مؤتمرات الفكر ودورها في توجيه الأحداث

قضايا عربية – العدد /2/ – أيار 1974
مؤتمرات الفكر ودورها في توجيه الأحداث
الدكتور عبد الله عبد الدائم (1)
ندوة الكويت حول أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي كانت في جملتها خطوة إيجابية على طريق بناء الحياة العربية.
وأول ما يهب لها شأناً وقيمة ظاهرة انعقادها نفسها. فلقد ألفت البلدان العربية منذ سنوات بعيدة انعقاد مؤتمرات سياسية أو مؤتمرات فنية متخصصة. أما عقد المؤتمرات الفكرية فحدث جديد عرفته السنوات الأخيرة خاصة، وما يزال يسير في بطء واستحياء.
ولعل الشعور بأهمية المؤتمرات الفكرية في البلاد العربية قد انطلق حاداً بعد هزيمة الخامس من حزيران. فالهزيمة أعادت للفكر شرعية لم تكن له قبلها وساعدت على تحريره من سجنه الطويل، والتفتت إليه لتجد عنده المخرج الذي لم تجده في سواه. ولا نغلو إذا قلنا أن الخامس من حزيران أدان العمل السياسي (الذي أبعد الفكر طويلاً) ورنا إلى الفكر يرجو منه الخلاص.
وهكذا استطاع الفكر بعد حزيران أن ينزل الساحة، بل حاول أن ينتقم لنفسه من إهماله المديد، فكان نقده في كثير من الأحيان شماتة وتقريعاً، وجاوز التجريح إلى ضرب من السادية الماجنة.
ومع ذلك، كانت الهزيمة الصاعقة تبرر كل سرف، بل تستلزم الإفراط في نقد الواقع الذي قاد إليها. ولقد كان من الطبيعي أن تؤدي إلى هتك كل حجاب، وتعرية كل خفي، بل والتشكيك في كل شيء، حتى في جوهر الوجود العربي وإمكاناته.
وأياً كانت دوافع النقد الفكري الذي جرّح الهزيمة وأسبابها، ومهما يكن حظه من الموضوعية والصدق، يظل من الصحيح أن الفكر في تلك الحقبة لعب دوراً أساسياً في تعبئة مشاعر النقمة وتهيئة أجواء المرارة والتحدي، وخلق إمكانات التجاوز وبذور التغلب على النكسة. ولا نغلو إذا قلنا إن السادس من تشرين كان نتيجة من نتائج هذا التخمر الفكري، وجواباً على مناخ التحدي الذي خلقه. وليس من السرف أن نقرر أن التعبئة الحربية واكبت التعبئة النفسية والفكرية واستجابت لها.
من هنا نما ذلك المناخ الصالح لنشاط الفكر، وقام العديد من المؤتمرات الفكرية (بدءاً من لقاء الجزائر إلى لقاء الخرطوم إلى ندوة بنغازي فندوة الكويت وسواها).
والدافع الأساسي الثاوي وراء هذه المؤتمرات كلها هو في النهاية الشعور بعقم العمل السياسي (بأساليبه التقليدية) والالتفات إلى الفكر في بناء المصير العربي. ولا أدل على ذلك من أن محاولات عديدة قامت منذ النكسة لعقد مؤتمر فكري واسع يصدر عنه بيان صريح يحدد موقف المفكرين مما حدث ونظرتهم إلى طريق المستقبل. وقد فشل الكثير من هذه المحاولات لسبب أساسي هو صعوبة عقد مؤتمر فكري لا توجهه النظم السياسية القائمة من قريب أو بعيد، ويعمل في معزل عنها بل ضدها.
وواضح أن مثل هذا المؤتمر الفكري الواسع الذي راود أذهان المفكرين بعد النكسة كان يطمح إلى أن يكون مؤتمراً للفكر السياسي، يهدف إلى اتخاذ موقف فكري سياسي ومن هنا كانت صعوبة انعقاده.
لهذا اتجهت المؤتمرات الفكرية بعد ذلك اتجاهاً آخر ييسر انعقادها ويقلل من معانيها السياسية، فحاولت أن تجعل دور البحث الفكري هو الغالب. ولئن كانت ندوة المفكرين في بنغازي (نيسان عام 1973) في منزلة بين المنزلتين، بين الفكر والسياسة، فلقد كان مؤتمر الكويت الأخير مؤتمراً فكرياً خالصاً إلى حد بعيد، وكان الفكر السياسي فيه مضمراً أو في الظل. هذه الحقيقة لا تنقص من شأن هذا المؤتمر الأخير وإن كانت لا تبطل الحاجة إلى مؤتمرات للفكر السياسي بأوسع معاني هذه الكلمة. إذ يظل من الصحيح أن وراء الفكر السياسي دوماً البعد الفكري الخالص الذي يغوص في أعماق الحياة العربية، ويحللها ويكشف عن مقوماتها ويبحث في عللها وأدوائها. وكما أن العمل السياسي اليومي في حاجة إلى الفكر السياسي الذي يغذيه ويضيء طريقه، فالفكر السياسي بدوره في حاجة إلى الفكر العلمي التحليلي الذي يقدم له المادة الأولية لعمله ويدله على اتجاهاته الواجبة. غير أن هذا كله يشترط أن يقوم تفاعل وتكامل بين هذه المظاهر الثلاثة، الموجهة للحياة العربية: السياسة والفكر السياسي والفكر العلمي التحليلي. أما إذا استمر كل جانب من هذه الجوانب في النشاط والعمل في معزل عن الجانب الآخر، فهذا يعني إنقاذ المظهر دون المساس بجوهر الأمور. ويشتد الداء إذا بدا الفكر السياسي وكأنه ترجمة وتبرير للعمل السياسي، وإذا جاء الفكر العلمي التحليلي وكأنه هروب من مواجهة المشكلات الواقعية الفعلية، والتجاء إلى التحليل المجرد الذي لا يصيب هدفاً، والتماس للعزاء فيه.
والحق أن أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي لا ترجع فقط إلى غياب الفكر، بل ترجع خاصة إلى غياب الفكر المؤثر في مجرى الأحداث. والذي يعيق مسيرة التقدم في بلادنا العربية هو ذاك الانفصام بين جهود المفكرين وجهود الساسة. فالمفكرون يبحثون ويحللون ويخططون، وكأنهم يتحدثون من عالم آخر أو عن «مدينة فاضلة». أما الواقع السياسي الذي يقود عملياً حركة التغيير والذي يمسك بزمام التنفيذ، فبعيد عن أن يحيل أبحاث المفكرين وخططهم واقعاً قائماً وبرامج فعلية.
ولا يعني هذا أننا ننكر دور الفكر في تعميق النظرة إلى الأمور وفي إيجاد المناخ النفسي الملائم للتغيير. فعطاء الفكر عطاء عميق يحفر مجراه في عمق، ويشق طريقه بالإنضاج المتراكم الموصول. غير أن دور الفكر الآجل والطويل المدى – وهو دور أساسي وهام – لا يجوز أن يعطل – في نظرنا – دور الفكر العاجل. فالواقع العربي الراهن يستلزم جهداً مركزاً مكثفاً من أجل مواجهة التحديات السياسية والحضارية، ومن أجل تسريع الثورة الاجتماعية العلمية التكنولوجية. إننا في أمس الحاجة إلى الاستخدام الأمثل لجهودنا وطاقاتنا الفكرية وسواها، ولسنا في مرحلة من التطور العادي البطيء تبيح لنا التفريط بأي جهد وهدر أي طاقة.
في مثل هذه المرحلة التي تستلزم الجهد المركز والجمع الأمثل للطاقات والموارد، لابد من تناغم في المسيرة وتناسق في العمل، ولابد أن تكون الصيغة المطلوبة تحقيق أنجع أنواع التكامل وأفعلها بين شتى الجهود التي تبذل، وعلى رأسها جهود الفكر الذي يخطط لاتخاذ القرارات، من جانب، وجهود المسؤولين عن اتخاذ القرارات، نعني السياسيين من جانب آخر.
لقد تضاءل في عصرنا الحالي دور الأفكار العريضة والرؤى العامة، وغدا الدور الأول للأفكار التي ترسم سبل الوصول وللأهداف التي تحدد أساليب العمل، ولكل ما هو تخطيط عملي إجرائي. ولعل الأفكار والأنظار غدت مبذولة إلى حد كبير، وما تحتاج إليه هو اللحمة التي تحقق الارتباط بينها وبين الواقع والعمل. ومثل هذا لا يتم إلا عن طريق لقاء فعلي جاد بين الفكر والعمل، أي بين الفكر والسياسة. ولا يعني هذا اللقاء بين الفكر والسياسة – ونقولها مرة أخرى – أن يكون الفكر صورة باهتة عن السياسة وترجمة وتبريراً لها. بل يعني على العكس أن يكون الفكر قائداً للسياسة موجهاً لها. وهذا يستلزم أن يكون الفكر فكراً ملتزماً بقضايا أمته إلى جانب كونه فكراً علمياً وتقنياً. بل هذا يعني أن يكون الفكر فكراً نضالياً أخلاقياً، يؤمن برسالته وشأنه في بناء صورة الحياة الجديدة، ويكافح من أجل ذلك. مثل هذه الرسالة قصر عنها الفكر إلى حد كبير، وما يزال بعيداً عنها حتى اليوم.
ولا أدل على ذلك من عجز الفكر وتقصيره قبل الخامس من حزيران، ذلك التقصير الذي كان سبباً أساسياً من أسباب الكارثة. لقد نجح الفكر بعد نكبة عام 1948 في توليد فكر تقدمي، يرد على النكبة. وكان نجاحه في تلك الآونة سهلاً هيناً. فالموقف بعد النكبة واضح لا يحتمل اللبس. إنه يشير بإصبع الاتهام إلى البنيان السياسي والاجتماعي الفاسد الذي كان قائماً قبلها، ويدعو إلى توليد بنى سياسية واجتماعية جديدة. غير أنه ما لبث حتى خفت وتقلص، عندما منيت البنى التقدمية الجديدة التي قامت في عدد من البلدان العربية، بعلل وأمراض حالت بينها وبين إكمال انطلاقتها وتعميق جذورها في الحياة العربية. ومما يلفت النظر حقاً أن نسمع اليوم من العديد من المفكرين نقداً سليماً لآفات النظم التقدمية قبل الخامس من حزيران، ما كنا نسمعه منهم في حينه بل كنا نسمع نقيضه من معظمهم. لقد أدرك الكثير من المفكرين اليوم، بعد لأي وبعد أن انكشفت الحقائق، الآثار التي عطلت المد التقدمي بعد عام 1948، وعلى رأسها افتقاد التفاعل الشعبي والديمقراطية والحوار، وتجمد التجربة التقدمية بعد أن فرضت نفسها من عل كشيء كامل لا يحتمل النقد والتطوير. ووعى هؤلاء ما أصيبت به تلك الحركات من تصلب في الشرايين بعد أن فقدت غذاءها الأصيل، غذاء التفاعل مع الشعب.
مثل هذا النقد السهل الذي نسمعه اليوم كان جديراً بالمفكرين أن يسوقوه في حينه منعاً للمسيرة من التصلب، واجتناباً للكارثة التي كانت نتيجة أساسية من نتائج عزلة المد التقدمي عن هواء الحوار ومناخ التفاعل الشعبي الخصيب.
إن أهم دور يستطيع المفكرون أن يضطلعوا به في مسيرة أي حركة تقدمية، هو أن يحولوا بين تلك الحركة وبين الوقوع في عبادة منطلقاتها عبادة جامدة. إن مهمتهم دوماً أن يبينوا أن حركة الثورة ينبغي أن تكون هي الأصل، وأن الأطر السياسية والإيديولوجية لابد أن تكون في خدمة تلك الحركة، ولابد بالتالي أن تتكيف معها. بل إن رأس رسالتهم أن يحولوا بين الثورة وبين أن تتجمد في الدولة، في الدولة البيروقراطية المدعية للعصمة. لقد قالها «لينين» منذ عام 1917 في بحثه عن «الدولة والثورة» وقالها أقطاب الحركة الشيوعية اليوغسلافية، وقالها الشيوعيون أنفسهم في تشيكوسلوفاكية قبل ربيع «براغ» وقالها العديد من المفكرين الذين نقدوا تجمد الشيوعية في بعض البلدان (بدءاً من هرفي وكتابه عن «الثورة والأصنام» وانتهاء بجارودي وكتابه عن «الماركسية في القرن العشرين» أو عن «المنعطف الكبير للاشتراكية»). فالمبادئ وسائل ومنطلقات للعمل وليست غاية في ذاتها، ويظل الأصل حركة الثورة وتقدم المسيرة. وأخطر ما تصاب به المبادئ أن تغدو «تتويجاً رائعاً للوحشية» على حد تعبير ماركس نفسه.
ولا يتسع المجال للحديث عن سائر مهمات الفكر ودوره في توجيه العمل السياسي وتقويمه. والذي أردنا أن نؤكد عليه أولاً وآخراً – بمناسبة ندوة الكويت – أن يكون الفكر فكراً عملياً ملتزماً، وأن يكون أداة إنضاج وتعميق للعمل السياسي، وألا يكون متخلفاً عن المعركة يكتفي بتحليل الأحداث وتفسيرها بعد وقوعها، بدلاً من أن يوجه الأحداث ويصنعها. بل ما نريد أن نؤكده أن يكون الفكر هو الأداة الأساسية للربط بين العمل السياسي الرسمي وبين مطالب الجماهير الشعبية وأحاسيسها وإرادتها. إنه في نظرنا الجسر الحقيقي الذي ينبغي أن يتم العبور بفضله بين واقع السياسة وحدودها وواقع الشعب وتطلعاته.
نقول هذا كله لا لننتقص من شأن ندوة كندوة الكويت، بل لنؤكد معناها ودلالتها العميقة. لقد أثارت الندوة مشكلات أساسية، وبحثت في جذور التخلف العربي وأبعاده المختلفة، وأشارت فيما أشارت إلى العوامل السياسية والأيديولوجية والفكرية التي أدت إلى التخلف، ووضعت النقاط على الحروف حول كثير من المسائل الفكرية ذات الأبعاد الحضارية (كمسألة الأصالة والحداثة، ومسألة التاريخ والمستقبل، ومسألة الدين والتطور).
وواضح أن هذه الأبحاث جميعها تلامس الواقع السياسي وتكمن وراءه، وأن جلاءها يزيد في وضوح الرؤية الفكرية عامة والرؤية السياسية بالتالي.
غير أن هذه الندوة وسواها لا تعطي كامل مداها إلا إذا كانت بداية لا نهاية، وإلا إذا كان الهدف الأخير أن تولد هذه الندوة وسواها من الندوات الفكرية حياة فكرية خصبة، تتسع أبعادها شيئاً بعد شيء لتتصل بكل ما من شأنه أن يجدد الواقع السياسي ويغنيه ويوجهه.
ومن هنا نرجو أن ينبثق عن الندوة أمران:
أولهما: أن تكون منطلقاً لحوار فكري موصول يتم على مختلف المستويات وبوساطة وسائل الإعلام المختلفة، هدفه أن يتابع دراسة المشكلات التي طرحتها، لا من أجل مزيد من التعميق لها والكشف عن غوامضها فحسب بل من أجل ربطها ربطاً أوثق فأوثق بواقع النضال اليومي من أجل تطوير الحياة العربية وتغييرها. ومعنى هذا أن تتسع الندوة التي بدأت فكرية عامة إلى حد بعيد، فتخالط الواقع العربي ومسيرته، ويكون لها دور في الواقع السياسي خاصة، ذلك الواقع الذي يملك وحده حتى الآن حق اتخاذ القرارات.
ثانيهما: أن يعقب هذه الندوة ندوات أخرى مكملة لها، كما ورد في التوصيات التي تضمنها بيانها الختامي، وأن يكون هدف الندوات التالية مزيداً من الربط بين الفكر والواقع. ذلك أن أزمة التطور الحضاري في البلدان العربية – كما قلنا ونقول – تثوي أولاً وقبل كل شيء في انعدام الصلة بين مختلف الجهود التي تبذل من أجل تطوير الحياة العربية، ولا سيما بين الجهود التي تتم في ميدان الفكر والنظر وبين الجهود التي تتم في ميدان التطبيق والعمل، أي في ميدان السياسة بالمعنى الواسع لهذه الكلمة. وإذا كان الفكر بدون السياسة أجوف فالسياسة بدون الفكر عمياء. وشرارة التقدم لابد أن تكون وليدة اللقاء الجدي والحي بينهما.