تعقيب على ندوة أزمة التطور الحضاري العربي (الكويت 6-12 نيسان 1974)

مجلة الآداب – العدد الخامس (عدد ممتاز) – أيار 1974

د. عبد الله عبد الدائم
أزمة التطور الحضاري في البلاد العربية
ودور التربية في مواجهتها
بحث قدم إلى الندوة التي عقدت بالكويت (من 6-12 نيسان/أبريل 1974)
حول «أزمة التطور الحضاري العربي»
مقدمة:
في الأزمات الكبرى التي تعصف بحياة الأمم، ترنو الأنظار إلى التربية لتجد فيها الخلاص. ذلك أن التربية القائمة في مجتمع من المجتمعات تتراءى وكأنها المعبرة في النهاية عن المستوى الحضاري الذي وصل إليه ذلك المجتمع. ومن هنا تبدو المسؤولة عن ذلك المستوى، ويبدو تجاوزها السبيل الطبيعي لتجاوزه.
يضاف إلى هذا أن النظرة الحديثة للتربية ترى فيها الأداة الأساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، لا سيما بعد تكاثر تلك الدراسات التي تبين أنها ليست مجرد «خدمة استهلاكية» تقدم للناس بل هي «توظيف مثمر» للموارد يؤتي أكله مضاعفة، ويفوق في عطائه وعائداته ومردوده أي عطاء نجنيه من توظيف المال في أي مشروع اقتصادي آخر.
وفوق هذا وذاك إذا نظرنا إلى التربية العربية بوجه خاص من منظار النكبات التي حلت بالبلاد العربية خلال هذا القرن – والتي توّجتها نكبة فلسطين – بدت اللحمة بين التربية وبينها عميقة وعضوية. فالنكبات في حياة الشعوب تكشف دوماً عن أدواء عريقة بعيدة الجذور والأصول، وتفضح بوجه خاص البنى الثقافية التقليدية وتعلن إفلاسها، وتنادي ببنى ثقافية جديدة قادرة على خلق مجتمع صامد أمام التحديات الحضارية التي تواجهه.
ولا حاجة إلى القول أن التحدي الذي يتجلى في العدو الصهيوني تحد ثقافي قبل كل شيء آخر، ما دام قوام ذلك التحدي امتلاك العدو للتقدم العلمي والتكنولوجي نتيجة لارتباطه العضوي بالعالم الغربي الحديث وولادته من صلبه.

ويزيد في خطورة ذلك التحدي الثقافي الذي يواجهنا به العدو أنه يغزو بلاداً عربية شكت خلال قرون طويلة – ومنذ سقوط حضارتها على يد أخلاط المغول والتتر والأتراك – من تخلف ثقافي مزمن، لم تستطع تباشير النهضة عندها أن ترمم بعض خرائبه.
لهذا كله يتطلع المجتمع العربي إلى التربية، راجياً أن تولِّد له الثقافة المتصلة بالعصر، عصر العلم والتكنولوجيا، وأن تكون مركبه الأمين من أجل امتلاك القوة الحضارية التي يواجه بها الأخطار التي تتهدده.
ومع ذلك – ورغم لهاث التربية العربية وراء التقدم وسعيها الحثيث للحاق بالركب خلال العقود الأخيرة خاصة – تبدو خطواتها قلقة غير مطمئنة، وتقف جهودها في كثير من الأحيان عاجزة يائسة، ولا تتراءى صورتها المستقبلية محملة بالكثير من الوعود، إن هي تابعت سيرتها واستمرت في نهجها الذي عرفته حتى الآن.
ذلك أن علينا ألا ننسى – ونحن نتصدى لبناء التربية – أن هذه التربية نتاج المجتمع وحصيلته بمقدار ما هي صانعته وخالقته. وهي لا تستطيع أن تغدو صانعة المجتمع إلا بمقدار ما تقوى على مغالبة العوامل الأخرى الكامنة في المجتمع والتي تشد التربية دوماً إلى خلف. فالتربية لا تعمل في فراغ. وهي تتأثر بالبنية الاجتماعية القائمة، (بشتى أشكالها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية) كما تؤثر فيها، ولا تقوى على أن تحدث أثراً بارزاً أو سريعاً في بنية المجتمع إلا إذا أحاطت علماً بتلك البنية ورسمت خطتها وسياستها الجديدة من خلال معرفتها بمقومات تلك البنية. والتغيير – أي تغيير – لا يستطيع أن يرسم ما ينبغي أن يكون، إلا إذا أحاط علماً بما هو كائن، ولا يقوى على أن يخط تصوره الأمثل للأمور إلا إذا خبر أرض الواقع التي يعمل عليها. إنه لا ينجح في تطلعاته نحو السماء إلا إذا كانت رجلاه مطمئنتين إلى الأرض أولاً.
والتربية العربية – في سعيها نحو الجديد – تجد نفسها أمام جملة من قيود الواقع، عليها أن تحللها لتستطيع مغالبتها.. فهي أمام بنيان سكاني يثقل كاهلها، وأمام واقع اقتصادي يفرض عليها الحدود والسدود، وأمام تركيب اجتماعي يضع في طريقها المعوقات. وهي فوق هذا وذاك أمام واقع تربوي – بل إرث تربوي – يحمل سمات التخلف ويشد مسيرتها إلى منطقه التقليدي ويحبس انطلاقتها في حذائه الصيني، ويحيل جهودها الكبيرة ثمرات جافة.

ومن هنا كان علينا – عندما نحاول بناء تربيتنا الجديدة المنشودة – أن ندرك النظام التربوي الذي نأمل تغييره، في وعائه السكاني والاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي الذي يعيش فيه ويغتذي منه، لنرى كيف تستطيع جهودنا التربوية أن تشكل هذا الوعاء تشكيلاً جديداً، بل لنرى كيف يمكنها أن تولد صيغها الجديدة من خلال ذلك الوعاء ومن وحيه.
(أولاً) معوقات الثورة التربوية:
فما هي إذن العوامل المختلفة التي تشد التربية العربية إلى خلف، والتي تكون معوقات تحول بين النظام التربوي وبين انطلاقته السريعة نحو مرحلة جديدة، وتعطّلُ رغبته في دخول العصر، في بناء مجتمع قادر على مواجهة تحدياته؟ وما هو – بعد ذلك – الجواب التربوي الذي نستطيع أن نقدمه لمغالبة تلك المعوقات والعوامل؟
إن التحليل الدقيق لمسيرة التربية العربية خلال العقود الأخيرة(1) هو الذي يدلنا على تلك العوامل والمعوقات، وهو الذي يومئ لنا أخيراً بأساليب التغلب عليها.
وحسبنا في البداية – كيما ندرك حدة المشكلة – أن نقرر بوضوح أن التربية في البلاد العربية – رغم ما أصابته من تطور حثيث – كمي على الأقل – تعاني منذ سنوات مما نستطيع أن نسميه باسم «أزمة التربية في البلاد العربية».
وقوام هذه الأزمة ما يلي:
لقد أصابت التربية العربية في العقود الأخيرة – وفي العقدين الأخيرين خاصة – تطوراً ملحوظاً كما سبق أن رأينا. فتكاثر عدد الطلاب فيها تكاثراً هائلاً، وتعاظمت مؤسساتها ومعاهدها، وتضخم الإنفاق عليها حتى كاد يبلغ حدّاً يصعب تجاوزه. ومع ذلك فالأعباء التي لا تزال مطلوبة منها كثيرة وما تزال في بداية الشوط، وعليها أن تقوم بجهود ضخمة صعبة ولعلها مستحيلة إذا هي أرادت أن تتابع مسيرة التقدم التي بدأتها، بالأساليب التي جنحت إليها حتى الآن.
وبتعبير آخر وصلت التربية العربية اليوم – بعد الأشواط الكبيرة التي قطعتها – إلى ما يشبه الطريق المسدود: فأمامها مهمات ما تزال كبيرة، غير أنها في مقابل ذلك أمام موارد مالية ومادية وبشرية محدودة لا تستطيع أن تضطلع بتلك المهمات. وهذا هو جوهر الأزمة: أعباء تربوية ما تزال ضخمة ومتكاثرة، تقصر عنها الإمكانات المتاحة. ففي مرحلة رياض الأطفال، لا نجد في البلاد العربية أكثر من 3 بالمئة من الأطفال الذين هم في سن هذه المرحلة (من 3-5 سنوات).
وفي مرحلة التعليم الابتدائي ما يزال خارج هذه المرحلة نصف الأطفال تقريباً ممن هم في سنها (من 6-12 سنة)، أي ما يزال قرابة عشرة ملايين طفل خارج المدارس الابتدائية.
وفي مرحلة التعليم الثانوي (المرحلة المتوسطة والمرحلة الإعدادية معاً) ما يزال خارج هذه المرحلة حوالي 80 بالمئة ممن هم في سنها (من 12-18 سنة). أما التعليم العالي فلا يضم أكثر من 4 بالمئة ممن هم في سن هذا التعليم. يضاف إلى هذا أن نسبة الأمية (بين الكبار الذين تتراوح أعمارهم بين 15-24 عاماً) تبلغ نيفاً و50 بالمئة (35 بالمئة للذكور و75 بالمئة للإناث عام 1970).
هذا إذا أهملنا أشكال التعليم غير النظامي (تعليم الكبار بأشكاله المختلفة: تدريب – إعادة تأهيل – تجديد تأهيل – الخ..) وهي ضامرة، وإذا أغفلنا مؤقتاً النقائص في المستوى الكيفي والنوعي للتعليم، واقتصرنا (وهذا غير جائز) على مستواه الكمي. المهمات التي يتوجب على التربية العربية أن تقوم بها ما تزال إذاً كبيرة، رغم الشوط الذي قطعته خلال العقود الأخيرة. ورغم ذلك، فإمكاناتها المالية والبشرية تنوء بالأعباء القليلة التي تضطلع بها اليوم، وتئن من ثقلها، وستكون بالتالي أعجز عن الوفاء بالمطالب الكبيرة التي ما تزال متبقية أمامها: فالإنفاق على التربية كاد يبلغ في معظم البلدان العربية حداً لا تستطيع تجاوزه.
إنها تنفق على التربية (على تلك التربية المحدودة) ما يقرب من ربع ميزانية الدولة، وما يداني 6% من الدخل القومي. فما عساها تنفق إن هي عزمت على القيام بسائر أعبائها؟
يضاف إلى هذا أن القوى العاملة الفعلية لديها محدودة (في حدود 30 بالمئة من السكان) والتربية إذا أرادت أن تستكمل مهماتها قد تستنفد ربع هذه القوى العاملة الفعلية. وليس من المعقول أن تستأثر مهنة التعليم بمثل هذه النسبة من العمالة، وأن تترك سائر المجالات الاقتصادية والاجتماعية محرومة.
من هنا ندرك مرة أخرى أن علينا – إذا أردنا تجاوز هذه الأزمة وتجاوز هذا الطريق المسدود – أن نحلل العوامل المختلفة التي تؤدي إلى خلقها. فلنمض إذاً في تحليل تلك العوامل:
1- العوامل السكانية والتربية:
ولا شك أن أول عامل مؤثر في التربية متأثر بها هو الوعاء السكاني. فهذا الوعاء هو الذي يحدد في النهاية أعداد الطلاب وأعباء التربية.
أ- وكلنا يعلم أن المعدل السنوي للنمو السكاني في البلاد العربية معدل مرتفع جداً وأنه ما يزال آخذاً في الازدياد. فلقد كان هذا المعدل 1.5% سنوياً في الأربعينات ثم غدا 2.5% سنوياً في الخمسينات، وأصبح 3 بالمئة في الستينات، وينتظر أن يتجاوز هذه النسبة في السبعينات. وقد زاد سكان البلاد العربية – حسب تقديرات قسم السكان في الأمم المتحدة – ثلاثين مليون نسمة تقريباً من عام 1960 إلى عام 1970 أي بنسبة 31.7 بالمئة، ومن المتوقع أن يزيد عددهم في العقد الحالي (1970-1980) بمقدار 48 مليون نسمة أي بنسبة 38.8%. وهكذا من المقدر أن يرتفع عدد سكان البلاد العربية إلى أكثر من 172 مليون نسمة عام 1980.
وواضح أن هذا المعدّل المرتفع للنمو السكاني يزيد من أعباء التربية، بالإضافة إلى أعبائه الاقتصادية الضخمة. ويغدو هذا المعدل المرتفع أفدح خطراً دون شك عندما لا تقابله زيادة مماثلة في الدخل القومي.
ب- يضاف إلى هذا أن سكان البلدان العربية ينتمي معظمهم إلى الريف. وقد قدرت نسبة السكان الريفيين إلى مجموع السكان 67% عام 1965 و60% عام 1970. ومن المقدر أن تنخفض هذه النسبة قليلاً خلال العقد الحالي (لتصل إلى 59.4% عام 1980). وواضح أن كثرة سكان الريف – في وضعه المتخلف وبإمكاناته الاقتصادية الهزيلة، تجعل مهمات التربية أشد وأصعب وأبعد منالاً. ولاسيما حين تنضاف إلى مشكلات الريف المشكلات المتعلقة بصعوبة المواصلات فيه بل بانعدامها أحياناً (كما في السودان واليمن خاصة).
جـ- وفوق هذا وذاك، نجد بنية السكان في البلاد العربية بنية فتية، يغلب فيها عدد الأطفال على عدد الراشدين. فالذين دون الخامسة عشرة من العمر (وهم من حيث المبدأ رواد التعليم الإلزامي حين يمتد كما هو مرجو) يمثلون 42% من مجموع السكان في المنطقة العربية (باستثناء الكويت بسبب الهجرة العربية)، بل ترتفع نسبتهم في كثير منها فتصل إلى حوالي 47% في الجزائر والعراق والأردن وليبيا والمغرب والسودان. والذين تقع أعمارهم بين
15-64 سنة (أي الذين هم في سن العمل) يمثلون نحو 50% من السكان (باستثناء الكويت أيضاً). أما المسنون الذين يبلغون 65 سنة أو أكثر فلا تجاوز نسبتهم 3% من مجموع السكان.
ومعنى هذا أن الأطفال الذين في سن الدراسة (من 5-24 سنة) يمثلون أكثر من 26% من مجموع سكان البلدان العربية (بينما لا يتجاوزون 11% من السكان في البلدان المتقدمة)، ومقابل كل 100 طفل يقع عمرهم بين الخامسة والرابعة عشرة في البلدان المتقدمة نجد
150 طفلاً من الفئة العمرية نفسها في البلاد العربية. وإذا أردنا أن نترجم هذا إلى لغة التربية قلنا أن على البلاد العربية أن تبذل جهداً يعادل مرة ونصف المرة الجهد الذي تبذله البلدان المتقدمة إذا هي أرادت أن توفر التعليم الإلزامي (حتى سن 15) لأبنائها.
ومن المتوقع أن يزيد عدد الأطفال الذين هم في سن الدراسة في البلاد العربية زيادة خطيرة في العقد الحالي (1970-1980)، وتقدر هذه الزيادة بحوالي 24 مليون طفل جديد (بين 5 و14 سنة) يضافون إلى الأعداد الضخمة الحالية التي بلغت 32 مليوناً تقريباً عام 1970 (فيكون المجموع الكلي للأطفال في سن الدراسة الإلزامية عام 1980 سبعاً وخمسين مليوناً تقريباً).
واضح إذاً أن التركيب العمري للسكان في البلاد العربية يفرض أعباء صعبة على التربية تنوء بها إمكانات الدول المتقدمة بله إمكانات الدول النامية. هذا بالإضافة إلى ما يخلفه هذا التركيب السكاني من نتائج تتصل بالقوى العاملة وبالإنتاج الاقتصادي وتنعكس بدورها على ما يمكن أن يخصص للتربية من أموال. وحسبنا أن نذكر أن «عبء العيلولة» (أي عدد المستهلكين لكل مائة شخص من المنتجين) هو في البلدان العربية من أثقل الأعباء في العالم.
2- العوامل الاقتصادية والتربية:
طبيعي أن تكون البنية الاقتصادية المتخلفة من العوائق الأساسية التي تحول دون نمو التربية في البلاد العربية. فالأموال الضخمة التي تحتاج إليها التربية في مثل هذه البلدان – بسبب بنيتها – السكانية خاصة – تتطلب إمكانات اقتصادية هائلة، وتستلزم نمواً كبيراً في الناتج الداخلي. غير أن الواقع يحدثنا بغير ذلك: فعلى الرغم من الموارد الاقتصادية الهائلة التي تملكها البلدان العربية، ما يزال جزء من تلك الموارد غير مستثمر، وما يزال الناتج الداخلي الإجمالي فيها ضئيلاً (قدر بـ 25 مليار دولار في المنطقة كلها عام 1965)(1).

والقطاع التقليدي (المعتمد على الزراعة البدائية والصناعات الحرفية التقليدية والتجارة الصغيرة والخدمات البسيطة) ما يزال هو المسيطر على اقتصاديات البلدان العربية. وما يزال القطاع الحديث ضامراً فيها إلى حد كبير، رغم أن الارتفاع في الناتج الداخلي لا يتم عادة إلا بفضل نمو القطاع الحديث وتغلغله في القطاع التقليدي وشموله إياه.
ومستوى الاستهلاك بعد ذلك مستوى مرتفع في البلاد العربية. فلقد بلغ إجمالي الاستهلاك في القطاعين العام والخاص خلال الستينات بين 83 إلى 90% من جملة الناتج القومي الإجمالي. ومن المقدر أن ترتفع هذه النسبة في العقد الحالي بسبب الزيادة السكانية الهائلة. ومعنى ذلك أن الإمكانات المتاحة لتكوين رأس المال إمكانات محدودة في البلاد العربية (تبلغ نسبة التكوين الداخلي لرأس المال في البلاد العربية أقل من 20%، وتهبط إلى 10 بالمئة
و14 بالمئة في كل من المغرب والسودان).
وطبيعي بعد ذلك أن يكون معدل الزيادة السنوية الإجمالي في الناتج القومي في البلاد العربية ضئيلاً، رغم الجهود الكبيرة التي بذلت في هذا المجال خلال الستينات خاصة. ومعظم البلدان العربية عجزت في الواقع عن أن تبقي هذا المعدل في حدود 5% سنوياً. وإذا ذكرنا أن معدل الزيادة السنوية في أعداد الطلاب تجاوز هذا المعدل بكثير، أدركنا الهوة القائمة بين مطالب التربية وبين إمكانات الاقتصاد.
ولا شك أن من أهم أسباب ضعف معدلات النمو الاقتصادي في البلدان العربية بنية القوى العاملة، تلك البنية التي تعكس بدورها البنية السكانية، كما تعكس بعض الأوضاع الاجتماعية التي تؤدي إلى عدم اشتغال المرأة. وقد سبق أن ذكرنا أن نسبة السكان العاملين اقتصادياً في البلاد العربية لم تبلغ 30% من مجموع السكان خلال الستينات. بينما تبلغ هذه النسبة في بعض البلدان المتقدمة (كالاتحاد السوفياتي) حوالي 50 بالمئة. ويرجع ذلك إلى البنية الفتية للسكان في البلدان العربية وإلى تقلص دور المرأة. (لا يجاوز معدل النشاط عند النساء في البلاد العربية 10-11%).
3- العوامل الاجتماعية والتربية:
رغم التطور الذي أصاب حياة المجتمع العربي في العقود الأخيرة، ظل الإرث الإجماعي دوراً معوقاً لنمو التربية في البلاد العربية:

أ- فالبيئة الريفية – التي تضم معظم السكان كما رأينا – ظلت بيئة متخلفة، يسودها اقتصاد الكفاف (أو اقتصاد سد العوز) وتسيطر عليها البطالة المقنعة، وتجلّلها الأفكار والتصورات الجماعية العتيقة. وقد أدى ذلك إلى تخلف التربية في الريف عنها في المدن وإلى عجز معظم الدول العربية عن تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية (ديمقراطية التعليم). ومن هنا كانت المسألة الأساسية المطروحة على تطور التربية العربية في المستقبل هي مسألة إيصال التربية إلى أعماق الريف وإلى المناطق الصعبة فيه. ولعل هذا الواقع هو من أهم الأسباب التي جعلت تطور التعليم الابتدائي في البلاد العربية يسير خلال الستينات (وفي أواخرها خاصة) بخطى أبطء من تلك التي سار عليها خلال الخمسينات. ذلك أن التعليم الابتدائي في المدن كاد يصل في معظمها إلى الإشباع وغدا تعميم التعليم الابتدائي بالتالي أمراً يعني بالدرجة الأولى إيصال التعليم إلى أعماق الريف عامة، وإلى الإناث خاصة. وهذا المطلب أصعب منالاً لأسباب عديدة يرجع معظمها إلى موقف الناس من التعليم في الأرياف وإلى نظرتهم المتصلة بتعليم الفتاة خاصة.
ب- على أن موقف المجتمع من تعليم المرأة عامة – في الريف والمدينة – ما يزال موقفاً معطلاً. وينسحب هذا الموقف على التعليم الابتدائي إلى حد ما، غير أنه ينسحب إلى حد كبير على التعليم الثانوي والتعليم العالي. ومن هنا نرى نسبة الإناث في التعليم في البلاد العربية – من أدنى النسب في العالم:
ففي عام 1967-1968 نجد أن نسبة المسجلات من الإناث في التعليم الابتدائي إلى من هن في سن هذا التعليم لا تجاوز 43.9% (بينما تبلغ 60.3 لدى الذكور). وفي التعليم الثانوي (بجزئيه) تبلغ هذه النسبة 9.8 بالمئة فقط (مقابل 25.2% لدى الذكور). وفي التعليم العالي لا تجاوز هذه النسبة 1.7% (مقابل 6.1 لدى الذكور). ورغم أن نسبة الإناث في مراحل التعليم المختلفة آخذة في التزايد خلال السنوات الأخيرة، يظل من الصحيح أنها ما تزال مقصرة كثيراً عن نسبة الذكور.

وإذا نظرنا بعد ذلك إلى نسبة الإناث الملتحقات بالتعليم المهني والفني وجدنا أن الأمر أدهى وأمرّ. إذ لا نقع إلا على نسبة ضئيلة جداً منهن في التعليم الثانوي المهني والفني، وفي الاختصاصات العملية والتطبيقية في التعليم العالي(1).
جـ- ونجد الإرث الاجتماعي أيضاً في موقف الناس في البلاد العربية من التعليم الفني والمهني: صحيح أن ضمور التعليم المهني والفني بالقياس إلى التعليم الأكاديمي يرجع إلى أسباب عديدة، غير أن من أهم تلك الأسباب دون شك نظرة المجتمع إلى هذا النوع من التعليم وموقفه منه. وصحيح أيضاً أن هذه النظرة الدنيا إلى التعليم المهني والفني نقع عليها في الكثير من المجتمعات المتقدمة والمتخلفة، غير أن هذه النظرة الدنيا في البلدان العربية أبرز وأعمق، ذلك أنها ترجع إلى جذور بعيدة متصلة بقيم الحياة القبلية التي ما تزال تسود المجتمع العربي إلى حد كبير. وكلنا يعلم أن تلك القيم – منذ أيام الجاهلية حتى اليوم – تنظر إلى العمل اليدوي نظرة ازدراء. فمنذ القديم احتقر العربي المهن والصناعات، بل احتقر الحضر وحياته، وأكبر البادية «ديار الكرام». ومنذ القديم قال جرير معيراً الفرزدق بأبيه القين (الحداد)
إني بنى لي في المكارم أوّلي ونفخت كيرك في الزمان الأول
ولقد سلقه بأقدح الشتم عنده فوصفه بأنه «القين وابن القين».
وحتى اليوم نجد آثار هذه النظرة، مضمرة حيناً وصارخة أحياناً. ففي كثير من البلدان العربية يأبى العربي أن يشتغل بالأعمال اليدوية ويوكل أمرها إلى غير العرب. وفي بعضها يرفض حتى تربية الدواجن أو زراعة الأشجار المثمرة (كما في جنوبي العراق). هذا الموقف الاجتماعي – بالإضافة إلى عوامل أخرى تتصل بمستوى التعليم المهني والفنّي نفسه وبسياسة الأجور وسوى ذلك – أدى إلى تخلف واضح في التعليم المهني والفني (ولا سيما في هذه المرحلة الثانوية) في البلدان العربية. وحسبنا أن نذكر أن نسبة المسجلين في هذا التعليم في البلاد العربية إلى مجموع المسجلين في التعليم الثانوي لم تتجاوز (عام 1967-68) 2.2% وأن نمو هذه النسبة يسير في بطء شديد. ولا غرابة في ذلك إذا ذكرنا أن الغاية الأولى من تعليم الأولاد لدى الجمهرة الكبرى من سكان البلدان العربية – ولا سيما سكان المناطق الريفية والعمال – هي تحرير هؤلاء الأولاد من آفات العمل اليدوي ومتاعبه ومما يؤدي إليه من هبوط المنزلة الاجتماعية. وأصحاب «الياقات البيضاء» ما يزالون مفضلين في عرف المجتمع جملة على أصحاب «الياقات الزرقاء».
ومن عوائق التربية الاجتماعية في البلدان العربية وجود عدد كبير من البدو وما يطرحه ذلك من مشكلات تربوية صعبة. فعدد البدو يبلغ في بعض البلدان العربية ثلث مجموع السكان. ورغم الجهود التي بذلت من أجل تعليمهم، ورغم المحاولات التي تمت في سبيل إيجاد أساليب تعليمية ملائمة لحياتهم المتنقلة، ظل التقدم الذي تم في هذا المجال ضئيلاً لا يذكر. ومثل ذلك يصدق على المحاولات التي جرت لتوطين البدو كحل جذري لمشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية والتربوية. فمثل هذه المحاولات ما تزال في حدود ضيقة ولم تلق النجاح المطلوب.
4- العوامل التربوية
مهما يكن شأن العوامل السكانية والاقتصادية والاجتماعية في تأخير عجلة التربية في البلاد العربية وفي تخلفها الكمي والنوعي، يظل من الصحيح أنها لم تكن لتلعب هذا الدور المعطل الذي لعبته لولا أن أكدت هذا الدور النظم التربوية نفسها. فهذه النظم كانت وما تزال إلى حد بعيد نظماً تقليدية، ولم تستطع أن تجاوز كثيراً أثار الإرث الثقافي والتربوي العتيق، ولم تستطع أن تتحرر منه التحرر الكافي القادر على أن يجعلها أداة لتطوير المجتمع بدلاً من أن تظل صورة منعكسة له. لقد كان من المفروض أن تقوم التربية في البلاد العربية بدور المحرر، وأن تضطلع بمهمة تغيير البنى السكانية والاقتصادية والاجتماعية، عن طريق فهمها وإدراكها والتغلب عليها بالتالي. غير أنها ظلت في الواقع أسيرة تلك البنى وانعكاساً لها، ولم تستطع أن تلعب دورها الرائد في تغييرها وتطويرها. صحيح أن أي تربية لا بد أن تعكس جملة البنية الاجتماعية من حولها، وأنها جزء عضوي من هذه البنية. غير أن من الصحيح كذلك أنها تستطيع أن تغير هذه البنية تغييراً علمياً عقلانياً، إذا هي وعت مهمتها، وأدركت أهدافها بوضوح، ورسمت الخطة المؤدية إلى بلوغ تلك الأهداف.
غير أن الواقع يحدثنا مع الأسف أن النظم التربوية – في البلاد العربية وسواها – متخلفة غالباً عن الركب وأنها أكثر محافظة من سواها. وفي حين نرى أن الحياة من حولها تبدأ بالتغير، بتأثير تطور الحياة العالمية جملة، نرى التربية في معظم الأحيان جامدة متصلبة، متمسكة بقوالب بالية، معطلة لعملية النمو بدلاً من أن تكون دافعة لها. وهكذا تقع معظم البلدان – ولا سيما البلدان النامية – في دور فاسد فالتربية من حيث المبدأ هي سبيلها إلى تجاوز البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المتخلفة. غير أنها كثيراً ما تكون في الواقع مشدودة إلى أعتق ما في هذه البنى، بعيدة أن تتحسس البوادر الجديدة والإرهاصات المحدثة التي تومئ بالظهور في قلب تلك البنى. ولا سبيل إذاً إلى الخروج من ذلك الدور الفاسد إلا إذا وعت التربية دورها في تفجير الحياة الحديثة وفي تغيير البنى التقليدية القائمة في شتى الميادين، والقائمة فيها خاصة.
لقد بدأت رياح الحداثة والتجديد تهب على المجتمع العربي منذ عقود بعيدة، بسبب اتصاله بالتيارات العالمية وبتجربة العالم. وأخذت هذه الرياح تهز البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية لهذا المجتمع. وكان على التربية أن تدرك قبل سواها بوادر هذا التغيير وإيماءاته، وأن تساعد على حدوث تطور سريع في شتى جوانب حياة المجتمع يتم في إطار علمي حضاري متكامل. غير أنها في الواقع قصرت عن هذه المهمة إلى حدٍّ بعيد، وظلت حبيسة عاداتها وتقاليدها المألوفة، وبقيت عصية على التغير والتجديد، بل قاومتهما إلى حد كبير.
ويتجلى هذا الطابع التقليدي الغالب على التربية العربية في جوانب كثيرة، نذكر أهمها:
أ- فيما يتصل ببنية التربية ومراحلها، ظل الطابع المسيطر على التربية في البلاد العربية طابع الاهتمام بالتعليم النظامي وإهمال التعليم غير النظامي، والتوقف بالتالي عند المراحل التقليدية الثلاث: مرحلة التعليم الابتدائي ومرحلة التعليم الثانوي ومرحلة التعليم العالي. وقد رأينا أن مرحلة رياض الأطفال مرحلة ما تزال ضامرة: وإذا نحن استثنينا بلدين هما الكويت ولبنان، لا نكاد نقع على أثر يذكر لهذه المرحلة. أما التربية السابقة على رياض الأطفال والسابقة على دخول المدرسة إجمالاً، فتكاد تكون مهملة إهمالاً كاملاً، رغم ما أكدته الدراسات النفسية والتربوية الحديثة من أهمية العناية بالطفل منذ طور مبكر. وكلنا يعلم أن الأبحاث المحدثة في الحياة النفسية والبيولوجية للطفل أظهرت القدرة الهائلة على الاكتساب والتعلم لدى الطفل في السنوات المبكرة جداً من حياته، كما أظهرت أن الاتجاهات والمواقف النفسية الأساسية تتكون لديه منذ تلك السنين الغضة. وإذا كان من الأهداف الأساسية للتربية في عصرنا أن ننشئ الطفل تنشئة تربطه بعالم العلم والتكنولوجيا ونكوّن لديه روح الخلق والإبداع اللازمة للتقدم العلمي والتكنولوجي، فإن مثل هذه التنشئة لا تتم إلا إذا قامت العناية منذ نعومة الأظفار بتكوين هذه الاتجاهات العلمية والتكنولوجية وخلق المواقف المبدعة الخلاقة.

وفي الطرف الآخر من السلم التعليمي لا نكاد نجد أيضاً أثراً ذا بال لأي تربية تتم بعد مرحلة التعليم العالي، رغم ما أكدته الاتجاهات التربوية الحديثة من الدور الكبير الذي تلعبه التربية اللاحقة للمدرسة في تعجيل التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفي بناء المجتمع العصري الحديث. فالجهود التي تبذل في مكافحة الأمية جهود محدودة، تشهد على ذلك تلك النسبة العالية من الأمية في البلاد العربية، كما سبق أن رأينا. وما يزال التفكير الغالب على معظم النظم التربوية العربية أن العناية بمحو الأمية ينبغي أن تتم أولاً عن طريق تعميم التعليم الإلزامي وأن تأتي لاحقة له. ومثل ذلك يصدق على تعليم الكبار إجمالاً، فهذا التعليم ما يزال يحتل المرتبة الدنيا في الاهتمامات التربوية. ولا حاجة إلى القول أن تعليم الكبار هذا هو الذي يؤدي إلى نتائج اقتصادية سريعة ( فضلاً عن نتائجه الاجتماعية والثقافية العامة)، لا سيما عندما يتم في إطار محو الأمية الوظيفي، أي عندما توجه العناية أولاً إلى محو الأمية وتعليم الكبار لدى الأفراد المنتجين في سوق العمل والعاملين في مواقع الإنتاج مباشرة. وإلى جانب إهمال محو الأمية وتعليم الكبار، نجد إهمالاً لسائر الأشكال الأخرى من التربية اللاحقة للمدرسة: من مثل التدريب عن طريق مراكز التدريب (وفق متطلبات سوق العمل وتبعاً للتغيرات التي تحدث في بنية المهن وفي التأهيل اللازم لها) ومن مثل تجديد التدريب (بحيث يلحق بالتقدم السريع في أدوات الإنتاج وبالتطور العاجل في المعرفة والأساليب العلمية والتقنية). وتستبين خطورة هذا الإهمال الشامل لشتى أنواع التربية اللاحقة للمدرسة، إذا نحن ذكرنا أن الاتجاهات التربوية الحديثة تؤكد يوماً بعد يوم أهمية هذه التربية غير النظامية، بل ترى أنها أعظم شأناً وأكبر أثراً في تطوير المجتمع من التربية النظامية التي تتم عبر مراحل التعليم الثلاث المألوفة. بل إن هذه الاتجاهات التربوية الحديثة تؤكد – كما نعلم – أهمية النظرة الشاملة للتربية، وترى أن من الخطأ أن ننظر إلى عملية التربية وكأنها محصورة في مرحلة معينة من العمر أو في شكل معين من التربية أو في فئة معينة من المجتمع. إنها تتجه نحو مفهوم «المجتمع المتعلم» أي نحو تربية لا تقف عند عمر معين، ولا تقتصر على قطاع محدود من الناس، بل تصيب خيراتها المجتمع كله، بأشكال مختلفة ملائمة للأعمار المختلفة والبيئات الاجتماعية المختلفة والفئات العاملة المتباينة. إنها تتجه – كما تعلن اليوم – نحو تعليم المجتمع كله. وواضح أن مثل هذه النظرة تقلب «منطلق الأولويات» السائد في التربية التقليدية فلا تمنح الأولوية لتعليم الصغار على تعليم الكبار، ولا للتعليم النظامي على التعليم غير النظامي، بل تأخذ بتربية مرنة موجهة إلى كل فرد في المجتمع، تلبس لبوساً مختلفاً تبعاً للأعمار والأوضاع الاجتماعية وحاجات سوق العمل.
ويلف هذه الاتجاهات الحديثة التي غيرت منطق الأولويات التقليدي وغيرت البنية المألوفة لنظام التعليم، مفهوم جامع شامل، يحمل بذور ثورة تربوية حاسمة، نعني به مفهوم «التربية المستمرة» التربية من المهد إلى اللحد. ومثل هذا المفهوم الهام لم يأخذ طريقه بعد إلى التربية العربية، رغم الوعود الكبرى التي يحملها ويبشر بها. ولسنا هنا في معرض الحديث عن هذا المفهوم الحديث، وحسبنا أن نذكر أن من أهم نتائجه أمرين:
الأول أنه يؤدي إلى إعادة النظر في بنية التعليم النظامي نفسه، في ضوء هذه التربية المستمرة. فالتعليم النظامي بعد ولادة هذه التربية الدائمة، يتقلص دوره ويتغير، ويقتصر على تقديم أساسيات المعرفة وأدوات المعرفة، وينأى عن المعرفة الموسوعية (التي غدت مستحيلة اليوم) وعن الحشد الزائد للمعلومات، ما دام وراء التعليم النظامي تعليم مستمر يأخذ أشكالاً مختلفة من خلال حاجات سوق العمل المتعددة وحاجات الأفراد خلال ممارستهم لوظائفهم المختلفة في المجتمع.
والثاني أنه يؤدي إلى ربط التعليم النظامي ربطاً أوثق بحاجات سوق العمل، إذ يحقق اللحمة اللازمة بين المهن المختلفة وبين الإعداد لها، عن طريق تربية متجددة مرنة متصلة، تقدم لكل فرد التدريب اللازم تبعاً للمهنة التي يختارها، وتجدد هذا التدريب تبعاً لتجدد المعرفة أو تعيد هذا التدريب تبعاً لما تستلزمه سوق العمل من تحوّل وانتقال من مهنة إلى أخرى.
وما نريد هنا التصدي لهذه المفاهيم الحديثة التي غيرت النظرة التقليدية إلى بنية التربية ومراحلها وأشكالها، وكل ما أردناه أن نشير إلى قصور التربية العربية في هذا المجال وإلى استمرارها في المنهج التقليدي، واستمساكها بمراحل التعليم المألوفة الجامدة، دون أن تنفتح على أشكال جديدة أوسع وأشمل وأكثر مرونة، وأشد ارتباطاً بحاجات العصر والتغيرات السريعة التي تحدث في المعرفة والدربة.
ب- وما يقال عن بنية التربية ومراحلها يقال عن إطار التربية نفسه. فهذا الإطار ظل في التربية العربية جامداً أيضاً وتقليدياً، لم يحاول أن يتجدد ويتطور وفق مطالب العصر ووفق ما يستلزمه خاصة تطور التقنيات الحديثة في المعرفة.
إن الإطار الذي تعمل فيه التربية العربية، دون أن تمسه، هو الإطار الأزلي الذي عرفه الإنسان منذ آلاف السنين، وهو الإطار الذي استقيناه خاصة من المجتمع الغربي بعد الثورة الصناعية الأولى، ونعني بذلك الإطار «الصف والمعلم والسبورة». فأساس العملية التربوية عندنا – وفي سائر النظم التقليدية منذ قرون وقرون – هو حجرة محدودة الحجم ثابتة الجدران تضم عدداً من المقاعد الثابتة أيضاً وعدداً من الطلاب محدوداً بحجم الغرفة، بالإضافة إلى معلم ومنضدة وسبورة. ونظامنا التربوي يحبس نفسه في هذا «الحذاء الصيني» دون أن يتساءل عنه ودون أن يشكك فيه، وكأنه عنده إطار منزل، وكأن التربية لا يمكن أن تتم إلا في هذا الوعاء المحفوظ.
وههنا أيضاً قدمت الاتجاهات التربوية الحديثة موقفاً جديداً مبايناً: لقد وضعت موضع التساؤل هذا الإطار التقليدي، وتجرأت على الشك فيه، ووضعته موضع التجريح والنقد. ولقد رأت أن من حقها ان تطرح هذا السؤال المبدئي الكبير: هل إطار التربية المألوف هذا هو الإطار الأمثل الذي يمكن أن تتم عبره التربية في عصرنا؟ أو ليس من الجائز أن يكون مجرد إرث من مخلفات عصور زالت ودالت؟ أفلا يصح القول أنه وليد الثورة الصناعية الأولى في الغرب وما أحدثته من «تنظيم عسكري» في حياة العمل وفي حياة الطلاب على حد سواء؟
ويسعف هذه الاتجاهات التربوية في تساؤلاتها ظهور أساليب وتقنيات حديثة في نقل المعرفة، على رأسها وسائل البث الجماعية (كالراديو والتلفزيون والأفلام وشرائط التسجيل وسواها والتعليم عن طريق الحاسبات الإلكترونية، والتعليم بالمراسلة وسواها) وهكذا سارت هذه الدراسات التربوية الحديثة في اتجاه إقامة تعليم متنوع الوسائل ليست وسيلته دوماً وأبداً حجرة الصف الثابتة، بل قد تكون وسيلته المدرسة في «الهواء الطلق» والتعليم عن طريق الأقمار الصناعية والتلفزيون، وتعليم الأفراد أنفسهم بشتى الوسائل الحديثة. وبهذا «تحطمت جدران الصف» كما يقال، وانفتحت التربية على أشكال جديدة ووسائل جديدة، تتنوع وتتشكل تبعاً للمواقف المختلفة والحاجات المختلفة، وتلبس لكل حال لبوسها.
ولسنا هنا أيضاً في معرض البحث في التقنيات الحديثة في التربية(1)، وحسبنا أن نقول أن هدف هذه التقنيات الأساسي أن تصل بنا إلى تعليم عدد أكبر من الطلاب تعليماً أفضل بنفس الموارد والإمكانات المتاحة. فأعداد الطلاب لم تعد محكومة بحجرة الصف المحدودة، بل أصبح من الممكن أن نتجاوز الحدود والسدود عن طريق شبكات البث، أو أن تضمها قاعات واسعة حينا وضيقة حيناً آخر، أو أن تقيم متناثرة هنا وهناك وراء المدارس وحجراتها عن طريق وسائل التعلّم الذاتي. إن التربية – بفضل هذه الاتجاهات – تدخل عصر العلم والتكنولوجيا، وتفيد من الأساليب الجديدة التي خلقها ذلك العصر، بدلاً من أن تظل متخلفة عنها. وإنها – بفضل هذا الانفتاح على طرائق أكثر نجعاً وفعالية – تصيب هدفين هامين: أولهما أنها تتمكن من تقديم تربية لأعداد أكبر من الناس. وثانيهما أنها تقدم في الوقت نفسه معرفة أكمل وأجود. ولا تخفى أهمية هذين الهدفين في التربة عامة وفي التربية العربية خاصة، إذا ذكرنا أن التربية في البلاد العربية – وفي كثير من بلدان العالم – تعاني من أزمة التفجر المدرسي والتزايد المتسارع في أعداد الطلاب، ومن عجز مواردها المالية والبشرية عن الوفاء بحاجات ذلك التفجر. وقد رأينا عمق هذه الأزمة في البلاد العربية، وأشرنا إلى الطريق المسدود الذي كادت تصل إليه التربية فيها: فمطالب التربية ضخمة متعاظمة، والإمكانات والموارد البشرية محدودة لا سبيل إلى تجاوزها. وقوام الحل المنشود إذاً أن تنهض تربية مرنة، وفق الحاجات والأوضاع، تتجاوز الإطار التقليدي، وتفيد من التقنيات الحديثة، وتصل بفضلها إلى تقديم تعليم أفضل لعدد أكبر من الناس بنفس الموارد المتاحة.
جـ- والحديث عن التربية الفعالة الناجعة القادرة على الإفادة إفادة مثلى من الموارد المتاحة، يقودنا إلى الحديث عن آفة أشمل وأعم، شكت منها التربية العربية وما تزال، ونعني بها ما يدعوه اقتصاديو التربية اليوم باسم «ضعف الكفاءة الداخلية» للنظام التعليمي.
فالنظام التعليمي العربي تغلب عليه سمات التعليم التقليدي التي تتصف بضعف نتاج التعليم ومردوده، والتي يسودها طابع الهدر والضياع والتبذير في الموارد.
وعندما يتحدث اقتصاديو التربية عن «الكفاءة الداخلية» أو المردود الداخلي لنظام التعليم يشيرون عادة إلى ما يقع فيه من هدر وضياع، نتيجة لعوامل عديدة أهمها اثنان: الرسوب من جهة والتسرب من جهة ثانية. فالرسوب الذي يؤدي إلى إعادة الصف والتسرب الذي يؤدي إلى ترك المدرسة قبل نهاية المرحلة، يقودان إلى إضعاف المردود الكمي لنظام التعليم، وإلى إضعاف نسبة المخرجات «إلى المدخلات» كما يقال في لغة الاقتصاديين اليوم.
والهام في نظر هؤلاء الباحثين ليس عدد الطلاب الذين يدخلون المدرسة، بل العدد الذي يتخرج من هؤلاء في نهاية المدة المطلوبة لإنجاز الدراسة.
والمردود الذي نحصل عليه حين يتخرج خمسمائة طالب فقط من أصل ألف طالب بعد ست سنوات من دخولهم المدرسة الابتدائية مثلاً، مردود ضعيف يبين أن النظام التعليمي لا يقدم إلا نصف النتاج المطلوب. فما بالنا إذا ذكرنا أن بعض البلدان العربية كما تشير بعض الدراسات – لا يتجاوز فيها عدد الطلاب الذين يتخرجون من المرحلة الابتدائية بعد ست سنوات من الدراسة 114 طالباً من أصل ألف طالب؟ إن معنى ذلك أن النظام التعليمي ينفق على ألف طالب كيما يحصل في النهاية على نيف ومائة طالب فقط. وفي هذا ما فيه من هدر وتبذير في الموارد.
مثل هذه الظاهرة – ظاهرة الهدر الكبير في النظام التعليمي – شائعة واسعة الانتشار في البلدان العربية، في مراحل التعليم المختلفة (1) وهي تدل في النهاية على ضعف مستوى التعليم ونقص كفاءته وتضع إصبعنا على وسيلة هامة من وسائل علاج أزمة التربية في البلدان العربية، نعني «الاستخدام الأمثل للموارد» المتاحة، وهي قليلة، عن طريق القضاء على الهدر والضياع الناجمين عن الرسوب والتسرب خاصة، وعن طريق وسائل أخرى لا مجال لذكرها هنا.
على أن معالجة ظاهرة الهدر والضياع هذه تقودنا مباشرة إلى مسألة المسائل في حياتنا التربوية: وهي الحرص على المستوى الكيفي والنوعي للتربية، قبل الحرص على مستواها الكمي. فليس الهام أن ندخل إلى المدرسة أكداساً من الطلاب، لا يتخرج منهم إلا النذر اليسير بسبب فساد مستوى التعليم وأساليبه، بل الهام أن يتخرج من الأعداد التي تدخل التعليم معظم هذه الأعداد وبمستوى أفضل، وذلك باتباع أساليب تعليمية أجدى وأنجح. الهام أن نربط ربطاً وثيقاً بين الكم والكيف، وأن ندرك أن تطور الكم لا يتم حقاً إلا بفضل تطور الكيف والنوع.
على أن المسألة لا تقتصر على ضعف «الكفاءة الداخلية» لنظام التعليم في البلاد العربية، بل تشمل أمراً أخطر وأدهى، نعني ضعف «الكفاءة الخارجية» لذلك النظام. ويعني الاقتصاديون بهذا الاصطلاح ضعف الارتباط بين الثقافة والتدريب اللذين يحصل عليهما المتخرجون وبين حاجات المجتمع الفعلية وحاجات سوق العمل. إذ لا يكفي أن يزيد النظام التعليمي من «كفاءته الداخلية» وأن يرفع نسبة المخرجات إلى المدخلات أي أن يخرج أكبر عدد ممكن من الداخلين إلى المدرسة، بل لا بد أن يملك هؤلاء الخريجون المستويات العلمية والمهارات الفنية التي تمكنهم من القيام بدورهم في المجتمع وفي سوق العمل على أفضل وجه.
وههنا أيضاً نجد في التربية فرقاً كبيراً بين الإعداد الذي تقدمه المدرسة وبين حاجات المجتمع وحاجات سوق العمل:
فليس هنالك أولاً ارتباط بين سياسة القبول في مراحل التعليم وأنواعه واختصاصاته وبين حاجات القوى العاملة. وقلما تقع في البلاد العربية على خطط تربوية تربط الربط الوثيق بين أعداد الطلاب الذي نتقبلهم في مراحل التعليم وأنواعه واختصاصاته وبين ما تحتاج إليه القوى العاملة في السنوات المقبلة من المهنيين والفنيين في شتى مستويات التدريب وفي مختلف قطاعات النشاط الاقتصادي. ولن ندخل ههنا في تفصيل هذه المسألة وفي بيان أسبابها ونتائجها(1).
وليس هنالك ثانياً ارتباط عضوي بين محتوى التعليم الذي يقدم للطلاب في المدارس وبين حقيقة ما تحتاج إليه المؤسسات الاقتصادية من معرفة ودربة. وهنالك في معظم الأحيان طلاق بين أنواع الكفاءة التي تحتاج إليها المؤسسات القائمة في المجتمع وبين مضمون المناهج التي تقدم للطلاب على مقاعد الدراسة (سواء في التعليم العام الأكاديمي أو التعليم المهني والفني). بل هنالك بونٌ واضح بين المهن والاختصاصات التي تعد لها المدرسة وبين المهن والاختصاصات القائمة في المجتمع حالياً أو التي سيحتاج إليها المجتمع في سنيه المقبلة. وتزداد هذه الظاهرة الأخيرة خطورة في عصر تتغير فيه بنية المهن والأعمال فتنقرض مهن وتنبثق مهن جديدة، بسبب تغير المعرفة الإنسانية وتطور الأساليب التكنولوجية.
وهكذا يقع النظام التعليمي في البلاد العربية في نوع من الهدر أخطر وأدهى من الهدر الناجم عن الرسوب أو التسرب. إنه هدر ينال صلب العملية التربوي وهدفها الأساسي، ويؤدي إلى فشلها الكبير حين تخرج في النهاية أعداداً من المتعلمين لا يملكون المعارف والمهارات اللازمة لسوق العمل، ولا تقوى هذه السوق بالتالي على امتصاصهم. وبهذا يقود النظام التربوي إلى علة مزدوجة:
فهو من جهة يخرج مثقفين عاطلين غالباً عن العمل، وهو من جهة ثانية يعجز عن أن يقدم للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ما تحتاج إليه من اختصاصات وأعمال ومستويات. وهو بذلك كله يتخلف عن الركب، ويغدو أداة معيقة للتنمية، معطلة «لتحديث المجتمع» مفجرة لمشكلات اجتماعية خطيرة.

د- ويتوج الطابع التقليدي للتربية العربية ويكاد يلخصها، الطابع التقليدي للإدارة التربوية. فمن الطبيعي أن تكون هذه الإدارة التربوية هي المسؤولة أولاً وآخراً عن تخلف التربية وضعف فعاليتها وقلة مردودها وعطائها.
والحق أن التربية العربية التي تطورت وتعقدت في السنوات الأخيرة، وغدت صناعة من أكبر الصناعات وأضخمها، ظلت في الواقع إلى حد كبير تدار بالأساليب «الحرفية» التي كانت سائدة يوم كانت التربية في بواكيرها ويوم كانت أعباؤها محدودة. ولم تستطع الإدارة التربوية أن تطور نفسها بحيث تستجيب لمطالب تلك الصناعة الكبرى وبحيث تغدو هي بدورها «إدارة مصنعة» إن صح التعبير.
وكلنا يعلم أن الثورة العلمية والتكنولوجية التي غزت العالم المتقدم في العهود الأخيرة ولّدت بشكل خاص تقنيات جديدة «في الإدارة والتسيير» تتناسب مع حجم المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية وطبيعة مهماتها. وهكذا ولدت ثورة إدارية جديدة، غدت من أهم سمات التفوق والتقدم لدى الشعوب، بحيث صح القول أن الهوة بين البلدان المتقدمة والبلدان المتخلفة ليست هي علمية فحسب بل هي أولاً وقبل كل شيء هوة إدارية وتنظيمية. ومن هنا رأت بعض الدول في التحديات التي تواجهها تحديات إدارية وتنظيمية قبل أي شيء آخر(1)، وجهدت لإدخال الطرائق الحديثة في الإدارة والتنظيم، وعلى رأسها الطرائق التي عرفت باسم «طرائق التحليل الإجرائي» والتي شاعت أول ما شاعت في ميدان الحرب ثم انتقلت إلى سائر الميادين الاقتصادية والاجتماعية.
هذه الطرائق الحديثة في الإدارة والتنظيم، ومن بينها طرائق التحليل الإجرائي أو الهندسة الإجرائية كما تسمى أحياناً، امتدت في كثير من الدول المتقدمة إلى ميدان التربية نفسها. فأخذت الإدارة التربوية تشهد ظهور تقنيات حديثة فيها، من مثل طريقة «بيرت» (أو طريقة الدرب الحرج) أو طريقة «دلفي» أو طريقة «الميزانية المبرمجة» أو «طريقة المحاكاة» أو سواها من طرائق التحليل الإجرائي المنتسبة أخيراً إلى ذلك المنهج الشامل، منهج «تحليل النظم»(2). هذا بالإضافة إلى دخول تجديدات أخرى في الإدارة، كاللجوء إلى «مكننة الإدارة» واستخدام البطاقات المثقوبة وسواها وكاللجوء إلى طريقة «التنظيم والمنهج» في تبسيط العمليات الإدارية. وفوق هذا وذاك داخلت الإدارة التربية تجديدات في ميدان «تفويض السلطة» وسواها من الميادين الكيفية في الإدارة(1).
مثل هذه الرياح الجديدة التي هبت على الإدارة التربوية في كثير من بلدان العالم، فصنّعتها وأدخلت إليها الأساليب الحديثة في «عقلنة القرارات» وفي الرسم المسبق لخطوات التنفيذ، ظلت غريبة إلى حد بعيد عن واقع التربية في البلاد العربية، وظلت هذه التربية كما ذكرنا تدار بالأساليب «الحرفية» العتيقة. ومن هنا عجزت عن توجيه السياسة التعليمية توجيهاً فعالاً، وعجزت عن أن تزيد من فعالية النظام التعليمي، وكانت عاملاً مساعداً – بل أحد العوامل الأساسية – في نقص الكفاءة الداخلية والخارجية لهذا النظام، وفي ذيوع الهدر والضياع فيه.
يضاف إلى هذا ما أدى إليه ضعف الإدارة التربوية والمدرسية من سوء استخدام الأبنية المدرسية ومن ضعف التخطيط الفعال لها، ومن عجز عن الإفادة الكاملة من التجهيزات المدرسية القائمة، فضلاً عن تلكؤها في إدخال تجهيزات تربوية حديثة.
هـ- هذه النقائص كلها التي شكت منها التربية العربية يلخصها ويفسرها جميعها انعدام التخطيط التربوي العلمي في معظم البلدان العربية. فالسياسة التربوية ما تزال في أكثر البلدان العربية سياسة مرتجلة، تتصدى لتقديم حلول سريعة لمشكلات راهنة. وقلما تبحث في رسم خطط بعيدة المدى لمواجهة مشكلات التربية ولتطوير التربية.
صحيح أن بعض البلدان العربية أخذت منذ بداية الستينات خاصة بأسلوب التخطيط التربوي. غير أن معظم الخطط التربوية التي وضعت ظلت بعيدة عن معنى التخطيط التربوي العلمي، واقتصرت في الغالب على أن تكون مجرد نبوءات «وإسقاطات كمية» تستند غالباً إلى التقديرات الناجمة عن الزيادة السكانية المتوقعة أو إلى مد الاتجاهات الماضية إلى المستقبل. أما التخطيط التربوي العلمي – بوجهيه الكمي والكيفي – الذي يستند إلى تحليل شامل متكامل لجملة الأوضاع السكانية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية، والذي يعتمد على أهداف «مستقبلية» قائمة على دراسات «تحسبية» دقيقة، فلقد ظل إلى حد بعيد غريباً عن معظم الخطط التربوية التي عرفتها البلدان العربية في الستينات. وطبيعي أن تعجز التربية عن تحقيق مطالبها وعن التصدي لمشكلاتها، إذا هي لم تنطلق من نظرة شاملة، تأخذ بعين الاعتبار جملة العوامل التي تؤثر في مسيرة التربية، وتضع الأهداف وضعاً علمياً، وترسم وسائل التنفيذ المؤدية إلى بلوغ تلك الأهداف(1). وإذا كان التأسي بعصر العلم والتكنولوجيا يعني شيئاً، فهو يعني أولاً وقبل كل شيء الأخذ بروح العصر، القائمة على أساس «النظرة المستقبلية» العلمية وعلى أساس امتلاك ناصية المستقبل والمشاركة في صنعه مشاركة علمية فعالة، وكتابة «تاريخ الغد» كما يقول «فوراستييه».
تلك إذاً أهم السمات التي تتسم بها التربية العربية والتي تجعل منها – رغم جهودها ومحاولاتها – تربية تقليدية في جملتها، عاجزة عن مجابهة «أزمة التربية» التي تنتابها (أزمة تزايد المطالب وقلة الموارد)، مقصرة عن أن تلعب دورها في تطوير المجتمع وتحديثه وفي تفجير الثورة العلمية والتكنولوجية فيه.
إنها كلها تشير إلى حقيقة لا ثاني لها: وهي أن هذه التربية في البلاد العربية ستظل تراوح في مكانها وتواجه أزمات متزايدة، إذا هي لم تفكر في ثورة تكنولوجية في التربية، تجعلها تبحث عن تربية أوسع من التعليم النظامي وأشمل، وأنجع من الإطار التقليدي وأقدر، وألصق بحاجات سوق العمل، وأجود مردوداً وكفاءة في داخلها وخارجها(2).
إن عصر العلم والتكنولوجيا لا تستطيع ولوجه وطرق بابه تربية ما تزال تتأبّى على منتجات هذا العصر وترفض الإفادة من تقنياته في تشكيل إطارها وصياغة مناهجها وطرائقها ورسم بنيتها ومجالها. وإن الإبداع العلمي والتكنولوجي الذي تمس الحاجة إليه في مجتمعنا لا تقوى على تفجيره تربية تقليدية، تحبس نفسها في مراحل التعليم المألوفة وتنسى ألف شكل وشكل من أشكال التربية الممكنة، وتغل قواها بالإطار التقليدي الجامد، إطار المدرسة والصف والمعلم، وتقدم من المعارف والمهارات ما ينتسب إلى عهد مضى وانقضى وترفض أن تطل في مناهجها وطرائقها على نافذة التطور العلمي والتكنولوجي السريع وعلى كوة القرن الحادي والعشرين، بكل ما يحمله من وعود ومفاجآت.

(ثانياً) سبل المستقبل:
لقد استبانت لنا – من خلال تحليلنا للنظام التربوي القائم في البلاد العربية ومن خلال إدراكنا لمقوماته – بعض سبل المستقبل التي ينبغي أن تتجه عبرها التربية في هذه البلاد إن هي أرادت أن تتجاوز مشكلاتها وتلعب دورها في تحديث المجتمع وتطويره. فهذه التربية مدعوة – كما رأينا – إلى عدد من المهمات الأساسية القمينة بأن تحدث فيها تغييراً جذرياً قادراً على مغالبة تراث الماضي والاتجاه نحو المستقبل. من هذه المهمات:
1- التغلب على أزمة التربية (وقوامها المطالب التربوية المتزايدة التي تقصر عنها الإمكانات المتاحة) عن طريق اللجوء إلى الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة. وهذا المطلب
– مطلب الاستخدام الأمثل – يحمل في ثناياه جملة من التدابير: أهمها زيادة فعالية النظام التعليمي وكفاءته الداخلية، واللجوء إلى أشكال جديدة من التربية تتجاوز الإطار التقليدي وتأخذ بالتقنيات الحديثة في التربية، في سبيل تعليم عدد أكبر من الطلاب تعليماً أفضل بنفس الموارد المتوافرة، وزيادة فعالية الإدارة التربوية ونقلها من مستوى «الإدارة الحرفية» إلى مستوى الإدارة العلمية «المصنعة».
2- الاتجاه نحو مفهوم «المجتمع المتعلم»، وجعل التربية موجهة إلى المجتمع كله، لا إلى جزء منه، إلى الأعمار جميعها لا إلى مرحلة من العمر محدودة وثابتة، وتنويع أساليب التربية ومؤسساتها تبعاً لهذا المفهوم. ويشتمل هذا المطلب فيما يشتمل على الأخذ بفكرة «التربية المستمرة» من المهد إلى اللحد والتأكيد على وسائل التربية والإعداد التي تتم في مواقع الإنتاج نفسها. ويشمل هذا المطلب كذلك توجيه عناية خاصة للتربية السابقة على المدرسة وللتربية اللاحقة لها، فضلاً عن العناية بالتربية «الراجعة» (العود إلى الدراسة بعد دخول العمل، والتناوب بين الدراسة والعمل في حياة الفرد) وبالتربية «بعض الوقت» (تدريب القوى العاملة ومتابعتها الدراسة دون انقطاعها عن العمل).
3- زيادة الكفاءة الخارجية للنظام التعليمي عن طريق الربط الوثيق بين التربية وبين حاجات سوق العمل وحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ويعني هذا فيما يعني رسم سياسة القبول في مراحل التعليم وأنواع التعليم استناداً إلى حاجات العمل المقبلة (كحد أدنى لا كحد أعلى)، وتطوير محتوى التعليم (من مناهج وطرائق) بما يتفق وحاجات الثورة العلمية والتكنولوجية.
4- الأخذ بأسلوب التخطيط التربوي العلمي، في سبيل تحقيق تنمية تربوية واسعة ومتوازنة، وفي سبيل الربط بين هذه التنمية التربوية وجملة التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ويستلزم هذا بوجه خاص تحديداً للأهداف التربوية استناداً إلى الدراسات الدقيقة للواقع السكاني والاقتصادي والاجتماعي والتربوي (كما سبق أن رأينا)، واستناداً إلى الأهداف المستقبلية التي يضعها المجتمع لنفسه في ضوء فلسفته الاجتماعية وفي ضوء حاجات اللحاق بالتقدم العالمي.
على أن هذه المهمات الكبرى المطلوبة من التربية لا تستقيم في نظرنا إلا إذا انبثت فيها وغمرتها كلها مهمتان كبريان تتصلان بروح التربية وجوهرها:
(الأولى) هي عناية التربية – في شتى مراحلها وأشكالها – بخلق إرادة العمل المشترك لدى المواطنين في سبيل أهداف مشتركة. وهذا يعني أن تكون التربية أداة من أدوات الوحدة الثقافية (وهي لا تنفي التنوع ولكنها تنفي التعدد والتضارب)، وأن تقوى على خلق التماسك الاجتماعي الذي يشد الأفراد جميعاً إلى هدف مشترك يعملون له. وواضح أن التربية – مهما تكن متقدمة في محتواها وأساليبها – تعجز عن أن تلعب دورها البنّاء في تنمية المجتمع إذا هي لم تخلق أفراداً يرتبطون بمجتمعهم وأهدافه، ويعملون عملاً مشتركاً لتحقيق هذه الأهداف.
أما وسائل هذه التربية المؤدية إلى الوحدة الثقافية وإلى التماسك الاجتماعي وإلى توليد إرادة الحياة المشتركة فلا مجال للحديث عنها ههنا. وحسبنا أن نذكر أنها تشمل – فيما تشمل – العناية بالتربية الجماعية والتربية التعاونية منذ نعومة الأظفار، والاهتمام بوسائل العمل الجماعي المشترك في شتى مراحل التعليم، وجعل العمل والإنتاج وحياة العمل والإنتاج محوراً أساسياً تتحلق حوله التربية، وتعهد الإرث الثقافي المشترك ورعايته، ورسم أهداف موحدة للتربية تؤدي إلى وحدة الثقافة لدى المواطنين (وهي وحدة لا تنفي – كما قلنا ونقول – التنوع بل تغتني به، ولكنها تنفي الصراع والتعارض).
(والثانية) هي انشغال التربية انشغالاً جدياً عميقاً بتكوين المواقف النفسية الملائمة لما يحتاج إليه التقدم العلمي والتكنولوجي من خلق وإبداع. فعصر العلم والتكنولوجيا يحتاج إلى العقول المبدعة، المبتكرة، القادرة على تفجير الأساليب العلمية الجديدة والوسائل التقنية المحدثة التي يتطلبها ذلك العصر. وكلنا يعلم أن من أهم مقومات الثورة العلمية التكنولوجية (الثورة الصناعية الثانية كما تسمى) تحرير الإنسان من الأعمال الآلية والثانوية (التي تقوم بها الآلة في عصر الأوتوماتية والسبرانية)، ليكون أقدر على الإبداع والابتكار في مجالات البحث العلمي التي تطور وجود الإنسان ومصيره، وتحقّق أغراضه كإنسان. والإبداع عملية لا تتم عفو الخاطر بل لا بد من تربيتها ورعايتها منذ نعومة الأظفار، لا سيما بعد أن أثبتت الدراسات الحديثة أن العقل المبدع شيء والذكاء المتفوق شيء آخر. فالذكاء المتفوق – على شأنه – قد يعمل في إطار محافظ، وهو يتصف كما تقول تلك الدراسات بأنه في الغالب ذكاء «موافق» Convergent. أما العقل المبدع فأهم صفاته القدرة على تفتيق المشكلات والحلول والبراعة في «التجوال». إنه
– كما يقال – عقل «جوّال آفاق» Divergent يعرف أن يخرج على المألوف، وأن يفتح آفاق المجهول، وأن يسير في غير الدروب الموطأة وفي غير الشعاب الممهدة.
ومن هنا نجد التربية في معظم بلدان العالم المتقدم تجهد لتكوين روح الخلق والإبداع creativity منذ الصغر، ونراها لهذه الغاية توجه عناية خاصة للسنوات الأولى المبكرة من العمر، بوصفها السنوات التي تتكون فيها قبل سواها المواقف النفسية الأساسية لدى المرء، وعلى رأسها موقف الخلق والإبداع.
وههنا أيضاً لن نتحدث عن الوسائل التي تؤدي إلى تكوين روح الخلق والإبداع هذه، وحسبنا أن نشير إلى أن أهم ما فيها تمرس الطفل منذ نعومة الأظفار بالنشاطات العلمية والعملية التي تعرفه على مبتكرات العلم والتكنولوجيا وتجعلها مألوفة عنده.
هاتان إذاً هما المهمتان الكبريان اللتان ينبغي أن تغمرا سائر المهمات والأهداف. ونحن حين نتوقف عندهما، فإنما نشير في الواقع إلى عاملين أثبت تاريخ الشعوب وتاريخ النهضات السريعة في شتى البلدان أنهما كانا دوماً وراء أي تقدم سريع ووراء أي وثبة كبرى في حياة الأمم. هذا ما تحدثنا عنه تجربة اليابان منذ عصر «ميجي» Meiiji الشهير، حيث قامت تربية أكدت على هدفين متكاملين: هدف خلق الإرادة المشتركة لدى المواطنين (كما نرى في قانون التربية الذي ظهر إذ ذاك) وهدف تكوين المهاد الفكري اللازم للتقدم العلمي والصناعي كما نرى في العناية التي وجهتها اليابان منذ ذلك الحين للتعليم المهني والفني ولإرسال البعوث إلى البلاد الأجنبية من أجل الاتصال بتجربتها العلمية، ولاستقدام الخبراء الأجانب من أجل تفجير الثورة الصناعية. وهذا ما تحدثنا عنه سائر التجارب التي تمت لدى الأمم التي استطاعت أن تجاوز تخلفها بسرعة. هذه التجارب كلها – وسواها كثير – تثبت جميعها أن شرارة التقدم تنطلق عندما يتوافر في التربية شرطان أساسيان متكاملان: تكوين إرادة الحياة المشتركة لدى المواطنين، وتكوين المهاد اللازم للتقدم العلمي. فإرادة الحياة المشتركة لا تعمل ولا تجدي إلا إذا كانت مسلحة بأدوات العلم الحديث والتقنية الحديثة. وامتلاك أدوات العلم الحديث ووسائله لا يمكن أن يتم ولا يمكن أن يؤدي إلى التطور السريع إلا إذا حرضته وأثارته إرادة مشتركة لدى المواطنين تجعلهم يجهدون لأهداف واحدة، ويشعرون بالمصير الواحد.
إن الإنسان إنسان صانع Homo Faber وإن ذكاءه موجه – كما يقول الفيلسوف الفرنسي «برغسون» – نحو «فبركة الأشياء»، نحو التأثير في العالم المادي وتسخيره. ولكنه في الوقت نفسه كائن «ذو قيم»، و«ذو قصد ونية» كما يقول أصحاب الفلسفة الظاهراتية. واللقاح بين الإنسان الصانع والإنسان الحامل للهدف المشرئب نحو القيم، هو الذي يولد التقدم.
خاتمة:
التربية المتخلفة نتاج طبيعي للمجتمع المتخلف، تفرزه بنيته السكانية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وسبيل تجاوزها يتطلب جهداً مزدوجاً متسقاً: إنه يتطلب جهداً يستهدف تغيير البنى الأساسية المتخلفة وتطويرها، يوازيه ويسعفه جهد تربوي يعمل على تطوير ذاته أولاً كيما يستطيع أن يطور المجتمع من حوله. وطبيعي أن تتعطل الجهود التي تبذل في سبيل تطوير البنى السكانية والاقتصادية والاجتماعية إذا لم تهرع التربية إلى النظر في ذاتها وإلى تغيير بنيتها ومحتواها تغييراً يؤدي إلى التعجيل في تطوير سائر البنى.
وقد رأينا أن تطوير التربية تطويراً يؤدي بها إلى القيام بدورها الرائد في إسعاف التطوير والإسراع به في شتى المجالات، يستلزم أن تحدث تغييرات جذرية في إطارها التقليدي وبناها القائمة ومحتوياتها العتيقة أشرنا إلى أهمها في هذا البحث الموجز.
غير أن من الهام أن نذكر أن مثل هذا التغيير الجذري في التربية في البلدان العربة لا يمكن أن يتم عن طريق نقل فتات التجارب التربوية العالمية التي حدثت هنا وهناك في مناطق العالم المتقدم. فالتجربة التربوية العالمية لا تعني – بالقياس إلى التربية في البلدان العربية – إلا إمكانات مفتوحة واحتمالات ممكنة، لا تتخذ معناها إلا من خلال التحليل العلمي الموضوعي لواقع التربية في البلدان العربية في علاقتها بجملة ميادين الحياة.
والنهج السليم هو أن نبحث أولاً في هذا الواقع ومشكلاته، وأن نتقصى بعد ذلك الحلول الممكنة لتلك المشكلات من خلال حصاد التجربة العالمية. وهذا ما حاولنا القيام به – ولو في إطار محدود – خلال هذا البحث. فالمسألة عندنا ليست في أن نقتبس تجربة عالمية معينة نعجب بها، وأن نحاول بعد ذلك فرضها على واقع كثيراً ما يأباها و«يلفظها» لفظ الجسم للعضو الغريب. بل المسألة أن ننظر أولاً في همومنا ومشكلاتنا نظراً مدققاً وأن نلتمس لها بعد ذلك ما يلائمها من حلول تدلنا على تجارب الأمم الأخرى. ومثل هذا المطلب يستلزم أولاً وقبل كل شيء قيام مؤسسات خاصة تعني بالبحوث التربوية وتسوق الدراسات التربوية في إطار مجتمعنا ومن خلال واقعنا وتحاول أن تكيف التجارب العالمية مع متطلبات ذلك الواقع.
ومما يؤسف له أن الأموال الضخمة التي تنفق على التربية في البلاد العربية ما تزال تضنُّ بقدر معقول من المال ينفق على تطوير البحث التربوي وعلى إنشاء مؤسسات علمية تعنى بأهم عامل من عوامل التقدم، نعني «التجديد التربوي». إن إنشاء مؤسسة أو مؤسسات عربية للبحث والتجديد التربوي، لا يؤدي فقط إلى وضع التطور التربوي في إطاره العلمي السليم وإلى دفعه في طريق التنمية السريعة للمجتمع، بل يؤدي أيضاً إلى اقتصاد في الإنفاق التربوي نفسه، حين يجعل النظم التربوية نظماً «فعالة» ويجنبها الكثير من الهدر والضياع، ويؤدي بها إلى الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة.
لقد أصبح من أوليات العمل في الدول المتقدمة أن تخصص للبحث العلمي عامة وللبحث التربوي خاصة نسبة ثابتة معقولة من الدخل القومي (يقدرها بعضهم بـ 2 بالمئة من هذا الدخل). ووراء هذا النهج إيمان عميق بأن الأموال التي تخصص لهذا المجال «استثمار» منتج، يعطي أكله وثمراته أضعافاً مضاعفة.
يضاف إلى هذا أن قوام الثورة العلمية والتكنولوجية التي تشكل التحدي الأساسي أمام البلاد العربية، هو البحث العلمي، هو المرحلة التي يدعونها اليوم «بمرحلة ما قبل الإنتاج»، أي ما يسبق الإنتاج ويمهد له ويغنيه من بحوث علمية في شتى المجالات.
وفي رأينا أن كل حديث عن تطوير التربية في البلاد العربية تطويراً علمياً وجذرياً – في اتجاه المبادئ التي توقفنا عندها – يظل حديثاً معلقاً في الفضاء إذا لم تخلق المؤسسة أو المؤسسات العلمية التي تحقق له مجال انطلاقه وانقلابه إلى عمل.
إن البلدان العربية – وهي أمام أزمتها الحضارية – تحتاج أول ما تحتاج إلى جعل «التجديد» التربوي اللازم لها، «مؤسسة» باقية تعمل عملاً متراكماً موصولاً. ولا يجدي المعاهد التربوية أن تتكاثر وتتوالد إذا هي افتقدت «الدماغ» الموجه الذي يضع جهودها في الإطار المجدي. ولقد زال إلى الأبد ذلك العهد الذي كان التقدم التربوي فيه يعني أن نفتح «المدارس» مهما يكن شأنها، وأن نزيد في عدد الطلاب والمعلمين والأبنية. وأصبحنا اليوم أمام موقف يستلزم منا أن نسائل في عمق وجدل أي تربية نريد، وأي إنسان نود أن نكوّن؟ والجواب على هذا السؤال الضخم لا يأتي عفو الخاطر ولا تجدي فيه الاجتهادات اللدنية الذاتية أو الاقتباس المبتور الهجين. الجواب عليه يأتي من مصدر واحد: هو البحث التربوي العلمي الذي يحلل الواقع ويحدد المشكلات ويولِّد الحلول.