الأديب العربي بين الحرية والالتزام

الآداب – العدد الثاني – شباط /فبراير/ 1972

الأديب العربي بين الحرية والالتزام

بقلم الدكتور عبد الله عبد الدائم

عندما تطرح قضية الحرية والالتزام في الأدب – وما أكثر ما تطرح – يراود المرء شعور مزدوج:
فهو يحس أن المسألة غدت مبذولة، وأن الأقلام قد جابت شعابها ونفضت دروبها، ولم تبق فيها بقية لمستزيد.
على أنه يشعر في الوقت نفسه أن ما أصابته من دراسة وبحث، لم يفدها جلاء وضياء، بل لعله أضاف إليها جلابيب من الغموض.
وهذا يعني عندنا أن المسألة لم تطرح في الأصل والمبدأ طرحاً صحيحاً، وإنها على نحو ما طرحت عليه مسألة زائفة. وإجادة طرح المسألة – كما يقول المثل اللاتيني – نصف العلم. من هنا كان لزاماً علينا أن نسائل: أين يكمن الخطأ في بسط هذه القضية؟
الخطأ في نظرنا أن أسلوب السؤال عنها أصلاً يملي على المتصدي للإجابة أحد مواقف ثلاثة:
أولها أن يكون جوابه دفاعاً عن الحرية ضد الالتزام.
وثانيها أن يكون جوابه دفاعاً عن الالتزام ضد الحرية.
والثالث أن يكون جوابه توفيقاً بينهما.
والمواقف الثلاثة فيما نرى مواقف خاطئة. ذلك أن المسألة ليست أن نوازن بين الحرية والالتزام لننتصر لأحدهما. ولا هي أن نؤلف بين ضدين ونجمع نقيضين، ونخرج بتلفيق باهت. ولا هي أيضاً أن نحدد أوزان كل منهما في عمل الأديب ونتاجه، لنجعل من جهد الأديب مركباً كيمياوياً موزون الأجزاء.
المسألة أولاً وآخراً أن الأديب الأصيل لابد ملتزم، والسؤال الذي ينبغي أن يطرح: كيف نيسر للأديب التزامه وكيف نوفر له المناخ اللازم ليعبر عن التزامه في صدق وحرارة؟ كيف يكون الالتزام التزاماً نابعاً من جوهر الأدب ومن صلب رسالته؟
الأدب الحق هو الأدب الذي ينقل إلى الملأ رؤية للعالم وللأشياء صادرة عن معاناة صادقة وتجربة طويلة ومريرة مع الحقيقة. هو المشاعر والأفكار التي يكونها الأديب في رحلته الطويلة الشاقة، رحلة البحث عن القيم الجديرة بالإنسان، القمينة بأن تكون ينبوع تحريره وتقدمه في معارج بناء الوجود الإنساني الأمثل.
ولا معنى للأدب إن لم يكن سبقاً وإرهاصاً بمثل هذه القيم الإنسانية، وإن لم يكن عاملاً من عوامل بنائها، وإن لم يصبح النور الذي يدل الملأ على طريقها ويهديه إلى سبلها.
مثل هذه التجربة الصادقة مع الحقيقة، التي هي جوهر الأدب ورسالته، ومثل هذه المعاناة الصعبة لمصير الإنسان ودوره في بناء هذا المصير، لا يكفي في تكوينها وفي بثها للآخرين، أن نترك الأديب وشأنه، يعاني قدره في رصدها والتعرف عليها والتعريف بها. فقد زالت في عصرنا تلك النظرة الرومانتيكية التي كانت ترى أن تجربة الأديب الصادقة تجربة تولد وتظهر رغم كل العقبات والصعاب، بل بفضل العقبات والصعاب. وأصبحنا في وقت يتحدث فيه المتحدثون عن حماية الأديب وحماية المبدع وحماية العبقري.
وأول شرط لهذه الحماية أن نوفر للأديب مناخ الحرية. فالتجربة الأصيلة الصادقة لا تتكون إلا في مثل هذا المناخ. ونقلها والتبشير بها والذود عنها في حاجة إلى الحرية التي تحفظ لها حرارتها وحدتها وتأثيرها. والحقيقة من الأمور التي لا تقبل أنصاف الحلول. فإما أن يقولها من يعانيها حادة حية صارخة، وإما أن تنطفئ شعلتها في نفسه وينطفئ أثرها في جمهوره. وبمقدار ما يكون الأديب حراً في تكوين تجربته ونقلها، تكون تجربته أصيلة ومجدية.
إن الأدب يتكون دون شك عن طريق التفاعل مع حياة المجتمع وقيمه وآماله. ولكنه لا يكون أدباً حقاً إلا إذا امتلك القدرة على تجاوز ذلك المجتمع من أجل تجديده وتطويره. والأديب الأصيل هو الذي يطل من خلال تجربة المجتمع إلى ما وراءها، إلى القيم الإنسانية المتجددة أبداً، المجددة للإنسان وحضارته أبداً، الصانعة للمصائر التي تعلو على واقع أي مجتمع مهما يكن شأوه في التقدم وحظه من الإنسانية.
ومن هنا لم يكن أمام الأديب واقع يلتزم به أو تجربة تلزمه. والتزامه لا يمكن أن يكون إلا للرؤى الجديدة التي يستخلصها من خلال تجربة الواقع ومن خلال القيم التي تتجاوز الواقع دوماً والتي هي أداة حكمه على الواقع. ولولا ذلك لكان كل أدب محافظاً اتباعياً، ولما كان له أي نصيب في التغيير وفي بناء أهداف الإنسان، تلك الأهداف التي لا يمكن أن تكون وراءنا بل هي دوماً أمامنا كالأفق يبتعد عنا كلما دنونا منه.
وهكذا تؤول المسألة إلى أن نوفر للأديب المناخ الملائم لهذا العروج المستمر في مراتب الحقيقة ومراقي التجربة الإنسانية. ولا يكون ذلك إلا إذا أدرك المجتمع، أي مجتمع، حاجته العميقة إلى مثل هذا الرقي المتجاوز له، وذلك العروج الموجه لمسيرته. وعند ذلك لا تكون الحرية والميسرات التي يمنحها المجتمع مبذولة لمن يلتزم بواقعه القائم، بل لمن يجر ذلك الواقع نحو مصير أفضل.
وما هدفنا هنا أن نسوق بحثاً جديداً في الالتزام، وأن نضيف إلى الدراسات التي قدمت إلى مؤتمر الأدباء العرب الثامن وإلى سواها دراسة أخرى. وما هي إلا ملاحظات نضعها بين يدي نقدنا لتلك الدراسات التي قدمت إلى المؤتمر، ونتخذها سبيلنا إلى ذلك النقد:
مثل هذا الفهم للالتزام نكاد نقع عليه في الدراسة التي قدمتها الدكتور سهير القلماوي. نجده مبثوثاً بين السطور وإن لم يفصح عن نفسه دوماً في وضوح:
إنها تقول بحق أنه لا يكفي أن نقرر أن الأديب يلتزم بقضايا المجتمع أو الناس أو الجمهور، بل لابد أن نتساءل «من الذي يبلور هذه القضية». وجوابها على هذا أن الذي يبلور قضية الالتزام «هم – مرة أخرى – المفكرون في كل أمة وفي كل عصر. والأدباء من هؤلاء المفكرين».
بل إنها تذهب إلى أبعد من هذا في تأكيد هذا المعنى من معاني الالتزام، معنى التزام الأديب بتجربة عميقة صادقة نابعة من المجتمع متجاوزة له، حين ترى أن المهمة الأولى للأديب الملتزم في مجتمعنا العربي هي بناء فلسفة عربية وأيديولوجية عربية. وفيما عدا هذه المسألة الأساسية، يرتد الأمر عندها إلى البحث في وسائل نقل الالتزام الذي يلتزم به الأديب – حراً صادقاً مع ذاته – إلى أكبر جمهور ممكن. وهكذا تطرح مسألة الشكل المضمون في الأدب، وتشير إلى أهمية تيسير أفكار الأديب للجمهور وتوطئتها لعامة الناس، حفاظاً على دورها وتأثيرها. وهذا في رأينا موضوع آخر.
أما الأستاذ صدقي إسماعيل، فهو يتفق في الجملة مع هذا المفهوم للالتزام، سوى أنه يفضل أن يخطو خطوة أخرى، ليسائل عن الشكل الذي يأخذه التزام الأديب العربي في المرحلة الراهنة. ذلك أنه ينطلق من حقيقة هامة، وهي أن القضايا التي يلتزم بها الأديب متجددة بتجدد العصور والمراحل، وأن من واجب الأدباء في كل مرحلة أن يتبينوا معالم القضايا الكبرى المطروحة في إطار تلك المرحلة، ليتخذوا من ذلك منطلقاً لأدبهم. ومن هنا يربط بحق ربطاً عميقاً بين الأدب وبين جذوره الاجتماعية التي لا تقل شأناً عن جذوره البديعية. ويرى أن تعرف الأديب على الجذور الاجتماعية للقضايا التي يطرحها شرط أول لالتزامه. ولهذا يمنح شأناً خاصاً لأمر قلما انتبه إليه الباحثون والنقاد، نعني الحاجة الماسة إلى «علم اجتماع أدبي».
مثل هذا المنطلق سليم دون شك: إنه يعني أنه لا سبيل إلى أن يبني الأديب رؤاه الجديدة التي يريد أن يشد المجتمع إليها، ما لم يفقه هذا المجتمع ويخبر بعمق قضاياه ومشكلاته. وعندما يغوص الأديب في تلك الجذور الاجتماعية التي تعري واقع أمته، وتكشف عن قضاياها، وعندما يعاني مشكلات الجماهير العربية في حركتها التاريخية، يستطيع عندئذ أن يمارس حريته بحق وأن يسهم في تكوين قيم جديدة وفي رسم صورة الإنسان العربي المنشود. وفي مثل هذا الموقف وحده، الموقف المدرك للمرحلة، المتفهم لحركتها وصبوتها وتطلعاتها، يستطيع أن يتجاوز المرحلة وأن يمدها بألوان من الوعي والمعرفة جديدة. ذلك أن مثل هذه المعرفة بالواقع في تحركه وصبواته، هي التي تتيح أمام الأديب المجال الأرحب لنظرة تقويمية، مستمدة من «تبصر المستقبل» ومن «الرؤية الطليعية» إلى العالم. فالعمل الأدبي عنده – وهو على حق في ذلك – لا يمكن أن ينفصل عما هو مصيري في واقع التجربة الإنسانية كما يعانيها الآخرون. وتجربته الشخصية الحرة المستقلة في طريق بناء الإنسان في مجتمعه ومن أجل بناء الإنسانية، لا يمكن أن تكون معلقة بين الأرض والسماء، بل لابد أن تمتاح أصولها وجذورها من تجربة الإنسان الحي، الإنسان الفعلي في مجتمعه وفي سواه من المجتمعات.
على أنه يعود دوماً إلى المنطلق الأساسي للالتزام، فيقول في وضوح وصراحة: «ومهما تكن عليه بواعث العمل الأدبي وشروطه وأهدافه، فإنه ليس في نهاية المطاف إلا ما ينبغي أن يقال في التعبير عن تحرر الوجدان وتطلعه إلى رؤى جديدة لمسائل الحياة». ويعود إلى هذه الفكرة الرئيسية في أكثر من موضع، كأن يقول: «إن الحرية في هذا المجال لا تعني أن يقول الأديب شيئاً باسم الالتزام الذي تفرضه معايشة الواقع البشري في معاناته الصارخة، بل هي تعني أن رؤية جديدة قد تكونت لدى الأديب، لابد أن تقال على نحو ما».
بل هو يعبر عن هذه الحقيقة تعبيراً أصرح وأكثر جرأة، مشيراً إلى ما نراه من ضرورة توفير مناخ الحرية للأديب كيما يلتزم بالحقائق التي يؤمن بها. هكذا نراه يطالب بالحرية «للذين يكتبون عن الشعب في معاناته المريرة لشروط الواقع، أو للذين يرسمون بالقصة والرواية رؤية إنسانية جديدة للحياة العربية، أو للذين يصنعون إيقاعات شعرية صادقة للتجارب التي تحمل إرادة التحرر في الكفاح القومي والجدارة الإنسانية والحب والإحساس الفني بالطبيعة وما إلى ذلك».
ويمضي الأستاذ خليل هنداوي – في بحث قدمه للمؤتمر ولم ينشر في عدد «الآداب» – في تأكيد هذا الاتجاه ويذهب فيه مذهباً أبعد ويوغل في توضيحه وتفنيد سواه. فهو يرى بحق أن «الأدب – حين يكون في قمة حريته – لا ينفصل عن الحياة العامة ولا يتبرأ من مشاكله». وعنده، كما عندنا، أن الأديب الحق لابد أن يكون ملتزماً بالحقيقة التي وصل إليها بعد دأب ومكابدة، والتي يرى فيها تطويراً للقيم الإنسانية. أما الشيء الذي هو نقيض الالتزام عنده وعندنا، فهو أن يلتزم الأديب بما يوحى إليه لا بما يؤمن به، وأن يبشر بما يريده السلطان. والالتزام فيما يرى ونرى يستلزم توفير مناخ الحرية من أجل إفساح المجال أمام نمو الحقيقة في نفس الأديب ومن أجل البوح بها ونقلها حية حارة. وهو يخشى أن يساء فهم ذلك الالتزام، فيعني – على عكس ذلك – أن تضرب القيود على الفكر باسم الالتزام.
وهكذا يرى الأستاذ هنداوي أن الأدب الملتزم حقاً هو الأدب الحر ذو الرسالة، مهما تكن طبيعة تلك الرسالة، و«أن الأديب الحر يلتزم من دون إلزام وينصر القيم النبيلة من دون توجيه، لأن الأديب الحر الذي يقدر الحرية يؤلمه أن يرى اضطهاد الحرية في أي مكان».
وهكذا نرى أن أبحاث المؤتمر، على ما بينها من تباين ظاهر ومن خلاف في أسلوب الدراسة، تلتقي في الواقع عند الحقيقة الأساسية التي لا حقيقة سواها في معرض البحث في الالتزام، وهي ن الأديب الحق الأصيل أديب ملتزم، ملتزم بقضية الإنسان في مجتمعه وفي أي مجتمع، وأن التزامه هذا في حاجة إلى مناخ الحرية كي يربو ويزكو ويترعرع. إنها تؤكد ما انطلقنا منه وهو أن المسألة ليست أن نبحث في مدى التوافق والتعارض بين الحرية والالتزام، بل أن نبحث في أساليب توفير الحرية التي لا يكون بدونها التزام. ويتخذ هذا المنطلق معنى خاصاً في المرحلة التاريخية التي نمر بها وفي المعركة المصيرية التي نخوضها. فالتزام الأديب بهذه المعركة يشترط أولاً وقبل كل شيء أن توفر له الشروط التي تجعله يؤمن بأن ما يقوله يلتزم به حقاً في أعماقه، وأن ذلك الذي يلتزم به هو الذي يجدي حقاً في تلك المعركة التي نخوض. إنه يشترط بقول موجز أن يغوص الأديب، بالمعاناة والتجربة الصادقة، إلى أغوار تلك المعركة، وأن يقول من خلال ذلك كل ما يراه حقاً وجديراً بأن يقال. وهل أشد حاجة إلى الحرية من أنبل معركة في سبيل الحرية؟ وهل يغتني بمناخ الحرية شيء مثلما تغتني التجربة المريرة القاسية التي تعاني منها الأمة العربية مع أعداء الحرية، أعداء الإنسان العربي، أعداء الإنسان؟
بيروت عبد الله عبد الدائم