التخطيط للتعليم العالي وعلاقته بخطة التنمية

بحث مقدم إلى مؤتمر التعليم العالي بدمشق نشر في مجلة التربية الحديثة مجلة التربية الحديثة عام 1971
المركز الإقليمي لتخطيط التربية وإدارتها للبلاد العربية
التخطيط للتعليم العالي وعلاقته بخطة التنمية
للدكتور عبد الله عبد الدائم
مقدمة:
العلاقة بين التربية والتنمية:
لن نحاول أن نفتح أبواباً مفتوحة وأن نطرق دروباً نفضها الأدلة، فنبين أهمية التعليم العالي ودوره في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدولة. وحسبنا في هذا الصدد أن نذكر ببعض الحقائق الهامة:
1- العلاقة بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبين التنمية التربوية بوجه عام علاقة غدت واضحة بينة بعد الدراسات العديدة التي قامت منذ نيف وخمسين سنة حتى الآن، والتي لم تكتف ببيان دور رأس المال البشري في التنمية، بل جاوزت لذلك إلى قياس أثر ذلك الدور: أبحاث ستروميلين Strumiline الروسي منذ عام 1924 وأبحاث شولتز Th. Schultz ودنيسون Denison في الولايات المتحدة وأبحاث أوكرست Aukrust في النروج وأبحاث ريداوي Reddaway وسميث Smith في إنكلترا – الخ…
ومن نتائج مثل هذه الدراسات أن تعويض الأموال التي تنفق على التعليم يتم خلال تسع سنوات أو عشر، في حين أن تعويض القروض الطبيعية التي تؤخذ من أجل التنمية يحتاج إلى فترة تتراوح بين 12-18 سنة، وفي حين أن برنامج استصلاح أراض جديدة لا يسد نفقاته قبل 12-15 سنة.
2- العلاقة بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبين إعداد الأطر العليا عن طريق التعليم العالي، علاقة تتخذ أهمية خاصة وشأناً خاصاً للأسباب التالية:
آ- أهمية إعداد الأطر العلمية والفنية العليا بوجه عام.
ب- أهمية هذا الإعداد في عصرنا هذا الذي يتعاظم فيه يوماً بعد يوم دور الأيدي العاملة الفنية ويتناقص دور الأيدي العاملة غير الفنية.
ج- أهمية هذا الإعداد بوجه أخص بعد بزوغ الثورة الصناعية الثانية، التي تعرف باسم الثورة العلمية والتكنولوجية، والتي تبشر بولادة نوع جديد من الحضارة.
د- أهمية التركيز على إعداد الأطر العلمية والفنية العليا (إلى جانب الأطر الوسطي) في البلدان السائرة في طريق النمو، إذا أرادت هذه البلدان أن تدخل العصر وأن تأخذ بمنطقه.
هـ- الدور الكبير للأطر العلمية والفنية العليا في المجتمعات الاشتراكية بوجه خاص، ما دام المعنى الأصيل والعميق للاشتراكية تحرير قوى الإبداع لدى جماهير الشعب، وما دام أحد مبادئ الاشتراكية الأساسية جعل التربية في خدمة التنمية.
على أن ما هو أهم من توضيح هذه العلاقة التي غدت بدهية بين التنمية عامة وبين تنمية التربية وتنمية التعليم العالي خاصة، أن نستدرك فنبين شروط قيام مثل هذه العلاقة:
1- فالتربية التي تفعل فعلها في التنمية ليست أي تربية، وإنما هي تربية من نوع خاص، نضع فيها سلفاً أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية.. إن مجرد التوسع في التربية وفتح أبوابها لا يعني أن نسير في اتجاه التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بل كثيراً ما يعني أن نعيقها ونسير في عكس اتجاهها.
2- والتعليم العالي ذو الأثر الأكبر في التنمية ليس أيضاً أي نوع من التعليم العالي، بل هو تعليم ذو مواصفات خاصة تجعله عاملاً أساسياً من عوامل التنمية.. وسياسة التوسع في هذا التعليم – على أهميتها – لا تؤتي ثمراتها بل قد تنقلب إلى عكس أغراضها إن لم يرافقها ربط لهذا التوسع بحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية..
3- من أهم عوامل الربط بين التنمية عامة وبين تنمية التربية والتعليم العالي خاصة، ربط هذين الأخيرين بحاجات القوى العاملة.. ولهذا الربط معان ومستلزمات عديدة، سنشير إليها فيما بعد.
4- هذا الربط بين التعليم العالي وبين التنمية يتطلب بالتالي تخطيطاً للتعليم العالي، يربط بينه وبين حاجات القوى العاملة وحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية بوجه عام.
النتيجة الأساسية التي ننتهي إليها إذن من خلال هذا العرض العام للعلاقة بين التنمية وبين التربية والتعليم العالي، إن هذه العلاقة عميقة وجوهرية، غير أنها لا تتوافر إلا إذا قمنا بجهد مقصود وتخطيط علمي لتوفير الشروط اللازمة لانعقادها.
وهذه النتيجة تقودنا إلى صلب موضوعنا:
كيف يتحقق الربط بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبين التعليم العالي؟
من البدهي القول أن هذا الربط لا يتم إلا عن طريق وضع خطة للتعليم العالي تربط بينه وبين خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية العامة. غير أن السؤال الأساسي يظل قائماً: ما هي الشروط التي ينبغي أن تتوافر في مثل خطة التعليم العالي هذه؟
ونجيب بإيجاز شديد بأن الخطة العلمية للتعليم العالي التي تتوافر فيها الشروط اللازمة لجعلها مترابطة مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ينبغي أن تستهدف أهدافاً خمسة رئيسية:
1- التوسع في التعليم العالي في ضوء حاجات القوى العاملة وحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
2- تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية وتوفير الفرص المتكافئة (بين مختلف طبقات المجتمع وبين مناطقه المختلفة وبين الذكور والإناث) عند رسم سياسة القبول في التعليم العالي.
3- رفع الكفاءة الداخلية (أو المردود الداخلي) للتعليم العالي عن طريق القضاء على عوامل الهدر والضياع فيه.
4- رفع الكفاءة الخارجية (المردود الخارجي) للتعليم العالي عن طريق تطوير مناهجه وطرائقه وربطها بأهداف التنمية وأهداف المجتمع.
5- خفض كلفة الوحدات التعليمية في التعليم العالي عن طريق زيادة إنتاجية العملية التعليمية.
ويحسن أن نتوقف عند كل مبدأ من هذه المبادئ ونخصه بشيء من التفصيل:
1- التوسع في التعليم العالي في ضوء حاجات القوى العاملة وحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية:
لا شك أن أهم عنصر من عناصر الربط بين خطة التعليم وخطة التنمية العامة، أن يجري القبول في التعليم العالي في ضوء الحاجات الفعلية للسوق الاقتصادية والاجتماعية، أي في ضوء القوى العاملة كما يقال.
ولا حاجة إلى القول هنا أن شعار العلم للعلم شعار غير مقبول في المجتمعات الاشتراكية بل في سائر المجتمعات اليوم، وأن الشعار الذي تطرحه النظم الاشتراكية خاصة (بل وسواها) هو شعار العلم للتنمية وللمجتمع. ولعل الصين مثال بارز بل ومتطرف على أهمية هذا الشعار في الدول الاشتراكية.
ومثل هذا الشعار يفترض أن تبنى سياسة القبول والالتحاق في التعليم العالي استناداً إلى حاجات القوى العاملة، أي حاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية من مختلف الاختصاصات في شتى ميادين النشاط الاقتصادي.
وهذا لا يمنع أن تكون للتعليم العالي أهداف ثقافية وإنسانية واجتماعية تتجاوز حاجات العمالة (فمثل هذه الأهداف ستظل قائمة)، غير أن الهام أن تكون حاجات سوق العمل الحد الأدنى الذي تحققه سياسة القبول في التعليم العالي، دون أن تكون الحد الأعلى لتلك السياسة.
وتزداد أهمية الربط بين حاجات العمالة وسياسة القبول في التعليم العالي، كلما جنحت هذه السياسة إلى فتح أبواب التعليم العالي لأكبر عدد ممكن من الطلاب، وتصبح شرطاً أساسياً عندما تغدو أبواب التعليم العالي مفتوحة لجميع القادرين عليه والراغبين فيه (كما هو مطمح البلدان الاشتراكية وسواها). فالتعليم العالي الذي تفتح أبوابه للجميع لابد أن تكون سياسة القبول في فروعه واختصاصاته المختلفة مستندة إلى حاجات العمالة، وإلا كان حصاد ذلك التوسع الاعتباطي بطالة بين المثقفين وهجرة للأدمغة، وعجزاً عن تلبية حاجات السوق الاقتصادية والاجتماعية من الاختصاصات والفروع المطلوبة، وفيضاً في الاختصاصات غير المطلوبة، بل وثورات اجتماعية.
وهنا لابد من التساؤل: كيف يتم هذا الربط بين سياسة القبول في التعليم العالي وبين حاجات العمالة؟ والجواب على هذا السؤال يستلزم محاضرات عديدة وجلسات عديدة. وحسبنا أن نشير إلى أهم نقاطه:
آ- لابد من تحديد الاحتياجات المقبلة من القوى العاملة العليا. ويحسن أن نحدد هذه الاحتياجات على المدى الطويل أولاً (على مدى خمسة عشر أو عشرين عاماً)، ثم على المدى القصير (على مدى خمس سنوات أو سبع)، تبعاً لعدد سنوات خطة التنمية العامة للدولة.
ومثل هذا التحديد تقوم به عادة وزارة التخطيط (أو هيئة تخطيط الدولة كما في سورية). وكلنا يعلم أن كيان هيئة تخطيط الدولة في سورية يضم – كما نص المرسوم التشريعي رقم (86) تاريخ 2/7/1968، والقرار الوزاري رقم (30/و) تاريخ 7/8/1968 – مديرية للخطة العلمية والأبحاث، من بين أهدافها الرئيسية «وضع الخطة العلمية وخطة التدريب والتأهيل على أساس الربط الوثيق بقضايا التطور الاقتصادي والاجتماعي».
ولا يتسع المجال للبحث في الأسس الفنية التي يتم وفقها تقدير حاجات القوى العاملة عامة وحاجات القوى العاملة العليا خاصة، كما لا يتسع المجال للبحث في الطرق المختلفة التي تتبعها الدول المختلفة في هذا السبيل. وحسبنا أن نقول بإيجاز مخلّ(1) أن الأمر يتطلب مراحل أربعاً:
1- حصر الطاقة العاملة الحالية وتصنيفها تبعاً لطاقات النشاط الاقتصادي وتبعاً للمهن، (بالاعتماد خاصة على التصنيف الدولي في هذا المجال).
2- التنبؤ بالمطلوب من الطاقة العاملة خلال سنوات الخطة استناداً إلى خطة التنمية العامة، في شتى ميادين النشاط الاقتصادي وفي شتى المهن.
3- ترجمة المطلوب من الطاقة العاملة إلى مستويات وحاجات تربوية.
4- وضع خطة التعليم العالي التي تحقق الحاجات التربوية التي تم تقديرها في المرحلة الثالثة السابقة، استناداً إلى حاجات الطاقة العاملة التي تم تقديرها في المرحلة الثانية. (وهذه المرحلة الأخيرة تقع وحدها على عاتق وزارة التعليم العالي).
ب- في تقدير الحاجات من القوى العاملة العليا، تتبع طرائق عديدة، تبعاً للظروف، وتبعاً للبيانات الموفورة في البلد، أهمها:
– طريقة مد الاتجاهات الماضية. ولهذه الطريقة حدودها ونقائصها، ولا سيما في البلدان السائرة في طريق النمو.
– الطريقة التي تلجأ إلى سؤال أرباب العمل وأصحاب المؤسسات ومديريها عن الاختصاصات التي يحتاجون إليها وعن التطور المحتمل لها خلال سنوات الخطة.
– الطريقة التي تلجأ إلى دراسة دقيقة للعمل وأوصافه (في شتى مجالات النشاط الاقتصادي والاجتماعي) وما تحتاج إليه تلك الأوصاف من خبرات واختصاصات.
– الطريقة التي تلجأ إلى مقارنة البلد ببلد أكثر تطوراً يعتبر نموذجاً له، والتي تعتبر بنية الطاقة العاملة العليا القائمة في ذلك البلد «النموذج» حالياً هي التي ينبغي أن تقوم في البلد الذي تخطط له.
– الطريقة التي تعرف باسم «طريقة معدلات الإشباع Taux de saturation» والتي تعتمد في الاتحاد السوفياتي خاصة، وقوامها وضع نسب قياسية معيارية تبين نسب مختلف الاختصاصات في مجموع الطاقة العاملة في كل فرع من فروع النشاط الاقتصادي.
ج- من السهل نسبياً تقدير الحاجات من الطاقة العاملة العليا في بعض الاختصاصات، كالطب والتعليم، نظراً لإمكان وضع علاقة محددة بين عدد السكان أو عدد الطلاب وبين عدد الأطباء أو المعلمين المطلوبين.
د- ومن السهل كذلك حساب المعروض من الطاقة العليا في بعض الاختصاصات التي تقوم فيها صلة وثيقة بين ممارسة المهنة وبين الإعداد لها (كالطب والهندسة والتعليم، حيث نجد أن الذين يعدون للمهنة لابد أن يمارسوها غالباً، وقلما يمارسون سواها).
2- تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية وتوفير الفرص المتكافئة:
بالإضافة إلى استناد سياسة القبول في التعليم العالي إلى حاجات العمالة في مختلف الفروع والاختصاصات، ينبغي أن تراعي هذه السياسة في الوقت نفسه ديموقراطية التعليم العالي، فتحقق تكافؤ الفرص بين أبناء الطبقات الاجتماعية المختلفة وبين الريف والمدينة وبين مناطق البلد المختلفة وبين الذكور والإناث…
وتشير الدراسات العديدة في معظم بلدان العالم أن مثل هذه الديمقراطية في التعليم العالي (وسواه) غير محققة. ولهذا تسعى هذه الدول جاهدة إلى معالجة هذا النقص (لأغراض اجتماعية وسياسية واقتصادية).
ولا سبيل إلى تقديم بعض الأمثلة والأرقام التي تبين نسبة أبناء الطبقات الاجتماعية في كثير من دول العالم والتي تشير إلى تدني نسبة أبناء العمال والفلاحين حتى في أكثر الدول ادعاء للديمقراطية التعليمية (لا تجاوز نسبة هؤلاء في فرنسا 10% من الطلاب رغم أن التعليم العالي مجاني ومفتوح للجميع).
وحسبنا أن نقول بإيجاز أن الدراسات التي قامت في كثير من بلدان العالم تبين أن نصيب أبناء العمال والفلاحين في التعليم العالي ضئيل إجمالاً. والجدول التالي، يبين نسبة أبناء العمال إلى مجموع الطلاب في التعليم العالي في 15 بلداً حوالي عام 1965:
البلد النسبة % البلد النسبة %
النمسا 6 هولندا 32.9
بلجيكا 11 رومانيا 36.6
بلغاريا 28 إنكلترا 26
دانمارك 9 السويد 14
فنلندا 17.6 سويسرا 3.7
هنغاريا 33.1 تشيكوسلوفاكيا 39.2
إيطاليا 13.2
ويستخلص من معظم الدراسات التي أجريت عدم التناسب بين نسبة الطبقة العمالية والفلاحية في السكان وبين نسبتها في التعليم (ولا سيما التعليم العالي في البلدان المتقدمة). ففي بلد مثل بلجيكا نجد أن طبقة العمال تشكل 47.9% من مجموع السكان، في حين أن نسبتها في التعليم العالي لا تتجاوز 11.2% من مجموع السكان.
وتبين هذه الدراسات كذلك الأثر الحاسم للفئة الاجتماعية التي ينتسب إليها الأب على فرص الالتحاق بالتعليم العالي:
أقل هذه الفرص متاحة لأبناء العمال والفلاحين.
يليهم أبناء موظفي المكاتب والحرفيين والباعة والتجار الصغار.
يليهم أبناء الموظفين والفنيين المتوسطين.
يليهم أبناء الصناعيين وتجار الجملة.
يليهم أبناء الطبقات العليا من المتعلمين والأطر الإدارية والاقتصادية (هذه الطبقة الأخيرة تقدم 18% من الطلاب في التعليم العالي على حين أنها تشكل أقل من 5% من السكان العاملين).
وتضم الإحصاءات الواردة في المجموعة الإحصائية الصادرة عن مكتب الإحصاء بجامعة دمشق معلومات قيمة عن المنشأ الاجتماعي لطلاب هذه الجامعة. ورغم حدود هذه الإحصاءات وطابعها التقريبي في كثير من الأحيان، فإنها تقدم مؤشرات مفيدة تساعد على رسم سياسة للالتحاق بالتعليم العالي على ضوء المنشأ الاجتماعي للطلاب.
وأهم النتائج التي تنتهي إليها هذه الإحصاءات (كما استخلصناها من المجموعة الإحصائية لعام 1967-1968) هي التالية:
آ- فيما يتصل بتوزع طلاب جامعة دمشق بين الريف والمدينة، تشير الإحصاءات إلى ما يلي:
– بلغ عدد طلاب جامعة دمشق (عام 67/1968) 21014 طالباً منهم (12777) طالباً قادمين من مراكز المحافظات (60.8%) و(8237) طالباً قادمين من الريف (39.2%).
– عدد طلاب مراكز المحافظات في الكليات العلمية بلغ (3407) طلاب من مجموع (4838) طالباً أي بنسبة 70.4%، بينما بلغ عدد طلاب الريف في هذه الكليات العلمية (1431) طالباً من مجموع 4838 طالباً، أي بنسبة 29.6%.
– العكس صحيح في الكليات النظرية: إذ بلغ عدد الطلاب القادمين من مراكز المحافظات (9730) طالباً من مجموع (16176) طالباً أي بنسبة 58% تقريباً، في حين بلغ عدد الطلاب القادمين من الريف (6806) طلاب من مجموع (16176) طالباً، أي بنسبة 42% تقريباً.
ب- فيما يتعلق بتوزع طلاب جامعة دمشق بالنسبة إلى عدد أفراد الأسرة تشير المجموعة الإحصائية إلى توزع مجموع الطلاب (21014) على النحو التالي:
عدد أفراد الأسرة عدد الطلاب النسبة %
اثنان فما دون 2873 13.7
ثلاثة 4049 19.3
أربعة 3593 17.1
خمسة 3531 16.8
ستة 2641 12.4
سبعة 2063 9.8
ثمانية 1252 6
تسعة 1039 4.9
ويلاحظ من هذه الأرقام ما يلي:
– كلما ازداد عدد أفراد الأسرة قلت نسبة أبنائها في الجامعة. ولو أخذنا طلاب الأسر التي يتراوح عدد أفرادها بين أربعة واثنين لوجدنا أن عددهم يبلغ (10515) طالباً من مجموع (21014) طالباً أي نسبة 50% بينما بلغ عدد طلاب الأسر التي يتراوح عدد أفرادها بين سبعة وتسعة (4354) طالباً من مجموع (21014) طالباً أي نسبة 20.7%.
– إن أعلى نسبة طلابية في الأسر التي عدد أفرادها ثلاثة، (إذ بلغت النسبة 19.3%) وإن أقل نسبة طلابية هي في الأسر التي عدد أفرادها تسعة فما فوق (إذ بلغت النسبة 4.9%).
– لو أجرينا مقارنة بين عدد طلاب الأسر التي تتكون من (اثنين فما دون) وعدد طلاب الأسر التي تتكون من (تسعة فما فوق) فأول ما يخطر بالبال أن يكون العدد متقارباً، ولكن الأرقام الإحصائية تبين أن هناك بوناً شاسعاً بين الحالتين، إذ أن عدد طلاب الأسر التي تتكون من اثنين فما دون هو 2873 طالباً أي بنسبة 13.7% بينما عدد طلاب الأسر التي تتكون من تسعة فما فوق (1039) طالباً أي بنسبة 4.9%.
ج- فيما يتعلق بتوزع طلاب جامعة دمشق بالنسبة إلى عمل رب الأسرة، تبين الإحصاءات ما يلي:
يتوزع الطلاب البالغ عددهم 21014 تبعاً لعمل رب الأسرة كما يلي:
حكومي 7764 طالباً بنسبة 36.9%
متقاعد 1477 طالباً بنسبة 7.1%
عامل 1430 طالباً بنسبة 6.8%
تاجر 3297 طالباً بنسبة 15.7%
مزارع 4304 طالباً بنسبة 20.5%
صانع 591 طالباً بنسبة 2.8%
خدمات 2151 طالباً بنسبة 10.2%
ويلاحظ من هذه الأرقام:
– إن القطاع الحكومي هو أعلى القطاعات نسبة إذ بلغت 36.9%.
– أما بالنسبة لقطاع المزارعين فعلى الرغم من أن هذه النسبة تلي القطاع الحكومي إذ بلغت 20.5% إلا أنها تعتبر قليلة إذا قيست بنسبة عدد السكان الذين ينتمون للقطاع الزراعي.
– إن نسبة أبناء المشتغلين بالخدمات تعتبر عالية إذا عرفنا أن عدد المشتغلين بالخدمات حسب هذا التصنيف هم قلة من الناس.
– إن نسبة الطلاب المنتمين إلى فئة العمال هي قليلة جداً بالمقارنة إلى عدد العمال الكبير.
د- وفيما يتصل بتوزع طلاب الجامعة تبعاً لمعدل الإنفاق الشهري للأسرة تبين الإحصاءات أن الطلاب البالغ عددهم 21014 موزعون على النحو التالي:
الدخل للأسرة عدد الطلاب النسبة المئوية %
من 100-300 ليرة 4709 22.4
300-500 6391 30.4
500-600 5129 24.4
600-700 3211 15.3
700 فما فوق 1574 7.5
ومن قراءة هذه الأرقام يلاحظ ما يلي:
1- أن عدد الطلاب الذين يتراوح دخل ذويهم بين 100-300 هم (4709) طالباً ونسبتهم للمجموع هي 22.4%، وتعتبر هذه النسبة قليلة إذا قيست بالعدد الكبير الذي تشكله هذه الأسر.
2- يبلغ عدد طلاب الأسر التي يتراوح دخلها بين 300-600 ليرة (11520) طالباً أي بنسبة 54.8% وهذه نسبة عالية، ولكنها غير مستغربة لأن أصحاب هذا الدخل هم أبناء الطبقة الوسطى التي تعتبر التعليم ضرورياً، وهم يشكلون عدداً كبيراً من موظفي الحكومة.
3- يبلغ عدد طلاب الأسر التي يزيد دخلها عن 600 ليرة (4785) طالباً أي بنسبة 22.8% وتعتبر هذه النسبة عالية أيضاً إذا ما عرفنا أن عدد هذه الأسر قليل نسبياً.
على أن الهام عند تقري هذه الأرقام والنتائج في سورية وسواها أن ندرك مسألة أساسية: وهي أن ديمقراطية التعليم العالي لا تحقق بمجرد فتح أبواب هذا التعليم للجميع وجعله مجاناً، بل لابد من تدابير إيجابية تقوم بها الدولة، أهمها:
آ- البحث في تحقيق الديمقراطية التعليمية منذ المراحل التعليمية السابقة (مراحل التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي)، فالتمييز الطبقي يظهر في الواقع منذ هذه المراحل، وينعكس بالضرورة في مرحلة التعليم العالي.
ب- لابد من تدابير اقتصادية واجتماعية تيسر سبيل الالتحاق بالتعليم العالي لأبناء الطبقات العمالية والفلاحية: منح دراسية – مساعدات مالية – بيوت جامعية – تسهيل طرق المواصلات – إنشاء جامعات في المحافظات المختلفة – الخ…
ج- لابد من إعادة النظر في نظم الامتحانات الجامعية (وفي معظم الامتحانات في المراحل التعليمية السابقة) لأن هذه النظم مسؤولة عن تسرب العديد من الطلاب الفقراء خاصة بعد دخول الجامعة (ثم خلال مراحل الدراسة السابقة).
ومن الهام بعد هذا كله أن نشير أنه لا يكفي أن نحقق مبدأ العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، ونيسر دخول أبناء الطبقات العمالية والفلاحية، بل لابد أن نربط أعداد هؤلاء في مرحلة التعليم العالي ببيئاتهم ومجتمعاتهم المحلية، وأن نجعل منهم أفراداً قادرين على تطوير هذه البيئات فعلاً، بدلاً من أن تكون مهمة التعليم العالي إبعادهم نهائياً عن هذه البيئات، وبالتالي إفساد معنى أساسي من معاني ديمقراطية التعليم العالي.
3- رفع الكفاءة الداخلية (المردود الداخلي) للتعليم العالي:
لا شك أن من عوامل الربط الأساسية بين التعليم العالي وبين خطة التنمية، أن نزيد من النتاج الكمي لنظام التعليم العالي، بحيث يصبح قادراً على تخريج أعداد أكبر بنفس الموارد والإمكانات المتاحة. ويعني هذا فيما يعني القضاء على الهدر والضياع الناجم عن الرسوب والتسرب خاصة، وزيادة عدد خريجي التعليم العالي بالتالي. ذلك أن العبرة ليست فقط في الأعداد التي تقبل في التعليم العالي بل العبرة أولاً وآخراً في الأعداد التي تتخرج منه. ولا سبيل إلى زيادة نسبة المخرجات Outputs إلى المدخلات Inputs كما يقال، إلا إذا عنينا بما يجري داخل المصنع التعليمي، بحيث نقلل من الهدر الناجم عن الرسوب وعن التسرب (بوسائل مختلفة أهمها تجويد عملية التعليم وتطوير طرائقه ومناهجه ونظم امتحاناته).
وواضح أن مثل هذه التدابير الواجب اتخاذها لزيادة الكفاءة الداخلية للنظام التعليمي تؤدي إلى وفر في النفقات وإلى تخفيض لكلفة التعليم العالي، وإلى تحقيق مبدأ الاستخدام الأمثل للموارد والإمكانات المادية والبشرية المتاحة، ذلك المبدأ الذي هو أساس كل تخطيط والذي يلتقي مع الأهداف الرئيسية لخطة التنمية العامة.
ولا حاجة إلى أن نشير إلى ما ورد بهذا الصدد في الخطة الخمسية الثالثة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في سورية (1971-1975)، والتي توقفت، شأن كل خطة سليمة، عند أهمية «الاستخدام الأمثل للموارد المادية والبشرية في شتى قطاعات النشاط الاقتصادي» وعند الوسائل التي تؤدي إلى بلوغ مردود أكبر في مختلف مجالات الإنتاج(1).
ولا مجال إلى الإشارة هنا إلى مختلف الوسائل التي يمكن أن تتبع لرفع الكفاءة الداخلية للتعليم العالي وللقضاء على الرسوب والتسرب فيه. وحسبنا أن نشير إلى وسيلة تتوقف عندها الدراسات الحديثة اليوم، عندما تبحث في إعادة النظر في بنية التعليم العالي، ونعني بها تشكيل بنية هذا التعليم تشكيلاً يساعد على قسمته إلى مرحلتين: بحيث يستطيع الطلاب العاجزون عن متابعة المرحلة الثانية منهما أن يحصلوا على شهادة خاصة بالمرحلة الأولى، تمكنهم من الاشتغال في سوق العمل كأطر مساعدة للأطر العليا. وفي هذا التدبير تحقيق لهدفين معاً: أولهما تخفيض نسبة الهدر الناجمة عن تسرب أولئك الذين يعجزون عن متابعة مرحلة التعليم العالي حتى نهايتها، والثاني توفير أطر مساعدة تشتد الحاجة إليها خاصة في مثل بلداننا السائرة في طريق النمو.
4- رفع الكفاءة الخارجية للتعليم العالي:
ولعل هذا الهدف قلب سائر الأهداف ومحورها. ذلك أننا لا نستطيع تحقيق الأهداف الأخرى بدونه: فلا سبيل إلى ربط التعليم العالي بالعمالة وإلى تحقيق الديمقراطية فيه وإلى زيادة كفاءته الداخلية، إذا لم نعن أولاً وقبل كل شيء بتحسين محتواه ومضمونه، وبتجويد طرائقه ومناهجه وبنيانه، بحيث لا نخرج أعداداً أكبر فحسب، بل نخرج أعداداً أفضل وأقدر على تلبية حاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وخاتمة المطاف في خطة التعليم العالي ليست أن نزيد أعداد المتخرجين ولا أن نجعل توزعهم على الأقسام والفروع وعلى الفئات الاجتماعية أكثر تلاؤماً مع مطالب الخطة الاقتصادية والاجتماعية وحاجات سوق العمل، بل الأصل والخاتمة أن نقدم للداخلين في فروع التعليم وأقسامه إعداداً قادراً في محتواه وأساليبه على أن يخرج لسوق العمل وللمجتمع «النوعية» المطلوبة من الاختصاصيين، والمستوى الكفء من الفنيين والعلماء الذين تحتاج إليهم الثورة العلمية والتكنولوجية في عصرنا.
ومثل هذا المطلب الهام والأساسي، مطلب تحسين نوع التعليم العالي ومستواه وزيادة مردوده الخارجي بالتالي، كما يقال، يستلزم تدابير جذرية تحقق ثورة حقيقية في محتوى التعليم العالي وبنيته. وقد قامت اليوم دراسات عديدة وتجارب عديدة من أجل تحقيق هذه الثورة في التعليم العالي، ولا سيما في الجامعات التي عرفت باسم الجامعات الجديدة (في إنكلترا وألمانيا وفرنسا والاتحاد السوفياتي وسواها).
ولا مجال هنا للتفصيل في ما انتهت إليه تلك الدراسات والتجارب. وحسبنا أن نشير إلى بعضها:
آ- تتجه هذه الدراسات والتجارب إلى إعادة النظر في بنية التعليم العالي وفي تنظيمه وأقسامه:
وهذا الاتجاه نحو خلق كيانات جامعية جديدة من أبرز جوانب التجديد الذي نشهده في التعليم العالي:
فالنظرة الجديدة إلى التعليم العالي – التي نجدها في مثل الجامعات الثماني الجديدة التي قامت في بريطانيا وفي عدد من الجامعات الألمانية وفي بعض الجامعات السويدية وسواها – تنطلق من اعتبار البنى التنظيمية الحالية للجامعات (كقسمة الجامعات إلى كليات أو إلى أقسام) بنى غير صالحة، وتبحث بالتالي عن كيانات جديدة أكثر تلاؤماً مع الأغراض الجديدة للتعليم العالي وأكثر اتفاقاً مع أهداف المنهج المشترك بين عدد من المواد Approche interdisciplinaires ومثل هذا الهدف يستلزم إعادة النظر في مسؤوليات هيئة التدريس وفي إدارة مؤسسات التعليم العالي وتسييرها، وفي أبنية الجامعات وكثير من المسائل الأخرى. وهو هدف قابل لأن يتشكل تشكلاً مختلفاً تبعاً للبلدان المختلفة ولطبيعة حاجاتها. والهام فيه أنه يمنح الإطار الجامعي مرونة لم تكن له، ويسمح بالقفز وراء حجب الأقسام والفروع والكليات، من أجل إقامة تنظيمات يمثل كل منها كياناً عضوياً متكاملاً لتقديم دراسات متعددة متنوعة في ميدان من ميادين المعرفة.
مثل هذه المحاولة لتخليق كيانات جامعية جديدة نجدها مثلاً في جامعة «سوسيكس Sussex» الشهيرة في بريطانيا. فلقد خرجت تلك الجامعة الجديدة كما نعلم عن الإطار القديم في تنظيم الدراسات، نعني تنظيمها على أساس المقررات التي تعطى في أقسام مستقلة أو في كليات، وقام التنظيم فيها على أساس المدارس لا الأقسام، لكل مدرسة منها عميد وعدد من أعضاء الهيئة التدريسية. وفي إطار هذا التنظيم الجديد قام نوع من التنسيق، بحيث اختصت كل مدرسة بميدان من ميادين الدراسة: فهنالك أربع مدارس أنشئت، اختصت أولاها بالدراسات الأوروبية، والثانية بالدراسات الاجتماعية والثالثة بالدراسات الإنكليزية والأميركية، والرابعة بالعلوم الطبيعية. وأضيف إلى هذه المدارس الأربع فيما بعد مدرسة للدراسات الإفريقية والآسيوية، وأخرى للدراسات البيولوجية وثالثة للعلوم الهندسية. وفي كل من هذه المدارس يختص الطالب بموضوع رئيسي، ولكنه يدرس بالإضافة إلى ذلك مجموعة من الموضوعات المتصلة به.
ب- ويتبع هذا التغيير في بنية التعليم العالي، بل يرأسه، في عرف هذه التجارب الجديدة، تغيير محتوى مناهج الدراسة وبنيتها، بحيث تقترب من المناهج المشتركة بين عدد من المواد (Interdisciplinary approach) وكلنا يعلم أن هذا الهدف هو موضع دراسات عديدة وتجارب عديدة في كثير من البلدان، سواء في الجامعات التي تسمى باسم الجامعات الجديدة أو في الجامعات القديمة نفسها. وقوام هذا الهدف تحقيق التكامل بين الدراسات الجامعية، وإزالة الفواصل والحواجز القاطعة بين الاختصاصات المختلفة، ولا سيما بين الدراسات المتخصصة والدراسات العامة من جهة ثم بين الدراسات العلمية والدراسات الإنسانية من جهة ثانية. وقد أخذ هذا الهدف أشكالاً متعددة تهدف إلى إدخال شيء من الوحدة في إطار المنهاج الممزق المشتت، بدأت بالظهور منذ فترة بعيدة بعض الشيء، ولكنها لم تأخذ صيغتها المتطورة إلا في السنوات الأخيرة، بعد ظهور حركة التجديد في التعليم العالي. ومن أقدم الأمثلة على ذلك ما تم في جامعة «كيل Keele» في بريطانيا (التي افتتحت عام 1950). وكان هدف هذه التجربة توسيع إطار الثقافة العامة للطالب الجامعي، على حساب التخصص الضيق. على أن أوضح تجربة في هذا المجال هي التجربة التي تمت في جامعة «سوسيكس» التي سبقت الإشارة إليها (والتي فتحت أبوابها عام 1961). فبالإضافة إلى الكيانات الجديدة و«مدارس الدراسات» التي أحدثتها كما رأينا (وهي مدارس تقوم على أساس الاشتراك بين عدة مواد)، أوجدت هذه الجامعة مناهج جديدة تقوم على أساس الدراسات المشتركة أيضاً بين عدد من المواد وعلى تنظيم ما يشبه «الخارطة التعليمية Map of learning» على حد تعبير عميدها «أزا بريكس Asa Briggs» ففي كل من مدارس هذه الجامعة يتبع الطلاب منهاجاً مشتركاً قبل المضي إلى التخصص. والتخصص نفسه ليس تخصصاً ضيقاً، بل هو تخصص مفتوح يجتنب التطبيقات التفصيلية ويتوقف عند المبادئ العامة. أما التخصص المحدد فقد جعل في مرحلة تالية للمرحلة الأولى من التعليم الجامعي. وفي الجامعة فوق هذا وذاك خطة للتقريب بين الآداب والعلوم تسمح للطلاب بالانتقال من أحد هذين الفرعين إلى الآخر، كما تقدم لطلاب كل فرع مواداً من الفرع الآخر تخدم فرعه وتغنيه.
ومثل هذا النهج اتبعته ست جامعات إنكليزية جديدة وجامعتان جديدتان في اسكوتلندة (إحداهما جامعة سترلنغ Stirling عام 1967 والثانية جامعة أولستر Ulster عام 1968).
وأهم ما في هذا المنهاج الجديد كما ذكرنا – القضاء على الحواجز التقليدية بين الاختصاصات الجامعية المختلفة، وعلى الثنائيات القائمة بوجه خاص بين التكنولوجيا والإنسانيات، ثم بين التخصص والثقافة العامة. وتقوم جهود خاصة للدمج بين التكنولوجيات والإنسانيات في ميدان الطب، لما يقدمه هذا الميدان من إمكانات فذة للربط بين الجانبين. وقد طور مثل هذه الجهود في ميدان العلوم الطبية المركز الدولي للتربية الطبية وللبحث الذي يقوم في جزيرة «كوس Cos».
ج- ويرتبط بالهدف السابق الخاص بمناهج الدراسة هدف خاص بطرائق التعليم، ولا سيما ما اتصل منها بالعلاقة بين عدد الطلاب لكل أستاذ جامعي. وغني عن القول أن إحدى ثغرات النظام الجامعي ضعف الصلة بين الأساتذة والطلاب، أولا شخصانية التعليم العالي إن صح التعبير. ومن هنا يتجه التخطيط الجديد للتعليم العالي إلى معالجة هذه المسألة. ومن وسائل العلاج البدهية تحسين النسبة بين عدد الأساتذة وعدد الطلاب. غير أن هذه الوسيلة صعبة ومكلفة. ولهذا تعالج المسألة عن طريق تطوير وسائل التعليم واللجوء إلى أشكال متعددة من التعليم: كالمحاضرات، والتعليم في فئات، ونظام الإرشاد والإشراف «Tutorial System» وحلقات الدراسة، والعمل في إطار مجموعات قليلة العدد، واستخدام أحدث الوسائل التربوية المعينة، وقيام الأساتذة بتخصيص ساعات محددة، خارج ساعات الدروس، لمقابلة الطلاب وتقديم الإرشاد والعون لهم الخ…
ويستلزم اللجوء إلى هذه الوسائل التعليمية المتنوعة توافر المرونة في البناء الجامعي، وتجاوز الصفوف المحدودة الحجم عن طريق الجدران المتحركة، ووضع خطة دراسة تتيح استخدام الأمكنة المدرسية إلى أقصى حد ممكن، وتنظيم أوقات الأساتذة تنظيماً دقيقاً، وتنظيم جدول أوقات كل طالب تنظيماً مرناً. وقد يحتاج هذا كله إلى الاستعانة بالوسائل الإدارية الحديثة في التنظيم، واللجوء أحياناً إلى الحاسبات الإلكترونية.
د- ومن أهداف التخطيط للتعليم العالي التي تحتل مكانة متزايدة في الأيام الأخيرة، توثيق الصلة بين التعليم العالي وبين البيئة والعالم الخارجي. فلطالما أخذت على التعليم العالي التقليدي عزلته عن عالم الاقتصاد وعن المجتمع عامة والصناعة خاصة. ولهذا تؤكد الخطط الجديدة للتعليم العالي على أن تضطلع المعاهد الجامعية بوظائف مختلفة يمكن جمعها تحت عنوان «الخدمات العامة». ويستلزم هذا أن تلعب مثل هذه المعاهد دوراً فعالاً في ميادين عديدة كتربية الكبار والتربية المستمرة وتبسيط العلم وتقريبه من إفهام الجماهير، وكعقد عقود البحث العلمي مع الدولة أو مع المؤسسات الصناعية، الخ.. على أن نجاح الجهود الجديدة في مثل هذه الميادين لا يتأتى إلا إذا قام وراء ذلك كله تغير جذري في مفاهيم الجامعة والعمل الجامعي وفي مكانة هذه الجامعة ودورها في قلب المجتمع، وإلا إذا ارتبطت الجامعات بالبيئة ارتباطاً عضوياً متيناً.
هـ- ويتبع هذا كله أن يتحقق الربط بين محتوى التعليم العالي وبين حاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، عن طريق عناية التعليم العالي بالبحث العلمي الذي هو إحدى مهمتين كبيرتين لا يقوم التعليم العالي بدونهما وبدون التكامل بينهما: مهمة التدريس ومهمة البحث. ولا حاجة إلى أن نتحدث عن هذا الاتجاه القديم أبدأ الجديد أبدأ، ولا حاجة إلى أن نقول أن مطلب البحث العلمي هذا كان وما يزال ضالة التعليم العالي في كثير من البلدان والعقبة التي يرتطم أمامها. وحسبنا أن نؤكد كرة أخرى أن من الأهداف الأساسية لتخطيط التعليم العالي أن يرسم خطة علمية تحقق هذا المطلب، وأن يبحث عن الصيغة العملية والفعلية التي تؤدي إلى توزيع النشاطات في الجامعات بين وظائف التدريس من جهة ووظائف البحث العلمي والتنقيب من جهة ثانية، والتي توفر التنسيق والتكامل العضوي بين هاتين الوظيفتين المتعانقتين، والتي تعالج الثغرات القائمة في كل منهما بل فيهما معاً. ويتطلب هذا فيما يتطلب أموراً كالتالية:
1- البحث في التدابير العملية (الخاصة بمناهج الدراسة وبالشروط اللازمة للحصول على الشهادة) التي توفر هذا التكامل بين الوظيفتين.
2- أساليب الوصل (أو الفصل) بين وظائف التدريس ووظائف البحث بالنسبة إلى الأساتذة الجامعيين.
3- تحديد نصيب كل من الأبحاث العلمية الأساسية والأبحاث العلمية التطبيقية، لا سيما في مثل بلداننا، حيث تشتد الحاجة إلى تغليب البحوث العلمية التطبيقية المرتبطة بجوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
4- تحديد الجهود التي ينبغي أن تبذل من أجل إعداد الباحثين العلميين في شتى المجالات، ووسائل ذلك الإعداد.
5- تشجيع التعاون في مجال البحث العلمي – بين الجامعات وبين سائر المؤسسات المعنية بالبحث العلمي (مؤسسات الدولة الأخرى، المؤسسات الصناعية والزراعية والتجارية وسواها) وتحقيق مبدأ «الإخصاب المتصالب Gross fertilization» في ميادين البحث العلمي.
6- تشجيع التعاون وتنسيقه بين الجامعات في بلد معين وبين الجامعات الأخرى في المنطقة. ويصدق هذا خاصة على التعاون بين الجامعات العربية.
و- ولعل هذا المطلب الأخير، مطلب التعاون بين الجامعات العربية في مجال البحث العلمي بل في مجال التدريس نفسه، أمر يجدر التريث عنده، في إطار العلاقة الواجبة بين التعليم العالي وخطة التنمية: فلقد أخذ هدف التنسيق بين الجامعات في إطار عدد من البلدان (كالبلدان العربية) يبرز في السنوات الأخيرة في كثير من بلدان العالم وفي كثير من التجارب الجديدة في التعليم العالي، نتيجة لعوامل عديدة. منها انفتاح العالم بعضه على بعض بفضل سهولة المواصلات وانتشار وسائل الإعلام. ومنها قيام تنظيمات سياسية تضم أكثر من بلد (كالوحدة الأوربية والوحدة الإفريقية والوحدة العربية وسواها). ومنها الطبيعة الخاصة بكل بلد، وما تمليه من غلبة لنوع من الدراسات والأبحاث.
ويأخذ هذا التنسيق اليوم أشكالاً متعددة، فنقع مثلاً على جامعات متخصصة بالدراسات المتعلقة بقارة معينة أو منطقة معينة. فهنالك في أوربا وأمريكا جامعات أو فروع من جامعات تعنى بالدراسات الأوروبية عامة، وأخرى في بلدان أمريكا اللاتينية تعنى بالدراسات اللاتينية الأميركية، وأخرى في آسيا تعنى بالدراسات الآسيوية، أو في إفريقيا وتعنى بالدراسات الإفريقية، الخ.
وهذه التجارب ذات دلالة خاصة بالقياس إلى البلدان العربية، إذ تقوم الحاجة فيها أكثر من أي منطقة أخرى إلى إقامة جامعة تعنى بالدراسات العربية، (تتجاوز دون شك الحدود الضيقة لمعهد الدراسات العربية العالية التابع لجامعة الدول العربية). وأهم ما في مثل هذه الجامعة أن تضم مركزاً واسعاً وحديثاً للأبحاث العربية، يعنى بالقيام بأبحاث علمية حول شتى جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلدان العربية، تبرز بشكل خاص مدى التكامل القائم بين هذه البلدان في هذه المجالات جميعها، وتكون أساساً لبناء وحدتها القومية.
وإذا تركنا جانباً التنسيق بين الجامعات في إطار منطقة بأسرها، تقوم حاجة إلى التنسيق بين الجامعات في البلد الواحد. وأساليب هذا التنسيق عديدة، تمليها طبيعة البلد والاختلافات الجغرافية والطبيعية والثقافية بين أجزائه. ولابد أن يكون مثل هذا التنسيق – بأشكاله المختلفة – هدفاً هاماً من أهداف التخطيط للتعليم العالي.
5- خفض كلفة الوحدات في التعليم العالي عن طريق زيادة إنتاجيته:
هذا المبدأ الأخير من مبادئ التخطيط للتعليم العالي في علاقته بالتخطيط الاقتصادي والاجتماعي الشامل، يتجاوز في الواقع مجرد رفع الكفاءة الداخلية للتعليم العالي عن طريق القضاء على التسرب والرسوب، كما يتجاوز المعنى غير المباشر لتخفيض الكلفة الذي يتم عن طريق رفع الكفاءة الخارجية للتعليم العالي. إنه يعني شيئاً أوسع من هذا كله، يضم كل ما يتعلق باستخدام تقنيات وأساليب جديدة من شأنها أن تزيد من إنتاجية التعليم العالي.
وأهم هذه التقنيات والأساليب الجديدة ما يلي:
أ- زيادة فعالية الإدارة التربوية التي تتولى شؤون التعليم العالي، وإعادة تنظيمها وتدريبها، وتزويدها بالمهارات والوسائل التكنولوجية الحديثة، بحيث تستطيع أن تحقق مبدأ الاستخدام الأمثل للموارد المالية والبشرية المتاحة.
ب- تطوير أبنية التعليم العالي وتجهيزاته، بحيث يكون البناء بناء وظيفياً يستوعب الإطار التعليمي الجديد والمناهج التعليمية الجديدة والطرائق التعليمية الجديدة، وبحيث يقوى على أن يضم في رحابه أكبر عدد ممكن من الطلاب ومن النشاطات. ويتطلب هذا فيما يتطلب اللجوء إلى الأبنية الجامعية المرنة وإلى الصفوف المتحركة وإلى الجدران غير الثابتة وإلى التجهيزات التكنولوجية الملائمة.
جـ- وضع الخطط اللازمة لقبول أفراد الطاقة العاملة الفعلية في الجامعات والمعاهد العليا، وتنظيم انتسابهم إلى الدراسة الجامعية مع بقائهم في مواقع العمل والإنتاج، تحقيقاً لديمقراطية التعليم من جهة، وحفاظاً على العائد الاقتصادي والاجتماعي الناجم عن استمرارهم في العمل والإنتاج خلال مرحلة دراستهم من جهة ثانية، وتطويراً لكفاءاتهم ومهاراتهم من جهة ثالثة، وأخيراً ربطاً لإعداد الجامعيين بالحاجات المباشرة للمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية للمؤسسات التي يعملون فيها.
تلك نظرة سريعة إلى أهم الشروط التي ينبغي أن تتوافر من أجل الربط بين التعليم العالي وخطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية العامة.
وقد كان بودنا – لولا ضيق المجال – أن نكمل ذلك بالحديث عن أمور ثلاثة أساسية:
الأول: هو أسلوب التخطيط للتعليم العالي ومراحل عملية التخطيط وتقنياتها.
والثاني: هو البحث في الملامح الرئيسية التي ينبغي أن تتصف بها خطة التعليم العالي في سورية، انطلاقاً من خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وانطلاقاً من المبادئ التي أشرنا إليها في هذه الكلمة.
والثالث: هو بيان العلاقة التنظيمية التي ينبغي أن تقوم بين هيئة تخطيط الدولة من جهة وبين جهاز تخطيط التعليم العالي من جهة ثانية، والإشارة بالتالي إلى بنية الجهاز المطلوب في هيئة تخطيط الدولة (مديرية الخطة العلمية والأبحاث) ووظائفها، وإلى بنية جهاز تخطيط التعليم العالي ووظائفه.
ولعل لنا عوداً إلى هذه الجوانب الثلاثة الهامة في مناسبة أخرى.