محاضرة الدكتور زكي نجيب محمود عـن الحضارة وقضية التقدم والتخلفوتعقيب الدكتور عبد الله عبد الدائم

مجلة الآداب – العدد الخامس (عدد ممتاز) – أيار 1974
محاضرة الدكتور زكي نجيب محمود
عــن
الحضارة وقضية التقدم والتخلف
التي ألقيت في ندوة أزمة التطور الحضاري والتي عقدت بالكويت بين 7 – 11 نيسان/أبريل 1974
وتعقيب الدكتور عبد الله عبد الدائم على المحاضرة
1- محاضرة الدكتور زكي نجيب محمود:
لطالما تعرض هذا الماثل بين أيديكم لهجمات الناقدين، طوال الخمسة والعشرين عاماً الماضية: لماذا؟ لأنه ما فتئ خلال تلك الفترة ينادي بكل ما في إرادته من إصرار، وبكل ما لقلمه من صرير، ما فتئ ينادي بأن نلجم شهوة الحديث فينا بشكائم الدقة والتحديد، لعله يتاح للمتكلم والسامع، أو للكاتب والقارئ، أن ينتهي بهما الحديث أو الكتابة إلى اتفاق على رأي واحد، فيسلكونه في تيار الحياة الجارية عملاً وسلوكا. ذلك لأنه مما يلاحظ حتى للعين العابرة، أن أحاديثنا وكتاباتنا كثيراًُ ما تتخبط في أبحر من ظلمات المعاني الغامضة، كأننا جماعة من الصم، يتحدث بعضنا إلى بعض دون أن يستمع أحد إلى أحد.
نعم، ما فتىء هذا الماثل بين أيديكم طوال هذه الأعوام يتعرض لهجمات الناقدين، لأنه رفع الصوت، وما يزال يرفعه في عصبية المخلص لدعوته، بأن نراعي- عند الحديث أو الكتابة- دقة التحديد في ضبط المعاني التي نجريها على الألسنة والأقلام، ما دام الموضوع المطروح يتسم بجدية العلم، ويمس حياتنا في أسسها وأركانها. إذن ففيم كانت هجمات النقد إذا كان هذا هو هدف الدعوة ولبها؟ والجواب هو أن علتها تكمن في رغبتنا الجامحة نحو أن تنساب من أفواهنا وأقلامنا خيوط اللفظ، لا نكاد نطلب منها إلا حلاوة جرسها في الأسماع. أما من أراد أن يقف بنا عند هذه اللفظة، أو عند تلك العبارة، سائلا ومدققا في المعنى المقصود، فجزاؤه عندنا هو الإهمال، وإنه لمجدود لو اكتفى منا بإهماله، دون أن نكيل له مع الإهمال صاعاً من الشتائم أو صاعين.
فإذا كانت الدعوة إلى الدقة في تحديد المعاني هي أهم الهموم التي حملها هذا الماثل بين أيديكم طوال ربع قرن مضى، أفلا يكون من أوجب واجباته على نفسه أن يتوخى هو مثل هذه الدقة التي يدعو الناس إليها؟ وموضوع حديثنا هذا هو عن “الحضارة” لنرى بعد ذلك موقفنا من حضارة عصرنا، أين يكون على درجات السلم، صعوداً أو هبوطاً. فحتم علينا – إذن- أن نحدد معنى الحضارة بصفة عامة وشاملة لنستطيع بعدئذ أن نضيق دائرة الحديث لتنحصر في حضارة العصر وما يميزها دون سائر الحضارات التي شهدتها العصور السالفة.
فإذا استطعنا ذلك في دقة ووضوح، كان الحكم على موقف الأمة العربية في مرحلتها الراهنة أمراً ميسراً لا عسر فيه.
ولكننا ما أن نهم بمثل هذا التحديد لمعنى “الحضارة” حتى نغوص في بحر متلاطم الموج، لكثرة ما يعترضنا من أراء تختلف إلى حد التناقض بين رأي ورأي. ذلك فضلاً عما في تحديد أمثال هذه المعاني العامة من صعوبة شديدة حتى ولو لم يكن اختلاف الرأي فيها بعيد المدى. فقد تكون الكلمة واضحة حين تجري في سياقها، لكنك إذا عزلتها وحدها، ووضعتها في مخبار التحليل والفحص ألفيتها تقاوم وتروغ حتى ليستعصي عليك أن تمسك بأطرافها، فكأنما اللفظة من هذه الألفاظ العامة كائن حي بالمعنى الحقيقي لهذه العبارة، تنصاع لفهمك إذا جعلتها جزءاً من عبارة، لكن اجعلها وحيدة وحاول أن تمسكها من جناحيها، تتمرد عليك وتنتقم. كانت، وهي مسوقة في عبارة، وسيلة تتعاون مع غيرها على أداء معنى، أما وقد جعلتها غاية في ذاتها، تريد اختبارها هي، فما أسرع أن تنقلب بين يديك لغزاً غامضاً، وأن تتخذ لنفسها أعماقاً وأبعاداً، لم تكن تتوقعها لها في بداية الطريق. وهذا هو الشاعر الفرنسي بول فاليري يحدثنا في ذلك فيشبه اللفظة وهي تؤدي معناها داخل عبارة تضمها مع غيرها، بلوح من الخشب الرقيق، وضع على خندق ليعبر عليه العابرون، فلا بأس هناك إذا جرى عليه العابر خفيفاً سريعاً، أما إذا وقف العابر عليه ليختبر قوته، وراح يقفز بكل ثقله فإن اللوح الخشبي لا يلبث أن ينكسر تحت قدميه.
لكننا برغم هذا النصح من بول فاليري، لن نمر على كلمة “حضارة” خفافاً سراعاً، وسنقفز عليها ونقفز، حتى تتهشم لنرى أجزاءها جلية أمام أبصارنا.
نريد تعريفاً للحضارة، يحدد لنا الخصيصة الواحدة، أو مجموعة الخصائص التي لا بد من ظهورها في كل حالة حضارية، كما لا بد من اختفائها في كل حالة بدائية، لأنه إذا كانت الصفة أو الصفات التي تقع عليها، ماثلة في المتحضر وغير المتحضر على سواء، إذن فهي ليست من التعريف الذي ننشده. فمثلاً إذا عَنَّ لنا أن نذكر الفن أو الأدب – ليكون تعريفاً للحضارة – وقعنا في الخطأ الذي أحذر منه، لأنه ما دام الفن والأدب – كائناً ما كان نوعهما – موجودين في كل جماعة بشرية، أياً ما كان حظها من الحضارة، إذن فهما عنصران ضروريان، لكنهما وحدهما لا يكفيان للتعريف. فالشرط الأساسي الذي لا بد من توافره في أي تعريف كامل، هو أن نذكر الصفات الضرورية والكافية معاً. فالبصر ضروري للإنسان، ولكنه لا يكفي لتعريفه، وإذن فلا يجوز أن نعرف الإنسان بأنه الكائن المبصر. وهكذا الحضارة لا يجوز تعريفها بأنها الحياة التي تحتوي على فن وأدب، برغم أن الفن والأدب عنصران ضروريان لا تخلو منهما حضارة.
فما هي الصفة – إذن – التي تجمع إلى كونها ضرورية للحضارة أن تكون كذلك كافية لتعريفها؟ وهي إنما تكون كافية إذا امتنع ظهورها من كل حياة أخرى مما يتفق الناس على أنها ليست في عداد الحضارات.
ولقد قلت :” مما يتفق عليه الناس” عن وعي وعن عمد، لأنه لا سبيل أمامنا في تعريف الحضارة، إلا أن نبدأ بأمثلة من عصور، أجمع العرف على أنها فترات ذات حضارة رفيعة، لكي نستخلص من هذه الأمثلة الواقعية التي شهدها التاريخ والتي أقرها الخبراء في ميادين الثقافة، صفتها المشتركة التي تظهر فيها جميعاً ثم نستوثق من أنها صفة لا تظهر في غيرها. وسوف أغض النظر هنا عن سؤال يثيره الباحثون، وهو: هل الحضارة صفة تصف عصوراً وجماعات؟ أو هي صفة تصف الأفراد أولاً، ومن مجموعة الأفراد المتحضرين تتكون حضارة معينة في عصر معين؟ سأغض النظر عن هذا السؤال، لسبب بسيط، هو أن خبراء الرأي أقرب إلى الاتفاق عندما ينصب الحكم على جماعة بأسرها، أو على عصر بأكمله، منهم إلى الاتفاق عندما ينصب الحكم على هذا الفرد أو ذاك.
فأي الجماعات، أو أي العصور يمكن إجماع الرأي عليها بأنها نماذج للحياة المتحضرة حضارة رفيعة؟ نستطيع الاكتفاء بأربعة أمثلة لا أظن أحداً يجادل في رفعة حضارتها، وهي: أثينا في عهد بركليز، في القرن الخامس قبل الميلاد، بغداد في عهد المأمون في القرن التاسع، فلورنسة في القرن الخامس عشر، باريس في عصر التنوير إبان القرن الثامن عشر.
فما هو القاسم المشترك بين هذه الحضارات الأربع؟ إنه يقيناً ليس الأجهزة الآلية، لأن هذه الحضارات جميعا قد خلت منها، إذ أن أوانها لم يكن قد آن بعد، مما يدل على أن الحضارة، من حيث هي حضارة وكفى غير مقيدة بعصر معين، تستطيع أن تقوم بغير الآلة كما تفهم في عصرنا، كلا ولا كان القاسم المشترك بين الأمثلة الأربعة التي اخترناها نماذج للحضارة في اكتمالها، هو الفن أو الأدب أو غيرهما من وسائل الحياة الوجدانية، لأن ما تجده من هذه العناصر في واحدة من تلك الحضارات قد لا تجده في الأخرى، فضلاً عن أن هذه العناصر جميعاً قد تتوافر في شعوب وفي عصور لم نتفق على أنها موسومة بحضارة تذكر. ففي قلب الأدغال البدائية ربما رأيت من العقائد ومن الفنون نحتاً وتصويراً وغناءً ما يستحق التقدير في ذاته، لكنه وحده لم يستطع أن يقيم حضارة يسجلها لها التاريخ، لا، ولا القاسم المشترك هو القدرة العسكرية، وإلا وضعنا جنكيزخان وهولاكو في طليعة المتحضرين، وعددنا قبائل التتار أكثر حضارة من الشعوب التي اجتاحتها تلك القبائل، ولا النظم السياسية هي ذلك القاسم المشترك الذي نبحث عنه. فقد كانت أثينا بركليز أولجاركية الحكم، وكانت بغداد المأمون يحكمها خليفة، وكانت السيطرة في فلورنسة لأسرة مديتشي، وكانت تحكم باريس التنوير ملكية مطلقة.
ولكن القاسم المشترك الذي نراه في تلك النماذج الأربعة جميعاً، كما نراه في كل نموذج حضاري نختاره بعد ذلك، ولا نراه في أي شعب أو عصر منعوت بالبدائية والتخلف، هو الاحتكام إلى العقل في قبول ما يقبله الناس وفي رفض ما يرفضونه. هذا الاحتكام إلى مقاييس العقل وحده قد يتبدى في صور تختلف باختلاف العصور. فربما ظهر في مجال السياسة، أو في مجال الحرب، أو في مجال التشريع، أو في مجال العلوم الطبيعية. لكن هذه المجالات المختلفة إن هي إلا تطبيقات مختلفة لمبدأ واحد، هو أن يكون الحكم للمنطق العقلي وحده دون سواه. فهذه العقلانية في وجهة النظر هي التي تراها ماثلة في كل حضارة مهما اختلف لونها، ولا تراها في أي جماعة بدائية مهما تعددت بعد ذلك صفاتها. وليس هذا الذي نسميه علماً، إلا عقلانية اتخذت لها منحى معيناً من مناحيها الكثيرة، فلربما اتجهت النظرة العقلية تلك، نحو الأفكار المجردة تنظمها وتنسقها في ترتيب هرمي يضع الأعم منها فوق الأخص، كما حدث لليونان الأقدمين، أو ربما اتجهت نحو تحليل ما نزل به الوحي من تشريع، كما حدث للعرب الأولين، أو اتجهت نحو ظواهر الطبيعة تستخرج قوانينها النظرية كما حدث لأوروبا في عصورها الحديثة، أو اتجهت نحو تجسيد تلك القوانين العلمية النظرية في أجهزة يديرها الإنسان أو تدير نفسها بنفسها كما يحدث لعصرنا القائم.
-3-
عند هذا المنحنى من سياق الحديث، ينبغي الوقوف لحظة قصيرة نتساءل فيها عن المعنى المحدد الواضح لكلمة “عقل”، ما دمنا قد جعلنا الاحتكام إلى العقل أساساً تقام عليه الحضارات حيثما قامت، وبغيابه تنعدم الحضارة كلما انعدمت. فما هو هذا الذي نسميه “عقلاً”؟ هو ببساطة شديدة ذلك النمط من أنماط السلوك، الذي يتبدى عندما نحاول رسم الطريق المؤدية إلى هدف أردنا بلوغه. فليس الهدف المختار في ذاته “عقلا” لأنه وليد الرغبة وحدها، وليست النقطة التي أبدأ منها السير على الطريق “عقلاً” لأنها مبدأ مفروض، أما “العقل” بمعناه الدقيق فهو- ببساطة شديدة كما قلت- رسم الخطوات الواصلة بين هذا المبدأ المفروض من جهة، وذلك الهدف المطلوب من جهة أخرى، فأفرض مثلا أن أمة أرادت الحرية لأبنائها، إذن فهذه الحرية المنشودة هي الهدف المقصود، والفاعلية العقلية في هذه الحالة هي في دقة التصور لما ينبغي أن يتخذ من وسائل لتحقيق ذلك الهدف، وبمقدار ما يكون لتصور الوسيلة من دقة تمكن الناس من السير على هداها فلا ينحرف بهم الطريق، يكون لدينا من قدرة عقلية في هذا المجال.
وننظر الآن إلى أثينا بركليز، وبغداد المأمون، وفلورنسة آل مديتشي وباريس فولتير، فلا نخطيء فيها جميعا هذه الصفة البارزة، وهي أن قبول الأشياء ورفضها لم يكن قائماً على عواطف الحب والكراهية، والرضى والسخط ولا كان قائماًٍ على التقاليد الموروثة قياماً أعمى، بل كان القبول والرفض قائمين – على وجه التعميم الذي قد يشذ هنا أو هناك – كانا قائمين على حكم العقل ومنطقه، فكأنما كان الناس يسألون عند كل وقفة يقفونها من موضوع مطروح: هل الخطوة الفلانية إذا خطوناها أبلغتنا إلى الأهداف؟
وإن عقلانية كهذه في النظر إلى أمور الحياة والثقافة معاً، مما تستتبع صفات فرعية كثيرة، تنتج عنها كما تنتج الثمرات من شجراتها. ومن أول هذه النتائج النابعة من ذلك المبدأ العقلاني، أن تتخذ الأشياء نسبها الصحيحة بعضها من بعض، فيبدو الكبير كبيراً كما هو، والتافه تافهاً كما هو. فقد تهتم الدولة المتحضرة بمسألة علمية تريد لها أن تستقر في الناس، ولكنها تفضي عن توافه السلوك التي ربما اختارها هذا الرجل أو ذاك طريقة لحياته الخاصة، مع أنك إذا نظرت إلى جماعة غاب عنها العقل واستبدت بها النزوة في أحكامها، فقد تراها وهي تقيم الدنيا ثم لا تقعدها، تجاه سلوك خاص اصطنعه خالد أو زيد في حياته الخاصة، بينما تعشي عينها عن رؤية تيار بأسره في دنيا العلوم أو الفنون.
ومن النتائج التي تترتب على الوقفة العاقلة كذلك، إيثار الآجل على العاجل، إذا كان في العاجل خير قليل قد يعقبه شر كثير، أو كان في الآجل خير كثير قد يسبقه شيء من ألم التضحية.
ومن أبرز جوانب النظرة العقلانية أن ترد الظواهر إلى أسبابها الطبيعية فلا يفسر المرض- مثلاً- إلا بالجراثيم التي أحدثته، ولا يعلل سقوط المطر إلا بظروف المناخ، وهكذا. ويترتب على هذا الربط السببي الصحيح، أن نلتمس للأشياء أسبابها الطبيعية كذلك، فإذا أردنا غلالاً، زرعنا لنحصدها، وإذا أردنا قتالاً حملنا له السلاح بمران واقتدار.
النظرة العقلانية تنظر إلى الواقع كما هو واقع، لتحوره إلى واقع جديد إذا أرادت، دون أن تقيم بينها وبين الواقع حائلاً تنسجه الأوهام ثم سرعان ما تنسى أنه أوهام. فإذا كان البدائي يخلق لنفسه الخرافة لينظر بمنظارها إلى وقائع الدنيا، فإن المتحضر هو الذي يواجه تلك الوقائع كما تبدو لبصره وسمعه، وبغير هذه الرؤية العارية المباشرة، كان يتعذر عليه أن يلجم الطبيعة ليسير وقائعها حيث أراد لها أن تسير.
على أن أبرز ما تتميز به النظرة العقلية إلى الكون، هو حب الإنسان للمعرفة حتى يلم بأسرار البيت الذي هو ساكنه. فالعقلاني في نظرته ذو نهم نحو معرفة الحقائق والطبائع والعلل، لا يصده عن ذلك شيء من التحريم الذي يفرضه البدائيون على أنفسهم. من منا لا يذكر الحكايات التي كانت تحكي لنا ونحن صغار، عن القصر ذي الغرف الكثيرة، الذي يستباح الدخول في غرفه كلها إلا غرفة واحدة محرمة؟ ذلك هو الإنسان إذا ترك لفطرته: يتهيب نزع الستائر عن حقائق الأشياء، وحتى إذا أجاز لنفسه أن ينزع بعضها، أوجب على نفسه أن يترك بعضها الآخر مسدلاً على كوامنه، إلا من جعل السيادة لعقله. فذلك هو بروميثيوس – في أساطير اليونان – الذي نزع الشعلة من أيدي الآلهة ليضيء بها أركان الأرض فلا يترك منها ركناً خافياً في عتمة الظلام – هكذا كانت أثينا حين أمسكت بقبس النور لتتفحص الدنيا على ضيائه، وهكذا كانت بغداد المأمون حين أخذت تعب معارف الأولين عبأً لم يكد يفرق بين شراب وشراب، فكل شراب من مورد العلم عندها سائغ، وهكذا كان عصر النهضة وعصر التنوير في أوروبا.
-4-
سلطان العقل- إذن- هو مدار القياس لدرجات الحضارة، فقل لي كم عقلت أمة في تدبيرها لأمورها، أقل لك كم صعدت في مدارج التحضر. وأقول سلطان العقل ولا أقول مضاء الإرادة. فالأولوية في البناء الحضاري للعقل وفكره قبل أن تكون للإرادة وفعلها. نعم إنه لا بد بعد التفكير العقلي من إرادة تنفذ، لكنها عندئذ تكون إرادة ملجمة بتخطيط العقل. وأما إذا بدأنا الشوط بإرادة تفعل، فمن ذا الذي يضمن لنا ألا يجيء فعلها تخبطاً أهوج، يتجه نحو اليسار إذا كان الاتجاه إلى يمين هو الموصل إلى الهدف، أو يتجه بنا نحو اليمين عندما تقضي حكمة العقل أن نسير إلى يسار؟
العقل هو وحده الفيصل بين الحق والباطل، وبه وحده يصبح الإنسان سيد مصيره. رغبات الإنسان قد تدفعه إلى سن القوانين وإقامة التقاليد، ثم قد تعود فتغريه بأن يتحلل مما قد سن أو أقام، وأما ما بني على العقل فهو ثابت على الدهر لا يزول. ولذلك كان محالاً علينا أن نحكي تاريخاً للحضارة متسلسل الحلقات، صاعد الخطوات، إلا إذا تعقبنا ما أنتجه العقل، لأن نتاجه- دون أي نتاج آخر- هو الذي يظل يكمل نفسه عصراً بعد عصر، يصلح من أخطاء نفسه، ويكشف الجديد ويوسع الرقعة قليلاً قليلاً، حتى يبسط سلطانه على الأرض والسماء. وأما الفن وأما الأدب وغيرهما من كائنات العالم الوجداني في الإنسان، فلا يأتي الجديد ليعلو درجة على القديم، بل ربما حدث أن تفوق القديم على الجديد، فليس من التناقض أن يكون «هومير» أعظم من شعراء القرن العشرين جميعاً، أو أن يكون فنانو النهضة الأوربية أروع فناً من رجال الفن في عصرنا. فكيف إذن يتسلسل التاريخ في حركة صاعدة إذا لم يكن اللاحق أعلى درجة من السابق؟ إن هذا التتابع الضروري لا يتحقق إلا في ميدان العلوم، التي هي رمز للعقل ونتاجه وبالتالي يكون الجانب العلمي هو وحده مدار القياس لدرجات التقدم والتخلف بين الأفراد أو الشعوب.
أنني لأرجو هنا ألا يختلط الأمر على أحد، فنحن لا نقول أن أي حضارة يمكنها الاستغناء عن عالم الشعور بكل ما يفرزه لنا من فنون وآداب وغيرهما، ولكننا نقول- بكل قوة نستطيعها – إن عالم الشعور وما ينتجه ضروري لكل حضارة، لكنه وحده لا يكفي، والعقل دون سواه هو الجانب الضروري والكافي معاً لتعريف الحضارة وقياس درجاتها.
يقول ألبرت شفايتزر عن الحضارة إنها بذل الجهد من أجل التقدم. وكلمة “التقدم” هنا هي التي تهمنا في سياق حديثنا، لأنه إذا كان التقدم إلى أعلى وإلى أمام، شرطاً أساسياً للحضارة، كان الجانب العقلي وحده من الإنسان، بما ينتجه من العلوم، هو الذي يتقدم، بمعنى أن تجيء الخطوة التالية من خطوات الطريق تقدماً نحو الهدف الأخير، بالنسبة للخطوة السابقة. فالفيزياء أو الكيمياء أو البيولوجيا أو علوم النفس والاقتصاد والاجتماع، أو غيرهما من فروع العلم، ليست اليوم كما كانت بالأمس، واختلاف يومها عن أمسها هو الاختلاف الذي يتحتم فيه أن تكون حصيلة الأمس أفقر من حصيلة اليوم، وأكثر منها تعرضاً للخطأ. وأما الآداب والفنون فكلمة “التقدم” بالنسبة إليها ليست بذات معنى، فقد لا يستطيع شاعر من شعرائنا اليوم أن يجاري امرأ القيس، وقد لا يستطيع أحد من رواة الحكايات في يومنا، أن يقترب من الذروة الأدبية التي بلغتها ألف ليلة وليلة.لا، إن التقدم لا يكون إلا في معرفتنا العلمية، وأما ما هو خاص بالوجدان، فلا أظن أن الأم العصرية الثكلى تبكي فقيدها على نحو أكمل من بكاء الأمهات بالأمس، ولا أن يفنى عاشق اليوم في عشق حبيبته بأكثر مما فنى قيس في عشق ليلاه.
ومن فكرة التقدم هذه تنبثق لنا فروع، لا بد لنا أن نعيها حق الوعي حتى لا يفلت منا جوهر الحضارة ولبها. التقدم الحضاري يقتضي حتماً ألا نجعل الماضي مقياساً للحاضر، وكيف نجعله المقياس إذا كان هذا الحاضر أفضل منه بحكم فكرة التقدم نفسها؟ النظر إلى الماضي هو نظر إلى الوراء، على حين أن التقدم يقتضي أن نوجه النظر إلى أمام، والانحصار في الماضي هو انحصار في نمط واحد من أنماط الحضارة، مع أن التقدم يحتم علينا الخروج من نمط أضيق نطاقاً إلى نمط أوسع أفقاً وأرحب إطاراً. إن فكرة التقدم من حيث هي علامة نميز بها المسيرة الحضارية، توجب علينا أن نجاوز واقعنا المحدود إلى واقع آخر أكبر عظماً وأعلى ارتفاعاً، على أن نفهم “واقعنا” هذا بأنه يشتمل على الماضي والحاضر معاً، فكلاهما واقع تم، فلا بد أن ننظر النظرة التي ترجو أن يجيء المستقبل أكثر تحضراً- بمعنى أغزر علماً- من الحاضر ومن الماضي على السواء.
-5-
على ضوء هذا الذي أسلفناه، نستدير إلى عصرنا وحضارته. إنه ليس بدعاً يشذ عن القاعدة التي سارت عليها سائر العصور، فالحضارة فيه ما زالت قائمة على نفس الأساس الذي قامت عليه حضارات السالفين، والأساس هو العقل. غير أن العقل- كما أسلفنا – يوجه فاعليته إلى ميادين تختلف كيفاً من عصر إلى عصر، وميدانه اليوم هو العلوم الطبيعية التي تتمثل في أجهزة ولا تقف عند كونها صياغات رياضية نظرية كما كانت الحال حتى عهد قريب. فلو كان الخليل بن أحمد بعقله الجبار الذي خلق ترتيباً معجمياً من عدم، واستخلص عروض الشعر استخلاصاً بلغ حداً مذهلاً من كمال العقل الرياضي ودقته، وقنن لنحو اللغة بعض قوانينه، أقول لو كان الخليل هذا ولد في عصرنا، لجاز أن يكون من أضخم علماء الفيزياء النووية حجماً وأوسعهم شهرة. فالفكر العقلي عنده، يبقي الميدان الذي يوجهه إليه. وكذلك لو كان بلانك أوبور أو هيزنبرج رجلاً من أهل البصرة في القرن الثامن لأخرج للناس معجماً للغة، وعروضاً للشعر. مدار التقدم الحضاري- أعود فأكرر- هو الفاعلية العقلية دون سواها، والذي يختلف في مراحل التاريخ هو ميدان النظر، الذي تحدده ظروف العصر المعين.
ولقد حددت ظروف عصرنا هذا أن يكون الميدان هو الواقع الطبيعي وأن يكون الهدف هو إيجاد الجهاز الذي يجسد الفكرة العلمية كائنة ما كانت. الأجهزة هي لغة العلم في عصرنا، ولا عجب أنه عصر الصناعة في ثورتها الثالثة: كانت الثورة الأولى حين حلت الآلة محل الأبدان، سواء أكانت أبدان البشر أم أبدان الحيوان، والثورة الثانية حين أصبحت الآلة تسير آلة سواها دون تدخل الإنسان فيما يسيِّر وما يسيِّر، والثورة الثالثة حين اتسع نطاق الآلة فلم يعد يقتصر على ما كانت الأبدان تفعله، بل امتد حتى شمل فاعليات العقول. ذلك هو عصر التكنولوجيا كما يسمونه،
لا فرق في هذا المجال بين مجتمع في الشرق أو مجتمع في الغرب. فما دام المجتمع متقدما بمقياس العصر، كان حتماً أن يلقي زمامه إلى عقله أولاً، وأن يوجه فعل العقل نحو العلوم الطبيعية وأجهزتها ثانيا. فإن فوتت عليه قدراته الاقتصادية أن يسهم له في هذا الميدان بنصيب، كان لزاماً أن يجعل منهاج تلك العلوم منهاجاً له في أي ميدان يتاح له النظر فيه. فهنالك ميادين العلوم الاجتماعية: علم النفس وعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع، وهنالك مجالات الارتفاع بمستوى العيش: من حيث التغذية والسكن والتعليم والعلاج الطبي ووسائل الراحة وتأمين الأفراد ضد كوارث الزمن. هنالك كل هذه الميادين التي تتفاوت فيها الأمم في عصرنا ارتفاعاً وانخفاضاً مما قد يوحي بأن أياً منها يصلح أن يكون أداة لقياس التقدم والتخلف، إلا أنها جميعا تلتقي في نقطة واحدة، هي النظرة العقلية بمنهاج العلم إلى كل أوجه الحياة.
ونسأل بعد هذا كله: أين تقف الأمة العربية اليوم من المسيرة الحضارية؟ وأجيب بجواب يختلط فيه قليل من الأسى وكثير من الأمل، الأسى للهوة اللاعقلية العميقة العميقة التي لا نزال نتخبط في ظلامها، والأمل في جيل جديد أراه على الطريق إلى العقلانية العلمية وضيائها.
قد أكون على غير هدى فيما أقول، ولكنني- على الأقل- أصدق القول مع نفسي، حين أقرر ما أراه أمامي واضحاً، وهو: إما أن نعيش عصرنا بكل ما يقتضيه من أخلاق، وإما أن نكون قادرين على تحريره، بحيث نعيد صياغته على مثالنا. أما أن نتمرد عليه، ثم نعجز عن تحوير أي شيء فيه، فذلك حكم على أنفسنا بموت حضاري، لا يعلم إلا علام الغيوب متى تكون قيامته.
قل ما شئت عن عصرنا، ولكنك مضطر إلى أن تصفه بصفات ثلاث: فهو عصر علمي، وهو عصر تقني، وهو عصر مدار الأخلاق فيه على المنفعة. ولقد جمع مؤلف إنجليزي معاصر هذه الصفات الثلاث في صيغة مركزة، إذ قال إنه عصر “تقني بنتامي”. أما التقنية فهي تتضمن ذلك الضرب من العلوم الذي يستهدف اختراع الأجهزة التي تجسد قوانينها، ولا يترك هذه القوانين في صورتها المجردة. وأما أنه عصر بنتامي، فالإشارة هنا إلى بنتام فيلسوف المذهب المنفعي إبان القرن الماضي.
معنى ذلك إن جواز المرور الذي يبيح لنا الدخول في عصرنا، هو أن نطور من قيمنا السائدة لكي تصبح قيماً قائمة على علمنة، وعلى تقنية، وعلى منفعية في أسس التعامل السياسي والاقتصادي على أقل تقدير، فإذا لم تعجبنا هذه الصفات لكونها غريبة على ثقافتنا الموروثة، كان علينا أحد أمرين: إما أن نلوي عنق العصر حتى يرى الدنيا بأعيننا، وإما أن ننسحب من العصر إلى حيث شئنا أن يكون الاختفاء في ستر الظلام. لكن المفارقة العجيبة، هي أننا لا تحْلق لدينا المعاصرة فكراً يثنيها عن طريقها. وفي الوقت نفسه ترانا نقف من ثقافة العصر موقفاً يقبل أسماءها المجردة ويرفض مضموناتها، بمعنى أننا على استعداد لقبول الاتجاه العلمي والتقني بل والاتجاه المنفعي في التعامل، على شرط أن يقف هذا القبول عند حدود هذه الأسماء. وأما ما يندرج تحت هذه الأسماء من مضمونات فليس لدينا المعدات التي أعدت لهضمها، مما أحدث فينا ضربا عجيبا من الازدواجية الحضارية: فعلى سطح الأمور الظاهرة، نبدو وكأننا نعايش العصر في تصوراته، فإذا نفذنا إلى ما تحت السطح وجدنا أنفسنا ما نزال نطوي في صدورنا قيم حضارة ذهبت مع تيار الزمن.
سل من شئت: هل تحب أن تتابع العصر في عقلانيته وتقنياته؟ يجيبك في استعلاء بأن العقلانية وما يترتب عليها، هي جزء من ميراثنا الأصيل. لكن قل له إنها في عصرنا تستتبع عدة أمور: منها ألا تلقي بزمامك إلى العاطفة أيَّاً كان نوعها، ومنها أن يتولى العمل من يحسن أداءه،
لا من ينتمي إلى أصحاب الجاه بأواصر القربى، ومنها أن يكون الارتكاز كله على الواقع المادي الصارم، ومنها أن نصطنع في حياتنا نظرة علمانية تجعل محورها هنا على هذه الأرض قبل أن يكون هناك في عالم آخر… قل له هذا، يأخذه الفزع، لأنه عندما أعلن أنه من أنصار النظرة العقلية، لم يكن قد تخيل لنفسه أنها نظرة تلد كل هذا النسل العجيب. فهو عقلاني بالاسم،
لا بالمضمون والنتائج. إنه يقبل من العصر تقنياته، لأنه يريد- كسائر عباد الله- أن ينعم بالسيارة والطيارة وأجهزة التدفئة والتبريد، لكنه إذا علم بأن إدخال هذه الآلات في حياتنا، معناه إدخال عادات جديدة في تلك الحياة، ومعناه إحلال قيم جديدة محل قيم قديمة، أخذه الهلع، لأنه في عمق نفسه لا يريد عن قيمه الموروثة بديلاً.
وهكذا نقع في أزمة حضارية من طراز نادر، لأننا في الحقيقة بمثابة من يحيا ثقافتين متعارضتين في وقت واحد: إحداهما خارج النفس، والأخرى مدسوسة في حناياها لا تريم، فترى حضارة العصر في البيوت والشوارع والأسواق، بينما تحس حضارة الماضي رابضة خلف الضلوع.
-6-
ونعود فنسأل: أين تقف الأمة العربية اليوم، من حيث التقدم أو التخلف على طريق الحضارة؟
إن معايير القياس كثيرة، أشرنا إلى بعضها، فهنالك المعيار الاقتصادي الذي يقيس التقدم بمتوسط الدخل، وهنالك المعيار الثقافي الذي يقيسه بدرجة انتشار التعليم، وهنالك المعيار الذي هو أشيعها قبولاً، وهو معيار يقيس تقدم الأمة أو تخلفها بدرجة العلمنة والتصنيع، أي بدرجة تحولها إلى الحياة الصناعية المستندة إلى الأجهزة الآلية. وأياً ما كان المعيار الذي تختاره، فالشرط الضروري دائماً هو أن تتغير طرائق العيش والتفكير بحيث تساير روح التقدم العصري.
لكن هذا التقدم لا يعني شيئاً إلا إذا عرفنا إلى أي هدف نتقدم، حتى يمكن قياس المسافة الفاصلة بين موقفنا الراهن وبين ذلك الهدف الذي نتقدم نحوه. بعبارة أخرى: ما هو النموذج الكامل الذي نضعه نصب أعيننا أثناء سيرنا، لنكون على يقين بحقيقة موقفنا: هل هو اقتراب أو ابتعاد عن ذلك النموذج؟ وإنه لعزيز على نفسي أن أقولها صريحة، وإنه كذلك لعزيز على نفوسكم أن تسمعوها، لكنه حق لا منجاة لنا عن مواجهته، وهو إن نموذج القياس إنما هو الحياة العصرية كما تعاش اليوم في بعض أجزاء أوروبا وأمريكا، فقد شاء الله أن يكون هناك اليوم ينبوع الحضارة، كما كان ينبوعها في أرضنا ذات يوم.
وقد نوجز أهم معالم تلك الحياة الأوروبية الأمريكية التي هي حضارة العصر في بضع نقاط، تساعدنا على قياس موقفنا بالنسبة إلى الهدف: فمن تلك المعالم المميزة سرعة التغير، وسرعة قبول الجديد. فحياة الناس هناك توشك أن تتغير يوماً بعد يوم، وعليهم أن يلاحقوها، والملاحقة معناها ألا يبهرنا ما قد فات ومات، حتى لا نقف طويلاً عند أطلال، بل نوجه البصر دائماً نحو غد، فالقوم هناك يؤمنون إيماناً لا تحده حدود بالعلم وقدرته على النمو المطرد، وبأنه كلما أطرد نموه قلب حياة الإنسان كماً وكيفاً.
فإذا أردنا قياس التقدم أو التخلف، فما علينا إلا أن نقيس المسافة بين حياة الفرد العادي في مجتمعاتنا بحياة الفرد العادي في مجتمعاتهم: في حصيلة العلوم، في دقة التخطيط، في غزارة الإنتاج، في مدى الحرية السياسية والاجتماعية، وغير ذلك مما يتفرع عن أصل واحد، يتلخص في قولنا عن حضارة العصر إنها: علمية تقنية منفعية.
إنني لعلى وعي بوجه الاعتراض هنا، وهو: لماذا نفني ثقافتنا في ثقافة غيرنا، بحيث نجعل منهم نموذجاً لنا نحتذيه؟ وأظن أن خير جواب يزيل عن أنفسنا القلق، هو أن ينحصر تفردنا الثقافي في تلك الجوانب التي تميز الشعوب، والتي هي في الوقت نفسه ليست مقياس التقدم الحضاري كما حددناه، وأعني بها جوانب العقيدة والفن وبعض تقاليد الحياة التي لا تتنافى مع الحركة العلمية بكل فروعها. وبهذا نتيح لأنفسنا أن نتحضر بحضارة العصر في أخص خصائصها، كما نتيح لها في الوقت نفسه أن تحتفظ بما يميزها عما سواها، وبهذا نتركها تساير العصر في نظراته العلمية الصارمة، وتنطوي على ذاتها في ميادين الوجدان وطرائق التعبير عنه في العقائد والأدب والفن.
أن الحديث عن الحضارة وقضية التقدم والتخلف للأمة العربية، ما كان ليستثير نشاطنا الفكري، لو أن بنا مواتاً نزل بنا إلى حفرة الحضيض. وكذلك ما كان ليستثير نشاطنا لو أننا قد علونا في حضارة العصر إلى ذروة الأوج. ففي الحالة الأولى ينعدم الوعي، فلا فكر ولا نشاط، وفي الحالة الثانية تتحقق الطمأنينة والرضى، فلا قلق ولا تساؤل. لكننا من مدارج الصعود في منزلة بين المنزلتين، ولذلك كان لا بد لنا من مثل هذا النشاط الفكري، نتحسَّسُ به الطريق، حتى لا نضل عن الجادة المستقيمة لنبلغ ما نريد ونبتغي.
2- تعقيب الدكتور عبد الله عبد الدائم
طبيعي أن تكون ضالَّة الأستاذ الكبير الدكتور أحمد زكي نجيب محمود، وهو يسعى إلى تحديد معنى الحضارة وخصائصها، الوصول إلى رؤية فكرية تستطيع أن تولد موقفاً عملياً قادراً على أن يدفع المجتمع العربي دفعاً أوضح وأقوى في طريق التقدم. فالمسألة التي تعنيه وتعني سواه هي البحث عن “الإطار الفكري” الذي ينبغي أن يهدي الأمة العربية في مسيرتها نحو بناء حضارتها.
ومن هنا يقوم بالتنقيب عن الشرط اللازب لانطلاق أي حضارة، ليكون امتلاك هذا الشرط سبيلنا إلى ابتداع حضارتنا العربية المنشودة. وينتهي به المطاف، بعد تجوال في رحاب الحضارات قديمها وحديثها، إلى العثور على “مصباح ديوجين” الذي يكشف له ضالته، فيرى في النهاية أن معيار أي حضارة ومحرك انطلاقتها هو النظرة العقلية، والاحتكام إلى العقل، وتغليب سلطان”العقلانية” على أي سلطان آخر.
ونحن نكبر هذه الدعوة إلى “العقلانية” في مجتمع عربي يشكو حقاً من غلبة” الغيبية” على الواقعية، ومن سيطرة ” الارتجال” على الرسم المسبق للأمور، ومن العجز عن القبض على ناصية الأحداث ومسيرة المستقبل، افتقاداً منه للتخطيط العقلاني الذي يرسم الأهداف واضحة ويحدد سبل الوصول إليها. ونحن نؤمن معه أن مقتل الجهد العربي ومصدر الهدر والضياع فيه، غياب المنهج العقلاني الذي يجيد الاستخدام الأمثل والأفضل للموارد المتاحة.
بل نحن ندرك أعمق الإدراك أن أشد ما يميز الحضارة العلمية التكنولوجية الحديثة، ذلك السعي للسيطرة على الأحداث بل للسيطرة على المستقبل، عن طريق التحديد المسبق لخطوات السير ومراحل الوصول. ويسعد هذه الحضارة العلمية التكنولوجية في مطامحها هذه، ما تولده من تقنيات عقلية منطقية تنظيمية، تؤدي إلى ” عقلنة القرارات” كما يقال، وإلى رسم الطرق المؤدية إلى الأهداف، بل إلى رسم “تاريخ الغد” كله كما يقال. ولا أدل على ذلك من توالد تلك الأساليب الحديثة في الإدارة والتسيير، ومن تكاثر الطرائق التي تقوم” بالتنبؤ التكنولوجي” ( من مثل طرائق” التحليل الإجرائي” و” تحليل النظم” وسواها). بل لا أدل على ذلك من أن كثيراً من الباحثين الذين يحاولون الكشف عن “هوة التخلف” بين البلدان المتقدمة وبين سواها، يردون هذه الهوة إلى ” الهوة الإدارية التنظيمية”، ويرون أن المسألة في النهاية ليست مسألة ” مادة رمادية” وتفوق في القدرات الدماغية بمقدار ما هي مسألة” تنظيم” وتفوق في الإدارة والتسيير (على نحو ما يرى ” شريبر” مثلاً في حديثه عن التحدي الأميركي)”1″.
من هنا نحن مع الدكتور زكي نجيب محمود عندما يريد أن يؤكد هاتين الحقيقتين: نحن معه عندما يريد أن يرد العجز الذي تعاني منه مسيرة التقدم العربي إلى عجز في الرسم العقلاني لسبل الوصول، ونحن معه عندما يرى أن السمة الأولى للحضارة العصرية التي نحياها هي القدرة على التحكم في الكون حاضره ومستقبله، عن طريق “عقلنة القرارات” والامساك العملي المسبق بمجرى الأحداث وصورة المستقبل.
غير أننا نختلف مع الدكتور زكي نجيب محمود عندنا يجاوز تقرير هاتين الحقيقتين، وعندما يحاول أن يستخلص منهما نتائج تتصل بأمرين اثنين: أولهما تعريف الحضارة عامة، وثانيهما تحديد سبل الانطلاق نحو بناء أي حضارة استنادا إلى ما تكشف له من أهمية ” التخطيط العقلاني” في عصرنا.
والحق أن نقطة الضعف في منهج الدكتور زكي، كما تبدو لنا، تكمن في أنه يصدر عن موقف مسبق ونظرة مبيتة أملاهما تأمله في واقع التخلف العربي وفي منطلقات الحضارة الحديثة. وما تحليله الموضوعي في ظاهره لتاريخ الحضارات إلا محاولة يريد من خلالها أن يستخرج بأي ثمن، من تقريه لتلك الحضارات، الفكرة المسبقة التي افترضها سلفاً والتي فرضها عليه تأمله للواقع العربي وللحضارة الغربية. ونحن لا ننكر عليه ما انتهى إليه من تقرير لأهمية ” العقلانية” إذا كان هدفه مجرد البحث في ثغرات الوجود العربي في ضوء التجربة العالمية الحديثة. أما ما ننكره فهو أن ينتقل من ذلك إلى تقرير حقيقة عامة تتصل بجوهر الحضارات كلها وتتصل بالتالي بالمنطلق الواجب لكل حضارة.
ذلك أن السؤال الأول الذي لا بد من طرحه، هو التالي: هل ” النظرة العقلانية” التي توجه الحضارة الحديثة، سبب لهذه الحضارة أم نتيجة؟ وهل إجتراح هذه ” النظرة العقلانية” هو مجرد” بلسم” تستطيع أن تبتلعه أي أمة فإذا بها” تتحضر” بفضله، أم أن وراء هذه ” النظرة العقلانية” للأمور عوامل أعمق، بدونها لا تكون الحضارة ولا تكون” العقلانية”؟ هل ” العقلانية” نقطة الانطلاق في بناء أي حضارة، أم أنها في الحقيقة مرحلة متقدمة تلجأ إليها الحضارة الحديثة خاصة، وتلجأ إليها لجوءها إلى إحدى نتائجها التي تؤدي إلى مزيد من نموها وتطورها؟
ولتوضيح هذا التساؤل، نضع الحقائق الآتية:
1- لم تكن ” العقلانية”، بالمعنى الذي حددناه وبالمعنى الذي نستخرجه من بحث الدكتور زكي (نعني” رسم الطرق المؤدية إلى الأهداف”)، هي الصفة المصاحبة للحضارات القديمة عامة، وللحضارات الثلاث التي استشهد بها صاحب البحث، ( حضارة اليونان وحضارة العرب في أيام المأمون وحضارة فلورنسة في أوروبا). ويرجع الخطأ في تحليل الدكتور زكي في هذا المقام إلى أنه ينتقل انتقالاً غير منطقي بين مفهومين متباينين لكلمة عقلانية. فهو يشير أصلاً إلى العقلانية بمعناها الحديث، بمعنى التنظيم المنطقي لسبل الوصول، حتى إذا عرّج على الحضارات القديمة المذكورة عنى بالعقلانية شيئاً آخر وهبط بها إلى مجرد اللجوء إلى حكم العقل، ورفض ما سواه من أهواء وعواطف وتقاليد, وشتان بين المفهومين.
2- على أننا حتى إذا قبلنا جدلاً هذا المفهوم الثاني للعقلانية (أي مجرد الاحتكام إلى العقل بهذا المعنى الواسع الغامض) فهيهات أن يكون ” حكم العقل” هذا معياراً من معايير الحضارة قديمها وحديثها. وهيهات أن تكون دفقة الحضارة في أمة من الأمم نابعة من سلطان العقل وحده. وهل كانت حضارة الفراعنة، على جلالها، حضارة يسيرها العقل دون الهوى والمعتقد والدين؟ وهل كانت حضارة يونان نفسها، حضارة سقراط وافلاطون وأرسطو، حضارة يقودها العقل؟ هل كان ” عالم المثل الافلاطوني” و” جمهورية أفلاطون” و” ما بعد الطبيعة” لأرسطو، مجرد عمل عقلي بعيد عن الأهواء الدينية والتصورات العاطفية والتفكير المثالي الغارق في ” ما وراء الطبيعة” وفي الأسرار الغيبية التي ترجع جذورها إلى الفيتاغورية والأورفية والكثير من الديانات السحرية القديمة؟ ؟أو لم تكن ” اسبارطة” أكثر احتكاماً إلى العقل المنظم من ” أثينا”، ومع ذلك لم تكن لها مثل حضارتها شأواً ومنزلة؟
والحضارة العربية أيام المأمون، هل كانت حضارة مقياسها العقل، أم كانت وليدة الديانة الإسلامية وامتزاجها بالثقافات الأجنبية؟ وهل كانت مباحث المعتزلة وعلماء الكلام ومحاورات ” خلق القرآن” منازع يسودها الاحتكام إلى العقل، أم محاولات لتأييد الدين؟
والأمثلة لا تحصى على الحضارات القديمة التي كانت في معظمها حضارات دينية قبل أن تكون عقلية، والتي كانت تسقي حرارتها وقوتها من معين العاطفة والانفعال، قبل معين العقل والتعقل. ولا ندري أين نجد الطابع العقلي في حملات الاسكندر الكبير الحضارية، أو في فتوحات الإسلام، أو حتى في غزوات ” نابليون”، على ما فيها من طابع حضاري واضح.
لقد ولدت هذه الحركات الحضارية جميعها نظماً عقلية وأنتجت تراثاً عقلياً، بالإضافة إلى تراثها الوجداني والأخلاقي، ولكن محركها ورائدها لم يكن العقل، بل كان تلك الدفقة من الإيمان برسالة، ذلك الإيمان الذي لا يكون العقل بدونه إلا ثمرة جافة ونسغاً بلا حياة.
3- وهذه الملاحظة الأخيرة تكاد تنقلنا إلى جوهر الأمر: هل دفقة الحضارة في أمة من الأمم مجرد تفكير عقلي منظم ” يعقل” ويضبط، أم أنها قبل هذا وفوق هذا تفجر انفعالي يسقي جذوره من رؤية “رسولية” للكون ومن إيمان عاطفي عميق يدفع إلى تغيير صورته وتجديد موقع الإنسان فيه؟
إن العقل في النهاية مجرد أداة لتنظيم الكون ووسيلة ” لفبركة الأشياء” كما يقول برغسون. إنه في أعماقه أداة إحجام وليس أداة إقدام. وإذا لم يكن وراءه تلك الرؤية الإنسانية المبللة بالانفعال والإيمان برسالة، ظل عاجزاً عن أن يمارس دور التنظيم ومهمة ” التّقعيد”.
ولعل الدكتور زكي يشعر بذلك حين يقصر عمل “العقل” على رسم الخطوات الواصلة بين مبدأ مفروض وهدف مطلوب. غير أن المسألة كلها في بناء الحضارات ليست في مرحلة الوصل هذه، بل في تحديد المبدأ وصياغة الهدف. أما مرحلة الوصل، نعني عمل العقل، فتأتي نتيجة طبيعية لوضوح الأهداف والإيمان بها، ولا بد أن يولدها الإيمان بالهدف عاجلاً أو آجلاً على شكل من الأشكال.
4- وقد يقودنا هذا إلى أبحاث متعمقة ومتأنقة في جوهر ” التطور الخلاق” وفي طبيعة الوثبة الحيوية المبدعة لدى الأفراد والأمم, غير أننا نكتفي في هذا المجال- اجتناباً للبحث الفلسفي المجرد- بما تقرره الدراسات النفسية الحديثة التي تفرق اليوم تفريقا حاسما بين ” الذكاء” وبين ” الإبداعية”، والتي ترى في الأول مجرد طاقة تنظيمية، تتصف بالمحافظة والإتباع وتقتصر على تنظيم الأمور من خلال واقع محدد، بينما ترى في ” الإبداعية”- وهي جوهر الحضارة ومنطلقها- طاقة خلاقة فعالة تفتق الحلول وتولد الآفاق وتنأى عن المألوف. إنها تصف الذكاء بأنه طاقة مجتمعة منظمة (convergent) بينما تصف الإبداعية بأنها طاقة جوالة أفاقة مفتقة للمسائل (divergent) والأمم المبدعة- كالأفراد المبدعين- هي التي استطاعت أن تولد الجديد وأن تبحث عن آفاق إنسانية جديدة وأن تخالف المألوف والسائد، وأن تغامر لتوليد حياة بشرية محدثة ورؤية كونية مبتكرة. أما دور العقل فيأتي بعد ذلك كله، ونتيجة لذلك كله. ولعل الأبحاث النفسية التي قامت حول” العبقرية” تستطيع أن ترشدنا أيضاً في هذا المجال. إنها تسخر ممن رد العبقرية إلى ” الذكاء المتفوق”، وترى أن في العبقرية دوماً ذلك التفجر البركاني الانفعالي الذي لا يكون أكبر الأذكياء بدونه سوى نبتات لا ماء فيها ولا حياة.
5- وآية هذا كله أن الحضارة كل لا يتجزأ، وأن العقل فيها جانب من جوانبها لا يعمل إلا إذا اكتملت سائر الجوانب. وهل أدت سيطرة العقل المنطقي الصوري في العصور الوسطى الأوربية إلى توليد حضارة؟ أو لم يكن “دوران العقل حول ذاته” بسبب تعاليم أرسطو كما تبنتها الكنيسة، سبباً في عقم الحضارة الغربية طوال قرون؟ أو لم يأت “بيكون” بمنطقه الجديد (Novum organum) ليدحض منطق أرسطو، ولينكر الفكر الذي يدور حول نفسه، وليدعو إلى تفجر الحضارة عن طريق الملاحظة والتجربة وتقري الكون والأشياء؟ وهل الحضارة الحديثة في جذورها سوى نتيجة للخروج من سجن العقل الصوري، إلى واقع الحياة الحي الخصيب؟ وهل كان عصر النهضة سوى عودة إلى غنى الطبيعة وإلى ثراء العاطفة وإلى الصلة الانفعالية بين الإنسان والكون؟ أو لم تتفجر الحضارة الحديثة بعد ذلك أدباً وفناً وشعراً وموسيقى وفلسفة كما تفجرت علماً وتجربة وتقنية؟
6- والحق أن شرارة التقدم والحضارة هي دوماً وليدة اللقاء بين قطبين: الأول هو قطب الإيمان برسالة والعزم على بناء تجربة إنسانية جديدة، والثاني هو قطب المهاد العقلي والعلمي والتكنولوجي الذي يقدم لذلك الإيمان أسلحته ويرسم له ” سبل الوصول” إلى الأهداف. وما قامت حضارة في تليد القرون وجديدها إلا نتيجة اللقاء بين الإيمان بهدف وبين رسم وسائل بلوغه. وكما أن الإيمان بالهدف إذا لم يكن مسلحاً بالوسائل العقلية والعلمية والتنظيمية يظل عاجزا، فالوسائل
لا تجدي ولا تجد منطلقها إلا عندما تتضح الرؤية وتستبين الغاية وتكتمل الدفقة الانفعالية اللازمة للإيمان بها وحملها. بل إن الإيمان بالهدف قادر على أن يولد وسائله، أما العكس فغير صحيح.
وهل من حضارة أعمق تسلحاً بالعقل والعلم والتقنية من الحضارة التي ولدتها الشيوعية؟ ومع ذلك، ما كان لهذا السلاح العقلي والعلمي والتقني أن يجد سبيله لولا أن حركه ودفع إليه إيمان إيديولوجي بلغ حد الصوفية.
لقد صدق عالم الاجتماع الشهير “غورفيتش” حين رأى أن الحضارة تنطلق في مجتمع من المجتمعات حين يعزم هذا المجتمع على أن يمسك مصيره بيديه وعلى أن يرسم حياته الخاصة، وحين يعي في الوقت نفسه إمكانات هذه السيطرة على مصيره ومستقبله. وعند ذلك يصطنع في سبيل الوصول إلى رؤيته الجديدة شتى الوسائل العلمية والعقلية والتقنية والخلقية والفنية وسواها.
ولقد صدق أيضاً “ريد فيلد” حين رأى أن الحضارة تتصف أولاً وقبل كل شيء بحال عليا من الوعي لدور الثقافة. وهذا الوعي العميق المتوتر لدور الثقافة، يعني بطبيعة الحال الإيمان بالقيم التي تستطيع هذه الثقافة أن تولدها.
وبعد، بحث الدكتور زكي نجيب محمود يثير شجوناً كثيرة، هيهات أن يتسع المقام للإفاضة فيها. وجل ما نريد أن نقوله أمران: أولهما أن ” العقلانية” بالمعنى الحديث والمحدد لهذه الكلمة (بمعنى رسم سبل الوصول) سمة أساسية من سمات الحضارة في عصرنا، بدونها لا نستطيع أن نفهم هذه الحضارة. وغياب هذه النظرة العقلانية في مجتمعنا العربي عامل أساسي من عوامل تخلفنا عن العصر. ونحن في هذا كله نلتقي مع الدكتور زكي. غير أننا لا نلتقي معه حين يعود ليفهم العقلانية فهماً آخر، يجعلها صنواً لتحكيم العقل في شؤون الحياة، وحين يجعل من العقلانية، بهذا المعنى، الخاصة المميزة للحضارات قديمها وحديثها.
وثانيهما أن “العقلانية” بالمعنى الحديث للكلمة ليست سبباً للحضارة الحديثة أو لأي حضارة، وإنما هي نتيجة. ومنطلق الحضارة أخيراً هو ذلك الزواج بين “الرؤية الرسولية” التي تعني الإيمان بمصير جديد للأمة وللإنسان، وبين وسائل بلوغها وهي عديدة، وعلى رأسها التنظيم العقلاني والتفكير العلمي والاتجاه إلى تسخير الكون والطبيعة (الاتجاه التقني)، دون أن تنفصل هذه الوسائل كلها- على أهميتها- عن الإبداع الفكري والفني والأدبي والخلقي وسائر أشكال الإبداع.
ومجتمعنا العربي – في سعيه نحو تجاوز تخلفه وبناء حضارته – لا بد له من اجتماع هذين المطلبين: إرادة البناء وحمل الرسالة والعزم على خلق حضارة عربية إنسانية من جهة (وهذه كلها أمور تحتاج إلى جذور انفعالية – عقلية تتجاوز “العقلانية” بمفهومها المحدد)، ثم امتلاك الأساليب العلمية والتقنية والتنظيمية التي تجعل من تلك الإرادة إرادة فعالة ناجعة، والتي تيسر سبل الوصول، وتؤدي إلى الاستخدام الأمثل للموارد البشرية والمالية والمادية.
وخطأ أن نظن أن مجرد امتلاك أساليب البحث العلمي والتنظيم العقلاني يؤدي إلى خلق حضارة، بل خطأ أن نعتقد أن مثل هذا الامتلاك ممكن إذا لم تحركه وتحرضه إرادة قومية مؤمنة برسالة الأمة ودورها وإمكاناتها. وتحريك مثل هذه الإرادة ليس مجرد عمل ” عقلاني”، بل هو مستوى من الوعي والإرادة والشعور بالذات، له عوامله العديدة وله بواعثه الانفعالية الإرادية فضلاً عن بواعثه العقلية.
إن الدعوة إلى “العقلانية” وحدها والدعوة إلى العلم والتقنية وحدهما دعوة علمية مخلصة وهامة، ولكنها ليست دعوة قومية ولا هي دعوة قادرة على أن تبني حضارة. وتظل الحضارة، ويظل البناء القومي وراء هذا كله: إنه في تحريض إرادة البناء وإرادة الحياة وفي بعث روح الرسالة. وعند ذلك تجد “العقلانية” دورها ويجد العلم والتقنية مكانهما، وتصبح الوسائل في خدمة غايات محددة، بل تمتلك الغايات وسائلها المتفقة معها.