دور الفكر العربي بعد السادس من تشرين

مجلة الجامعة – العدد التاسع – حزيران 1974
المركز الثقافي والاجتماعي في جامعة الموصل
دور الفكر العربي بعد السادس من تشرين

بمناسبة الموسم الثقافي لجامعة الموصل تفضل الدكتور عبد الله عبد الدائم مشكوراً بإلقاء محاضرته القيمة التالية في 18/ 4/ 1974 على مدرج قاعة المحاضرات في المركز الجامعي.
مهما تكن القيود التي حدت من انطلاقة الشعب العربي بعد السادس من تشرين، يظل من الصحيح أن معركة رمضان كانت بداية تفجر للوجود العربي كله.
بل لا نغلو إذا قلنا إن تلك المعركة حملت بين جنباتها معاني ومطامح تذكر بأيام العربي الكبرى، بعصور الفتح العربي، بمواقع خالد وصلاح الدين.
لقد جند الشعب العربي لتلك المعركة. مرارة هزائم السنين الطويلة، وعنفوان الثورة على الذل والصغار، ونداءات المجد العربي الجريح، ورؤى الفجر المنشود، ليصنع من ذلك كله صموداً وإباءاً وبسالة، وليسقي من معينه ضراوة القتال وعزيمة النصر.
لقد حملْ الشعب العربي السلاح، ليمحو العار عن جبين الأمة العربية، وليعطل القيود التي تكبل مستقبلها، وليحطم باسم جميع الشعوب المقهورة في العالم، الوحش المتمدن أنى كان، حين يسول له جبروته ظلم الإنسان.
أجل، في لهيب معارك السادس من تشرين، ثارت أنات المعذبين في الأرض ضد ضحايا أدعياء الحضارة والتقدم. وانتفضت جراحات الملايين من أبناء الأمة العربية وأبناء شعوب آسيا وأفريقيا، وثار الإنسان الإنسان على من زعموا لأنفسهم قيادة حضارة الإنسان فإذا بهم تأخذهم العزة بالقوة فيحيلون التقدم اضطهاداً وكبتاً واستغلالاً، ويصيرونه تحكماً لعالم الأسياد في عالم العبيد.
لقد اطمأن الطغاة من الصهاينة وحلفائهم الإمبرياليين، إلى مظاهر التفوق الحربي والعلمي والتكنولوجي حيناً من الزمن، وظنوا أنها ما نعتهم قلاعهم وحصونهم ولم يدركوا أن التفوق النفسي والفكري يستطيع في النهاية أن يمتلك آلات الفتوح وأسباب التقدم العلمي والتكنولوجي، وأن يمتلك معها وفوقها عزيمة الإنسان التي تجعلها حية نابضة، والتي تعطل أي تفوق
لا يحمل وراءه إيماناً برسالة وانتصاراً لحق وكرامة.

لقد حسبوا اختمار الشعب العربي واحتضانه لمرارته وهزيمته، سباتاً وموتاً، وجهلوا منطق الشعوب العريقة التي تسكن معاني الحضارة والمجد في عروقها، والتي تزيدها الهزائم نضجاً واكتمالاً وإعداداً للثورة. وظنوا ذلك النهر الكبير العميق هادئاً مستكيناً حتى جاشت حوالبه وثارت أعماقه، فإذا به يفجأهم ويبطل حساباتهم الباردة وأحكامهم الجامدة.
ومع ذلك هيهات أن يجعل العرب من هذه البداية نهاية، وهيهات أن يستسلموا لبوادر النصر ليرضوا من الغنيمة بالإياب.
إن عليهم أن يدركوا أن النصر أصعب من الهزيمة وأخطر، وأن الجهاد الأكبر أشق من الجهاد الأصغر، وأن الظفر ليس وميض برق ولا هو نار كنار الهشيم ما تلبث حتى تنطفئ.
النصر في معركة الأمة العربية ضد أخطر أعدائها وأعداء الإنسانية، معارك مستمرة موصولة، تزداد عمقاً واتساعاً يوماً بعد يوم، ولا تلقي السلاح رغبة أو رهبة. ولا تدين بلغة السلام حتى يدين بها من حطم السلام في أرض السلام.
معركة الأمة العربية ضد أعدائها الذين يتحدون وجودها في أعماقه هي ثورتها الحضارية الحقة، وثورتها الحضارية الحقة هي المعركة، هي المعركة الباقية الصامدة. القادرة وحدها على تعبئة إمكانات الأمة العربية جميعها، إمكاناتها الاقتصادية والبشرية والاجتماعية والعلمية، تعبئة حية فعالة تجعلها في مستوى بناء المستقبل العربي والغد العربي. من خلال حشد الطاقات العربية الحشد القادر على مجابهة الذين يسعون لقتل تلك الطاقات، يتفجر الوجود العربي ويغتني علماً وحضارة واقتصاداً إلى جانب تفتحه ثورة عسكرية ودرعاً حربية حامية للحضارة واقية لها.
السلم المستسلم، المستسلم لأهداف الأعداء ومطامعهم، يعني ارتخاء الدفعة الحضارية للأمة العربية، والركون إلى دوافع الحياة الحيوانية الرخيصة، واللصوق بحمأة الأرض، ودفن المستقبل العربي في مهده. وامتطاء صهوة المعركة عن طريق الإعداد الكامل المتصل لها، هو الذي يخلق الإرادة الحضارية المتوترة، والروح القومية الإنسانية المبدعة، والقدرة على بناء الكيان العربي الجدير بماضي الأمة ومستقبلها.
ما قيمة الأمة العربية إذا هي ربحت جزءاً من ترابها وفقدت نفسها، وما شأنها إن هي استبدلت بمستقبلها وحضارتها المرجوة سنوات معدودات من سلم كاذب ودعة زائفة؟
وهل هي في حاجة إلى أن تمنح طرفاً من الأرض وظاهراً من الثروة صدقة وجوراً، وهي القادرة على أن تسترد الأرض كلها غلاباً وأن تبني ثروتها الحقيقية الولود بطاقاتها وإمكاناتها الجبارة؟
إن الكيان الذي لم ينتزعه أبناؤه بإرادتهم وقدرتهم لن يكون ملكهم وإن ملكوه، وإن الحضارة التي لا يصنعها أصحابها بعرقهم وجهدهم وتوترهم الوجودي لن تكون سوى ذر للرماد في العيون، تمنح المساكين مظاهر الحضارة الزائفة وتبقي على التخلف العميق يحفر في الأعماق ويقوض الجذور. وإن الحرية التي لا يصوغها الإنسان المضطهد بثورته وانتفاضة كرامته، لابد أن تكون شكلاً جديداً من أشكال العبودية للأسياد الذين ألبسوا العبيد لبوس الأحرار وأبقوا على الأغلال في أيديهم والسلاسل في أعناقهم.
لقد لفظ الجسم العربي الاستعمار الغربي أيام الحملات الصليبية، وكان آنذاك أقل بأساً وقدرة، وتغلب على الوجود الأجنبي الدخيل الذي احتل بلاده بعد الحرب العالمية الأولى وهو
لا يملك من وسائل المقاومة سوى الإيمان بذاته والاستشهاد في سبيل حريته، وطرد الاستعمار الاستيطاني في الجزائر وسائر بلدان المغرب بعد أن رسخت جذوره واشتد ساعده. أفيكون عزيزاً عليه أن يقتلع استعماراً صهيونياً، لن يقوى رغم كل شيء على أن يستر زيف أغراضه على العالم طويلاً، ولن يستطيع المقام مهما يفعل ومن حوله وجود عربي يحيط به إحاطة السوار بالمعصم، مادام هذا الوجود العربي مجمعاً على رفضه متوفزاً للقضاء عليه؟ أولم نسمع قولة من قال من مفكري الغرب أنفسهم ومن المتعاطفين مع إسرائيل، حين كتب بعد السادس من تشرين، دون ما غمغمة: إن إسرائيل لابد أن تزول، وإن شيئاً واحداً يمكن أن يبقي عليها: هو موافقة الدول العربية على ذلك البقاء؟ أولم تؤيد قولته هذه الحقائق العلمية العقلية التي تظهر حتمية التفوق السكاني والجغرافي والاقتصادي والعسكري العربي ولو بعد حين؟
إن هذا التفوق العربي المرتقب والأكيد، إن حزم العرب أمرهم، الذي ظهرت بوادره في السادس من تشرين، هو الذي حمل الصهاينة ورسلهم الأمريكيين على تعديل إستراتيجيتهم تعديلاً يغطونه بجلابيب السلام:
فما دام التسلط الحربي المباشر على الوجود العربي لم يعد ممكناً، ومادام أسلوب التهديد العسكري الإسرائيلي المباشر للبلاد العربية سلاحاً لابد أن يكون أخيراً لصالح العرب، وأن تكون خاتمة المطاف فيه القضاء على دولة إسرائيل فلتقلب إسرائيل ظهر المجن ولتلجأ إلى إستراتيجية جديدة للسيطرة على الوجود العربي سيطرة أعمق وأخطر، عن طريق سلام زائف غير متكافئ. إن ما شعرت إسرائيل بعجزها عن اقتحامه عن طريق الحرب والسيطرة العسكرية المباشرة، تؤثر الآن اقتحامه عن طريق مظاهر السلام التي تمكنها من السيطرة البشرية والاقتصادية والسياسية والعلمية على البلدان العربية بل على بلدان آسيا وأفريقيا. وبدهي أن هذه السيطرة البشرية والاقتصادية والسياسية والعلمية سوف تقودها بعد ذلك فيما ترى إلى سيطرة عسكرية أبقى وأنجع.
لقد اختارت إسرائيل طريق السلام الزائف، لأنه طريقها، طريقها إلى السيطرة الباقية على البلدان العربية، طريقها الملتوية إلى السيطرة العسكرية نفسها التي عجزت وتعجز عن تحقيقها بالمجابهة المباشرة.
ولكن أين دور الفكر من هذا كله؟
إنه في القلب منه. فالدور الأول للفكر الذي تتحلق حوله سائر الأدوار بعد السادس من تشرين لابد أن يختصر في مهمة أساسية: أن يتعهد بداية التفجر العربي بعد السادس من تشرين، وأن يرعاها ويغنيها، ليخلق منها الثورة العربية الحقيقية، الثورة بالمعركة، والمعركة بالثورة.
لقد كان دور الفكر في مختلف مراحل النضال العربي الحديث دوراً كبيراً وهاماً، وإن قصر عن بلوغ الشأو المطلوب في كثير من الأحيان. غير أن دوره اليوم ليس هاماً وأساسياً فحسب، بل هو دور حاسم في رأينا. وإذا كان هذا الفكر قد أباح لنفسه أن يصمت أو يتوارى قليلاً أو كثيراً في بعض فترات النضال العربي، فإن انحساره اليوم جريمة قومية وتاريخية وإنسانية. ذلك أن تعقد الأجواء التي يمر بها الوجود العربي بعد السادس من تشرين، وسط تزاحم التضليل السياسي العربي والعالمي، يجعل نشاط هذا الفكر شرطاً لازباً لتوضيح الرؤية وتحديد الأهداف وتعبئة الجماهير.
بعد نكبة فلسطين عام 1948 كانت المعادلة بسيطة، إذا أردنا أن نتبنى اصطلاحات الرياضيين. كان من السهل أن ترد النكبة إلى إفلاس الأنظمة السياسية الرجعية القائمة، وأن تقوم الدعوة إلى ولادة أنظمة سياسية تقدمية.
وهكذا كرس الفكر جهده آنذاك لفضح البنى السياسية والاجتماعية التي أدت إلى النكبة، وللتبشير ببنى سياسية واجتماعية جديدة، متحررة من الاستعمار ومن التخلف، تربط بين العمل السياسي وبين التغيير الاجتماعي والاقتصادي. وكان للفكر بعض ما أراد، وقامت في البلدان العربية أنظمة تقدمية كانت جواباً على التخلف والخيانة.
غير أن بعض الأنظمة العربية التي قامت كرد فعل على الأنظمة الرجعية كانت في أعماقها مريضة، وكان مرضها خفياً لا يبدو إلا للقلة الواعية.
لقد استغلت معظم الأنظمة التقدمية التي قامت كرد فعل على نكبة عام 1948، الشعارات التي أشاعها الفكر وشاعت بين الجماهير، وأرادت أن تفرض نفسها من دون الجماهير التي ولدتها وكأنها شيء كامل وتجربة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. وهكذا فرضت نفسها على الجماهير، ولم تتح للجماهير مجال إغنائها وتصحيحها وتعميقها.
ولم تدرك خطورة هذا المد التقدمي المريض كثرة المفكرين. وظنت كثرتهم أن المد العربي التقدمي سائر في طريقه، وأن العلل والأمراض التي كان يومئ إليها بعض المفكرين القلائل، لا تعدو أن تكون ترفاً وتأنقاً فكرياً وسط السيل الزاحف.
لقد نظروا إلى مطالب كالديمقراطية والمشاركة الشعبية والتعميق الفكري النظري لمسيرة الثورة، وكأنها نفل زائد تستطيع الثورة أن تستغني عنه. لقد أخذوا بشعارات القفز والاستعجال وحرق المراحل، ولم يدركوا أن للثورة قوانينها التي لا تغالب، وشروطها التي لا يمكن تجاوزها. وراقهم أن يحسبوا طريق الثورة هيناً لا يكلفهم جهداً ولا نصباً، وأسعدهم أن يناموا على أحلام حريرية، تريهم الثورة العربية آتية حتماً، وتجعلهم يطمئنون إلى عمل الساسة بل يصفقون له، دون أن يكون لهم في بناء ثورة الأمة العربية دور التعميق والتأصيل والتصحيح.
ولم يصح هؤلاء المفكرون من كبوتهم ومن تفاؤلهم السطحي إلا بعد وقوع الكارثة، كارثة حزيران. وكأن وقوع الكارثة كان ضرورياً حتى لهؤلاء المفكرين كي يدركوا حقائق الأمور ويمتلكوا النظرة العميقة للأشياء.
وأياً كان الأمر فقد أفاق المفكرون بعد الكارثة، فالهزيمة دوماً نظيفة، والرؤية فيها صافية لا تجللها الغيوم. واستطاعوا بفضل الكارثة التي كانوا سبباً من أسباب وقوعها أن يلعبوا مع ذلك دوراً كبيراً وأساسياً، لم يكن لهم في أي وقت مضى.
ومهما يتحدث المتحدثون عن بعض ملامح الفكر اليائسة بعد الخامس من حزيران، مشيرين إلى ما اتصف به من تشاؤم مغال ومن ماسوشية مفرطة، يظل من الصحيح أن دور رجال الفكر كان كبيراً على مختلف الأصعدة. وإن ما كشفت عنه حرب السادس من تشرين من عمق المرارة العربية وأصالة العزيمة والتصميم على القتال، يرجع أولاً وقبل كل شيء إلى دور رجال الفكر هؤلاء. لقد كان شأنهم كبيراً في هذا الاختمار الطويل الذي حدث في الوعي العربي بعد سنوات الكارثة، وفي ذلك التحريك لأعماق النفس العربية وأعماق الجماهير العربية. ولا نغلو إذا قلنا إن الإعداد العسكري لحرب السادس من تشرين كانت من أسبابه جهود المفكرين وضغوطهم وما نسجوه في عقول الناس وأنضجوه.
ويسر مهمة المفكرين هذه أن هزيمة حزيران أعطت للفكر شرعية لم يكن معترفاً له بها من قبل. لقد كان الفكر قبل الخامس من حزيران كما سبق أن قلنا مهملاً مستهتراً به. وكان عليه أن يناضل إذ ذاك لو صدق الرؤية واتصف بالشجاعة والجرأة في سبيل إعطاء الفكر دوره في بناء المد العربي التقدمي بعد نكبة عام 1948. ولكنه لم يفعل إلا لماماً. لقد أعوزه الوضوح حيناً والعمق أحياناً والشجاعة غالباً.
وهكذا حين نسجل للفكر دوره الكبير بعد الخامس من حزيران، فإننا في الوقت نفسه نلومه ونتهمه. لقد كانت مهمته بعد الكارثة يسيرة هينة إلى حد بعيد، وما كانت في حاجة إلى عمق كبير، ولا إلى أخلاقية صامدة. غير أن الفكر الأصيل العميق ليس الفكر الذي يظهر كرد فعل على الأحداث وكمترجم لها، بل هو الفكر الذي يستبق الأحداث ويرهص بالأمور، هو الفكر الذي يصنع التاريخ ولا يكتفي بتفسيره، على حد قول ماركس. ثم إن الفكر لا يكون فكراً إذا اكتفى بامتلاك هذه الرؤية الواضحة المسبقة للأمور وذلك العمق في التحسس بمجرى التاريخ وتلك المقدرة على صناعته، بل لابد له فوق ذلك أن يكون فكراً أخلاقياً ذا رسالة، فكراً شجاعاً يعرف أن يضحي في سبيل ما يؤمن به.
والآن، بعد السادس من تشرين يعود الفكر إلى هذا الطريق الصعب الشائك، وتتعاظم مهمته وتزداد خطراً. ذلك أن بدايات النصر العربي خلقت من جيد وضعاً معقداً مبهماً، وأخرجت الوجود العربي من الرؤية الواضحة المشرقة للأمور التي كانت قبله، إلى رؤية يكتنفها الغموض وتجللها السحب وتلعب فيها الأهواء والدسائس. والنفس العربية في هذه المرحلة الجديدة معروضة بشكل خطير إلى حملة من التشويه والتضليل والغزو الفكري الدخيل. وأخطر ما في هذه الحملة أن القوى الصهيونية والقوى العالمية المعادية للأمة العربية نشيطة فيها فعالة، وأنها تصطنع لها كل ما تملك من أساليب التوجيه الإعلامي.
من هنا كان لابد للفكر العربي أن يشمر عن ساعديه وأن يقتحم هذا الجو المحموم مسلحاً بالوضوح والصدق والجرأة.

فما هي أمهات المهمات التي ينبغي أن يضطلع بها الفكر في هذا الإطار؟
1- لابد أولاً أن يتولى الفكر الأصيل محاربة المنازع الدونكيشوتية، التي تكتفي بالتصفيق لما حدث في السادس من تشرين، دون أن تتعهد ما حدث وترعاه.
فمن الهام ألا يألف العربي النصر الرخيص، وأن يدرك أن أي جولة، مهما جلت، لن تمحو هزائم السنوات الطويلة، ولن تكون على أية حال نهاية المطاف بل بدايته.
ومن المهمات الأساسية المطلوبة من الفكر في هذه المرحلة ألا يدع الوجود العربي يطمئن إلى نصره المحدود، ويجد الراحة والطمأنينة بعد أن زال شعوره بالإثم والذنب.
ومعركة السادس من تشرين لا يجوز أن ينظر إليها على أنها فداء لتقصير اجترحناه وآثام ارتكبناها، بل لابد أن تكون بداية تغيير شامل كامل في نهج حياتنا الذي انتهجناه قبلها، ولابد أن تعني ولادة إعداد مستمر موصول، يعبئ طاقات الأمة العربية جميعها من أجل معركة أشمل وأكمل بل من أجل معارك تزداد عمقاً وفعالية.
إن ما حدث يوم السادس من تشرين لم يكن سوى كاشف، كشف عن إمكانات الأمة العربية الكبيرة، وعن قدراتها الهائلة حين تحسن تعبئتها. بل إن السادس من تشرين اتهام ومحكمة، محكمة اتهمت المشككين في إمكانات الأمة العربية وحكمت على أولئك الذين قصروا في تعبئتها من قبل.
وأخطر الخطر أن نجعل من ذلك اليوم أنشودة نتغنى بها، أو أن نظنه معجزة اجترحناها فنستعظم أمره ونصغر دونه ونتضاءل بعده. معجزة السادس من تشرين في إمكاناته ووعوده وليست فيه، إنها أمامنا وليست وراءنا.
لقد أصيب عدونا نفسه بعد الخامس من حزيران بالغرور والكبرياء، فكان في ذلك بعض مقتله في السادس من تشرين. ومهمتنا نحن ألا نطمئن إلى ما حدث في السادس من تشرين وأن نعمل لما بعده. وكم من نبتة صالحة عرفها الوجود العربي وكانت محملة بالوعود الكبيرة، ما لبثت حتى انقلبت إلى نسغ جاف حين أهملنا تعهدها ورعايتها.
إن الانتقال من معارك الجاهلية إلى معارك العصر الحديث، يعني أولاً وقبل كل شيء أن نأخذ بأسلوب النفس الطويل والبناء المتراكم والجهد النامي، وأن ننظر إلى غدنا قبل أن ننظر إلى أمسنا، وألا نتحدث عما فعلنا إلا لنرسم ما علينا أن نفعل.
ومرة أخرى نقول إن الفكر الأصيل العميق لا يرتضي أن يكون مجرد رد فعل على الأحداث. إنه يتجاوزها إلى ما وراءها ويحللها ويستخرج منها معناها وإيماءاتها ويبني بذلك كله طريق المستقبل.
2- والمهمة الثانية التي ينبغي أن يتولاها الفكر بعد السادس من تشرين هي مهمة التأكيد أن ثورة العرب الحضارية، في هذه المرحلة، هي المعركة. فالمعركة هي الوسيلة الوحيدة لتحرير الجماهير وانطلاقتها، وهي رد على تلك المؤامرة المستمرة على رجولة الشعب العربي، حين يحال بين تلك الرجولة وبين ممارستها. والإعداد للمعركة هو أداة تفجير طاقات الشعب، تفجيراً محملاً بمفاجآت الخلق والإبداع. بل هو الوسيلة المثلى للربط بين ماضي الأمة وحاضرها ومستقبلها. فعن طريق ذلك الإعداد للمعركة يتم الجمع الحي والخصيب بين التراث والتعلق به والدفاع عنه، وبين استيعاب العصر والتسلح بأدواته ووسائله.
وعن طريق التعبئة للمعركة تأخذ القومية العربية معناها العميق وهي أنها تاريخ ومستقبل معاً، تراث وثورة مستقبلية في آن واحد. إن التعبئة للمعركة هي التي تؤكد تأكيداً حياً حقيقة أساسية: وهي أن قضية الأمة العربية ليست مجرد تحقيق التقدم العلمي والتكنولوجي، وليست مجرد نقل التجربة العالمية، بل هي فوق هذا ومع هذا قضية النضال المرتبط بتراث الأمة في سبيل تحرير هذه الأمة وبناء مستقبلها المشرق. إن الحداثة وحدها لا تعني شيئاً، بل لا يمكن أن تكون وتبنى، إلا من خلال الارتباط بالأصالة، الارتباط بوجود الأمة ورسالتها وأهدافها. والتعبئة للمعركة تقدم الترجمة العملية لهذه الحقيقة.
ثم إن المعركة فوق هذا وقبل هذا، هي القادرة على أن تظهر للعالم رسالة العرب الحضارية والإنسانية. فمعركتهم ضدّ الصهيونية وضد الإمبريالية هي في الواقع والأعماق معاناة إنسانية تقوم بها أمة من أجل الإنسانية كلها. ولا شئ أقدر على إبراز الطابع الإنساني للقومية العربية من خوض هذه المعركة التحررية ضد أعداء الإنسانية.
فعن طريق خوض هذه المعركة التي فرضت عليهم، ومن خلال معاناتهم للظلم ورفضهم له، يستطيع العرب أن يعملوا على بناء صيغة للعلاقات الدولية والإنسانية ينتفي فيها الظلم والاستعمار واضطهاد الإنسان للإنسان.
ولنقل عابرين إن من مزايا حرب السادس من تشرين أنها أدخلت مثل هذه الحقيقة، حقيقة الارتباط بين القومية العربية والإنسانية، في وعي الجماهير الواسعة بعد أن كانت إلى حد كبير مقتصرة على قلة من المفكرين والمنظرين. بل إن هذه الحرب فتحت عيون كثير من أبناء الشعوب الأخرى على المعاني الإنسانية للنضال القومي العربي.
لقد أظهرت معركة السادس من تشرين رغم حدودها ورغم كونها تباشير أولى للمعركة المستمرة الواجبة كيف تستطيع الأمة العربية أن تستقطب من حولها معظم الشعوب المناضلة ضد الاستغلال والسيطرة والتحكم، بل كثيراً من أبناء الدول الاستعمارية نفسها. وأبرز مثال على ذلك التأييد الواسع الذي حظيت به القضية العربية في مؤتمر دول عدم الانحياز بالجزائر. بل أوضح شاهد عليه تلك الأصوات الحرة التي أخذت تنطلق هناك وهنا في بلدان العالم المتقدم، مؤيدة حق العرب في أرضهم منددة بالعدوان الصهيوني على وجودهم.
وإذا كان سلاح النفط قد لعب دوره في هذا المجال، فإن ذلك في الواقع أبلغ دليل على أن أسلحة العرب، وهي عديدة وكثيرة، لا تجدي ولا تفعل فعلها إلا عندما تعبأ من أجل المعركة. لقد ظل سلاح النفط مغلولاً وظلت ثروات البترول مغلولة عاجزة، أيام لم توضع في خدمة المعركة الأولى ومن أجلها. ومثل ذلك يصدق على سائر ثروات الأمة العربية: إنها لا تثمر ولا تزكو ولا يزداد شأنها وعطاؤها إلا إذا عبئت وجندت في سبيل المعركة ومن خلالها، لأن معركة الأمة العربية هي أولاً وآخراً كما سبق أن قلنا ثروتها الحقيقية، ثورتها الحضارية ثورتها القادرة على استخراج ثرواتها وإبراز إمكاناتها. إن معركة الأمة العربية ليست هي التي تحتاج إلى النفط وسواه لكي تنتصر، بل النفط وسائر الثروات العربية مادية كانت أو بشرية في حاجة إلى المعركة لكي تنمو وتتفتح وتربو.
وما قيمة الثروات العربية الضخمة، حين تمكث في الأرض غير مستغلة، أو حين تكون حراماً على أبنائها حلالاً للطير من كل جنس؟ لن تخرج الثروات العربية من مكانها ولن تجعل خيرات النفط الهائلة ملكاً لأبناء الأمة العربية إلا التعبئة للمعركة الأولى، معركة تحرير الأمة العربية من سارقي ثرواتها ووجودها.
من هذا المنطلق تأخذ معركة العرب معنى حضارياً، وتغدو كالفتح العربي معركة رسالة. إنها تعني تحرير الإنسان العربي وتحرير الثروات العربية الهائلة، ليكون كلاهما – الإنسان والتراث – للناس كافة، لا لشرذمة من مدعي السيطرة على خيرات العالم ومقدرات العالم بأسم شعب الله المختار.

3- هذه الحقيقة الأخيرة تنقلنا إلى مهمة ثالثة أساسية من مهمات الفكر العربي بعد السادس من تشرين، نعني مهمة الحوار مع الفكر العالمي. لقد انفتح للفكر العربي بفضل السادس من تشرين ألف أفق وافق للحوار مع الشعوب الأخرى.
وبعد أن كان الفكر الغربي مغلقاً إلى حد كبير دون فهم العرب وإدراك حقهم وأهدافهم، أصبح اليوم أقدر على تفهم معنى المعركة العربية، بعد أن بدأ العرب فعلاً يخوضون تلك المعركة. لقد كان من حقه أن يشيح ببصره عن مطالب العرب، يوم لم يأخذ العرب تلك المطالب مأخذ الجد، ويوم هانت قضيتهم عليهم فهانت على سواهم أما اليوم فقد استطاع العرب أن يفتحوا نافذة على العالم، في وسعهم أن يفيدوا منها أيما فائدة إذا هم أتقنوا لغة الحوار معه. على أن هذا الحوار لن يبلغ أغراضه كاملة إلا إذا بني على أرض لازمة لنموه وخصبه، هي شعور العالم أن العرب عازمون عزماً عميقاً حاسماً على أن يكونوا أمة حرة قوية متقدمة. عند ذلك يدرك العالم الغربي أن مصير العالم مرتبط إلى حد بعيد بإرادة هذا الشعب الحي الكبير الذي يملك من بقاع الأرض أهمها وأخطرها موقعاً ومكانة، ومن ثروات العالم أفعلها وأندرها. ومن القيم الإنسانية أغناها وأخصبها.
وبقول موجز لابد أن يكون الحوار بين العرب وسواهم حواراً حول المصير الإنساني، ذلك المصير الذي تهدده الخطط الصهيونية وما وراءها.
ولن يكون هذا الحوار مجدياً إذا لم يدرك العالم أن العرب قادرون على إنقاذ وجودهم ووجود الإنسانية، عازمون على ذلك ولو كانت دونه أهوال.
أما أساليب ذلك الحوار وأشكاله، فالتفضيل فيها له غير هذا المقام. على أنها أساليب وأشكال لابد أن تتفتح من تلقاء ذاتها، حين يضع العرب قضيتهم أمام أنفسهم وأمام العالم في إطارها الصحيح، وحين يؤمنون بمستقبلهم فيؤمن به سواهم، وحين ينتزعون من نفوسهم الشك بداتهم فينتزعون الشكوك من نفوس الآخرين. والمرء أولاً وآخراً حيث يضع نفسه.
4- على أن هذا كله لن يكون له صداه ورنينه، إلا إذا تعهد الفكر في هذه المرحلة مهمة رابعة، قد تكون أبرز المهمات وأخطرها، نعني مهمة توحيد الوجود العربي. فالوجود العربي لن يستطيع أن يواجه المعركة، وأن يصنع من المعركة ثورة، وأن يمنحها طابعاً حضارياً إنسانياً يجذب إليها أحرار العالم، إلا إذا بدا هذا الوجود عربياً موحداً يعمل كالجسم الواحد. ومهمة الفكر الكبرى أن يعمق أواصر هذا الوجود، وأن يحفر في أعماقه ليبرز أصوله الواحدة ومصيره الواحد.

لقد وعت الصهيونية والقوى الإمبريالية التي وراءها، أن خططها جميعها لابد أن تفشل إذا ظل هذا الوجود العربي الذي يطوقها واعياً لوحدته مدركاً لمصيره المشترك. ولقد أدركت بالتالي أن الطمأنينة لن تتأتى لها إلا إذا نجحت في تشتيت هذا الوجود العربي وتجزيئه، وفي خلخلة المفاصل العضوية التي تشده بعضه إلى بعض. ومن هنا جهدت منذ البداية، وقبل أن تخلق دولة إسرائيل، لتمزيق هذا الكيان الواحد، ليتم لها غزوه وليطيب لها المقام فيه. وما يزال هذا المطلب ضالتها الأولى. ولئن أرهبها وأخافها وفاجأها شيء في حرب السادس من تشرين، فهو أولاً وقبل كل شيء إن ترى الوجود العربي رغم كل شيء وجوداً متضامناً، يعود يوم الجد إلى وحدته الأصلية ويسترد في المعركة وحدة كيانه ومصيره.
وعمل الفكر من أجل تعميق وحدة الوجود العربي له أيضاً ألف وجه ووجه. غير أن أهم ما فيه أن يكون نضالاً يومياً متصلاً، وبناء متعدد الجهود والصور، وأن يتم من خلال عمل فكري عربي موحد. أهم ما فيه ألا يترك للصدف وألا يتم عفو الخاطر، بل أن تكون له خططه الواضحة وأساليبه المحددة وقيادته المحكمة. بل أهم ما فيه أن يدرك أن النكسات كلها لا تخيف والأخطاء جميعها لا ترعب، وأن نكسة واحدة تحمل في ثناياها الخطر الأكيد وتضم الأخطاء جميعها، نعني أن يصاب الشعور القومي بالوهن، وأن تتعرض وحدة الوجود العربي للتشكيك أو التمزيق.
5- مهمات عديدة أخرى تواجه الفكر العربي في هذا المنعطف التاريخي، لا يتسع المقام للحديث عنها. وحسبنا أن أشرنا إلى المحاور الأساسية في مهمات الفكر هذه.
غير أن هذه المهمات جميعها، وكثير سواها، لا يمكن أن تستقيم إلا إذا ملك الفكر العربي في هذه المرحلة الشاقة والصعبة، الموقف الأخلاقي الضروري، وإلا إذا كان فكراً نضالياً ملتزماً ذا رسالة. ونضال الفكر في هذه المرحلة التي تتصف بالتعقيد والغموض، والتي يلعب فيها التضليل دوره الكبير، كما سبق أن ذكرنا، لابد أن يكون نضالاً أخلاقياً مستعداً لتقديم التضحيات، إيماناً منه بأنه أساس المستقبل العربي ومنطلق الحياة العربية الحرة الكريمة.
لقد كان نضال الفكر – كما سبق أن قلنا – سهلاً واضحاً بعد نكبة عام 1948.
وكان دوره بعد كارثة حزيران، على أهميته، دوراً يسرته طبيعة المرحلة. أما بعد السادس من تشرين، بعد بوادر النصر، فدوره أشق وأصعب. لقد أعاد النصر إلى العرب طمأنينة يخشى أن تغدو زائفة مستسلمة، ومنحهم آمالاً يخشى أن تلهيهم بدلاً من تلهبهم، وخلق بينهم أواصر تضامن ووحدة يخشى أن يستخدموها لاقتسام الأسلاب والغنائم بدلاً من أن يعمقوها من أجل جولة أشد بأساً ووحدة.
وإذا جاز للوعي العربي العادي أن يؤخذ ببدايات النصر، وأن تضلله الوعود والعهود، وأن يضل الرؤية الواضحة. فلزام على الفكر القائد أن يرى الأمور في عمق ووضوح وأن يحمي الجماهير من مخاطر الغموض، وأن يحدد الطريق فيبقي على التوتر النفسي الذي خلقه السادس من تشرين حياً نابضاً.
بل لا نغلو إذا قلنا إن الجماهير العربية الغفيرة قد وعت بالممارسة والمعاناة – بعد السادس من تشرين – أهداف المرحلة الجديدة، ودخلت هذه الأهداف في تجربتها ووعيها. وإذا ما تعرض وعيها هذا لبعض الهزة، فمرد ذلك إلى ألاعيب السياسة من جهة وإلى تقصير المفكرين عن القيام بدورهم الأخلاقي الصادق من جهة ثانية وبوجه خاص.
فهل يصدق الفكر ذاته وأمته؟ هل يرقى إلى أن يكون في مستوى هذه المعركة القومية الإنسانية، معركة الأمة العربية في سبيل بقائها وتقدمها وازدهارها، وفي سبيل تقدم الحضارة الإنسانية وتحررها من زيف الصهيونية وائتمار الإمبريالية؟
هل يخلص حقاً لرسالته، رسالة الصدق مع الإنسان ومع قيم الإنسان، تلك الرسالة التي هي مبرر وجوده وجوهر كيانه؟
جميل أن يتفتح الفكر علماً وفناً وأدباً. وجميل أن يعدو وراء التقدم العلمي والتطور التكنولوجي. غير أن هذا كله لن يكون ذا معنى، بل لن يكون البتة، إذا لم يصدر عن إيمان ببناء الأمة، وإذا لم يكن رائده تفجير طاقات الشعب في سبيل خلق الوجود العربي الحر القومي العصري.
وشتان بين فكر يجتر عطاء الآخرين، وبين فكر يبني حضارة ويخلق أمة.
والجامعة، وهي موطن الفكر وموئله، مدعوة قبل غيرها إلى أن تتخذ موقف القيادة والريادة، إلى أن تعطي الفكر والعلم معناهما الحضاري. مهمتها أن تكون العقول والنفوس القادرة على التغيير، القادرة على الخلق والإبداع. ولا يتأتى لها ذلك إلا إذا ربطت عطاءها بالهدف الذي يوجه أي تغيير، نعني بناء أمة حرة قوية تسهم في بناء الحضارة الإنسانية.
وبعد، هل يصح أن نقول إن وراء أزمة الوجود العربي كله أزمة الفكر والمفكرين؟ إن من حقنا مع ذلك أن نقول إن التجارب التي مر بها الفكر العربي قمينة بأن تخرجه من مأزقه وتحدد له دوره. وهذا الفكر الذي استطاع، رغم كل شيء، أن يلعب دوراً بارزاً في اختمار الوعي العربي ونضجه بعد كارثة حزيران، لابد أن يؤكد من جديد شرعية وجوده التي منحتها له الكارثة وأن يكون بعد السادس من تشرين أوسع أبعاداً وأعمق أثراً.