تعليق الدكتور عبد الدائم على بحث الدكتور حلمي مراد«التعليم العربي وأزمة التطور الحضاري»

مجلة الآداب – العدد الخامس (عدد ممتاز) – أيار 1974
د. محمد حلمي مراد
تعليق على بحث
«التعليم العربي وأزمة التطور الحضاري»
للدكتور عبد الله عبد الدائم

أرجع الدكتور عبد الدائم العوامل المتسببة في وجود الأزمة التعليمية بالوطن العربي إلى أربعة عوامل:
عوامل سكانية تنحصر بصفة أساسية في التزايد السريع للسكان مع تزايد بنيته الفنية وبالتالي التزايد المطرد في عدد الطلاب. وعوامل اقتصادية تتمثل في عدم استثمار موارد البلاد العربية الاستثمار الملائم الذي يمكنه من مواجهة الحاجات التعليمية للأعداد المتزايدة من السكان. وعوامل اجتماعية ترجع إلى تخلف البيئة الريفية والمناطق الصحراوية وصعوبة إيصال الخدمة التعليمية إلى أعماقها من ناحية، وموقف المجتمع من عدم الإقبال على تعليم المرأة وعلى التعليم الفني من ناحية أخرى. وعوامل تربوية فصلها فيما يلي:
1) إهمال الصور المختلفة للتعليم غير النظامي (من مكافحة الأمية إلى التدريب بفروعه المتعددة).
2) التمسك بإطارات التعليم التقليدية وعدم استخدام الأساليب والتقنيات الحديثة (كالراديو والتلفزيون والأفلام).
3) العناية باستيعاب الكم دون العناية بالكيف في النظام التعليمي.
4) عدم حصول الدارسين على التخصصات والمستويات المطلوبة لمواجهة حاجات المجتمع.
5) عدم تحديث الإدارة التربوية باستخدام الوسائل الإدارية البصرية من تقنيات حديثة، ولا مركزية، وتفويض للسلطات.
6) انعدام التخطيط التربوي العلمي الذي ينبغي ألا يقتصر على مواجهة الزيادة العددية بل يتوجب أن “يدخل في اعتباره الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية”.
ويؤخذ على تحليل هذه الأسباب لأزمة التخلف التعليمي والتربوي في العالم العربي، أن ثمة اتجاهاً إلى تعميمها بالنسبة لدول العالم العربي بأسره، في حين أن البعض منها لا ينطبق إلا على بعض البلاد العربية دون الأخرى. فمشكلة الانفجار السكاني إذا كانت موجودة بوضوح في بعض البلاد العربية، فإن النقص في عدد السكان قد تكون مشكلة من أهم المشاكل التي تعاني منها دول عربية أخرى، كما أن نقص الموارد المتاحة لمواجهة الاحتياجات التعليمية قد يكون من أهم أسباب الأزمة التعليمية في بعض دول الوطن العربي، ولكنها لا تشكل أية مشكلة بالنسبة لدول أخرى كالدول ذات الموارد النفطية المرتفعة.
بل قد ترتب على وجود موارد مالية متوفرة في بعض هذه البلاد كدولة قطر التفكير في إنشاء جامعة تضم كليات متعددة بالرغم من عدم توفر أعداد كافية من الطلاب القطريين للالتحاق بها، الأمر الذي يطرح موضوع التعاون العربي في مجال التعليم وهو ما يعتبر أحد الحلول التي يمكن الأخذ بها لمعالجة أزمة “تزايد الأعداد مع قلة الإمكانيات”. فيمكن الاتفاق على أن توفد دولة أعداداً من الطلاب للالتحاق بكلية معينة في بلد عربي آخر مقابل أن يوفد البلد الأخير أعداداً مماثلة للالتحاق بكلية من نوع آخر غير موجودة لديها في البلد الأول. وهكذا يمكن تجنب التكرار في إنشاء نفس النوع من الكليات بما يتطلبه ذلك من إعداد المباني والتجهيزات العلمية وهيئات التدريس اللازمة لها دون ما حاجة تدعو إلى ذلك من ناحية إعداد الطلاب.
كما تبين من العرض المذكور لأسباب أزمة التعليم في العالم العربي مدى الترابط بين صور التخلف المختلفة: فالتخلف الاجتماعي الموجود في البيئة الريفية والمناطق الصحراوية، وفي التقاليد والقيم السائدة بالنسبة لتعليم المرأة والتعليم الفني من ناحية، والتخلف الاقتصادي المؤدي إلى نقص الموارد المتاحة لمواجهة احتياجات التعليم من ناحية أخرى – لهما انعكاسهما الواضح على التخلف التربوي وبالتالي فإن كلاً من التنمية الاقتصادية والاجتماعية تعاونان على معالجة بعض أسباب أزمة التخلف التربوي.
ويؤخذ كذلك على الأسباب الواردة بالدراسة المقدمة من الدكتور عبد الله عبد الدائم أنها أغفلت بعض الأسباب الخطيرة للأزمة التي يعاني منها نظامنا التعليمي ومن أهمها:
1- مشكلة إعداد المعلم وتهيئة جو الاستقرار النفسي والمادي ودعم منزلته في المجتمع تمكيناً له من حسن إعداد عمله وعدم إقبال العناصر المتفوقة على كليات التربية ومعاهد المعلمين، وقصور طرق تكوين المعلمين بالنسبة لمراحل التعليم ونوعياته المختلفة تشكل خطورة من حيث المستوى الفني للمعلم وهو جوهر العملية التعليمية. إذ يتوقف على قدرته وصلاحيته واستقراره نفسياً وتقديره مادياً وأدبياً صلاح النظام التعليمي بأسره.
2- تركيز الاهتمام على تلقين الطالب للمناهج الدراسية دون عناية بتكوين الشخصية المتكاملة للطالب من كافة الجوانب التربوية، أي من النواحي الاجتماعية والثقافية والدينية والخلقية، بالإضافة إلى الناحية التعليمية البحتة بالمعنى الضيق لهذه الكلمة. ولذا فإن التعليم الأساسي الذي كان يلخص مضمونه الانجلوسكسون في (Reading – Writing – Arithmatic) “3Rs” أصبح ينظر إليه كتعليم قاصر في مجتمعنا العصري وحل محله التعليم القائم على
(Head-Hand-Health-Heart) “4Hs” أي التربية العقلية واليدوية والجسمانية والوجدانية.
3- اعتبار الامتحانات في نهاية السنوات الدراسية هي المقياس الوحيد للحكم على قدرات الطالب مما أضفى عليها نوعاً من الرهبة الضارة بنفسية الطلاب، فضلاً عن إضعاف اهتمام الطالب بالتحصيل المنتظم خلال السنة وفقدان معايير الحكم السليم على قدراته.
4- المشاكل المتعلقة بالتعليم الجامعي مما أثر على أداء رسالة الجامعات في تكوين العناصر القياسية في القطاعات المختلفة، وفي تنشيط البحث العلمي والقيام بدورها الطليعي المأمول في القيادة الفكرية، وتقديم الحلول الكفيلة بحل القضايا التي تعترض تقدم البلاد حلاً علمياً.
هذا وقد كنا نود أن تتولى الدراسة المقدمة من الأستاذ الدكتور عبد الله عبد الدائم – بعد أن شخصت بكفاية واقتدار الداء بعرض ظواهر التخلف في نظام التعليم العربي ومسبباته- وصف الدواء بتقديم الوسائل والأساليب العلمية الكفيلة بمعالجة تلك المسببات توصلاً للقضاء على تخلفنا التعليمي والتربوي…. فإن ما نتوق إليه حقاً أن تخرج هذه الندوة العلمية على الأمة العربية بتوصيات قابلة للتنفيذ حيث تكون المشكلات واضحة المعالم وأن يحال إلى ندوات متخصصة مقبلة ما يحتاج إلى مزيد من الدراسة لاستخلاص الحلول الواجبة.
حقاً إن البحث المقدم تناول في القسم الثاني منه “سبل المستقبل” وهو يتضمن الاتجاهات والأهداف الكفيلة بتغيير صورة التربية المختلفة في العالم العربي.. ولكنني كنت أسائل نفسي عند مطالعة كل اتجاه أو هدف منها: كيف يتم تحقيق ذلك؟
ولأكن صريحاً فأقول في وضوح أن المسؤولين التنفيذيين العرب في كافة القطاعات- وليس في قطاع التعليم فقط – غير غافلين عن وجود تخلف حضاري في ميادين عملهم ويحرصون كل الحرص على القضاء على هذا التخلف بل ويعدون أحياناً شعوبهم بتحقيق معالم التقدم الموجودة في الدول الأجنبية المتطورة… ولكن شيئاً من ذلك لا يتحقق، الأمر الذي يدفع بعض معارضيهم لاتهامهم بعدم صدق النية في معالجة هذه الأوضاع.. وهو ما لا يعبر عن واقع الأمر في أغلب الأحوال.. وإنما يرجع السبب في عدم تحقق الوعود إلى عدم الإلمام بالأساليب التنفيذية العملية الصالحة لتحقيق الصورة العصرية المنشودة.
ولعل استعراضنا لهذه الاتجاهات المستقبلية التي أوردها البحث، يبرز لنا مدى الحاجة إلى تحديد طرائق التطبيق وأساليب التنفيذ التي لم يتوصل إليها بعد القائمون على أمور نظمنا التعليمية والتربوية، بغية تحقيق تطلعات الأجيال الصاعدة إلى تربية أفضل تنسق مع ملابسات العصر وعالم الغد:
1- يشير البحث باستخدام أمثل للموارد المتاحة عن طريق زيادة فاعلية النظام التعليمي وكفاءته الداخلية (كيف؟)، واللجوء إلى أشكال جديدة من التربية (كيف؟)، والأخذ بالتقنيات الحديثة (أي منها وإلى أي حد؟) وتحويل الإدارة التربوية من إدارة متخلفة (أو حرفية كما جاء في البحث) إلى إدارة عصرية (أو علمية مصنعة كما ورد به)… ولكن كيف يتحقق كل ذلك؟
2- الاتجاه نحو مفهوم “المجتمع المتعلم” وعدم الاقتصار على أعمار أو فئات بعينها، والأخذ بفكرة “التربية المستمرة” من تربية سابقة على التعليم النظامي، ولاحقة له، ومتوازية معه.
ولكن كيف تتم مكافحة الأمية – إحدى صور التعليم غير النظامي – التي يجري الحديث عنها منذ عشرات السنين دون أن ينقص عدد الأميين بالوطن العربي؟ وكيف نقضي على عوامل عدم استيعاب الأطفال في المدارس الابتدائية وعلى أمل تسربهم مما يجدد منابع الأمة بصفة مستمرة؟ ومن المسؤول عن إخراج مختلف صور التربية المستمرة إلى حيز الوجود وكيف يتم تنفيذها عملياً بطريقة منتظمة وملزمة؟
3- الربط بين التربية وبين حاجات سوق العمل ومتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وقد أشار البحث في هذا الصدد إلى ضرورة رسم سياسة للقبول في التعليم، وأهمية تطوير مناهج التعليم وطرائقه. وليعذرني أخي الدكتور عبد الله عبد الدائم إذا تساءلت: ألا ترسم سياسة القبول في بعض الدول العربية ولكنها فاشلة؟ ألا يعلن كل يوم في كثير من البلدان العربية عن تطوير مناهج التعليم وطرائقه دون أن يتم شيء بالصورة المرتجاة؟
إن خطة علمية رشيدة لابد أن تقدم إلى القائمين على شؤون التربية في البلاد العربية متضمنة الأسس السليمة لسياسة القبول بمعاهد التعليم بمختلف مراحلها ونوعياتها ومستوياتها، والأساليب الواجب إتباعها لتطوير محتويات المناهج وطرائقها من حيث المقصود بالتطوير، وكيفية إجرائه، والمؤشرات والتجارب التي يمكن الاستعانة بها، والعناصر أي الجهات التي يعتمد عليها في ذلك. ففي مجال التعليم الفني مثلاً لابد في رأيي من اشتراك الأخصائيين في المؤسسات الإنتاجية في رسم المناهج وتحديد متطلباتهم من الخريجين ولابد من الربط بين معاهد التعليم الفني ومراكز الإنتاج مكاناً وتدريباً واستعانة بتجهيزاتها الآلية ومعداتها الفنية وبالقادرين على المشاركة في العملية التعليمية.
4- يوصي البحث بالأخذ بأسلوب التخطيط العلمي التربوي مع مراعاة خلق إرادة العمل المشترك لدى المواطنين من أجل أهداف مشتركة، وتكوين النفسية المحققة للخلق والإبداع اللازمين للتقدم العلمي والتكنولوجي.
هنا أيضاً لابد أن نتساءل كيف؟ يكاد يكون في كل وزارة تربية عربية في الوقت الراهن إدارة للتخطيط تصدر كل سنة أو كل بضع سنوات خطة تعليمية….. ولكن هل هذه هي الصورة التي يأمل فيها الدكتور عبد الدائم؟ لا أعتقد ذلك.
كما نتساءل كيف تخلق إرادة العمل المشترك من أجل أهداف مشتركة؟.. وما كاد البحث يشير إلى بعض وسائل التربية المحققة لذلك من تربية جماعية وتعاونية حتى فوجئت بانقطاع هذا الاستطراد المفيد على أساس أنه “لا مجال للحديث عنها هنا”.. مع أن هذا الحديث كان في تقديري لازماً.
ولعل الدكتور عبد الدائم قد قصد معتمداً ألا يتطرق إلى الطرق والأساليب لتطوير التربية في البلاد العربية اكتفاء بوضع اتجاهات التطوير.. على أنه سرعان ما شعر بالحاجة إلى اقتراح وسيلة لوضع هذه الاتجاهات موضع التنفيذ فقال “وفي رأينا أن كل حديث عن تطوير التربية في البلاد العربية تطويراً علمياً وجذرياً – في اتجاه المبادئ التي توقعنا عندها – يظل حديثنا معلقاً في الفضاء إذا لم تخلق المؤسسة أو المؤسسات العلمية (العربية للبحث والتجديد التربوي) التي تحقق له مجال انطلاقه وانقلابه إلى عمل”.
وبغض النظر عن التسمية والشكل القانوني، فإنني أتفق مع الأستاذ الباحث في أن التقدم التربوي لم يعد مجرد فتح دور للتعليم تستقبل أعداداً متزايدة من الطلاب بل إن المطلوب هو أن نتساءل في عمق وبصفة مستمرة: ماذا نعلِّم؟ وكيف نعلم؟ وأي إنسان نريد أن نكوّنه مما نعلِّم؟
وأعتقد أنه للوصول إلى الإجابة المدروسة بصفة منتظمة ودورية على هذا السؤال لابد من وجود تنظيم دائم (إدارة أو مركز أو مؤسسة) شريطة أن تكون ذات صلة بوزارة التربية في كل بلد عربي حتى تظل البحوث والدراسات التربوية مرتبطة بالإدارة المنفذة تيسيراً للحصول على المعلومات اللازمة، ووصولاً إلى وضعها موضع التنفيذ دون حساسيات. وتمكيناً لهذا التنظيم من أداء دوره لابد أن يعنى بمتابعة أمرين بصفة مستمرة:
أولاً: النتائج العملية لما هو قائم من نظم ومناهج دراسية وطرائق ووسائل تعليمية وكتب مدرسية وامتحانات عن طريق الاستعانة بالأساليب الميدانية والبيانات الإحصائية ووجهات نظر المعلمين والمتعلمين.
ثانياً: التطورات المستحدثة والأبحاث العلمية الجديدة في المجالات التعليمية والتربوية في العالم لاقتباس ما يصلح منها لبلادنا في ضوء تحليل واقعنا.
وينبغي أن يتم نوع من تبادل الخبرة والرأي فيما تنتهي إليه هذه المتابعة بين وزارات التربية في البلاد العربية عن طريق تبادل الدراسات والبحوث وعقد اجتماعات دورية منتظمة للفنيين والأخصائيين تتولى تنظيمها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التابعة لجامعة الدول العربية.