المجتمع العربي أمام النظرة المستقبلية

مجلة المعرفة التي تصدرها وزارة الثقافة بدمشق – العدد /121/ – آذار/مارس 1972
المجتمع العربي أمام النظرة المستقبلية
د.عبد الله عبد الدائم
ليس النجح الكبير في تطور الإنسان أنه جعل الكون ذلولا، أرضه وسماءه، بحره وهواءه، كوكبه وقمره. ولا النجح الأكبر أنه صيّر الآلة مارداً في يد الإنسان، يزوده بالقوة والقدرة، ويزيد طاقته أضعافاً مضاعفة، ويمد في أثره وتأثيره دون ما حد، ويكاد يحيل شأنه في السيطرة على العالم كيد ساحر أو معجزة نبي.
النجح الكبير وراء هذا كله وفوق هذا كله. إن لم ندركه لم ندرك روح الحضارة الحديثة ومصدر قوتها وقدرتها على تجاوز ذاتها، وإن لم نعه لم نع ما عساها تقدم لنا من مفاجآت ووعود، وما قد تحمل به في مقبلات الأيام.
ولنقل منذ البداية موجزين: إنه سعي الإنسان للسيطرة على المستقبل.
أجل ذلكم هو البعد الجديد الذي بدت ملامحه في الأفق، حاملاً معه ضياءً جديداً، محملاً بوعود ورعود لا حد لها.
في إطار هذا المسعى الجديد، مسعى السيطرة على المستقبل، لم يعد هم الإنسان أن يسيطر على الكون والأشياء فحسب، بل غدا همه وهاجسه أن يمسك بزمام المستقبل، أن يضع مستقبله بيديه، أن يبتكر مستقبله كما يُقال (To invent the future)، أن يكون له في صناعة غده نصيب، وفي بناء أيامه المقبلة شأن. إنه يريد أن يجعل المستقبل طائعاً ذلولاً، كما جعل الأرض والكون مسخرين لمشيئته.
لم تعد المسألة عنده أن تقذف لنا الحضارة بمبدعاتها ومكتشفاتها عفو الخاطر، وإن يتقدم ركب الإنسانية من خلال مسيرة لا يدري الإنسان مصيرها ومستقرها. ولم يعد مقبولا عنده أن يكون المستقبل، مستقبل الإنسانية، ذلك المجهول الذي نتركه لتطور الأزمان وتقلب الحدثان،
ولا هو يرضى أن يكون الغد مركَّباً مفاجئاً من عوامل وعناصر لا يدري كيف تتشكل وكيف تشكل معها حياة إنسان الغداة. وهيهات أن يتأسى بقول الشاعر الجاهلي:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم
مطامحه في هذا الثلث الأخير من القرن العشرين أن يمتد ببصره وبصيرته إلى ما يتجاوز الحاضر الذي يحياه والمستقبل القريب الذي يقبل عليه، أن يرنو إلى مشارف القرن المقبل، يتبين فيه المسير والمصير، ليختار أفضله ويجتنب سيئه.
وليس ما يطمح إليه ههنا شعر شاعر أو نبوءة عرّاف ساحر أو تأملات فيلسوف. ولا هو مجرد إطلالة فكرية عبر الزمان يبني من خلالها رؤى المستقبل ويرسم صورته المرجوة. وما الأمر عنده أن يبني من بنات أفكاره مدينة فاضلة. أو جمهورية أفلاطونية. مطمحه وأمله أن يتنبأ بالمستقبل تنبؤاً علمياً وأن يرسم صورة المستقبل عن طريق العلم.
فما هي قصة هذه النبوءة العلمية؟ وكيف تأتّى أن يكون بين العلم والنبوءة قربى ووشائج؟
علم المستقبل:
منذ سنوات ليست بعيدة، تعود إلى أواخر القرن السابق، ولد علم قائم بذاته دعي علم المستقبل. وقامت دراسات مغذة في سيرها، أطلق عليها المفكر الفرنسي “جاستون برجيه Gaston Berger ” في مقال كتبه عام 1975 في “مجلة العالمين” اسم “التحسب Prospective”. وأخذ هذا العلم يتطور وينمو، حتى غدت له مؤسساته وتقنياته وقواعده. وتكاثرت الجمعيات والمعاهد والمجلات والكتب التي تُعنى بعلم المستقبل وبالدراسات المستقبلية. وغدت هذه المحاولة يوماً بعد يوم منهجاً شائعاً في شتى ميادين الحياة، تصطنعه أكثر الدراسات التي تُعالج أكثر مشكلات الاقتصاد والثقافة أو التربية أو علم الاجتماع أو علم البيولوجيا أو سواها. وكونت دول كثيرة جماعات ولجاناً خاصة، باسم جماعات العام 2000 أو جماعات الدراسات التحسبية أو جماعات المستقبل أو سوى ذلكم من الأسماء. وأوكلت إليها أمر التخطيط للمستقبل في شتى مجالات الحياة، واتخذت من دراستها أساساً لسياستها في مختلف الميادين.
ذلك أن هذا العلم الناشئ، علم المستقبل، أكد عدداً من الحقائق، أحدثت تغييراً أساسياً، بل انقلاباً في سياسة الدول وفي نظرتها إلى بناء حاضرها ومستقبلها. ويمكن إيجاز تلك الحقائق في الأمور التالية:
أولاً: ثمة طرائق وتقنيات علمية ولّدها ذلك العلم، غدت قادرة إلى حد بعيد على التنبؤ العلمي بالمستقبل. ونعني بها تلك الطرائق والتقنيات التي تعرف أحياناً باسم “طرائق التنبؤ التكنولوجي “Technological forecasting”. وهي طرائق تسمح لنا بأن نعرف ما يمكن أن تكون عليه صورة العالم، في شتى ميادين الحياة، بعد عدد بعيد من السنوات. إنها تبين لنا، وفق أساليب علمية متطورة، ما ينتظر أن تصل إليه المكتشفات العلمية والتقدم العلمي عبر العقود القادمة من السنين، في كل مجال من مجالات الحياة الإنسانية، في الطب وعلم الحياة وعلم النسل والكيمياء والفيزياء والذرة والفضاء والمواصلات، بل في الثقافة والتربية والاقتصاد والاجتماع والسياسة وسواها…
ولا يسمح المقام بالحديث عن تلك التقنيات وتطورها ووعودها وحدودها.
وحسبنا أن نقول إنها تقنيات ولدت في دنيا الحرب والصناعة أولاً ثم امتدت إلى شتى الميادين، وإنها تستهدف أن تقدم لنا “تاريخ الغد” كما يُقال، لا تاريخ الأمس، وإن ترينا ذلك التاريخ في مسيرته وتطوره وأبعاده. وجوهر تلك التقنيات أنها تقدم صورة الغد عن طريق تقري الأبحاث والدراسات والاتجاهات العلمية في شتى ميادين المعرفة خلال عدد من السنوات الماضية وخلال الطور الراهن. ومثل هذا التقري للاتجاهات الماضية والحاضرة يسمح لها إلى حد بعيد بقراءة ما ستصير إليه تلك الاتجاهات في المستقبل وما ستنتهي إليه من ثمرات خلال مسيرتها في العقود القادمة.
ولنقل بإيجاز أن قوام هذه التقنيات أن تمد الماضي والحاضر إلى المستقبل، وأن تقوم بما يشبه عملية المدّ Extrapolation التي يحدثّنا عنا الاحصائيون. وهكذا تسمح لنا تلك التقنيات أن نتخيل عالمنا المقبل في شتى مجالاته وميادينه، فيما لو كان ذلك العالم المقبل امتداداً للجهود والدراسات والأبحاث التي جرت في الماضي وتجري في الحاضر. ولا شك أن أهم ما ساعد على توليد تلك التقنيات وتطورها، تقدم العقول الإلكترونية، جيلاً بعد جيل، وبلوغها اليوم، في جيلها الرابع، قدراً من التطور يجعل منها أداة رائعة من أدوات التنبؤ والتحسب.
ويضاف إلى تقدم قدرة العقول الإلكترونية، ظهور تقنيات تنبؤية، تستخدم في الحرب كما تستخدم في الصناعة وإدارة الأعمال، وقد امتد استخدامها إلى شتى ميادين النشاط الإنساني، بما في ذلك الثقافة والتربية. ومثل هذه التقنيات هي التي استخدمت في هبوط الإنسان على سطح القمر.
ثانياً: على أن هذه الدراسات التحسبية المستقبلية لا تقف عند هذا الحد، حد التنبؤ بصورة المستقبل، على ضوء اتجاهات الماضي والحاضر. فليس همها أن ترينا صورة الغد فيما لو كان ذلك الغد مجرد امتداد للماضي والحاضر. ولا يرضيها أن تتنبأ فحسب، بل يعنيها أن تؤثر وتفعل. والنبوءة عندها وسيلة للتأثير والتغيير وليست أمراً مقصوداً لذاته. إنها تنطلق من رسم صورة المستقبل المتوقع المنتظر، الذي تومئ إليه الدراسات والأبحاث القائمة وتدل إليه الاتجاهات والجهود العلمية السائدة، لتجعلنا أقدر على تأمل المستقبل والتفكير فيه، وأقدر بالتالي على بنائه والسيطرة عليه.
إنها تطلعنا على ملامح مستقبلنا الممكن الذي تدل عليه جهودنا الآنية، لنضعه بعد ذلك موضع البحث والتساؤل والتشريح والتجريح، لنقبل ما نقبل منه ونرفض ما نرفض، ولنقوم بعد هذا بصياغته منذ الآن على نحو ما نرجو ونريد.
إنها تطرح أمامنا الصورة المتوقعة لمستقبل الإنسانية في شتى المجالات، لنقرنها بالصورة المرجوة، ولتجعلنا بالتالي قادرين على تغيير الصورة المتوقعة في اتجاه الصورة المنشودة.
وبذلك تصل مبتغاها وغايتها، نعني أن تمدّنا بالأسس العلمية التي تمكننا من أن نصنع مستقبلنا بأيدينا ونصوغ غدنا بأنفسنا ونمسك بزمام حضارتنا المقبلة، لنجعلها جديرة بالإنسان ومطالبه.
لقد تحدث الكثيرون منذ سنوات بعيدة عن المشكلات والمآسي التي تولدها الحضارة الحديثة. وأشار من أشار إلى الفراق بين كثير من مظاهر هذه الحضارة وبين ما يرجى لسعادة الإنسان كإنسان. وغلا آخرون فذهبوا مذاهب شتى في تجريح الحضارة الحديثة وفي الحديث عن استعبادها للإنسان، بدلاً من أن تكون في خدمته ومن أجله.
ولكن هؤلاء وأولئك ما كانوا يملكون من قوة التأثير في مجرى تلك الحضارة، سوى ما يمكن أن تتركه الأفكار والأنظار والتمنيات من مواقف نفسية قليلة التأثير ومن منازع وصبوات مجللة بالغموض حيناً وباليأس أحياناً.
وكثيراً ما قال قائلهم أن الحضارة التي نحياها، تخضع في تشكلها وتطورها للصدفة أكثر مما تخضع لإرادة إنسانية موجهة. وكثيراً ما زعموا أنها قد تكون مجرد إفراز اعتباطي أفرزته عقول قلة من المكتشفين والمخترعين، دون أن يكون مفصلاً في الأصل على قد مطالب الإنسان البيولوجية والنفسية، ودون أن يكون فيها قصد بيّن، يستهدف الحضارة الجديرة بالإنسان وسعادته.
وبلغت هذه الاتجاهات مبلغها في فلسفات الرفض الحديثة، التي تتجلى في أقلام الكتاب وحركات الشبيبة وسواها، والتي يثوي وراءها جميعها هذا الشعور بإفلاس الحضارة الحديثة، ويعجزها عن أن تقدم للإنسان موطئاً لسعادة حقيقية. أفلا تقرر هذه الفلسفات فيما تقرر أن الحضارة الحديثة جعلت الإنسان أكثر قوة وأكبر تأثيراُ غير أنها عجزت عن أن تجعله أكثر سعادة؟ أفلا تتهمها بأنها حضارة قوامها في النهاية التسلط والكبت، أي ما هو في الأصل ضد الإنسان وحريته وميوله ورغباته؟
وتأتي الدراسات التحسبية المستقبلية لتلقي ضوءاً جديداً وفعّالاً على هذه المسألة، ولتضع بين أيدينا – وهذا هو الأهم – سلاحاً لمعالجتها:
فصورة المستقبل كما تكشف عنها تلك الدراسات التحسبية، ترينا وجه حضارتنا الحاضرة بالمجهر إن صح التعبير. إنها تطلعنا على تطور ملامحها وقسماتها في المستقبل، فتجعلنا أقدر على الحكم لها أو عليها. إنها تكشف من جهة عما يرجى أن تحققه هذه الحضارة في المستقبل من مكتشفات علمية، تقنية هائلة، وعما تيسره للإنسان من قوى وطاقات جديدة، كما تكشف من جهة ثانية عما سيتوالد خلال ذلك كله من مشكلات ومعضلات إنسانية، بعضها امتداد للمشكلات الراهنة واتساع في حجمها، وبعضها وليد التقدم العلمي الآتي وما يقذف به من مشكلات مستحدثة لا عهد بها للإنسان من قبل.
وهكذا تضعنا أمام قدرنا ومصيرنا، لنتأمل هذا القدر والمصير، لنرى الصورة، إن قبلنا أن يكون المستقبل امتداداً للماضي والحاضر، ولنغير الصورة المرجوة ونصوغها صياغة جديدة إن لم نقبل ذلك، وآلينا أن يكون لنا في بناء حضارة الإنسان دور ونصيب.
إنها ترينا، من جانب، روعة المكتشفات العلمية الآتية. ترينا ما ينتظر أن يظهر في عالم الذرة وعالم النسل والبيولوجيا وعالم الكيمياء وعالم المواصلات وسواها من العوالم.
ولكنها ترينا في الوقت نفسه، من جانب آخر، ضخامة المشكلات التي ستواجه الشباب وحياتهم النفسية وضخامة المشكلات الخلقية والنفسية والسياسية التي سيطرحها ذلك العالم المتقدم المخيف.
إنها ترينا مثلاً ما ينتظر في عالم النسل والبيولوجيا من مكتشفات رائعة مذهلة: سيطرة على كثير من الأمراض كأمراض القلب وسواها – معالجة حاسمة لأمراض السرطان – تغلب على أمراض الشيخوخة – إطالة عمر الإنسان – إعادة فبركة الإنسان عن طريق الأحشاء الصنعية – التغلب على مقاومة الجسم لزرع أنسجة غريبة عنه – إمكان استخدام أجهزة إلكترونية تستطيع أن تحل محلّ حواس السمع جميعها بما في ذلك حاسة الرؤية واللمس – الخ..
لكنها ترينا في الوقت نفسه أصداء هذه المكتشفات ونتائجها وما يمكن أن تطرحه من مشكلات محدثة ومعقدة:
السيطرة على الدماغ والفكر والذاكرة عن طريق بعض المؤثرات الكيمياوية ـ الوصول إلى اكتشاف نوع من “ماحيات الذكريات” – خلق بيئة نفسية موجهة في بداية ولادة الإنسان، في وسعها أن تكوّن أفراداً ذوي دماغ قليل التطور وآخرين متفوقين، وأن تؤدي بالتالي إلى خلق طبقتين من البشر، طبقة الأسياد وطبقة العبيد – تحديد صفات المولود مسبقاً، بحيث تختار الأم وليدها سلفاً على نحو ما تريد له من صفات جسدية ونفسية، عن طريق علبة يقيم فيها جنين في حال التجمد عمره يوم واحد، كتبت عليها صفات شعره وعينيه وطول جسمه المحتمل وذكائه المنتظر ـ اكتشاف حقنة تحت الجلد يمكن أن تجعل المرأة عقيماً في الأصل طوال حياتها، وولوداً حينما تريد ـ هذا إذا لم نشر إلى دعاوي بعض الأبحاث الجادة التي تقوم حول تكوين خلية حية في المختبر والى امتلاك القدرة على إيجاد الحياة بالتالي.
وواضح أن مثل هذه المكتشفات سوف تطرح من المشكلات بمقدار ما تقدم من عون. وهي تطرح كما نرى مشكلات محدثة لا عهد للإنسان بها.
وحسبنا أن نتخيل طبيعة المشكلات الخلقية والفلسفية والسياسية التي يؤدي إليها بلوغ الإنسان مرحلة سيطرة العقل الإنساني على العقل الإنساني، حين يغدو هذا العقل قادراً على التحكم في تكوين عقل الآخرين. حسبنا أن نسائل إذ ذاك:
من الذي يقود ويوجه في مثل هذه الحال موجه العقول وصانعها؟ حسبنا أن نتصور المشكلات القانونية والخلقية والنفسية التي تطرحها إعادة فبركة الإنسان وتبديل أعضائه تبديلا قد يصل إلى حد تبديل الرأس كله. حسبنا أن نمر بخيالنا على النتائج الاجتماعية والخلقية لسيطرة الإنسان على النسل، تحديداً له في الكم والكيف معاً.
وتقوم اليوم دراسات واسعة وجادة لطرح مثل هذه المشكلات التي يطرحها تقدم علم النسل أو سواه في المستقبل، وللتبصر بالحلول التي يمكن أن تقدم لها.
وليس هدفنا ههنا أن نتحدث عن نتائج عن الدراسات التحسبية المستقبلية وما كشفت عنه من صور التقدم الإنساني في شتى العلوم وفي مختلف ميادين الحياة. وجل ما أردنا أن ندرك بوضوح أكبر ما عنيناه حين قلنا أن هذه الدراسات المستقبلية والتحسبية ترينا حضارتنا القائمة وقد امتدت إلى المستقبل، وتطلعنا بذلك على وعودها وحدودها، على آمالها ومشكلاتها، وتجعلنا وجهاً لوجه أمام مسؤولياتنا. إنها تحفزنا كما نرى إلى تأمل صورة المستقبل الممكنة فتدفعنا بالتالي إلى البحث عن وسائل تغييرها وتطويرها، بحيث نحيلها إلى الصورة المرجوة، وبحيث نجنبها الآفات والثغرات والمشكلات ما وسعنا ذلك.
ثالثاً: ولا تكتفي الدراسات التحسبية المستقبلية بهذا القدر، بل تخطو خطوة ثالثة هامة، حين لا يشفيها أن تطرح أمامنا تلك الصور الشتيت لما سيصيبه الإنسان من تقدم في شتى ميادين العلوم وفي شتى جوانب الحياة، بل تجاوز ذلك إلى أن تقدم لنا صورة أكمل وأشمل لطبيعة الحضارة الإنسانية المرجوة في جملتها، ولخصائصها المميزة في العقود المقبلة وما بعدها.
ومثل هذه الصورة الكلية الإجمالية التي نطلع من خلالها على طبيعة الحضارة الإنسانية الموعودة وعلى مقوماتها، هامة من ناحيتين:
الناحية الأولى تتصل بالأمر الذي سبق أن أشرنا اليه، نعني إمكان السيطرة على هذه الحضارة الموعودة وعلى مقوماتها الأساسية منذ الآن وتوجيهها لصالح الإنسان.
والناحية الثانية تتصل بالدروس التي يمكن أن تستقيها الدول النامية كبلادنا من تأمل تلك الصورة المتوقعة للحضارة الحديثة. وهذه الناحية الثانية هي جوهر حديثنا.
وقبل أن نمضي في تحليل هذه الناحية الثانية، وقبل أن نتوقف عند الدروس التي تقدمها الدراسات المستقبلية لبلادنا، لا بد أن نرى أولاً ما هي تلك الصورة الكلية الإجمالية للحضارة
الإنسانية المنتظرة كما تكشف عنها الدراسات التحسبية المستقبلية، وما هي خصائصها ومقوماتها.
الثورة العلمية والتقنية:
منذ سنوات ليست بعيدة، نسمع ونقرأ جميعاً عن الثورة العلمية والتقنية، تلك الثورة التي بدأت تباشيرها منذ العقدين الأخيرين خاصة، والتي يرجى لها أن تمتد وتتعمق وتتكامل بحيث تغدو في نهاية الأمر ثورة العصر والطابع المميز له.
هذه الثورة العلمية والتقنية هي التي بدأت تسم الحضارة الحديثة منذ اليوم وهي التي سيشتد عودها وتسيطر ملامحها وطبيعتها على طبيعة الحضارة الإنسانية في العقود القادمة، كما تدل الدراسات المستقبلية.
ومن أهم خصائص تلك الثورة إنها مرشحة لخلق حضارة جديدة، مختلفة جذرياً في طبيعتها وبنيتها وأهدافها عن الحضارة الإنسانية التي ألفنا وعرفنا حتى اليوم. بل لعلها زعيم، كما تقول الدراسات التحسبية، بأن تلد حضارة جديدة مختلفة في النوع لا في الدرجة عن حضارتنا الحالية.
ويطول بنا الحديث إن نحن أردنا أن نبين خصائص تلك الثورة العلمية التقنية وآثارها، وإن نحن تريثنا عند ملامح ذلك المجتمع الجديد الذي يرجى ان ينبثق من تلك الثورة، نعني ما عرف باسم (مجتمع ما بعد الصناعة societe post – industrielle). وحسبنا أن نشير عابرين، وفي حدود ما يعنينا في هذا الحديث، عن بعض تلك الخصائص والملامح.
1- الثورة العلمية والتقنية التي ذر قرنها في السنوات الأخيرة، والتي يرجى لها أن تغير طبيعة الحضارة الحديثة وأسسها، تأتي كبديل، بل كظاهرة مناقضة للثورة الصناعية الأولى التي عرفناها حتى السنوات الأخيرة. ولهذا يطلق عليها أحياناً اسم الثورة الصناعية الثانية. إنها ليست تتمة لها وإن انبثقت عنها، بل هي نقيضها إلى حد بعيد، لاسيما في آثارها الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية.
الثورة الصناعية الأولى، كما نعلم، ثورة ولدت منذ حوالي قرنين. وهي ثورة تعتمد على الإنتاج الصناعي الكبير. والأصل فيها استخدام الآلات مع تشكيلة من العمال تلائم تلك الآلات. ويمكن وصفها بأنها منظومة من الآلات تستخدم كتلة من اليد العاملة. والهام في الأمر أن دور كتلة العمال هذه ـ في تلك الثورة ـ دور إجرائي تنفيذي خالص، لا يعدو ضبط الآلة وإحكام سيرها.
وبهذا المعنى نستطيع أن نقول إن الثورة الصناعية الأولى حررت عملية الإنتاج من ظروف العمل الفردي التي كانت سائدة قبلها في مرحلة الإنتاج الحرفي، وأنها قضت على الوحدة الذاتية الأولى للإنتاج، نعني المنتج، وأحلت محلها وحدة موضوعية لنظام الآلات، ذلك النظام الذي يخضع له ما يصح أن ندعوه باسم “العامل الجماعي”.
وهكذا غدا العامل في إطار تلك الثورة الصناعية الأولى تابعاً للآلة ملحقاً بها، بل عجلة من عجلاتها. وولدت نتيجة لذلك تلك المشكلات الصعبة، التي عرفت باسم المشكلات الإنسانية في الصناعة، والتي ولدت بدورها كثيراً من المذاهب الفكرية والعقائد الحديثة.
2- ثم كانت الانطلاقة العنيفة للعلم والتقنية، ولاسيما في العقود الأخيرة، فإذا بتلك الانطلاقة تأخذ شيئاً بعد شيء بتحطيم إطار تلك الثورة الصناعية وما ينجم عنها من علاقات الإنتاج، لتقيم مكانها بنية جديدة للإنتاج وديناميكية جديدة للقوى المنتجة:
ذلك أن وسائل العمل والإنتاج بدأت تتغير، لتجاوز حدود الآلات الميكانيكية التي عرفتها الثورة الصناعية الأولى، ولتأخذ شكل الأوتوماتية والتحرك الذاتي والسبرانية Gybernetique ولتصبح بالتالي قادرة على الاضطلاع بوظائف مستقلة، مستقلة عن العمال والمنتجين، تجعل منها مركبات للإنتاج مستقلة.
ثم إن موضوعات العمل والإنتاج ومواد العمل والإنتاج تغيرت وتعددت أيضاً في إطار هذه الثورة الجديدة، فلم تعد مقتصرة على المواد التي تقدمها لنا الطبيعة، بل تجاوزتها فابتكرت منتجات صنعية لا حصر لها، ولا سيما بعد النمو الهائل للصناعات الكيمياوية، تلك الصناعات التي حررت الإنسان من المواد الأولية الموجودة في الطبيعة ومن خصائصها الثابتة، على نحو ما نرى في إنتاج المواد الصنعية التركيبية والمواد البلاستيكية والصناعات البتروكيماوية وسواها.
وبالإضافة إلى ذلك تغيرت قوى الإنتاج بفضل تلك الثورة العلمية والتقنية، ودخلت في الميدان قوى إنتاجية، ومصادر طاقة جديدة، كالطاقة الكهربائية والإلكترونية والنووية. ولعل أبرز القوى الإنتاجية الجديدة التي بدأت تلعب دوراً أساسياً بفضل هذه الثورة، القوى الناجمة عن استخدام الأبحاث العلمية من جهة، والتقنيات الإدارية والتنظيمية من جهة ثانية. فالأبحاث العلمية التي تقوم قبل مرحلة الإنتاج والتي تساعد على توليد طاقات إنتاجية جديدة ومواد جديدة ومنتجات مبتكرة جديدة، تغدو يوماً بعد يوم عنصراً أساسياً من عناصر زيادة الإنتاج.
والتنظيم العقلاني للإنتاج والدراسة المسبقة للخطوات التي ستمر بها عملية الإنتاج وكل ما يتصل بفن إدارة الإنتاج وتسييرهManagement غدت كذلك عنصراً رئيساً من عناصر زيادة فعالية الإنتاج، ومن عناصر الاستخدام الأمثل للموارد المادية والبشرية والمالية التي تدخل في عملية الإنتاج.
وهكذا أصبح التركيز في عملية الإنتاج يشتد على تلك المرحلة التي بدأت تعرف باسم المرحلة السابقة على الإنتاج pré-production ، وأصبح الجهد الأساسي الذي يبذل منصباً على هذه المرحلة لا على مرحلة الإنتاج المباشر التي بدأ دور الإنسان فيها يضمحل ويتناقص. ومعنى هذا أن أهم ما في عملية الإنتاج أخذ يرتد يوماً بعد يوم إلى ما يلعبه البحث العلمي والتقنيات التنظيمية من دور حاسم في تطوير الإنتاج وتجديده كما وكيفاً. ومعنى هذا أيضاً أن دور العلماء الباحثين والإداريين والمنظمين للإنتاج والمسيرين له، أخذ يغدو الدور الأساسي البارز الذي تتضاءل أمامه سائر الأدوار.
ومن هذا كله حدث في نهاية الأمر تطور أساسي في قوى الإنتاج وفي مكانة الإنسان بين تلك القوى. فانتشار التقنية والأتوماتية يؤدي يوماً بعد يوم إلى حذف القوى الجسدية والفكرية المحدودة للإنسان. ويجعل من هذا الإنسان شيئاً على هامش عملية الإنتاج المباشر، ما دام أساس الإنتاج الأوتوماتي والسبراني ليس آلة معزولة، بل عملية إنتاج آلي لا تنقطع تتحرك بقوتها الذاتية وبانعكاساتها الداخلية. أما دور الإنسان الفعّال فأخذ ينتقل من عملية الإنتاج المباشر التي انتزعتها الأوتوماتية منه وحررته منها، إلى دور الإنتاج غير المباشر، إلى المرحلة السابقة على الإنتاج التي أشرنا إليها، مرحلة البحث العلمي والتنظيم العقلاني للإنتاج.
وهكذا تتجه أوتوماتية الثورة العلمية والتقنية إلى الاستغناء عن قوى الإنسان البسيطة، قواه الجسدية، تلك القوى التي لم تعد قادرة على أن تنافس الآلة والمركبات التقنية للإنتاج. وأخذ دور الإنسان يرقى في مقابل ذلك إلى المجالات التي يتفوق فيها حقاً على الآلة مهما تعقدت ويبذها فيها مهما سمت؛ نعني مجالات الفكر المبدع وما يولده من مبتكرات علمية ومن فنون تنظيمية. وهكذا يهجر الإنسان الأعمال التي يستطيع أن يوكلها إلى مخلوقاته. وبمقدار ما يهجر تلك الأعمال الآلية تنفتح أمامه ميادين من الإبداع والخلق والتجديد ما كان ليستطع بلوغها لولا تحرره من ذلك العبء الآلي اللاإنساني. ولا غرابة بعد هذا أن تنبأ المتنبؤن بأن نصيب الطاقة البشرية المبذولة في الإنتاج المباشر (لا في الإنتاج غير المباشر أو في المرحلة السابقة على الإنتاج) سوف يقل في العقود القادمة عن 1% من مجموع مصادر الطاقة التقنية المبذولة في الإنتاج. ولا غرابة إن سمعنا اقتصادياً كالفرنسي فوراستييه Fourastie يقول دون ما غمغمة في كتابه عن “أمل القرن العشرين الكبير”: لن يكون شيء أبعد عن الصناعة كالثورة التي ولدت من الصناعة.
وواضح من خلال هذا العرض السريع ما تؤدي هذه التغيرات الكبرى التي تحدثها الثورة العلمية والتقنية في وسائل الإنتاج وموضوعات الإنتاج وقوى الإنتاج، من تغيرات أساسية في علاقات الإنتاج، وفي دور العمال المنتجين.
ولا يتسع المجال للحديث عن هذه التغيرات الجذرية التي بدأت تحدث في علاقات الإنتاج وفي آثارها الاجتماعية وفي انعكاساتها على المذاهب والنظريات والعقائد.
وكلنا يعلم أن هذه التغيرات غدت موضوع بحث ودراسة من أصحاب المذاهب الاجتماعية، وأنها تؤدي يوماً بعد يوم إلى مراجعة جديدة للمذاهب الاقتصادية والاجتماعية المعروفة، سواءً كانت ماركسية أو رأسمالية، ولعلها تضع الماركسية خاصة أمام منعطف جديد بدأنا نقرأ عنه الكثير في كتابات الكثير من المفكرين الماركسيين وسواهم. وإن نذكر نذكر دراسات “روجيه غارودي Roger Garaudy”، التي أثارت جدلاً طويلاً وكانت من أسباب فصله من الحزب الشيوعي الفرنسي، والدراسات التي قام بها مجموعة من الفلاسفة والمفكرين في تشكوسلوفاكيا قبل ربيغ براغ Prague، وعلى رأسهم رادوفان ريشتا Radovan richta ، بتكليف من الحزب الشيوعي التشكيلي. وهذه الدراسات وسواها إن دلت على شيء فإنما تدل على شعور المذاهب والعقائد الاجتماعية بالحاجة إلى المراجعة والتحديث نتيجة لتلك التغيرات الكبرى في وسائل الإنتاج وبنيته، تلك التغيرات التي غدت تستلزم أن تتم الثورة الاجتماعية العقائدية بالعلم Par la science بعد أن كانت تتم مع العلم Avec la science على حد تعبير “روجيه غارودي” في كتابه الشهير “منعطف الاشتراكية الكبير”.
ولكن لندع هذا كله – فالحديث عنه يطول ويملأ الصفحات بل الأسفار – ولنعد إلى قصدنا الأصلي، حين عزمنا على الحديث عن بعض معالم الثورة العلمية والتقنية:
لقد قلنا أن هذه الثورة العلمية والتقنية التي بدأت تباشيرها منذ العقدين الأخيرين، والتي أخذ عودها يشتد ويمتد، هي المرشحة لأن تكون ثورة العقود المقبلة من هذا القرن وثورة بداية القرن الحادي والعشرين، وأن طابعها هو الذي سوف يسم الحضارة الحديثة في مقبلات أيامها.
وهذا القول – كما سبق أن ذكرنا – محمل في رأينا بنتيجتين هامتين.
أولاهما تتصل بدور الدراسات المستقبلية تجاه هذا المولود الجديد الذي سيترعرع في السنين المقبلة. ونقصد بذلك الدور: كيف يستطيع علم المستقبل أن يحتوي هذه الثورة، وأن يكشف عن نتائجها وآثارها. وهذا كما رأينا منذ البداية أحد أهداف الدراسات المستقبلية التحسبية بل أهم تلك الأهداف. فغاية المطاف عندها أن تستطيع أن تسيطر على مسيرة المستقبل المنتظرة لتحيلها إلى صورة موجزة أفضل.
على أن الذي يعنينا الآن من نتائج حديثنا عن الثورة العلمية والتقنية وامتدادها في المستقبل، هو النتيجة الثانية المتصلة بموقف الدول النامية، وعلى رأسها البلاد العربية من هذا الحدث الحاضر ومن أبعاده المنتظرة في المستقبل.
الدراسات المستقبلية والدول النامية:
ويزيد من أهمية هذا الموضوع الأخير، أن الدراسات المستقبلية التحسبية تخبرنا فيما تخبرنا عن بعض نبؤاتها حول موقع الدول المختلفة في العالم ومدى قربها أو بعدها في العقود المقبلة عن تلك الحضارات الحديثة التي ستولدها الثورة العلمية والتقنية.
إنها تحاول – مخطئة أو مصيبة – أن تضع تصنيفاً لدول العالم في أواخر هذا القرن، تبعاً للمستوى الذي ستبلغه كل منها بالقياس إلى الثورة العلمية التقنية.
وتقول بعض هذه الدراسات – موضوعية كانت أو مغرضة – إن بعض الدول القليلة سوف تكون في نهاية هذا القرن بين مجتمعات ما بعد الصناعة، وتشير بإصبعها خاصة إلى الولايات المتحدة والسويد وكندا واليابان. وتحدد لنا صفات تلك المجتمعات من حيث متوسط الدخل القومي للفرد الواحد ومن حيث مستوى التعليم وسواه، مما لا يتسع له الحديث. وتشير فيما تشير إلى دول أخرى تتنبأ لها أن تكون نهاية القرن في عداد المجتمعات التي يصح أن نطلق عليها اسم المجتمعات الاستهلاكية، أي التي تشبه الولايات المتحدة اليوم، وتذكر بينها الاتحاد السوفياتي وكثيراً من دول أوروبة وتضيف إليها إسرائيل. ثم تحدثنا تلك النبوءات عن مستويات أخرى من الحضارة والنمو ستكون عليها في رأينا بعض الدول في مقبلات العقود. أما الدول العربية فتضعها في المنزلة التي تسبق المنزلة الدنيا، وترى أنها ستكون إذ ذاك في عداد المجتمعات التي بدأت تدخل المرحلة الصناعية.
وليس المقام مقام تفنيد هذه التصنيفات، وبيان الأسس التي استندت إليها. غير أن من الهام أن نستدرك فنقول إن هذه الدراسات التحسبية تشير هي نفسها إلى حدودها، حين تبين أن هذه النبوءات تصدق في حال واحدة، هي حال استمرار الاتجاهات السائدة في الدول المختلفة، أي حال استمرار الماضي والحاضر في المستقبل. أما إذا حدث تطور “ذو مفاجآت” عن طريق أحداث عالمية كبرى تغير مجرى الأمور، أو عن طريق حدوث حركات قومية ثورية قادرة على إحداث تغييرات جذرية، فلأمر لابّد أن يأخذ شكلاً آخر يصعب التنبؤ به.
وبتعبير آخر، أهم ما يعنينا من هذه النبوءات أنها ترينا الصورة القاتمة التي تنتظر مجتمعاتنا بالقياس إلى سائر المجتمعات، إن جاء مستقبلنا مجرد امتداد عادي لحاضرنا. ويعنينا منها أكثر، تبعاً لذلك، أنها تضعنا وجهاً لوجه أمام مسؤولياتنا، حين تجعل تلك الصورة القاتمة رهناً بمشيئتنا وبما نحققه من جهد من أجل تجاوز تلك الصورة القاتمة المنتظرة إلى صورة مرجوة، نرسمها ونرسم خطوات الوصول إليها.
إن هذه الدراسات التحسبية تدلنا على الهوة المتعاظمة التي ستقوم بيننا وبين الدول المتقدمة إن نحن تابعنا خطونا وسرنا سيرتنا المألوفة. وهي تشير إلى أن هذه الهوة سوف تقيم بيننا وبين الدول تفاوتاً في النوع والطبيعة لا في المستوى والدرجة، وأن المستوى الحضاري الذي سنبلغه بالخطو العادي، سوف يعرضنا لأن نكون في عداد مجتمع العبيد بالقياس إلى مجتمع الأسياد، مجتمع حضارة ما بعد الصناعة.
غير أنها في الوقت نفسه تنطلق من أصولها ومناهجها لتقول لنا أن مثل هذا المصير ليس حتماً أو قدراً، وأن تغييره رهن بوعينا له وإدراكنا لصورته وعزمنا على تغيير تلك الصورة. وجوهر هذه الدراسات التحسبية كما رأينا في أكثر من موضع أنها تطلع الإنسان على مستقبله المتوقع فيما لو كان ذلك المستقبل مجرد امتداد للماضي والحاضر، من أجل هدف أساسي وهو أن يصوغ ذلك المستقبل صياغة جديدة، وأن يكون له في صنعه نصيب. إن أهم ما فيها أنها تسلم إلينا زمام قيادة المستقبل، وتدلنا على خطوات صياغته وبنائه، إن أردنا ذلك ووعينا أسبابه ووسائله.
الدراسات المستقبلية والمجتمع العربي:
والحق لئن كنا وقفنا طويلاً عند هذه النظرة المستقبلية، فلأنها أولاً وقبل كل شيء، منهج في التفكير والعمل، ولأنها تعبّر عن منطق العصر وروح العصر، تلك الروح التي لن نستطيع بدون وعيها إن نغير واقعنا ونبني حياتنا.
إن مستقبل الشعوب اليوم لا يبنى من خلال تجربة الماضي أو تجربة الحاضر، بل يبنى من خلال التعرف على المستقبل، المستقبل المتوقع من جهة، والمستقبل المنشود الذي نريد أن نبنيه انطلاقاً من ذلك المستقبل المتوقع من جهة ثانية. لم تعد تجربة الماضي والحاضر، على أهميتها، تكفي لبناء حياة الشعوب، بل لابّد من نظرة مستقبلية تحسبية، نحدد على ضوئها مهماتنا وخطواتنا ورؤانا:
أين سيكون العالم في مقبلات الأيام؟ أين سيكون موقعنا من العالم إذ ذاك؟ ما هي المشكلات التي ستواجهنا في المستقبل في ضوء تلك الصورة العالمية وفي ضوء تلك الصورة المتوقعة لمجتمعاتنا؟ ما هي الجهود التي علينا أن نبذلها لنجعل من صورة المستقبل عندنا صورة تساير الركب العالمي وتنجو من هوة التخلف والانسحاق؟
أسئلة كثيرة لابّد من طرحها، تدلنا عليها الدراسات المستقبلية خاصة، ويهدينا إليها منهج البحث المستقبلي.
ولا يتسع الحديث – مرة أخرى – للبحث في الخطوات اللازمة لبناء صورة المستقبل في مجتمعنا العربي، ولدراسة المنهج التحسبي الذي يساعد على جلاء تلك الصورة. وحسبنا أن نحدد في خاتمة هذه الكلمة، بعض الاتجاهات الأساسية التي نرى أن تنطلق خلالها الجهود في هذا الإطار:
1- لابّد أن نبني خططنا الاقتصادية والاجتماعية التي نضعها للمدى القريب، استناداً إلى مثل هذه الرؤى البعيدة التي تهدينا إليها الدراسات التحسبية.
فالخطط الاقتصادية والاجتماعية القريبة المدى، لابّد أن تستند إلى تصورات أبعد، ولابّد أن يكون رائدها وموجهها الصورة البعيدة التي نريد عليها مجتمعاتنا في العقود المقبلة. ولم يعد من الجائز اليوم، في عرف التخطيط العلمي، أن نبني خططنا القريبة الأجل أو المتوسطة الأجل استناداً إلى تجربة الحاضر والماضي أو استناداً إلى تصورنا للمستقبل القريب. ولا بّد أن نبنيها استناداً إلى تصورات بعيدة الأجل، بل إلى دراسات تحسبية مستقبلية، تقدم لنا التصور الإجمالي الكلي الذي نريد عليه مجتمعنا، والذي ننطلق منه لتحديد الخطط المرحلية الموصلة إليه.
ومثل هذا المطلب يستلزم أن نُعنى بالقيام بمثل هذه الدراسات التحسبية المستقبلية – وأن نخلق لهذه الغاية هيئات تتفرغ لهذه الدراسات. وقد رأينا كيف أن الحزب الشيوعي التشيكي قد أوكل إلى فريق من الباحثين، وعلى رأسهم الفيلسوف “رادوفان ريشتا Radovan Richta” أمر وضع صورة تحسبية للمستقبل التشيكي، ورسم التطورات الاجتماعية والعقائدية اللازمة في إطار تلك الصورة. وفي العديد من البلدان نجد لجاناً شكلت لمثل هذه الدراسات المستقبلية ونجد هيئات حكومية وخاصة تتولى مثل هذه الأبحاث، كنا نود أن نتحدث عن بعضها لولا ضيق المجال.
2- ولا تستهدف مثل هذه الدراسات التحسبية المرجوة مجرد وضع الأسس والمنطلقات للخطط الاقتصادية والاجتماعية في بلدنا، بل لابّد أن تستهدف وضع تصور أشمل وأوسع لشتى جوانب حياتنا الفكرية والعقائدية والنفسية والخلقية وسواها. لابد أن تتم هذه الدراسات التحسبية بتعبير أدق في إطار تحسب عقائدي فكري، يرسم الصورة المرجوة لأسس حياتنا كلها. وقد رأينا منذ قليل كيف استهدفت دراسات الفريق التشكيلي مثل هذه الغاية الاشمل. ولا حاجة إلى القول أن مسألة بناء حضارة شعب من الشعوب ليست مسألة اقتصادية فحسب، بل هي مسألة اجتماعية إنسانية في أعماقها. ولابد أن يكون الهدف الأول من الدراسات التحسبية في أي بلد، رسم صورة الحضارة الجديرة بالإنسان، الملبية لمطالبه الإنسانية العميقة، القادرة على تحريره من القيود الاجتماعية والنفسية والسياسية الكثيرة التي يرزح تحتها.
3- ومن شأن مثل هذه الدراسة التحسبية الشاملة أن تطلعنا على صورة المستقبل من خلال الوطن العربي بكامله، وأن ترينا بالتالي كيف أن النظرة الوحدوية نظرة مستقبلية، وكيف أن النظرة المستقبلية لابد أن تقود إلى نظرة وحدوية. فالصورة التحسبية التي نصل إليها من خلال تقري الواقع العربي الراهن ومدّ صورته إلى المستقبل ثم مقارنته بصورة العالم المتقدم في نهاية القرن، لابد أن تهدينا إلى أن ردم الهوة بين الصورة المتوقعة للبلاد العربية وبين الصورة المتوقعة للعالم لن تتم إلا من خلال تعبئة طاقات الوطن العربي كله.
ومن أهم فوائد هذه الدراسات المستقبلية أنها تساعد على رسم هذه الرؤية الوحدوية أولاً، وأنها تُعيننا ثانياً وخاصة على رسم المراحل المؤدية إلى تحقيق تلك الرؤية.
4- وبدهي بعد ذلك أن تسعفنا هذه الدراسة التحسبية في إيجاد طريقنا الخاص نحو الاشتراكية، في ضوء تلك الصورة الشاملة التي رسمناها لمجتمعنا في العقود المقبلة، وفي ضوء موقع بلادنا من العالم. وإذا كانت المسألة الهامة في البلدان النامية عامة وفي بلداننا العربية خاصة ليست مسألة الأخذ بالاشتراكية بمقدار ما هي مسألة إيجاد الطريق العلمي للاشتراكية، نعني الطريق المستمد من بنية البلد الراهنة وأهدافه المقبلة ومن الإطار العالمي الذي يسبح فيه حاضراً ومستقبلاً، فلا شك أن مثل هذه الدراسة التحسبية الشاملة تكوّن “الطريق الأمَم” والطريق السلطاني Voie royale كما يقال نحو مثل هذه الاشتراكية العلمية.
5- وبقول موجز، إن الدراسة التحسبية تقدم لنا جواباً على ذلك التساؤل القلق الذي يعصف في نفوسنا دوماً ويتململ في عقولنا: من أين نبدأ؟ من أين نبدأ في تغيير مجتمعنا وفي بناء حياتنا؟ وجوابنا على هذا التساؤل أن البدء لابد أن يكون من النظرة الكلية الشاملة للأمور، من الصورة الكلية التي نريد عليها حياتنا. وعند ذلك نضع كل جهد جزئي أو قطاعي في إطار تلك الصورة الكلية، ويستمد كل عمل معناه من مدى تكامله وتفاعله معها ومن مدى فعاليته ونجعه في تحقيقها. وطبيعي في مثل نظرتنا التحسبية أن تكون تلك الصورة الشاملة التي نريدها لحياتنا مستقاة من تصورنا للمستقبل والمستقبل البعيد، لا من اجتهادات قصيرة النظر وقصيرة المدى، تبني المستقبل في ضوء الماضي والحاضر وفي ضوء تضور غامض غير علمي للمستقبل القريب.
6- ولا شك أن مسائل أساسية عديدة ستواجهنا ونحن نقوم برسم تلك الصورة التحسبية الشاملة لمجتمعنا العربي. ولا مجال هنا إلى الحديث عن مثل هذه المسائل. غير أننا نكتفي بالإشارة إلى مسألة رئيسية، تتحلق حولها سائر المسائل إلى حد كبير، ولابد أن نوليها عناية خاصة في مثل هذه الدراسة التحسبية ونعني بها المسألة التالية:
إذا كان الطابع المميز للعصر في العقود المقبلة هو طابع الثورة العلمية التقنية كما رأينا، وإذا كانت الهوة بيننا وبين العالم المتقدم ستزداد إذا لم ندخل تلك الثورة، فما سبيلنا إلى ذلك؟ هل يصح أن ننطلق من حيث يقرره بعض علماء الاقتصاد اليوم حين يقولون أن الأمل الوحيد أمام البلدان النامية في تجاوز الهوة بينها وبين البلدان المتقدمة يثوي في دخول الثورة العلمية التقنية تواً ودون التريث عند الثورة الصناعية الأولى؟ هل لزام علينا أن نمر أولاً بتجربة الثورة الصناعية الأولى، بأخطائها ومزاياها، كي نستطيع الانتقال إلى الثورة الصناعية الثانية، أم أن في وسعنا أن نختصر المراحل وأن نحاول دخول هذه الثورة الصناعية الثانية مباشرة ودون ما وسيط؟ هل يفترض دخول هذه الثورة الثانية، الثورة العلمية والتقنية، وجود بنى اقتصادية واجتماعية سابقة تشترط قيام ثورة صناعية أولى، أم أن في وسعنا أن نتفادى تكرار التجربة الصناعية وتكرار أخطائها ومزاياها على حسابنا؟
سؤال ضخم، هيهات لنا أن نجيب عليه. والدراسة التحسبية وحدها هي التي تستطيع أن تجيب على مثله. غير أنه سؤال هام وأساسي. والجواب عليه يدلنا، إن صح التعبير، على “قادومية” المجتمع العربي نحو الثورة الصناعية الثانية.
إنه يهدينا إلى الوسيلة التي يستطيع بها هذا المجتمع أن يقوم بجهد ثوري علمي لتجاوز هوة التخلف التي ستتعاظم في المستقبل. فهوة التخلف المتعاظمة لا يمكن تجاوزها إلا بجهد ثوري، شريطة أن يكون ذلك الجهد جهداً ثورياً علمياً، لا مجرد نزق أو أحلام.
خاتمة:
وبعد، هل نستطيع أن نقول في خاتمة هذا الحديث، إن المنهج المستقبلي هو سبيل المجتمع العربي إلى أن يرقى، بجهد علمي منظم، نحو المنزلة التي يرتضيها لنفسه بين منازل الدول في مشارف القرن الحادي والعشرين؟
لن ينكر مجادل أن مسألة التقدم في المجتمع العربي تجتاز محنة وأزمة، وأن الهوة بين هذا المجتمع وبين المجتمعات المتقدمة، تزداد وتتعاظم. ومثل هذه المحنة تزداد خطراً إذا نظرنا إلى التحدي الكبير الذي يواجهنا، التحدي المتمثل في دولة إسرائيل التي استطاعت الصهيونية العالمية أن تجعل منها مجتمعاً غريباً متقدماً في قلب المجتمعات المختلفة. ولا مراء في أن تجاوز مثل هذه المحنة يحتاج إلى جهود استثنائية. والجهود الاستثنائية، في عصرنا، ليست شيئاً آخر سوى الجهود العلمية المنظمة، الموجهة نحو البناء العقلاني لمجتمع عصري حديث. فالثورة كما قال “جارودي Garaudy” تتم اليوم عن طريق العلم. والعلم ليس مقصوراً على إدخال العلوم الحديثة والتقنيات الحديثة إلى مجتمعنا، بل هو أولاً وقبل كل شيء المنهج العلمي والروح العلمية التي تسود العصر.
والمنهج العلمي الذي يسود العصر، هو ذلك المنهج الذي يأبى أن يعيش يوماً بيوم كفافاً دون أن ينظر إلى غده. إنه المنهج الذي يرسم الحاضر من خلال المستقبل، ويرسم المستقبل من خلال دراسة علمية تحسبية، لها أصولها وفنونها التي أشرنا عابرين إلى بعضها. إن شعار الثورة العلمية في عصرنا هو شعار السيطرة على المستقبل والإمساك بزمامه، بحيث يصبح ملك أيدينا، وبحيث نقوى على صياغته وصنعه بعرقنا ودأبنا. ومثل هذه السيطرة على المستقبل أصبحت ممكنة إلى حد بعيد بعد نمو تلك الأساليب الفنية الخاصة بالتنبؤ بالمستقبل، وبعد تقدم الثورة الإلكترونية خاصة المتجلية في الحاسبات الإلكترونية وقدرتها التنبؤية الهائلة. أن نسيطر على المستقبل أو أن تقودنا الأحداث إلى حيث تريد ولا نريد: تلكم هي المسألة إذن في مجتمعنا؟ هل نستمر في اجترار مأساة الأمس واليوم، أم ننطلق نحو رسم تاريخ الغد، ذلكم هو السؤال.
ألف باب سيفتح أمامنا عندما ندق باب المستقبل. هل نطرق ذلك الباب المليء بالوعود أم نستمر في فتح أبواب مفتوحة؟ أملنا أن تقودنا المحنة المرة القاسية إلى دخول الباب الكبير، باب المستقبل.