى الطلاب تبلغ 60% تقريباً وأن نسبتهن إلى مجموع الطلاب والطالبات تبلغ 38% تقريباً.
وفي وسعنا – فيما يتصل بتوزع معدلات الاستيعاب بين محافظات القطر – أن نكون فكرة تقريبية، إذا نظرنا في نسبة الطلاب في التعليم الابتدائي إلى كل ألف من السكان، تبعاً لمحافظات البلد المختلفة:
وتشير دراسة قامت بها مديرية التخطيط( ) في هذا المجال، إلى أن كل ألف من السكان في مدينة دمشق مثلاً يقابلهم (200) طالب في التعليم الابتدائي، بينما يقابل الألف من السكان في مجمل القطر (147) طالباً في التعليم الابتدائي وبينما يقابل الألف في محافظة كالرقة (81) طالباً فقط وفي محافظة كالحسكة (99) طالباً فقط وفي محافظة كدير الزور (109) طلاب، وفي محافظة حلب التي تضم نسبة كبيرة من المناطق الريفية (128) طالباً، بل في محافظة دمشق نفسها (لا في مدينة دمشق) (134) طالباً، وذلك كله عام 970/1971
ومعنى هذا أن هنالك تبايناً واسعاً في الخدمات التعليمية بني محافظات القطر، وإن هذه الخدمات مقصرة في الجملة في المحافظات التي يغلب عليها الطابع الريفي.
وفي الجملة نستطيع أن نقول أن التعليم الابتدائي في سوريا ما يزال بعيداً عن أن يستوعب جميع الأطفال الذين هم في سنه، وإن توزعه بين المحافظات غير متكافئ وإن انتشاره في الأرياف دون انتشاره في المدن وأن الإناث فيه دون الذكور.
وهذا يعني خاصة أن تبذل جهود خاصة في السنوات المقبلة لنشر التعليم الابتدائي في الأرياف ولدى الإناث بوجه خاص، فضلاً عن التوسع فيه جملة. كما يعني أموراً أخرى سنعود إلهيا فيما بعد عند النظر في الأسباب وفي الحلول.
2 – ضعف الكفاية الداخلية لنظام التعليم الابتدائي:
على أن الهام في أي نظام تعليمي ليس عدد الذين يدخلون إليه أو يوجدون فيه، أي مقدار المدخلات كما يقال (inputs)، بل عدد الذين يتخرجون منه عند نهايته (أي مقدار المخرجات Outputs). وعدد المخرجات أو المتخرجين هام في مراحل التعليم جميعها غير أنه في التعليم الابتدائي أهم. ذلكم أن ترك التعليم الابتدائي قبل نهايته يعني لدى الكثرة الكاثرة من أبناء الأرياف خاصة ومن الذين ينتسبون إلى بيئات جاهلة أو أمية عامة، أن ينسى هؤلاء ما تعلموه وأن يعودوا إلى الأمية من جديد وأن تذهب الأموال التي أنفقت على تعليمهم هدراً وليست لدينا أرقام دقيقة عن نسبة المخرجات إلى المدخلات Input – Output – Ratio في سورية، كما لا نملك مثل هذه الأرقام الدقيقة عن نسب كل من التسرب (أي ترك المدرسة قبل نهايتها) والرسوب، وهما اللذان يمثلان الهدر في النظام التعليمي عادة. غير أن الكثير من القرائن تشير إلى أن نسب التسرب مرتفعة في الأرياف ولدى الإناث.
وفي وسعنا أن نكوّن صورة تقريبية غير دقيقة وغير علمية عن مبلغ الكفاية الداخلية لنظام التعليم الابتدائي في سورية، وذلك بالنظر في عدد طلاب الصف السادس الابتدائي بالقياس إلى عدد طلاب الصف الأول الابتدائي.
وههنا تشير إحصاءات عام 72/973 إلى أن عدد طلاب الصف السادس الابتدائي قد بلغ في ذلك العام (119324) طالباً بينما بلغ عدد طلاب الصف الأول الابتدائي في العام نفسه (251246) طالباً. والبون كبير بين الرقمين، وإن تكن المقارنة بينهما غير مفصحة عن حقيقة التسرب والرسوب، إذ تتطلب الدراسة العلمية، كما نعلم، أن ندرس فوجاً واحداً من الطلاب بدءاً من الصف الأول الابتدائي حتى نهاية الصف السادس.
وفي وسعنا أن نكوّن صورة تقريبية (وإن لم تكن هي الصورة العلمية الكاملة) عن هذا التسرب والرسوب، إذا قارنا بين أعداد الطلاب في الصف السادس الابتدائي عام 1972/1973 (وهو 119324) وبين أعدادهم في الصف الأول الابتدائي قبل ست سنوات أي عام 1967/1968 (وهو 144296)( ) ومن ذلك يستبين لنا أن المعدل التقريبي للتسرب والرسوب بالنسبة إلى تلك الفترة هو (17.5%).
على أننا نعتقد أن من الممكن أن نكوّن صورة غير مباشرة عن مقدار الكفاية الداخلية لنظام التعليم الابتدائي في سورية وعن مقدار التقدم الفعلي لهذا النظام جملة، إذا أخذنا ببعض القرائن البعيدة. وههنا نرى أن النظر في تطور نسبة حملة الشهادات الابتدائية (أو من أنهوا مرحلة التعليم الابتدائي) إلى مجموع السكان قرينة هامة ومفيدة. ولعلها تفصح أكثر من أي شيء آخر عن مقدار التطور الحقيقي الذي حصل في نظام التعليم الابتدائي وعن مردوده الواقعي لا الرقمي النظري. فأهم محصلة عملية واقعية لانتشار التعليم الابتدائي في بلد من البلدان هي تزايد عدد حملة الشهادات الابتدائية (أو عدد من أنهوا الدارسة الابتدائية).
وتبين الإحصاءات في هذا المجال، أن نسبة الذين هم في مستوى الشهادة الابتدائية على الأقل إلى مجموع السكان بلغت 30% عام 1960/961 وارتفعت إلى 42%عام 970/972( ) كذلك تبين الحسابات التي استخرجناها من نتائج التعداد العام للسكان (1970)( ) أن بين السكان الذين تجاوزوا العاشرة من العمر (849896) من مستوى الشهادة الابتدائية أو أكثر من أصل (4039462) شخصاً أي بنسبة قدرها (21%) تقريباً( ). أما إذا نسبنا هذا العدد الأخير إلى مجموع السكان أي (6304685) فالنسبة عند ذلك لا تجاوز (13%) تقريباً وهذه النسبة الأخيرة ذات دلالة واضحة، إذ تبين أن حصيلة التعليم الابتدائي خلال عمره كله في سورية، أدت إلى تزويد 13% فقط من السكان بمستوى يعادل التعليم الابتدائي على الأقل حتى 1970.
ولعل النسب التقديرية للتسرب تستبين أكثر إذا نظرنا بعد هذا في نسب الملمين بالقراءة والكتابة، إذ من المفترض أن يكون الكثير منهم من الذين غادروا المدرسة الابتدائية قبل نهايتها.
وههنا نجد أن عدد هؤلاء عام (1970) لدى السكان فوق العاشرة من العمر بلغ (1030701) شخصاً، أي أن نسبتهم إلى مجموع السكان الذين فوق العاشرة تبلغ (25%) تقريباً أي ربع السكان فوق العاشرة. ولا شك أن هذه النسبة – وإن كانت لا تدل على نسبة الذين يغادرون المدرسة الابتدائية قبل نهايتها – فإنها تشير بشكل مباشر إلى أن عدداً كبيراً من الطلاب يغادرون المدرسة الابتدائية قبل خاتمتها.
ومهما يكن من أمر – وفي انتظار دراسات أدق نرجو أن تقوم بها مديرية التخطيط – يظل من الصحيح أن نقول في الجملة – استناداً إلى القرائن المباشرة وغير المباشرة – أن نسب التسرب في نظام التعليم الابتدائي في سورية نسب مرتفعة، شأنها في ذلك شأن معظم البلدان السائرة في طريق النمو. كما يظل من الصحيح أن نقول أن نسب التسرب هذه أعلى في الأرياف منها في المدن وأعلى لدى الإناث منها لدى الذكور. وإذا أضفنا إلى نسب التسرب نسب الرسوب – وهي مرتفعة أيضاً في سورية في التعليم الابتدائي( ) – أمكننا القول إن الكفاية الداخلية لنظام التعليم الابتدائي في سورية في حاجة إلى فضل من عناية، وأن جهوداً خاصة ينبغي أن تبذل، للقضاء على الهدر الناجم عن ضعف هذه الكفاية. والهام أن يقرّ في الأذهان دوماً أن من غير الجائز الاكتفاء بالنظر في تزايد أعداد الطلاب الإجمالية في التعليم الابتدائي، ولا بد من النظر أولاً وخاصة في تزايد نسب الخريجين بالقياس إلى نسب الداخلين. فليست العبرة فيمن يدخل نظام التعليم الابتدائي بل العبرة فيمن يبقى فيه ويتابعه حتى النهاية.
3 – ضعف الكفاية الخارجية لنظام التعليم الابتدائي:
على أن مسألة المسائل هي ضعف الكفاية الخارجية لنظام التعليم الابتدائي. فلا يجدي
– كما ذكرنا منذ بداية هذه الكلمة – أن نستوعب عدداً أكبر من الطلاب في هذا التعليم، كما
لا يجدي أن نبقي أكبر عدد منهم داخل هذا النظام ونحول دون تسربهم، إذا لم يكن محتوى التعليم الذي نقدمه لهم هو المحتوى الملائم لحاجات المجتمع ولضرورات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وقد نجهد ونجهد ونضم إلى نظام التعليم الآلاف الغفيرة ممن ينبغي أن يشملهم دون أن نقدم للمجتمع ولأهداف التنمية فيه خدمة تذكر، بل قد ينصرف جهدنا وعطاؤنا إلى عكس أغراض التنمية المرجوة.
من هنا كان جوهر الأمر تجديد محتوى التعليم الابتدائي وطرائقه وكل ما فيه، بحيث يقوى على أن يقدم للمجتمع خريجين يملكون مستوى من الإعداد والتدريب يلائم حاجات التقدم الاقتصادي والاجتماعي فيه. وهذا المطلب دون شك رأس المطالب، ودونه نصب وعرق، ولمثله يجب أن تجند عقول المنظرين والمربين.
ولن نتحدث الآن عن أساليب تحقيق هذا المطلب، مرجئين ذلك حتى حديثنا عن الحلول التي نراها لمشكلات التعليم الابتدائي. وهدفنا الآن أن نشير إليه كمشكلة قائمة.
ولا شك أن أبرز مظهر من مظاهر ضعف الكفاية الخارجية هذه لنظام التعليم الابتدائي في سورية ضعف كفايته الداخلية على نحو ما أشرنا منذ حين. ولقد سبق أن استدركنا فقلنا إن المشكلات الثلاث الكبرى التي يشكو منها التعليم الابتدائي متآخذة متكاملة. وأشدها تآخذاً الترابط القائم بين ضعف الكفاية الخارجية وبين ضعف الكفاية الداخلية. فأحد أسباب ضعف الكفاية الداخلية لنظام التعليم هو ضعف محتواه وطرائقه وأساليبه، أي ضعف كفايته الخارجية في النهاية. والتسرب والرسوب أعراض تشير إلى مرض النظام التعليمي وفساد بنيته. والقضاء عليهما لا يكون إلا عن طريق إعادة النظر في بنية التعليم وفي محتواه وفي طرائقه، وإلا عن طريق الربط بين طراز التعليم وبين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في بيئات البلد المختلفة.
ولضعف الكفاية الخارجية للتعليم الابتدائي في سورية – كما في كثير غيرها من البلدان العربية والسائرة في طريق النمو – أعراض لا بد من الإشارة إلى بعضها:
1– يجمع هذه الأعراض ويلخصها ضعف المستوى الثقافي لخريجي المدرسة الابتدائية، وهو ضعف أخذ ينعكس – بعد إلغاء امتحان الشهادة الابتدائية – في نتائج امتحانات الشهادة الإعدادية وهي نتائج تشير في السنوات الأخيرة إلى وجود مشكلات جدية في مستوى التعليم الإعدادي وفي مستوى التعليم الابتدائي من قبله.
2– من هذه الأعراض ارتفاع كثافة الصفوف في التعليم الابتدائي في كثير من مناطق القطر ولاسيما في المدن. ولئن كانت كثافة الصف ليست مقياساً يدل دوماً على مدى جودة التعليم لاسيما حين يعوّض عن ارتفاع الكثافة باتباع أساليب حديثة، فإن تزايد الكثافة في النظم التي ما تزال تقليدية دليل هام من دلائل هبوط مستوى التعليم. ولا حاجة ههنا إلى ذكر الأرقام. وحسبنا أن نشير عابرين إلى أن نصيب المعلم من التلاميذ في المرحلة الابتدائية الرسمية يبلغ في المتوسط حوالي (39) عام 972/973، وأن هذا النصيب يرتفع في بعض محافظات القطر فيصل إلى حوالي (42) في مثل محافظة الحسكة( ). بينما نجد أن نصيب المعلم من التلاميذ في المرحلة الابتدائية لا يجاوز (25) في معظم البلدان المتقدمة.
أما كثافة الشعبة فيبلغ متوسطها حوالي (42) طالباً للشعبة الواحدة في جملة القطر وتصل إلى حوالي (45) طالباً في محافظة الحسكة وترتفع في مراكز المحافظات عامة حتى يبلغ متوسطها في مدينة الرقة أو مدينة دير الزور أو مدينة اللاذقية أو مدينة إدلب أو مدينة الحسكة أو مدينة درعا أو مدينة طرطوس حوالي (48) طالباً.
وهذه الكثافة العالية في الصفوف نجدها رغم انتشار نظام الدوام النصفي في كثير من المدارس الابتدائية (1501 مدرسة من مجموع 6218 مدرسة عام 972/973( ).
على أن ما هو أكثر دلالة على مستوى التعليم من نصيب المعلم الواحد من التلاميذ ومن كثافة الشعبة الواحدة، نصيب الشعبة الواحدة من المعلمين فهو يبلغ (0.70) معلماً لكل شعبة عام 972/973، بينما يصل في الدول المتقدمة إلى (1.2) معلماً لكل شعبة( ).
3– وأوضح قرائن ضعف مستوى التعليم الابتدائي – وبالتالي ضعف كفايته الخارجية – ضعف مستوى تأهيل المعلمين. وإذا نحن اقتصرنا في هذا المجال على المظاهر الخارجية الواضحة لهذا الضعف في المستوى لدى المعلمين ولم نشأ أن ننفذ إلى ما هو أعمق أي إلى ما يتصل بأساليب إعدادهم، كفانا أن نشير إلى النقص في عدد المعلمين المؤهلين وإلى وجود عدد كبير من المعلمين غير المؤهلين والمعلمين الوكلاء.
وتشير الدراسات ههنا( ) إلى أن عدد المعلمين الأصلاء والوكلاء القائمين على العمل في التعليم الابتدائي الرسمي في سورية عام 970/971 بلغ (23298) معلماً وأن عدد المؤهلين بينهم (14682) معلماً فقط وأن عدد الأصلاء غير المؤهلين (1575) معلماً وأن عدد الوكلاء (7041) معلماً. ومعنى هذا أن نسبة غير المؤهلين من وكلاء وأصلاء إلى مجموع المعلمين هي (36.7%) وأن نسبة المعلمين الوكلاء إلى مجموع المعلمين (30%)( ) وهي نسب كما نرى مرتفعة جداً وغير مقبولة. وهي نسب ترتفع في الأرياف عنها في المدن.
يضاف إلى هذا أن (15%) من المعلمين الأصلاء يعملون خارج ملاك التعليم الابتدائي وأن نسبة كبيرة منهم تنقطع عن العمل مؤقتاً أو نهائياً لأسباب طوعية أو غير طوعية (حوالي 24%) من مجموع المعلمين عام 1972( ). ثم أن حوالي ثلث المعلمين في التعليم الابتدائي يتسربون سنوياً منه أو ينقطعون عنه طوعاً (29.2% عام 1972، و 31.4% عام 1973) وحوالي (15%) منهم ينسحبون انسحاباً غير طوعي (بسبب خدمة العلم) (16.85% عام 1972 و14.6% عام 1973)( ).
4– ومن مظاهر ضعف مستوى التعليم الابتدائي – وبالتالي كفايته الخارجية – وجود عدد كبير من المدارس ذات المعلم الوحيد. ولئن كانت المدرسة ذات المعلم الوحيد حلاً ملائماً في كثير من الأحيان ولا سيما في المناطق النائية وحين لا يتوافر عدد كاف من الطلاب في المدرسة الواحدة، فإن مثل هذا الحلّ الذي يقضي على الضعف المفرط في كثافة الصفوف في بعض المناطق النائية، ويخفض بالتالي كلفة التعليم وعدد المعلمين لا يستقيم إلا إذا صحبته طرق تربوية خاصة ومناهج خاصة. أما حين يتم في إطار التعليم التقليدي، ووسائل التعليم المألوفة، وحين لا يصحبه إعداد خاص يلائم المعلم الوحيد، فكثيراً ما يكون عاملاً من عوامل تدني المستوى التعليمي.
وههنا تشير الإحصاءات إلى أن هذا الطراز من التعليم منتشر على نطاق واسع في القطر العربي السوري وفي إطار الأساليب التقليدية غالباً.
* * *
هذه بعض أعراض ضعف الكفاية الداخلية لنظام التعليم الابتدائي في سورية. ولا شك أن هنالك أعراضاً أخرى ملحقة بهذه الأعراض أو مستقلة عنها، لم نشر إليها، إذ لم يكن قصدنا العرض الشامل لمظاهر هذه المشكلة، بمقدار ما كان قصدنا تأكيد وجودها. من هذه الأعراض، على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، عدم صلاح كثير من الأبنية المدرسية، ونقص الوسائل التعليمية المعينة والتجهيزات، وضعف الخدمات المدرسية المساعدة، وغيرها. على أن هذه الأعراض جميعها – ما ذكر منها ولما لم نذكر – يلخصها ويجملها في نظرنا عرض أساسي كبير، هو ضعف الارتباط بين التعليم الابتدائي وبين حاجات المجتمع من حوله. ذلكم أن عرض الأعراض عندنا ذلك الانفصام بين المدرسة الابتدائية وبين البيئة من حولها، سواء أثناء مرحلة الدراسة أو بعد التخرج منها. فالمدرسة الابتدائية ما تزال إلى حدّ بعيد عالماً قائماً بذاته، وما تزال أهدافها في ذاتها لا في البيئة من حولها. وكل شيء فيها يتحلق في النهاية حول ما فيها من مناهج وكتب وامتحانات، وجدت كلها بحكم الزمن والاستمرار وبحكم النظرة التقليدية إلى المدرسة ولم توجد استناداً إلى دراسة موضوعية عملية لما يحتاج إليه الطفل في هذه المرحلة خلال تعامله مع بيئته من معارف ومهارات واتجاهات. بل لا نغلو إذا قلنا أن المدرسة الابتدائية كما عرفتها بلادنا العربية منذ سنوات طويلة، قالب مجلوب فرض على تدريب الأطفال عندنا، وانتقل إلينا من البلدان المتقدمة التي أخذت به بعد الثورة الصناعية الأولى خاصة، والتي بدأت هي نفسه تعيد النظر فيه أصلاً.

(رابعاً) مشكلة المشكلات في التعليم الابتدائي:
هذه الملاحظة الأخيرة تنقلنا إلى ما يمكن أن نعتبره مشكلة المشكلات في التعليم الابتدائي وتكاد تضعنا إلى حد ما على طريق الحلّ المنشود لواقع هذا التعليم.
فما ذكرنا من مشكلات حتى الآن، سواء اتصل بضعف الاستيعاب أو بضعف الكفاية الداخلية أو بضعف الكفاية الخارجية للتعليم الابتدائي، يكاد يرجع إلى مشكلة أمّ كبرى، وهي أننا استمسكنا بصيغة للتعليم الابتدائي مقننة جامدة، لم نحاول تجاوزها أو التفكير في تعديلها وفق ظروف مجتمعنا وبيئتنا وحاجاتنا. فالتعليم الابتدائي في أوهامنا لا بد أن يتم عبر سنوات التعليم التقليدية وحدها، ولا بد أن نقدمه للأطفال في سن معينة، ولا بد أن يكون قوامه حجرة الصف والمعلم والكتاب.
ولم يخطر لنا ببال منذ سنوات بعيدة أن نسائل عن مدى صلاح هذا الإطار التعليمي نفسه. لم يخطر لنا أن نسائل: هل هذا الطراز من الإعداد هو أفضل شكل لإعداد مواطنينا للحياة وأمثل أسلوب لتربيتهم تربية تزودهم بما يحتاجون إليه في مجتمعهم وبيئتهم؟ أو لم يَأْنِ لنا أن نجعل هدف التربية – سواء في هذه المرحلة أو سواها – هو تقديم التعليم والتدريب الملائم للبيئة ولحاجات المجتمع أيّاً كان شكله وأيّاً كان موضعه وأنىّ تمّ تقديمه؟ أو لم ندرك أن الهدف هو تقديم المهارات والمعارف والمواقف اللازمة للوطن، مهما يكن الوعاء الذي خرجت منه، ومهما تكن سبل الوصول إلى ذلك؟ أو لم يستبن لنا بعد أن ثمة أشكالاً عديدة، لا شكلاً واحداً ووحيداً لتقديم التعليم والتدريب اللازمين للفرد، وأن هذه الأشكال لا بدّ أن تتلون بلون المجتمع وبلون البيئة وأن تلبس لبوسهما؟
ولكي لا نسترسل في هذه النداءات التي قد تبدو غامضة وعامة، لنحاول أن نضع النقاط على الحروف وأن نحدد بعض أوجه المنطلق الجديد الذي ندعو إليه:
1– للتربية على نحو ما نعرفها حتى الآن – حتى في إطارها التقليدي – أشكال ثلاثة متآخذة
لا نعنى في الواقع إلا بشكل واحد منها.
فهنالك التربية التي يمكن أن نسميها نظامية والتي تتم عبر مراحل الدراسة المألوفة المعروفة والتي تجري في التعليم الابتدائي عن طريق دخول الطلاب إلى المدرسة في سن معينة وبقائهم فيها سنوات ستاً أو أكثر. وهذا الشكل الأول للتربية هو الذي تعنى به عادة نظمنا التربوية وقلما تتنبه إلى غيره.
وهنالك إلى جانب التربية النظامية هذه، التربية التي يمكن أن ندعوها بالتربية غير النظامية ونعني بها كلّ ما يكتسبه الفرد بشكل غير منظم من مواقف وقيم ومهارات ومعارف تأتيه من تجاربه اليومية ومن أسرته ومن محيطه ومن مهنته ومن وسائل البث الجماعية وسواها.
وهذا الشكل من التربية – على أهميته ولا سيما في عصرنا، عصر وسائل البث الجماعية، وعلى كونه أعظم أثراً في تكوين الأفراد من التربية النظامية نفسها – قلما نعنى به، ونتركه غالباً وشأنه.
وإلى جانب هذين الشكلين من التربية يقوم شكل ثالث لعله في منزلة بين المنزلتين، يمكن أن ندعوه باسم التربية شبه النظامية. ونعني به أي شكل من أشكال النشاط التربوي التي نقيمها خارج إطار التربية النظامية، من مثل مراكز التدريب أو مؤسسات مكافحة الأمية، أو منظمات الكشافة، أو نوادي المزارعين، أو الجمعيات الثقافية أو الرياضية أو سواها.
وهذا الشكل الثالث من الإعداد لا نعيره أيضاً الأهمية اللازمة، ونجعله في منزلة دون منزلة التعليم النظامي بكثير.
ولا شك أن أول شيء ينبغي أن تفكر فيه خطة تربوية سليمة أن تجعل هذه الأشكال المختلفة من التربية أجزاء متكاملة من عملية تدريب وتعليم شاملة، وأن تسعف أحدها بالآخر، وتؤيد كلاً منها بأترابه، وأن تصل عن هذا الطريق في النهاية إلى إقامة نظام تعليمي مستمر طوال الحياة بأشكال مختلفة وصور مختلفة.
2– وإذا أردنا أن نبقى في نطاق التعليم الابتدائي وحده، حقّ لنا – حتى في إطار النظام التقليدي نفسه – أن نفكر في أولئك الفتية الذين فاتهم قطار التعليم الابتدائي وأن نقدم لهم شكلاً ملائماً من أشكال الإعداد والتدريب. ومن عجيب الأمر أننا لا نكتفي بأن نبعد نسبة كبيرة من الطلاب كل عام عن دخول المدرسة الابتدائية، بل نترك هؤلاء المبعدين وشأنهم بعد ذلك، بينما نصب جهودنا على أولئك الذين دخلوا المدرسة ونحاول أن نوفر لهم مستويات أعلى من التعليم والتدريب. ولا ننسى أن هؤلاء المبعدين يؤلفون عدداً كبيراً من الأطفال في بلادنا، وأن أعباء الإنتاج تقع في النهاية على عاتقهم أولاً.
أوليس من الممكن والواجب أن نقدم لهؤلاء المبعدين، إن لم نقل “المنبوذين” شكلاً من أشكال التربية، ليس بالضرورة شبيهاً بالتعليم الابتدائي ولا هو تقليد له في عدد سنوات الدراسة ومضمونها، وأن نجعل منهم عناصر صالحة لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية؟ ومن حسن الطالع أن مديرية التعليم الإلزامي في وزارة التربية بالجمهورية العربية السورية قد انتبهت في السنوات الأخيرة إلى جانب من هذه المشكلة وأخذت في دراستها وتهيئة الظروف اللازمة لحلها. ولا شك أن الأمر يحتاج إلى نظرة أشمل، وإلى ربط هذه المحاولة بسياسة تربوية أكمل وأعم.
3– وأولئك الذين يغادرون التعليم الابتدائي إلى الحياة، وهم كثرة، أو ليس من الممكن والواجب أن نقدم لهم من أشكال التدريب والإعداد ما يجعلهم أكثر ارتباطاً بحاجات الإنتاج وبمستلزمات التنمية وما يخلق منهم أفراداً فعالين مبدعين قادرين على تغيير البيئة من حولهم وتجديدها؟
إن عدد الذي يغادرون المدرسة الابتدائية إلى الحياة، عدد كبير في بلادنا. ولا أدلّ على ذلك من أن الذين يدخلون مرحلة التعليم الإعدادي – كما سبق أن ذكرنا – لا تجاوز نسبتهم إلى عدد الأطفال الذين هم في سن هذه المرحلة (47%) (عام 1970/1971).
ومعنى هذا أن أكثر من نصف الأطفال الذين هم في سن التعليم الإعدادي لا يدخلون هذا التعليم، سواءً منهم من أكمل المرحلة الابتدائية أو من تسرب منها عبر الطريق أو من لم يدخلها أصلاً. وهذا العدد الكبير قلما نفكر فيه، وهو أحوج أفراد المجتمع إلى التدريب الذي يجعل منه أداة صالحة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وههنا أيضاً لا بد من التفكير في أشكال من الإعداد والتدريب غير تقليدية، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحاجات تتم في مواقع الإنتاج نفسها ما أمكن ذلك، وتجري بعون مؤسسات الإنتاج نفسها.
ولا أدل على عمق المشكلة من هذه الزاوية من أن ننظر في المستوى التعليمي لأفراد القوة العاملة في بلادنا.
وههنا تبين الدراسات أن نسبة الأفراد الداخلين في قوة العمل لا تجاوز (21%) من مجموع السكان (كما يدل تعداد عام 1970) ولا تتعدى (395) من مجموع السكان الذين فوق العاشرة من العمر. وهؤلاء القلة من الأفراد العاملين نصفهم تقريباً أميون و(13%) منهم في مستوى الشهادة الابتدائية و(33%) منهم ملمون بالقراءة والكتابة و(56%) منهم في مستوى الشهادة الإعدادية والثانوية و(3%) في مستوى التعليم العالي( ).
وبدهي، عندما يكون عدد أفراد القوى العاملة قليلاً وعندما يكون مستواهم التعليمي في مثل هذا الضعف، أن يكون نتاجهم الاقتصادي والاجتماعي هزيلاً وأن تكون مشروعات التنمية في مأزق.
4– وأخيراً لا آخراً، أولئك الذين يسعدهم الحظ في دخول التعليم الابتدائي وفي البقاء به حتى نهايته، ما هي طبيعة الإعداد الذي نقدمه لهم وما مدى ارتباطه بحاجات التنمية؟ ما مدى ارتباطه خاصة بحاجات التنمية في الريف، والتنمية في الريف رأس منطلقات التنمية في بلادنا؟ وماذا يقدم هذا التعليم الابتدائي لأبنائه من تمّرس بروح العلم والتكنولوجيا وأدواتهما، وماذا يكوّن لديهم من الاتجاهات والمواقف الملائمة لعصر الثورة العلمية والتكنولوجية؟ وهل تعمل المدرسة على تعميق ارتباطهم بالإنتاج والمنتجين أم تعمل على العكس على أن تخلق منهم طبقة تعلو على المنتجين وتتأبى على الإنتاج؟
(خامساً) نحو إطار تعليمي جديد ووظيفي:
هذه كلها أمثلة تضعنا على طريق الحلّ كما نراه. والحلّ – كما نراه – هو في محاولة الخروج من الصيغة التقليدية، والتفكير في إطار تعليمي جديد وأكثر مرونة وأكثر وظيفية. ومنطلق هذا الحل أننا نود في النهاية أن نقدم لأفراد المجتمع تعليماً أساسياً يحقق أغراضاً معينة مرتبطة بأهداف المجتمع.
ومن هنا كان علينا بادئ ذي بدء أن نجلو هذه الأغراض وأن نحددها تحديداً عملياً وظيفياً. بتعبير آخر، علينا أن نبدأ بتحديد الحد الأدنى من الحاجات التعليمية اللازمة لأفراد مجتمع معين وأن نجعل منها هدف التعليم الابتدائي في مناهجه وطرائقه وبنيته وكل ما فيه.
وتحديد هذه الحاجات له أصوله العلمية التي لا يتسع المجال للحديث عنها. وحسبنا أن نذكر على سبيل المثال بعض هذه الحاجات، مدركين أنها لا بدّ أن تتلون أخيراً بلون كل بيئة.
ولعل في وسعنا أن نردها إلى حاجات ست:
1– اكتساب مواقف إيجابية تتصل بالتعاون والتضامن مع أفراد المجتمع الآخرين.
2– الوصول إلى مستوى وظيفي في القراءة والكتابة والحساب، لا مجال إلى تحديده هنا. غير أن الهام أن يحدد تحديداً وظيفياً يرتبط بحاجات الفرد العملية في هذا المجال.
3– امتلاك نظرة علمية إلى ظواهر الطبيعة وفهمها فهماً أولياً.
4– امتلاك معرفة ومهارة وظيفية حول بناء الأسرة ورعايتها والإشراف على شؤونها.
5– امتلاك المعرفة والمهارة اللازمتين لكسب العيش.
6– امتلاك المعرفة والمهارة اللازمتين للإسهام الفعال في الشؤون الوطنية والقومية.
وبعد تحديد حاجات التعليم وتفصيلها، يمكن البحث عن تلبية هذه الحاجات بشكل من الأشكال بحيث نوفرها للفتيات والفتيان قبل أن يضطلعوا بمسؤوليات سن الرشد. وفي هذا الإطار ليس من الضروري أن نستمسك بشكل واحد من أشكال الإعداد وأن نجمد عنده، بل لا بدّ أن نفكر بمختلف الأساليب التي تمكننا من بلوغ هذا الهدف، بصرف النظر عن إطار التعليم أو عمر المتعلم أو مكان التعلم.
بل لا بد في هذا الإطار أن نتجاوز ميدان التعليم إلى الميادين الأخرى، وأن ندرك أن التعليم وحده لا يستطيع أن يوفر هذا الإعداد، ولو اتخذ ألف شكل وشكل، وأن من الواجب أن تصبح خطة التعليم جزءاً لا يتجزأ من خطة عامة، تعنى بتنمية الريف خاصة، لأهميته في بلادنا كما تعنى بتوفير سائر الشروط الاجتماعية والصحية والاقتصادية والثقافية اللازمة لتنمية حياة المواطن في الريف والحضر. ذلكم أن التعليم – إذا لم يصحب بعوامل أخرى مكملة له – لا يستطيع وحده أن يضطلع بمهمة التنمية. ولا بد أن ننظر إلى التعليم نظرتنا إلى عامل واحد من جملة عوامل ضرورية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، يتكامل معها ويتأثر بها ويؤثر فيها.
ويتطلب هذا الإطار التعليمي الجديد الذي يتصف بالمرونة الوظيفية أن تتعدد أشكال العملية التعليمية وصورها – كما قلنا ونقول – وأن يسهم المجتمع كله في هذه المهمة.
وههنا نصل إلى منعطف هام في بحثنا لعله بيت القصيد فيه:
فعندنا أن التعليم عامة، والتعليم الابتدائي خاصة، لا يجوز أن يكون من شأن المدرسة وحدها بالمعنى المألوف لهذه الكلمة، بل لا بد أن يكون من شأن المجتمع كله، وأن يكون هدفنا في النهاية أن نخلق المجتمع المتعلم والمعلم في آن واحد. وإليكم تفصيل ما نعنيه:
1– لا بد أن نجعل عملية التربية عملية مستمرة طوال العمر، وأن ندرك أن التعليم النظامي ليس سوى جزء يسير من عملية تربوية أوسع تتم قبل دخول المدرسة وأثناء مرحلة الدراسة وبعد التخرج من المدرسة. فتعليم الفرد وتدريبه لا يتوقفان عند حد معين، ولا يعرفان عمراً معيناً، بل ينبغي أن يتما عبر سلسلة طويلة ومتعددة من أنواع الأعداد، يتم بعضها وقليلها في المدرسة التي ندعوها نظامية، ويتم جلها عن طريق وسائل الثقافة غير المباشرة المبثوثة في حياة المجتمع وعن طريق مراكز التدريب والدورات التجديدية وعن طريق الإعداد المتجدد الذي يقوم في مواقع الإنتاج نفسها وتضطلع به مؤسسات الإنتاج ذاتها.
وهذا المفهوم ليس غريباً في الواقع عنا، فهو إلى حد بعيد جزء من تراثنا الذي قال بطلب العلم “من المهد إلى اللحد” والذي أكد في أكثر من موضع أن التعليم لا يعرف حداً غير حد الحياة، والذي رأى أن المرء (يظل عالماً ما طلب العلم فإذا ظن أنه علم فقد جهل) والذي جعل فوق هذا مهمة التعليم مهمة مؤسسات المجتمع كلها، وجعل أماكن التعليم مبثوثة في كل موقع، فكانت منها المساجد ومنازل العلماء وحوانيت الوراقين وقصور الأمراء والخلفاء والصالونات الأدبية والبيمارستانات وسواها.
2– وهذا يعني ثانياً ألا ترتبط التربية بعمر معين، وأن تقوم تربية متعددة الأشكال تقدم لكل فرد حسب ظروفه وحسب حاجات المجتمع، دونما نظر إلى عمره. وهذا يعني أيضاً أن يكون التنقل بين المدرسة والعمل ممكناً دوماً، بحيث يستطيع الفرد الذي توقف عند حد معين من التعليم أن يمارس العمل في موقع من مواقع الإنتاج، وأن يتابع تعليمه في الوقت نفسه أو أن يعود بعد حين من العمل إلى شكل آخر من أشكال الدراسة، وهكذا دواليك.
3– ويعني هذا بعد ذلك، بل قبل ذلك، ألا ترتبط التربية بالمدرسة النظامية وحدها وألا تتولاها مؤسسات التعليم النظامية من دون غيرها، بل أن يشترك في تقديم التربية المجتمع كله بمؤسساته المختلفة. فالتربية يمكن أن تتولى طرفاً منها المؤسسات الاقتصادية من صناعية وزراعية وتجارية وأن تقيم في مواقعها نفسه مراكز للتعليم والتدريب المستمر، كما يمكن أن تتولى بعض جوانبها نوادي المجتمع الثقافية والرياضية أو نقاباته المهنية بل حتى مؤسساته العسكرية. ويمكن أن تتولى بعض أشكالها وسائل البث الجماعية نفسها من صحافة وإذاعة وتلفزيون وأفلام وأشرطة مسجلة وسواها، بل يمكن أن يضطلع بجزء منها المتعلم نفسه عن طريق وسائل التعليم الذاتي المختلفة، كالتعليم بالمراسلة أو التعليم المبرمج أو غير تلك من أدوات التثقيف الشخصي.
وواضح أن لهذه النظرة إلى التربية نتائج هامة، أبرزها:
1– الربط بين محتوى التربية وبين حاجات البيئة والمجتمع، وذلك بفضل هذا التدريب المرن المنوع الذي يأخذ أشكالاً متعددة تبعاً لحاجات المجتمع، والذي يتم معظمه في مواقع الإنتاج نفسها ومن خلال مطالبها.
2– الربط بين الإعداد التربوي وبين حاجات سوق العمل المتجددة والمتغيرة، بفضل هذا التدريب المتجدد المتكيف مع الظروف وبفضل ما يتلقاه المتعلم دوماً وأبداً من تجديد لإعداده وفق حاجات المهنة التي يعمل فيها أو المجال المهني الذي يريد أن يدخله أو المهنة الجديدة التي يود الانتقال إليها. وبهذا يقدم هذا المفهوم التربوي حلاً أمثل لتلك المشكلة الأزلية الصعبة مشكلة الربط بين التربية وبين حاجات القوى العاملة، وهي كما نعلم حاجات متغيرة تغيراً سريعاً في عصرنا، ومتجددة دوماً في بلادنا التي تشهد الانتقال السريع في أنماط حياتها وأشكال إنتاجها وقطاعات حياتها الاقتصادية.
3– توجيه التربية والإعداد توجيهاً يتلاءم مع روح الثورة العلمية والتكنولوجية، ويخلق المواقف والمهارات اللازمة لها، ويوفر للمجتمع بالتالي الانتقال السريع إلى رحاب هذه الثورة الصناعية الثانية، ثورة النصف الثاني من القرن العشرين وثورة القرن الحادي والعشرين خاصة، بدلاً من الحبو البطيء نحو الثورة الصناعية الأولى التي تجاوزها الزمن. ويتم هذا الاتجاه الجديد بفضل كسر الحواجز والحدود بين المدرسة وبين عالم الإنتاج ووسائل الإنتاج، وبفضل هذا الأخذ والعطاء الدائم بينهما.
4– إقامة علائق اجتماعية جديدة بفضل هذه العلائق الإنتاجية الجديدة والقضاء على الحواجز الطبقية التي تفصل بين طبقة المتعلمين التقليدين وبين طبقة المنتجين والعمال. الأمر الذي يفسح المجال أمام توليد تربية تقدمية ومجتمع تقدمي يؤمن بأهمية العمل في خلق الإنسان، ويدرك أن خميرة أي ثورة اجتماعية حقه، هي الربط الوثيق بين التعليم والعمل المنتج. فالتأثير المباشر الذي يمارسه العمال والمنتجون – في مثل هذا المفهوم التربوي – على عمليات الإنتاج وعلى تربية الشبان، يمنح التربية طاقة إضافية وقدرة فنية واجتماعية جديدة، ويجعل منها حقاً أداة للتغيير الاجتماعي، ذلك التغيير الاجتماعي الذي نرى فيه، لا في مجرد النمو الاقتصادي، هدف التقدم في أي بلد من البلدان.
5– توليد مفهوم صحيح وعملي للتوجيه المهني والتربوي، يحقق الربط بين قابليات الطلاب وبين حاجات السوق الاقتصادية. ذلك أن مثل هذا النظام التربوي المفتوح على الإنتاج والذي يعمل فيه قطاع الإنتاج جنباً إلى جنب مع المدرسة ويسهم في إعداد الطلاب من شأنه أن يخلق لدى المتعلمين مواقف إيجابية تجاه العمل المفيد للمجتمع، وأن يتيح لهم أجواء تساعدهم على إدراك الجوانب المبدعة والخلاقة في العمل والإنتاج.
وبذلك تسود اختيار المهنة لدى المتعلمين تربية سليمة وواقعية تمكنهم من تلمس قابلياتهم الحقيقة ووعيها وإدراك إمكاناتها، كما تمكنهم في الوقت نفسه من إدراك طبيعة الحياة الاقتصادية وحاجاتها، وتجعل انتقاءهم للمهنة بالتالي انتقاءً خلاقاً لهم وللمجتمع.
6– تحقيق المعنى الصحيح لديمقراطية التعليم، عن طريق العناية بأفراد المجتمع جميعهم في أي عمر كانوا وفي أي موقع من مواقع الإنتاج حلوا، وسواء أتيح لهم دخول المدرسة النظامية أو لم يتح لهم ذلك، وسواء رقوا في معارج التعليم النظامي أو توقفوا عند بعض مستوياته.
يضاف إلى هذا أن هذا المفهوم التربوي الذي نأخذ به لا يحقق ديمقراطية التعليم وحدها بل يحقق ما هو أهم منها وأفعل، نعني ديمقراطية العمل، فلا معنى لديمقراطية التربية ولتكافؤ الفرص التربوية إذا لم يقابلهما تكافؤ في فرص العمل. ومثل هذا التكافؤ أمام فرص العمل نتيجة لازمة للتربية التي تربط الربط الوثيق الذي أشرنا إليه بين حاجات التربية وحاجات الإنتاج والتي تيسر للفرد أن يختار مهنته اختياراً واعياً من خلال معاناته لظروف العمل والإنتاج ومن خلال تعرفه العملي على قابلياته وإمكانات السوق الاقتصادية معاً.
7– وأخيراً وليس آخراً الإسهام الواضح في حل مشكلة تمويل التربية، تلك المشكلة التي تنوء تحتها معظم النظم التربوية في البلدان السائرة في طريق النمو. ذلكم أن التربية التي يعلّم فيها المجتمعُ كله المجتمعَ كله من شأنها أن ترفع كاهل الإنفاق على التربية عن الدولة وحدها وأن تجعل الإنفاق عليها عملاً جماعياً مشتركاً، تضطلع به مؤسسات المجتمع المختلفة، وتضطلع به خاصة المؤسسات الاقتصادية من صناعية وزراعية وتجارية وسواها.
ونحن بهذا نقدم جواباً على تساؤل لا بد أن يقوم في الأذهان، يخيل إليه أن المهمات الشاملة الواسعة التي تضطلع بها التربية في مثل المفهوم التربوي الذي نقدمه تحتاج إلى إمكانات مالية تعجز عنها الحكومات التي تئن حتى من أعباء الإنفاق على التعليم النظامي. فالمفهوم التربوي الجديد الذي نقدمه، يعني في أعماقه تنظيم استخدام الموارد المالية والبشرية المتاحة في المجتمع، بحيث تسهم جميعها في عملية التربية والإعداد. وهذه الموارد المالية والبشرية كبيرة في الواقع، إذاً ما أحسن استخدامها واضطلعت جميعها بأعباء التربية، بدلاً من إلقاء عبء التربية على الدولة وحدها أو على وزارة من وزارات الدولة.
والوسيلة المثلى دوماً وأبداً للتغلب على ندرة الإمكانات المتاحة تكمن في حسن تنظيمها واستخدامها أمثل استخدام ممكن. إن استبدال العقل المبدع والتنظيم الصَّناع والجهد التعاوني والعمل المشترك بالسعي الفاشل لزيادة ما تنفقه الدولة وحدها على التربية، هو السبيل الأمثل والوحيد للخروج من أزمة التربية في بلداننا وفي سائر البلدان النامية.
(سادساً) التربية في مرحلة التعليم الإلزامي وما قبلها:
في إطار المفهوم التربوي الجديد:
وواضح أن هذا المفهوم التربوي الذي رسمنا بعض ملامحه يصدق على مرحلة التعليم الابتدائي كما يصدق على سواها، بل لعله يصدق بوجه خاص على مرحلة التعليم الإلزامي وما قبلها. وفي وسعنا أن نستخلص منه بسهولة النتائج التي تلزم عنه بالقياس إلى هذه المرحلة. ونحن على أية حال نعارض أي بحث في مرحلة من مراحل التعليم أو في أي شكل من أشكاله في معزل عن جملة المراحل بل في معزل عن جملة العملية التربوية.
وفهمنا العام للعملية التربوية هو الذي يحدد في النهاية دور كل مرحلة وبنيتها ومضمونها. ومن هنا جاء تريثنا الطويل بعض الشيء عند بعض المفاهيم الجديدة للتربية كما نراها.
ومع ذلك، لا مندوحة من أن نستخرج من مفهومنا هذا بعض المواقف العملية التي يفرضها على التعليم في المرحلة الإلزامية وما قبلها:
1– لقد أهملنا حتى الآن عن قصد المرحلة السابقة للمرحلة الابتدائية، لا لأننا نقلل من شأنها، بل لأن أهميتها لا تستبين إلا من خلال هذا المفهوم العام الذي قدمناه للتربية.
ولا حاجة إلى القول أن التعليم السابق على المدرسة، سواء تم في رياض الأطفال أو في البيت، جزء هام من مفهوم التربية المستمرة طوال العمر، ولا نريد ههنا أن نتحدث عن شأن هذه السنوات الأولى من العمر التي تسبق دخول المدرسة، وعن أثرها الكبير في تكوين شخصية الفرد. وحسبنا أن نقول أن الدراسات الحديثة أخذت تعطي أهمية متزايدة لهذه السنوات الأولى وللتربية السابقة للمدرسة بالتالي، انطلاقاً من حقائق كشفت عنها الأبحاث النفسية والبيولوجية والاجتماعية المحدثة. ولعل أهم ما كشفت عنه الدراسات أهمية هذه المرحلة المبكرة من التربية في تكوين الاتجاهات الأساسية لدى الفرد وعلى رأسها الاتجاهات الملائمة للخلق العلمي والتكنولوجي.

بل لعل أهم ما تومي إليه هذه الدراسات ما للتربية في هذا الطور المبكر من أثر في تكوين روح الخلق والإبداع عامة Creativity تلك الروح التي هي منطلق التقدم في أي مجتمع يريد أن يدخل العصر، ويدخل الثورة العلمية التكنولوجية، القائمة أولاً وآخراً على الإبداع والخلق.
يضاف إلى هذا أن الدراسات النفسية المحدثة – كما سبق أن ذكرنا – أكدت أهمية التربية في هذا الطور من أجل تكوين الذكاء نفسه، بعد أن أثبتت تلك الدراسات أن عوامل بيئية عديدة تتحكم في تنمية ذكاء الفرد وأن هذا الذكاء يزيد أو ينقص بتأثير هذه العوامل.
ولا نريد أن نسترسل في الحديث عن أهمية هذه المرحلة فقد غدا أمرها بدهياً، ويعنينا أكثر من هذا أن نذكر أن التربية في هذه المرحلة الهامة ما تزال مهملة إهمالاً واسع النطاق في بلادنا. فالتعليم الرسمي لم يعن بها حتى الآن، والتعليم الخاص لا يقدم منها إلا النزر اليسير وما يقدمه لا تتوافر فيه الشروط التربوية اللازمة. ووسائل التربية غير المباشرة في البيت والشارع وسواهما لا تلتفت إلى ما ينبغي أن يزود الطفل به من معارف واتجاهات ومهارات في مثل هذه المرحلة الهامة. وقد يكفينا أن نشير إلى أن مجموع أطفال دور الحضانة في سورية لم يجاوز عام 1972/73 (29830) طفلاً.
وفي هذا المجال نجد منطلقاً خصباً للمفهوم التربوي الذي دعونا إليه. فالتعليم السابق للمرحلة الابتدائية ميدان فسيح لمؤسسات المجتمع المختلفة، وعلى رأسها الاتحادات النقابية عامة والاتحاد النسائي خاصة، ومبلغ علمنا أن هذا الاتحاد في سورية قد بادر إلى مثل هذه المهمة وفي وسعه أن يخطو في هذا المجال خطوات واسعة هامة، إذا هو أحكم الخطة وأحكم التنظيم وإذا هو تولى الإشراف على خطة شاملة في هذا الشأن تشارك فيها جهات أخرى عديدة.
ذلكم أن التربية في هذه المرحلة يمكن أن تضطلع بها جهات عددية ومنظمات عديدة ووسائل عديدة. ولوسائل البث الجماعية دور أساسي فيها، وللمراكز الثقافية والفنية والرياضية والكشفية دور لا يقل أهمية. وفوق هذا وذاك للإرشاد الاجتماعي والصحي ولتربية الأمهات والآباء شأن كبير وأساسي. ولا مجال لتعداد أساليب التربية وأشكالها ومؤسساتها في هذا الطور الهام. والهام عندنا أن ينهض وعي عميق بأهمية التربية في هذه المرحلة، وأن توضع لها خطة شاملة متكاملة، وأن تسهم في هذه الخطة جل مؤسسات المجتمع.
2– أما مرحلة التعليم الابتدائي فقد أشرنا إلى كثير مما يمكن أن تخضع له من تغيير وتطوير. ولا نريد أن نفصل القول في التجديد الذي ينبغي أن تدخله في مناهجها وطرائقها، وحسبنا أن نقول أنها في حاجة إلى منطلق جديد، يبدأ بتحديد أغراضها تحديداً عملياً واقعياً كما سبق أن ذكرنا، ويلتمس بعد ذلك الأساليب الملائمة لتلك الأغراض، بصرف النظر عن الشكل ودون ما توقف عند إطار محدد جامد.
ولعل أهم ما ينبغي أن يأخذ به المنطلق الجديد الأمور التالية التي نذكرها عابرين، مدركين أن تفصيل كل منها يحتاج إلى محاضرة برأسها:
أ– الدراسة الميدانية لواقع التعليم في الريف، دراسة تبين حاجات المناطق الريفية وتفسر تسرب الطلاب من المدارس، وتضع التوقيت الملائم لأيام الدراسة وساعات الدراسة فيها، وترسم السبل التي تؤدي إلى الربط الوثيق بين المدرسة وبين العمل الريفي.
ب– إدخال الوسائل التكنولوجية التربوية الحديثة إلى المدرسة الابتدائية، واتخاذها وسائل مساعدة للمعلم في بعض الأحوال وبدائل عنه في أحوال أخرى تدعو إليها الحاجة، واصطناعها خاصة في المناطق النائية المحرومة التي لم تصل إليها الخدمات التعليمية بعد وفي مدارس المعلم الوحيد بوجه أخص.
جـ- القيام بدراسة ميدانية اجتماعية للكشف عن أسباب تخلف الإناث عن المدرسة أو انقطاعهن عنها والبحث عن الحلول الكفيلة بالتغلب على تلك الأسباب، ومن بينها حسن اختيار موقع المدرسة واختيار المعلمات الملائمات وتقديم تربية مناسبة للآباء والأمهات والقضاء على الزواج المبكر.
د– وضع خطة مشتركة بالتعاون مع سائر الوزارات والجهات المعنية من أجل تحقيق الاتصال اللازم بين المدرسة وبين مؤسسات الإنتاج كي تزود الطلاب في هذه المرحلة بالاتجاهات والمهارات اليدوية والعملية والتكنولوجية الضرورية.
هـ- إشراك الطلاب في هذه المرحلة في مشروعات البيئة وبرامجها ونشاطاتها، وإسهامهم الفعلي في تقديم بعض الخدمات الاجتماعية وفي إنجاز بعض المشروعات.
3 – ومهما تكن الجهود التي تبذل لتعميم التعليم الابتدائي، لا بد أن يبقى خارج هذا التعليم حتى سنوات بعيدة عدد كبير من الأطفال، كما لا بد أن يتسرب من هذا التعليم قبل نهايته عدد كبير آخر. هؤلاء الأطفال الذين لم يتح لهم دخول التعليم الابتدائي أو الذين تسربوا منه قبل الأوان، لا بد أن توجه إليهم عناية خاصة، كما سبق أن ذكرنا، ولا بد أن توضع خطة شاملة لإعدادهم إعداد معجلاً يزودهم بمستوى ثقافي عام قريب من مستوى خريجي التعليم الابتدائي، ويقدم لهم في الوقت نفسه تدريباً مهنياً مركزاً يمكنهم من إيجاد عمل مناسب ويؤدي إلى رفع مستوى إنتاجهم.
وليس من الضروري أن تضطلع بهذا النوع من التعليم والإعداد وزارة التربية نفسها، بل يمكن لهذه الوزارة أن تشرف عليه وأن توكل أمره إلى المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية القائمة في البيئة بالتعاون مع مؤسسات الدولة الأخرى.
4– على أن التعليم الابتدائي الإلزامي خطوة نحو تعليم إلزامي أشمل، ينبغي أن يضم المرحلة الإعدادية ويمكن أن يضم فيما بعد المرحلة الثانوية نفسها، والسياسة التربوية في سورية انطلقت نحو الأخذ بهذا الاتجاه، وهي تنزع إلى تطبيقه بدءاً من عام 1980 فيما تذكر الخطة.
غير أن رفع سن الإلزام حتى هذه المرحلة المتقدمة، لا يجوز أن يعني مجرد مد للتعليم الابتدائي أو مجرد ضم للتعليم الابتدائي والتعليم الإعدادي. بل لا بد أن يستلزم ذلك إعادة نظر جذرية في مرحلة التعليم الإلزامي التي ستصبح طويلة الأمد، والتي سيتخرج الطلاب في نهايتها وهم في سن متقدمة بعض الشيء. ومن هنا يتوجب منذ الآن وضع خطة لمرحلة التعليم الإلزامي الواسعة هذه ، أبرز ما فيها أنها تؤكد على الإعداد العلمي والمهني إلى جانب الإعداد الثقافي العام. وقد يستلزم تعميم التعليم الإلزامي حتى هذه المرحلة المتقدمة تغييراً جذرياً في طرائق التعليم واللجوء خاصة إلى تقنيات جديدة تمكن من نشر هذا التعليم فعلاً في مناطق القطر النائية والصعبة.
5– وأياً كانت مدة التعليم الإلزامي، لا بد أن يقوم نظام تربوي يتابع تربية الذين يغادرون مرحلة التعليم الإلزامي هذه إلى الحياة. وههنا أيضاً لا تضطلع بهذه المهمة وزارة التربية وحدها، بل تضطلع مؤسسات المجتمع جميعها، بأشكال مختلفة متعددة، وتتعهدها خاصة مراكز التدريب القائمة في مواقع الإنتاج، فضلاً عن وسائل البث الجماعية. إن هؤلاء الذين يغادرون التعليم الإلزامي إلى الحياة مجال خصيب لأشكال من التربية غير النظامية أو شبه النظامية، وميدان ممتاز لتطبيق مفاهيم التربية المتجددة والمستمرة.
6– وواضح أن هذه الخطوات جميعها تستلزم إحداث تغيير جذري في نظام الإدارة التربوية. وقد يكون أبرز ما ينبغي أن يتخذ من تغيير في هذا المجال، ربط التعليم الإلزامي ربطاً أوثق بالسلطات المحلية وبالإدارة المحلية وقصر إشراف وزارة التربية على الجوانب الفنية وعلى رسم الخطة العامة. وتحسن في هذا المجال الإفادة من تجارب بعض الدول التي طبقت هذا الأسلوب بنجاح، وعلى رأسها الصين الشعبية. وقد تكون تجربة الصين الشعبية تجربة رائدة لا في هذا المجال فحسب بل في كل ما يتصل بالتعليم الابتدائي، ولا سيما الربط بين التربية وبين خطة التنمية الريفية.
7– من الممكن التفكير في تعديل إطار التعليم الابتدائي نفسه، في بعض المناطق الريفية خاصة، بحيث يستجيب لحاجات البيئة وظروفها. وفي هذا المجال يمكن اللجوء مثلاً إلى تأخير سن دخول المدرسة الابتدائية في بعض المناطق الريفية أو في قبول بعض الأطفال الذين تجاوزوا السن الرسمية لدخول المدرسة. ويمكن كذلك في بعض الأحيان الأخذ بتعليم ابتدائي بعض الوقت تبعاً للحاجة مع إطالة عدد سنوات هذا التعليم ومع توجيهه توجيهاً عملياً ومهنياً في السنوات الأخيرة منه خاصة.
(سابعاً) خاتمة:
وبعد، هذه بعض الصوى على الطريق، لا نزعم أنها تقدم دليلاً عملياً كافياً لتطوير التعليم الإلزامي وما قبله في سورية، وما قدمناه لا يعدو أن يكون إطاراً عاماً للعمل يستلزم خطة إجرائية مفصلة.
الهام في نظرنا أن تكون هذه الدراسة قد أسهمت في خلق نظرة جديدة إلى التربية عامة والتربية في مرحلة التعليم الإلزامي وما قبلها خاصة. فالذي يحرك العمل ويوجهه وينيره هو دوماً وأبداً النظرات المجددة والرؤية الواضحة للأهداف والغايات.
الكثير من التغييرات والإصلاحات الجذرية ننتظره ونتوقعه عندما تولد هذه النظرة الموجهة وعندما تنضج الدوافع والبواعث المحركة للعمل، من خلال فلسفة تربوية مدركة لمنطلقاتها مقدرة لنتائجها وآثارها.
وحسبُ هذه النظرة التربوية التي ندعو إليها أنها تطرح عملية التربية كلها طرحاً جديداً وتسائل عنها من أساسها. حسبها أنها تدخل إلى السِّنة التربوية المستسلمة لعاداتها وتقاليدها وإلى العمل التربوي السائد الذي يكاد يصبح عملاً غرزياً يسيره المألوف ويقوده الإرث والاستمرار، حدة التفكير والنقد المتسائل المشكك. حسبها أنها ترفض أن تعتر التربية شيئاً مرادفاً للنظام المدرسي القائم وأنها تأبى أن تنظر إلى المدرسة وكأنها غاية في ذاتها. حسبها أنها ترجع الأمور إلى البداهة الواضحة، وما أصعب البدهيات حين تذكر بمقولة تكاد تكون من السهل الممتنع وهي أن الأصل والهدف في التربية تزويد المتعلم دوماً وأبداً بالمعارف والمهارات والاتجاهات التي يحتاج إليها في رحلة الحياة، دون ما اكتراث بالأين والكيف والمتى.
مبادئ ثلاثة نرى فيها مفاتيح لكثير من مشكلات التربية، ونرجو من خلالها أن تنطلق عملية تجديد متراكم متوالد:
أولها: أن الإصلاح التربوي في بلادنا ينبغي أن ينطلق من جهد شامل ونظرة كلية، وألا يكون مجرد امتداد خطي للماضي أو ترقيع جزئي للنظام الحاضر.
وثانيها: أن التربية النظامية التي تتم عبر مراحل الدراسة المألوفة ليست أهم ما في التربية وليست الوسيلة الوحيدة والمثلى للإعداد والتدريب، وأن هنالك أشكالاً عددية ومتنوعة لتربية المواطنين تربية ملائمة، مفصلة على قد حاجات المجتمع وإمكاناته.
وثالثها أن النظم التربوية المنقولة عن الغرب والمنبثقة عن الثورة الصناعية الأولى فيه، لا يجوز أن تحكم مسيرة النظم التربوية في بلادنا، وأن بلادنا مدعوة إلى أن تقيم نظمها التربوية الذاتية مفيدة، دون شك من حصاد التجربة العالية، بل لعلها مدعوة إلى أن تكون الرائدة في مجال توليد نظم تربوية أفضل وأجدى.
هذه المبادئ، حين تنقلب إلى وعي عميق محرك للمشرفين على السياسة التربوية، وحين تؤدي إلى تغيير المواقف الأساسية التي يقفها الإداريون والمربون والمعلمون والآباء من عملية التربية، هي القادرة على أن تولد وسائلها وأساليبها، وهي التي تخلق في النهاية الخطط التربوية المتكاملة الواعية لما تريد والسياسات التربوية الجريئة والصبورة والمتحركة.
ولا حاجة إلى القول أن التربية في بلادنا وفي سائر البلدان النامية في أزمة ومأزق، وأن الخرق يتسع على الواقع يوماً بعد يوم، وأن العجز عن مواجهة المشكلات يتفاقم ويتعاظم ما دام النظام التربوي يصر على أن يعالج الداء بالداء وما دامت السياسة التربوية تخشى أن تغادر مواقعها التقليدية وأن تخرج إلى الهواء الطلق، وأن تستنطق الواقع والحياة والعقل. صحيح أن ليس لازمة التربية حلول سحرية، وأن مشكلات التربية مشكلات ولود دوماً ما نكاد نجاوز بعضها حتى يواجهنا بعضها الآخر. غير أن من الصحيح كذلك أن الأزمات أنىّ كانت لا يتغلب عليها إلا جهد ابتكاري وفكر خلاق يواجه المشكلات مواجهة جديدة بدلاً من الإصرار على مجابهتها مجابهة تقليدية أرنة جامدة.
وتعبئة الجهود المبتكرة والعقول الخلاقة في سبيل وضع خطة جديدة شاملة للتربية وفي سبيل إعداد الدراسات العلمية الصبورة اللازمة لها، لا بد أن تكون منطلق التغيير الذي ننشده جميعاً. ومن هنا تأتي أهمية تدعيم أجهزة البحث والدراسة والتخطيط في وزارة التربية. فالجهود الكبيرة التي تبذلها الدولة منذ سنوات في سبيل نشر التعليم وتيسيره للمواطنين في حاجة إلى رؤية شاملة تخصبها وتغنيها، وفي حاجة إلى جهود خلاقة ودراسات مبتكرة تستخرج منها كامل إمكاناتها.
وأملنا جميعاً أن يخرج من ذلك كله نظام تربوي متحرك ومحرك، يستطيع أن يطلق شرارة الخلق والإبداع في مؤسسات المجتمع جميعها، وأن يلقي الخميرة القادرة على أن تجعل بلادنا وهي على مشارف القرن الحادي والعشرين، قوى حضارية متقدمة.