الإنماء والموارد الإنسانية في الدول العربية

بحث مقدم إلى الحلقة التي نظمتها ندوة الدراسات الإنمائية (بيروت) من 26-30 تشرين الأول/ أكتوبر 1970 1- مقدمة:
طبيعة الصلة بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبين تنمية الموارد البشرية.
2- القسم الأول:
واقع الموارد الإنسانية في البلاد العربية ومشكلاته:
أولاً: أهم الدراسات حول القوى البشرية في البلاد العربية.
ثانياً: مشكلات الموارد البشرية في البلاد العربية.
3- القسم الثاني:
بعض الاتجاهات الأساسية في إستراتيجية تنمية الموارد البشرية في البلاد العربية:
أولاً: التخطيط الشامل للموارد البشرية.
ثانياً: التخطيط الشامل للتربية.
ثالثاً: التخطيط من اجل الاستخدام والعمالة.

مقدمة
الصلة بين التنمية الاقتصادية وبين تنمية الموارد البشرية ليست في حاجة إلى فضل من جلاء.
والقول بأهمية رأس المال البشري ودوره غدا قولاً مكروراً.
والدراسات التي تقيس دور رأس المال البشري في التنمية وفي زيادة الدخل غدت شائعة ومعروفة في كثير من البلدان:
– دراسات «دنيسون Denison» التي بينت أن 21% من النمو الاقتصادي الذي حدث في الولايات المتحدة بين 1921 – 1957 يرجع إلى أثر التربية.
– دراسات «شولتز Sehlutz التي وصلت إلى مثل هذه النتائج فيما يتعلق بالحقبة الواقعة بين 1929 – 1958.
– دراسات «سولو Solow» عن الإنتاج الزراعي في الولايات المتحدة بين عام 1900 وعام 1960، التي بينت أن عوامل رأس المال المادي وتزايد السكان وتزايد منابع الثروة المادية تفسر 10% فقط من النمو الاقتصادي الذي حدث هناك، وأن ما تبقى (90%) يرجع إلى عوامل متبقية Residual factors يفسرها ما ناله العنصر البشري من تربية وإعداد.
– دراسات «أوكرست Aukrust» حول عوامل زيادة الإنتاج القومي في النروج بين عام 1900 و1955، التي توصلت إلى نتائج مماثلة.
– دراسات «ريداوي Reddaway» و«سميث Smith» في إنكلترا حول زيادة إنتاج المعامل في الصناعات التحويلية بين عام 1948 وعام 1954، التي بينت أن هذه الزيادة في الإنتاج
لا تدين إلى زيادة رأس المال وزيادة اليد العاملة إلا بمقدار الربع، أما ما تبقى فيرجع إلى عوامل التطور التقني وما وراءه من إعداد وتدريب للموارد البشرية,
والأبحاث في هذا المجال غدت متكاثرة، وإن لم تتناول حتى الآن إلا البلدان المتقدمة في الغالب. وكلها تشير إلى أهمية الدور الذي يلعبه رأس المال البشري في تنمية الثروة القومية وزيادة الدخل القومي. لسنا إذن في حاجة إلى أن نفتح أبواباً مفتوحة. أهم من ذلك أن نتجاوز هذه البدهية، وهذا الطرح العام للمسألة، لنبحث في النتائج التي تترتب على هذا القول بالترابط بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبين تنمية الموارد البشرية، ولنصحح بعض المفاهيم الخاطئة التي يمكن أن يقود إليها التقرير العام والإجمالي لهذه الحقيقة:
1- من الخطأ الاعتقاد – نتيجة لتقرير هذه الحقيقة المبدئية – أن مجرد تنمية الموارد البشرية في بلد من البلدان، بأي شكل من الأشكال، هو الأداة السحرية والفعالة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. فمجرد تنمية الموارد البشرية – بمعنى التوسع في التربية والإعداد اللذين نقدمهما للقوى البشرية – ليس وسيلة من وسائل التنمية، ولا هو عصا سحرية تقود إلى هذه التنمية. بل قد يكون ذلك نقيض التنمية وعائقاً في طريقها. ومن هنا فإن تنمية الموارد البشرية المؤدية إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية الحقة، ليست أي نوع من التنمية، بل هي تنمية من نوع معين، نضع فيها سلفاً أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية ونربطها به.
وهذا يعني أن أهم شيء في تنمية الموارد البشرية هو وضع استراتيجية عملية وواقعية لهذه التنمية تربط حقاً بين أهدافها وأهداف النمو الاقتصادي والاجتماعي.
2- في إطار هذه الاستراتيجية لابد من الانتباه إلى اختلاف هذه الاستراتيجية باختلاف أوضاع البلدان المختلفة، وباختلاف مستويات النمو فيها. ولا يصح في هذا المجال أن نتأثر باستراتيجية ثبتت صحتها بالقياس إلى بلدان أخرى. بل لابد من وضع الاستراتيجية الملائمة لبلداننا.
ومن هنا كان من الواجب أن تنصب جهودنا الأساسية فيما يتعلق بتنمية الموارد البشرية في بلادنا على الخصائص المميزة لهذه التنمية في طار واقعنا ومشكلاتنا.
وهنالك بوجه عام تباين كبير بين الاستراتيجية الملائمة للبلدان المتقدمة والاستراتيجية الملائمة للبلدان المتخلفة والسائرة في طريق النمو.
ولكن هنالك أيضاً تباين بين الاستراتيجية الملائمة لبعض البلدان المتخلفة والسائرة في طريق النمو وبين تلك الملائمة لبعضها الآخر.
وفي إطار الدول العربية نفسها لابد من طرح استراتيجيات مختلفة باختلاف مستوى نمو هذه البلدان وطبيعة ثرواتها وواقع التربية ومستوى القوى العاملة فيها، وإن تكن ثمة سمات عامة مشتركة لهذه المشكلة في البلدان العربية جميعها.
3- من غير الجائز – في إطار حديثنا عن العلاقة بين الموارد الإنسانية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية – أن نأخذ بمبدأ التفسير الواحدي – إن صح التعبير – فنعتبر الأولى علةً للثانية وسبباً، أو العكس. بل لابد أن نأخذ بالتفسير الدائري الذي يبرز التأثر والتأثير المتبادلين بين الجانبين. ولابد أن ندرك أن الموضوع في نهاية الأمر هو موضوع خطة شاملة متوازنة، لابد فيها من تعاضد محسوب ومدروس بين تنمية الموارد الإنسانية وبين تنمية المشروعات الاقتصادية والاجتماعية اللازمة لاستيعاب هذه الموارد ولإفساح المجال لعطائها ولإبداعها.
والحل الصحيح – في هذا المجال وفي سواه – أن نأخذ بنظرة شاملة للأمور وأن نحلل عملية النمو تحليلاً شاملاً يكشف من عواملها المختلفة ويبين دور كل عامل ووزنه وصلته بسواه. أي لابد – بكلمة واحدة – من النظر إلى التنمية كنظام كلي ومن معالجة مشكلاتها في إطار نظرة تستند إلى المنهج المعروف اليوم باسم منهج تحليل النظم.
فالنظرة الكلية – التي تحلل أي موضوع إلى عناصره وتبين مكانة كل عنصر ومحله ووزنه – هي في نهاية الأمر بداية أي تخطيط سليم وأي علاج لأي مشكلة صغرت أو كبرت. ومنها ينبغي أن نبدأ.
بقول موجز: إن تنمية القوى البشرية يجب أن ترتبط ارتباطاً عضوياً وعلمياً ومخططاً بالتنمية القومية الشاملة التي تضم التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية في إطار بناء قومي منسجم متآخذ.
ومعنى هذا أن نظام إنتاج المهارات البشرية يجب أن يصمم بحيث يتحمل أعباء متعددة وأن يبني بناء مرناً يمكنه من تحمل هذه الأعباء والمسؤوليات.

القسم الأول
واقع الموارد الإنسانية في البلاد العربية ومشكلاته
لا يتسع المجال للحديث عن بنية القوى البشرية في البلاد العربية كما تكشف عنها الدراسات التي تمت بهذا الشأن. ولهذا سنكتفي بأمرين:
أولهما الإشارة إلى أهم الدراسات التي تمت في هذا المجال إشارة موجزة نكتفي بذكر عناوينها وأهم اتجاهاتها.
وثانيهما – وهذا ما يعنينا بشكل خاص – استخلاص المشكلات الخاصة التي يعاني منها واقع القوى البشرية في هذه البلاد، وذلك من أجل الاستناد إليها في وصف الاستراتيجية الملائمة لها.

أولاً- أهم الدراسات حول القوى البشرية في البلاد العربية:
تملك معظم البلدان العربية دراسات – تختلف في قيمتها وجدتها – عن أوضاع القوى البشرية حالياً، كما يملك بعضها دراسات تنبؤية تشير إلى أوضاع هذه القوى في السنوات المقبلة.
ويشير معظم هذه الدراسات إلى الأمور التالية:
1- توزيع السكان – وفقاً للمصطلح المأخوذ به دولياً – بين من ينسبون إلى القوة البشرية وبين من هم خارج القوة البشرية، ثم توزيع القوة البشرية بين الأفراد الداخلين في قوة العمل وبين الأفراد الخارجين عن قوة العمل، ثم توزيع الداخلين في قوة العمل بين مشتغلين ومتعطلين، ثم توزيع المشتغلين بين عاملين بأجر وعاملين لحسابهم وأصحاب أعمال يديرونها لحساب الأسرة بدون أجر وعاملين عند الغير بدون أجر.
2- توزيع الداخلين في قوة العمل بين قطاعات النشاط الاقتصادي تبعاً للتقسيم الدولي لهذه القطاعات في بعض الدول العربية (بعد تعديله جزئياً) أو تبعاً للقطاعات الثلاثة الكبرى التقليدية، قطاع الزراعة وقطاع الصناعة وقطاع الخدمات.
3- توزيع المشتغلين بين المهن المختلفة، تبعاً للتصنيف الدولي للمهن والأعمال، أو لتصنيفات أخرى أقل تفريعاً.
4- تصنيف المشتغلين والمتعطلين تبعاً للحالة التعليمية. وهذا النوع من البيانات لا نجده إلا لدى الدول العربية التي تملك إحصاءات سكانية حديثة أو إحصاءات بالعينة دقيقة. ويشمل هذا التصنيف غالباً الحال التعليمية للمشتغلين تبعاً لقطاعات النشاط الاقتصادي، وتبعاً للمهن والأعمال.
5- تملك بعض الدول العربية تقديرات للقوى العاملة المتوقعة في السنوات المقبلة، مع توزع هذه القوى العاملة تبعاً للأنشطة الاقتصادية وللمهن وللحال التعليمية.
6- تملك بعض الدول العربية دراسات مقارنة تقرن بين الأعداد المتوقعة من القوى العاملة في السنوات المقبلة وبين مقدار الحاجة من هذه القوى العاملة (استناداً إلى حاجات خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية) كما تملك تنبؤات بالمستويات التعليمية والتدريبية اللازمة لسد هذه الحاجة.
ومن العسير أن نعدد جميع الدراسات التي تمت في هذا الإطار في مختلف البلدان العربية. وحسبنا أن نذكر بإيجاز أهمها:
1- في جمهورية مصر العربية:
– إحصاء القوة العاملة بالعينة في إقليم مصر (59/1960)، اللجنة المركزية للإحصاء، مايو 1961.
– تقرير عن الخطة المقترحة لتنمية الأفراد الفنيين والعاملين، وزارة التربية والتعليم، 1962.
– دليل التصنيف المهني: الأقسام الرئيسية والأبواب، لجنة التخطيط القومي بالقاهرة، فبراير 1958.
– تخطيط القوى العاملة في الجمهورية العربية المتحدة. معهد التخطيط القومي، نوفمبر.
– دراسات عديدة لمعهد التخطيط القومي في القاهرة.
2- في الجمهورية العربية السورية:
– الإحصاء بالعينة لعام 1961/1962، وزارة التخطيط.
– دراسات عديدة لهيئة تخطيط الدولة، أحدثها المذكرة رقم 17 بتاريخ كانون الثاني 1969، عن تخطيط القوى العاملة.
3- في المملكة الأردنية الهاشمية:
– دراسة القوى البشرية المنتظمة – حزيران 1963 ثم 1965 مجلس الأعمار الأردني.
4- في الجمهورية اللبنانية:
– التقرير الذي وضعته وزارة التصميم (بإشراف المونسنيور مارون) عن حاجات اليد العاملة وحاجات الإعداد، لمناسبة الحلقة التي عقدتها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (O.C.D.E) في بيروت بين 14 – 21 تشرين الثاني 1966.
– الدراسة بالعينة التي تعتزم مديرية الإحصاء المركزي بوزارة التصميم إجراءها للقوى البشرية العاملة.

5- في الجمهورية العراقية:
– تخطيط القوى العاملة في العراق. إعداد الدكتور صلاح الدين الشيخلي. مطبعة الحكومة، بغداد، 1969.
– الدراسة التي قام بها الدكتور محمد سيف الدين فهمي عن تخطيط القوى العاملة بالجمهورية العراقية، بافتراض تحقيق مبدأ العمالة الكاملة (1965 – 1980).
– التقرير الذي وضعته وزارة التخطيط عن أسلوب العمل للتنسيق بين الخطة التربوية والخطة الاقتصادية «1970/1974». تموز 1969.
6- في الكويت:
– المذكرة التي وضعتها الإدارة المركزية للإحصاء عن اليد العاملة بالكويت، تشرين الثاني 1966، لمناسبة حلقة اليد العاملة ببيروت.
7- في ليبيا:
– مسح احتياجات ليبيا من الطاقة البشرية الفنية والمهنية والعمال المهرة خلال السنوات 1964 – 1965. إعداد خبير منظمة العمل الدولي السيد (ناير) ونشر وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، أكتوبر 1964.
8- في السعودية:
– الدراسة التي وضعتها الهيئة المركزية للتخطيط عن القوى العاملة بالمملكة العربية السعودية، عام 1966(1).
ثانياً: مشكلات الموارد البشرية في البلاد العربية:
كثيراً ما يتبادر إلى أذهان الباحثين في تنمية الموارد البشرية في البلاد العربية، أن المسألة الأولى في هذه التنمية هي توفير العناصر المدربة الخبيرة اللازمة لتسيير عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وكثيراً ما يخيل إليهم أن الأمر أمر تجنب النقص القائم في هذه العناصر والذي يمكن أن يقع بشكل أبرز في السنين المقبلة.
ولهذا يتركز جل اهتمام هؤلاء الباحثين على القيام بالاسقاطات والتنبؤات اللازمة لمعرفة النقص الذي يمكن أن يقع في السنين المقبلة في شتى مستويات التأهيل لدى أفراد القوة العاملة، وفي مستوى المؤهلين تأهيلاً عالياً بشكل خاص. وذلك من أجل اتخاذ الإجراءات اللازمة لسد ذلك النقص.
وترتد المسألة عندهم بالتالي إلى تجويد الطرائق الفنية القادرة على القيام بهذه التنبؤات والاسقاطات بشكل سليم.
والواقع أن مسألة تنمية الموارد البشرية في البلاد العربية تطرح أبعاداً ومعضلات أوسع بكثير من هذه المعضلة التي تتبدى أساسية، بل قد تطرح مسائل تناقضها:
1- والحق أن المسألة التي بدأت تحتل مقام الصدارة في نظرنا – فيما يتعلق بتنمية الموارد البشرية في البلاد العربية – ليست مسألة نقص المؤهلين والمدربين والاختصاصيين في مختلف مستويات التأهيل، وإنما هي قبل هذا مسألة فيض الأعداد في كثير من مستويات التأهيل، ولاسيما مستويات التأهيل العليا. وإذا استثنينا بعض البلدان العربية التي انطلقت حديثاً في طريق التعليم والتي تملك ثروات طبيعية استثنائية، وجدنا أن سائر البلدان العربية تشكو اليوم من بطالة المثقفين، سواء من خريجي التعليم العالي أو خريجي التعليم الثانوي.
والجدير بالملاحظة أن هذه البطالة لا تصيب حملة الشهادات العليا في مجالات الدراسات النظرية والإنسانية فحسب، بل امتدت في السنوات الأخيرة بشكل واضح إلى حملة الشهادات العليا في مجالات الدراسات العلمية والعملية والفنية، من مهندسين وعلماء وباحثين علميين وسواهم. كما شملت خريجي المدارس الثانوية الفنية والمهنية إلى جانب خريجي المدارس الثانوية العامة. والدراسات المختلفة في كثير من البلدان العربية تشير إلى هذه الحقيقة:
ففي لبنان ينتهي تقرير وزارة التصميم الذي سبقت الإشارة إليه بتقرير الواقع الآتي: «تكشف المقارنة بين مجالات الاستخدام الممكنة وبين عدد الخريجين عن وجود فائض مرتفع جداً، سواء في التعليم العالي أو في التعليم الثانوي» (التقرير، ص 145 الأصل الفرنسي).
وفي العراق تكشف الدراسة التي قامت بها وزارة التخطيط حول «أسلوب التنسيق بين التخطيط التربوي والتخطيط الاقتصادي» عن وجود فائض كبير في خريجي الجامعات، حتى لدى المتخصصين في علوم الرياضيات والطبيعيات فضلاً عن الاجتماعيات، وتقدر الدراسة نسبة هذا الفائض إلى الأعداد المنتظر تخريجها خلال الفترة 1968/1970 بمقدار 61.8% (التقرير – ص 61).
وفي الجمهورية العربية المتحدة بينت الدراسات التي قام بها معهد التخطيط القومي (تخطيط القوى العاملة في ج . ع . م . ) أن هنالك احتمالاً لأن يزيد مقدار العرض على مقدار الطلب فيما يخص الأطر العليا من أخصائيين باحثين ومديرين، بمقدار 21 ألف عام 1975. وقد بدأت بوادر هذا الفيض تظهر منذ الآن.
2- ولا تقتصر مشكلة الاستخدام ومشكلة البطالة على المثقفين وعلى مستويات التأهيل المتوسطة والعليا، بل تتجاوز ذلك إلى سائر أفراد المجتمع في معظم البلدان العربية. بحيث يصح القول أن المسألة الأساسية المطروحة أمام تنمية الموارد الإنسانية في البلاد العربية هي مشكلة البطالة، مشكلة تهيئة الأعمال اللازمة لأعداد كبيرة من السكان تطلب عملاً ولا تجده.
والتعليم في شكله الحالي لا يغير في نهاية الأمر من جوهر مشكلة البطالة تغييراً جذرياً في بلادنا، ولا يعدو في كثير من الأحيان أن يؤجل وقوع البطالة لدى الفرد عدة سنوات حتى ينهي دراسته، وكأنه غالباً يحيل العاطلين العاديين إلى عاطلين مثقفين، وهذا أدهى وأمرّ.
وعلى سبيل المثال تكشف الدراسة التي وضعتها وزارة التخطيط العراقية حول (أسلوب التنسيق بين التخطيط التربوي والتخطيط الاقتصادي) عن وجود فائض متعطل في مختلف الفئات الوظيفية بلغ حوالي 90 ألف متعطل عام 1966، ومن المتوقع أن يبلغ 152 ألف متعطل هذا العام وأن يتزايد باطراد في السنوات العشر التالية ليصل إلى نحو 304 ألف متعطل عام 1975 ونحو 608 ألف متعطل عام 1980. (التقرير صفحة 67 و68) هذا مع العلم أن هذه الأرقام قد احتسبت على أساس المتوقع تحققه من فائض بعد سد احتياجات الخطة الخمسية 1970 – 1975.
وفي سورية تبين النشرة الإحصائية السنوية لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل (دورة حزيران عام 1965) أن عدد المتعطلين يبلغ (12794) أي 7.44% من قوة العمل البالغة في مجموعها (1424267).
3- وتتخذ مشكلة الاستخدام ومشكلة البطالة شكلها الحدي في قطاع الزراعة، حيث تعمل الكثرة الكاثرة من أفراد القوى العاملة في بلادنا العربية.
ونحن نعلم أن نسبة المشتغلين في قطاع الزراعة إلى سائر أفراد القوة العاملة الفعلية، تبلغ حوالي 60% في البلدان العربية في المتوسط.
وهذا العدد الكبير يشكو البطالة المقنعة أو البطالة الحقيقية، فضلاً عن تدني مستوى إنتاجه.
ويزيد في هذه المشكلة أن تزايد السكان في الريف يفوق في معدله تزايد الإنتاج الزراعي وتزايد متوسط الدخل القومي للفرد بوجه عام.
على أن قطاع الصناعة نفسه وسائر القطاع الحديث – على قلة المشتغلين فيه – يشكو من فيض في حجم العمالة ويعاني من مشكلة بطالة متزايدة في المدن، نتيجة للنزوح السريع من الريف إلى المدينة، هذا النزوح الذي تشجع عليه التربية نفسها في صورتها الحالية فضلاً عن شروط الحياة السيئة في الريف ونتيجة للنمو البطيء في التصنيع، ولعدم الربط بين الإعداد وبين حاجات الصناعة الفعلية، ولأسباب أخرى.
4- وتقوم مشكلة البطالة هذه في البلاد العربية في إطار واقع يزيد من خطورتها. وهو أن هذه البطالة واقعة رغم ضآلة عدد القادرين على العمل في البلاد العربية. فنسبة عدد القادرين على العمل إلى مجموع السكان لا تتجاوز 29% في احسن الأحوال، وتقل عن هذا الرقم كثيراً في بعض البلدان العربية (22% في الجزائر عام 1966). في حين أنها تبلغ حوالي 52% في مثل الاتحاد السوفياتي(1).
وترجع هذه الظاهرة إلى سببين رئيسيين: أولهما فتوة السكان وكثرة عدد الأطفال بالتالي ممن تقل أعمارهم عن عشرين سنة، وممن يفترض أن يكونوا في سن الدراسة وخارج قوة العمل بالتالي (تبلغ نسبة السكان الذين هم دون العشرين إلى مجموع السكان 55% في المتوسط وترتفع إلى 57% في بعض البلدان العربية، في حين تبلغ هذه النسبة في أكثر البلدان المتقدمة حوالي 33% في المتوسط وتهبط في مثل بريطانيا إلى 30.7% وفي ألمانيا الغربية إلى 28.6).
والسبب الثاني الذي يرجع إليه تدني نسبة القادرين على العمل في البلاد العربية هو النسبة المنخفضة جداً لاشتغال الإناث. إذ لا تعدو هذه النسبة 5% من مجموع السكان في المتوسط (وتهبط إلى أقل من 2% في كثير من البلدان العربية)، في حين تبلغ 50% تقريباً في الاتحاد السوفياتي وفي كثير من الدول الاشتراكية.
هذه النسبة الضئيلة من القادرين على العمل في البلاد العربية (حوالي 25% في المتوسط) نجد بينها مع ذلك تلك الأعداد الكبيرة التي أشرنا إليها من العاطلين ومن أنصاف العاطلين!
ومعنى هذا كله أن أقل من 25% من السكان يتولون الإنتاج وتقديم الخدمات لأكثر من 75% من السكان.
5- ويزيد ضغثاً على إبالة أن جزءاً كبيراً من هذا العدد الضئيل من المشتغلين فعلاً يعمل في تعليم العدد الكبير من الأطفال الذين هم في سن التعليم. فالتربية في كثير من بلادنا تستخدم طاقة عاملة أكبر مما تستخدمه الصناعة والتجارة معاً. وفي بعضها تستخدم التربية حوالي 50% من مخزون الطاقة العاملة ذات المستوى العالي. ومن المنتظر أن تزداد هذه النسبة في السنين المقبلة نتيجة لاتساع التعليم والتدريب.
ومعنى هذا أن التربية هي من أكبر مجالات استخدام الطاقة العاملة. وإذا لم تؤد هذه التربية فعلاً إلى إيجاد عمالة إضافية وإذا لم تؤد الأموال الكبيرة التي تنفق عليها إلى إيجاد فرص استخدام جديدة، فمعنى هذا أنها تسير حقاً في عكس اتجاه التنمية، إذ تحرم هذه التنمية مواد مالية وبشرية كان من الممكن استخدامها في مجالات أخرى من النشاطات الإنمائية، دون أن تخلق إمكانات عمل جديدة وإمكانات مالية جديدة بالتالي.
ومن هنا كان لابدّ أن يؤخذ بعين الاعتبار في بلادنا العربية هذا الدور المزدوج للتربية، دورها كمستخدِمة (بكسر الدال) للطاقة العاملة ودورها كمنتج لها، وان تقوم دراسة صحيحة لهذا الدور وأن توضع له معادلة سليمة منتجة.
6- وتزداد مشكلة البطالة هذه تعقيداً إذا ذكرنا قطاع الزراعة وحتى القطاع الحديث – بما فيه قطاع الصناعة – ما يزال يستخدم أدوات إنتاج تقليدية تعتمد على أيد عاملة كثيرة (وأن تكن غير مؤهلة في الغالب)، وان المسألة سوف تزداد خطورة عندما يتم اللجوء إلى مكننة الزراعة وإدخالها لتكنولوجيا الحديثة في الصناعة والتجارة والإدارة وسواها.
ولا نريد أن نرجع هنا كرة أخرى إلى المشكلة الاقتصادية التقليدية مشكلة السياسة الاقتصادية التي تركز على العمالة في مقابل السياسة الاقتصادية التي تركز على الإنتاج. غير أن من الواضح أن زيادة الدخل القومي لا يمكن أن تتمّ إلا بزيادة الإنتاجية في مجال الزراعة والصناعة والإدارة، وأن زيادة الإنتاجية هذه تتطلب استخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة. مما يؤدي بطبيعة الحال إلى زيادة عدد العاطلين، لاسيما في أوساط العمال غير المؤهلين وأنصاف المؤهلين.

القسم الثاني
بعض الاتجاهات الأساسية في استراتيجية تنمية الموارد البشرية في البلاد العربية

هكذا نجد أن الصورة التي يقدمها لنا تشخيص الواقع القائم في البلدان العربية في ميدان القوى العاملة صورة قاتمة. وإذا كنا أردنا أن نبرز هذه الصورة القاتمة بوضوح، فما ذلك إلا لأننا نرى – كما ذكرنا منذ البداية – أن سياسة تنمية الموارد البشرية في بلد من البلدان لا يمكن أن تكون سياسة نظرية تنطلق من بعض المعطيات والحقائق العامة المستقاة من تجارب دول أخرى معظمها دول متقدمة، بل لابد أن تكون استراتيجية عملية تنطلق من المشكلات الفعلية والراهنة للبلد.
ولعل التشخيص الذي قدمناه – على إيجازه ونقصه – يستطيع أن يبرز لنا إلى حد كبير الخصائص المتميزة لبنية الموارد البشرية في البلاد العربية، ويستطيع بالتالي أن يهدينا إلى الاستراتيجية الخاصة التي ينبغي أن تتميز بها تنمية هذه الموارد في هذه البلدان.
يطول الحديث إن نحن أردنا أن نقدم عرضاً مفصلاً لهذه الاستراتيجية الخاصة، ذلك العرض الذي يمكن أن يقودنا بعيداً في جميع جنبات التخطيط التربوي وأسسه في بلادنا العربية. ولهذا نكتفي برسم بعض الاتجاهات العربية لاستراتيجية تنمية الموارد البشرية كما يفرضها الواقع العربي في نظرنا.
1- لابد أولاً من اتباع طريقة شاملة في التخطيط للموارد البشرية في البلدان العربية. ونعني بذلك أن التخطيط للقوى العاملة لا يجوز أن يشمل – كما كان عليه الأمر حتى الآن – التخطيط للقطاع الحديث وحده، بل ينبغي أن يشمل القطاع التقليدي أيضاً وخاصة، من أجل تحديثه وتطويره واستثماره استثماراً كاملاً. ولا نعني بهذا القطاع التقليدي قطاع الزراعة وحده، بل نعني أيضاً الحرف التقليدية والصناعات الصغيرة في الريف والمدينة. إن كل سياسة تربوية لا تضع نصب عينيها ضرورة توفير التدريب والإعداد اللازم (بأشكاله المختلفة) من أجل تطوير هذا القطاع التقليدي إلى جانب توفير ما يحتاج إليه القطاع الحديث من أنواع الخبرات والاختصاصات العالية غالباً، سياسة تنظر إلى مشكلات الطاقة العاملة نظرة منقوصة. إنها تركز فقط على إعداد الطاقة العاملة ذات المستوى العالي، وأحياناً كثيرة على جزء من تلك الطاقة العاملة، كالأطر الفنية والعلمية، وتنسى مطالب إعداد الكثرة الكاثرة من أفراد الطاقة العاملة الذين يعملون في القطاع التقليدي عامة وفي قطاع الزراعة خاصة.
2- ويتبع هذا الشرط شرط ثان وهو أن يكون التخطيط التربوي بدوره شاملاً، بمعنى أن من الضروري أن يشمل مستويات التعليم جميعها، وان يوجه عناية خاصة للتعليم غير النظامي بأشكاله وصوره المختلفة. ذلك أن التخطيط التربوي في معظم بلدان العالم وفي بلداننا خاصة قد قصر همه على مراحل التعليم النظامية من ابتدائية إلى ثانوية إلى عالية، ولم يوجه إلا النزر اليسير من العناية إلى التعليم غير النظامي، كمكافحة الأمية وتعليم الكبار، رغم أن أكثرية السكان في البلدان السائرة في طريق النمو تلقت تعليماً محدوداً أو لم تتلق أي تعليم على الإطلاق، ورغم أن هذه الأكثرية هي الأكثر نشاطاً من الوجهة الاقتصادية. لقد قصرت هذه البلدان معظم جهدها الواعي في ميدان التخطيط للقوى العاملة والتربية على عشر سكانها تقريباً، وتناست الكثرة الكاثرة الباقية. وهذه الكثرة الباقية هي التي تعمل غالباً في القطاع التقليدي وفي الزراعة خاصة. مما يبين كيف يريد المنطلق الذي نصدر عنه أن يربط بين فكرة التخطيط الشامل لتنمية الموارد البشرية وبين فكرة التخطيط التربوي الشامل.
3- ولابد بعد ذلك – في النظرة السليمة لتخطيط التربية وتخطيط القوى العاملة في بلادنا – أن يتناول هذا التخطيط جانبين أساسيين متكاملين وإلا يقتصر على أحدهما: الجانب الأول هو إعداد الطاقة العاملة اللازمة للعمل في شتى مجالات النشاط وشتى المستويات. والجانب الثاني – وهو الجانب المهمل غالباً – هو التخطيط من أجل الاستخدام والعمالة، أي من أجل حل مشكلات البطالة والاستخدام وإيجاد فرص متزايدة للعمل. لقد ركز التخطيط التربوي من أجل حاجات القوى العاملة جهده حتى الآن وفي معظم البلدان النامية – ولاسيما في القطاع الحديث – على تهيئة الأفراد اللازمين لحاجات التنمية ولاسيما في القطاع الحديث وعلى تهيئة الأطر العليا ذوي المستوى العالي خاصة. وكان ثمة نقص فعلي في عدد هؤلاء في كثير من هذه البلدان. غير أن الكثير من هذه البلدان – وعلى رأسها بلداننا العربية كما رأينا – غدت تعاني اليوم من فيض في القوى العاملة حتى في بعض الأقسام العالية التخصص. ومشكلة البطالة عامة وبطالة المثقفين خاصة أصبحت مشكلة راهنة وحادة كما سبق أن رأينا.
ومن هنا فإن كل سياسة لتنمية الموارد البشرية لا تأخذ بعين الاعتبار مستلزمات هذه المشكلة ستظل سياسة عرجاء تسير على قدم واحدة.
هذه هي في نظرنا أمهات المسائل التي لابد أن يتعرض لها تخطيط سليم للقوى العاملة وتخطيط سليم للتربية بالتالي. إنها المسائل الأساسية التي تربط حقاً بين التخطيط للموارد البشرية وواقع التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلدان السائرة في طريق النمو. وإيجاد الأجوبة عليها هو الذي يجعل من هذا التخطيط الأداة الفعلية والناجحة لتلك التنمية. وواضح من النظرة الأولى التي نلقيها على هذه المسائل أنها تبرز بشكل رئيسي أهمية التخطيط لتعليم الكبار ومحو الأمية الوظيفي في أي تخطيط سليم للموارد البشرية وفي أي تخطيط يستهدف حقاً معالجة مشكلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية الفعلية والواقعية. فالتخطيط الشامل للموارد البشرية والقوى العاملة، والتخطيط التربوي الشامل الذي ينبغي أن يرافقه، يعنيان في نهاية الأمر توجيه عناية خاصة للراشدين من أفراد الطاقة العاملة الذين يضمهم القطاع الزراعي خاصة والقطاع التقليدي عامة، وتوجيه عناية موازية لأنواع التربية التي ينبغي أن تقدم لهؤلاء خارج إطار النظام المدرسي غالباً، أي لتربية الكبار ولما يعرف اليوم بشكل أدق وأصح باسم التربية الدائمة «Education Permanente».
فلنقف إذن وقفة مفصلة بعض الشيء عند كل واحدة من هذه المسائل الأساسية، لنرى من خلال ذلك الصورة التي يحسن أن نرسمها لتخطط الموارد البشرية تخطيطاً وظيفياً، أي في إطار التنمية المثلى للواقع الاقتصادي والاجتماعي القائم.
أولاً: التخطيط الشامل للموارد البشرية:
لن يكون التخطيط للطاقة العاملة والتخطيط للتربية بالتالي مرتبطاً حقاً بحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلدان السائرة في طريق النمو، ومن بينها البلدان العربية، إذا جعل همه الأساسي إعداد الطاقة العاملة اللازمة للقطاع الحديث المتطور، وعلى رأسه قطاع الصناعة ونسي حاجات القطاع التقليدي، وعلى رأسه قطاع الزراعة. وليس هدفنا ههنا أن نعاود ذلك النقاش التقليدي القديم حول أولوية كل من الصناعة والزراعة في البلدان السائرة في طريق النمو. فنحن لا نطرح المسألة على أنه مسألة أولوية وسبق لأحد القطاعين على الآخر. وإنما نطرحها على أنها مسألة توازن بينهما. والهدف في نظرنا أن يتحقق التوازن الصحيح بين الجانبين، ذلك التوازن الذي تحدده ظروف كل بلد وإمكاناته وموارده. ولاشك أن التنمية الصناعية هي الطريق المثلى – في عصرنا الحاضر – للتقدم الاقتصادي والاجتماعي الحقيقي، والوسيلة الوحيدة لرفع إنتاجية العمل وزيادة الدخل القومي زيادة محسوسة. وهذه التنمية الصناعية لابد أن تكون بالتالي ضالة البلدان السائرة في طريق النمو وهدفها الأساسي. غير أن هذا لا يجوز أن يعني في نظرنا إهمال القطاع الزراعي والقطاع الريفي، لأسباب عديدة أهمها: (1) إن النمو السكاني في هذه البلدان الذي يتحلق حول 3% سنوياً يستلزم زيادة إنتاج الغذاء والمواد الخام الزراعية بنفس النسبة على أقل تقدير. (2) إن التنمية الصناعية الحديثة التي تستخدم وسائل تكنولوجية باهظة التكاليف لا تستطيع أن تستوعب إلا جزءاً صغيراً من فائض القوى العاملة في المناطق الريفية. ولابد أن يسد هذا الفائض السكاني المتعطل حاجته المعيشية مؤقتاً عن طريق الوسائل المتاحة له وهي الزراعة أو الحرف المهنية البسيطة. (3) إن الثروة الناجمة عن قطاع الزراعة والقطاع التقليدي لابد أن تبقى – في المرحلة الأولى للتنمية الاقتصادية في هذه البلدان – المصدر الأساسي للمدخرات اللازمة للاستثمار في القطاع الحديث والقطاع الصناعي والوسيلة الضرورية لتوفير ما يحتاج إليه البلد من موارد مالية للتبادل الأجنبي في السوق الدولية.
ومهما يكن من أمر فالأكثرية الساحقة من السكان في البلدان السائرة في طريق النمو وفي البلدان العربية ما تزال تعيش في المناطق الريفية، وما يزال القطاع التقليدي والزراعي مصدر حياتها. ولا يجوز بالتالي أن يهمل تخطيط القوى العاملة تطوير هذا القطاع وتحديثه وتحسين وسائل الزراعة التقليدية. وأسوأ ما يمكن أن تأخذ به سياسة القوى العاملة في مثل هذه البلدان أن تؤدي إلى خلق اقتصاد مزدوج يتكون من قطاع صغير حديث وديناميكي، ومن قطاع تقليدي ضخم راكد. ومثل هذا المطلب – مطلب العناية بتطوير القطاع التقليدي – يستلزم سياسة خاصة في إعداد القوى العاملة وفي السياسة التربوية بالتالي. ومن العسير أن نتحدث عن جميع جوانب هذه السياسة. ونكتفي بالإشارة إلى أهم ما ينبغي أن تشتمل عليه:
1- لابد أولاً من جهد تربوي يستهدف زيادة إنتاجية الزراعة بطريقة مباشرة عن طريق تقديم نوعين من التعليم للراشدين من أبناء الريف: الأول هو التدريب الفني والمشورة الفنية اللذين يؤديان إلى زيادة الإنتاجية زيادة مباشرة. والثاني هو التعليم العام الذي يبدأ بمحو الأمية، والذي يؤدي إلى تفتيح أذهان المزارعين وتطوير عقليتهم وخلق القدرة على التكيف والتجديد لديهم، تلك القدرة التي لا يمكن أن تتم إلا عن طريق التثقيف العام والتي تؤدي على المدى الطويل إلى تطوير عميق في بنية المجتمع وفي إنتاجية العمل، وإلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية العميقة بالتالي.
2- ولابد أن تتناول التربية اللازمة لتحديث القطاع الزراعي ثلاث مستويات أو أنواع من القوى العاملة: النوع الأول يشمل المزارعين الفعليين وسائر المنتجين المباشرين. وتدريب هؤلاء ينبغي أن يحتل مقام الصدارة في هذا المجال. والتركيز على تأهيل هؤلاء المزارعين الممارسين للمهنة فعلاً ينبغي أن يقدم على تأهيل مزارعين جدد أو مزارعين محتملين قد لا يزاولون الزراعة إطلاقاً بعد إعدادهم.
والنوع الثاني من التدريب يشمل الفنيين المتوسطين والمهارات المتوسطة والمساعدين أو المرشدين الزراعيين ومديري التعاونيات وسواهم من الأفراد ذوي الكفاءات الفنية المتوسطة، هؤلاء الأفراد الذين تفتقدهم البلدان السائرة في طريق النمو، ويكادون يكونون فيها الحلقة المفقودة (بين الأطر العليا وبين العمال المؤهلين أو أنصاف المؤهلين أو غير المؤهلين إطلاقاً). والنوع الثالث يتناول الأطر العليا الإدارية والمهنية، كالمهندسين الزراعيين والأطباء البيطريين والعلماء الزراعيين والقادة الزراعيين وسواهم.
والمهم في هذه الأنواع الثلاثة من الأعداد أن تكون متكاملة، وأن ينظر إليها على أنها ضرورية للتقدم الزراعي. ومن الخطأ أن ننظر إليها على أنها مستويات ومراتب متسلسلة. فالمعرفة العلمية والمهنية اللازمة لكل نوع منها مختلفة عن النوع الآخر ومكملة له. ومع ذلك فالإهمال قد أصاب النوع الأول والثاني في معظم البلدان السائرة في طريق النمو، ولهذا يجدر أن يعطيا الأولوية في التأهيل. ولابد أن نذكر دوماً أن تحديث القطاع الزراعي التقليدي سوف يعتمد في نهاية الأمر على عدد المزارعين والمنتجين المباشرين الذين تلقوا تأهيلاً مناسباً عن طريق الخدمات التعليمية الإضافية. ومن هنا تأتي أهمية العناية بإعداد هذين النوعين في أي سياسة صحيحة توضع لتنمية القوى العاملة.
3- وفي هذا المجال لابد أن يحتل تعليم المرأة مكانة أساسية، وأن يكون أحد العوامل الرئيسية في تغيير أسلوب الحياة في المجتمعات الريفية التقليدية. ومن هنا فمن الضروري أن يعطى تعليم المرأة وتدريبها مكاناً بارزاً في البرامج التعليمية والتدريبية المخصصة لتحديث القطاع الريفي التقليدي.
4- وواضح من هذا كله أن الجهد التربوي لابد أن يتجه معظمه – أثناء الاضطلاع بمهمة تحديث القطاع الزراعي – إلى الخدمات التعليمية والتدريبية الإضافية التي تتم خارج النظام المدرسي وخارج مراحل الدراسة المألوفة.
ولابد أن يقوم جهد يهدف في النهاية إلى تحويل معظم النشاط التعليمي في المناطق الريفية من تعليم نظامي إلى تعليم غير نظامي. أي لابد من الاهتمام «بالتربية الدائمة» بالمعنى الحديث والواسع لهذه الكلمة، عن طريق التأهيل المباشر للمزارعين المنتجين، وعن طريق إعادة التأهيل والتدريب، وعن طريق تقديم المشورة والمساعدة الفنية، وعن طريق بعض التجارب الرائدة التي يقلدها المزارعون الخ.. ولا ننسى في هذا المجال أن هناك عدداً كبيراً من الأطفال، في هذه البلدان السائرة في طريق النمو، يتركون التعليم بعد إنهاء مرحلة التعليم الابتدائي أو الإلزامي. ومعظم هؤلاء الذين يتركون المدرسة أصغر سناً من أن ينضموا مباشرة للقوى العاملة، وقد تنقضي بضع سنوات قبل أن يتمكنوا من العمل فعلاً. ولابد لمواجهة المشكلة أن يعنى نظام التربية في البلد بأن يقدم لهم تأهيلاً زراعياً أولياً وأن يدربهم على نشاطات الشباب المختلفة وعلى الخدمات القومية وأساليب التنمية الاجتماعية وأساليب العمل في التعاونيات وأن يوجد لهم أعمالاً تطوعية تستهدف الحفاظ على روحهم المعنوية وتحسين التأهيل والمهارات الفنية العلمية لديهم.
5- ولابد أخيراً أن ينضاف إلى هذا كله جهد من أجل إحداث تغير شامل في البيئة الريفية والمؤسسات الاجتماعية: فبدون هذا التطوير الشامل لحياة الريف تظل جهود التربية – مهما تكن كبيرة – عاجزة عن وضع الخطة الناجحة والمجدية لإعداد القوى العاملة في الريف. ولابد أن تسير الخطة التربوية الهادفة إلى توفير الإعداد اللازم لتحديث الريف جنباً إلى جنب مع خطة أشمل تستهدف تغيير البيئة الريفية في شتى جوانبها.
وإذا لم يحدث ذلك سيجد أبناء الريف، ولاسيما الذين أنهوا التعليم الابتدائي، إن الحياة التي يدعون إلى أن يحيوها في المناطق الريفية المختلفة أقل جذباً لهم من حياة البطالة في المدن، وسوف يؤثرون بالتالي البطالة في المدن على العمل في الريف مهما تكن وعوده. ومن هنا كان من الضروري أن يتم وضع الخطة التربوية المتصلة بإعداد القوى العاملة اللازمة للريف بالاتفاق والتنسيق مع سائر الوزارات والهيئات والجهات المعنية بتطوير الريف.
هذه في نظرنا أهم الجوانب التي ينبغي أن تشتمل عليها الاستراتيجية السليمة المتعلقة بتنمية الموارد البشرية في القطاع التقليدي عامة وفي قطاع الزراعة خاصة في بلادنا. وقد أغفلنا عن قصد دور التعليم النظامي لأننا سنشير إلى هذا الدور في الجزء التالي من بحثنا، نعني الجزء المتصل بضرورة التخطيط الشامل للتربية، ولأن معظم الباحثين قد أهملوا دور التعليم غير النظامي رغم أن دوره أساسي في تنمية الموارد البشرية لاسيما في القطاع التقليدي.
ثانياً: التخطيط الشامل للتربية
واضح مما سبق أن ذكرناه أن التخطيط الشامل للموارد البشرية الذي ينبغي أن يشمل بوجه خاص القطاع التقليدي إلى جانب القطاع الحديث، لابد أن يكمله تخطيط شامل للتربية لا يقتصر على مرحلة دون مرحلة أو على نوع دون آخر أو على جانب دون سواه، بل يحقق في شتى هذه المجالات التوازن المتفق مع حاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلد. وفكرة التخطيط الشامل يمكن أن تذهب بنا بعيداً. غير أننا نكتفي بالإشارة إلى أهم معانيها:
1- إن التخطيط الشامل للتربية الذي يريد أن يستجيب لمطالب التنمية الاقتصادية والاجتماعية لابد أولاً أن يكون تخطيطاً يتحقق فيه التوازن اللازم بين أنواع التعليم المختلفة، ولاسيما بين التعليم النظري الأكاديمي والتعليم الفني والمهني.
ولن نعود ههنا إلى تلك المشكلة القديمة والمكرورة، مشكلة التعليم المهني والفني التي تعاني منها أكثر البلدان وتعاني منها البلدان العربية خاصة وسائر البلدان السائرة في طريق النمو. غير أننا وجدنا في هذا المجال أن نثبت بعض الاتجاهات التي تبدو لنا هامة في هذا السبيل:
أول هذه الاتجاهات ضرورة العناية بتكوين الأطر الفنية والمهنية المتوسطة، تلك الأطر التي تفتقدها معظم البلدان السائرة في طريق النمو والتي تكاد تكون فيها الحلقة المفقودة بين الأطر العليا وبين العمال المؤهلين وأنصاف المؤهلين وغير المؤهلين. وواضح أن تكوين هذه الأطر – في إطار المدرسة – يتم خلال مرحلة التعليم الثانوي، أي بعد السنة التاسعة من الدراسة. ولابد لهذه الغاية من تصور سليم لهذه المرحلة الثانوية (التي تبدأ حوالي الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من العمر وتمتد حتى الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة)، إن هذه المرحلة تأتي بعد مرحلة التعليم العام التي تمتد تسع سنوات والتي يحسن أن تصبح شيئاً بعد شيء مرحلة تعليم إلزامي للجميع. وينبغي أن تضم المرحلة الثانوية هذه فرعين: فرعاً عاماً، وفرعاً تقنياً، على أن يكون ثمة مجال للانتقال من أحدهما إلى الآخر بعد الانتساب إلى كل منهما، إذا تبدت لدى الطالب قابلية متأخرة. ومن الهام بعد هذا أن يؤدي كل منهما إلى التعليم العالي، وأن تفتح أبواب هذا التعليم لخريجي كل من الفرعين (ضمن حدود الاختصاصات المناسبة لكل فرع). وما لم تتم هذه الخطوة، يطل أي اهتمام نوليه للتعليم الفني والمهني اهتماماً نظرياً، ويظل حكماً في منزلة دون منزلة التعلم العام. وواضح أن كل فرع من هذين الفرعين العام والتقني يضم فروعاً متعددة تؤدي كل منها إلى شهادة ثانوية تقابله. وبهذا لا تكون هذه الشهادة ضرباً من الشهادة الثقافية العامة بل تكون شهادة كفاءة مهنية. والأفضل أن يوجد هذان الفرعان جنباً إلى جنب في مدرسة واحدة وتحت سقف واحد (المعاهد الشاملة (Comprehensive)، لأسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا. واجتناباً للهدر والضياع ينبغي أن يسمح نظام التعليم للتلاميذ الذين لا يتابعون الدراسة في هذه المرحلة حتى نهايتها – لسبب أو لآخر – أن يخرجوا بعد سنتين أو ثلاث من الدراسة مزودين بشهادة تسمح لهم بممارسة مهنة من المهن، وتجعل الفائدة منهم ممكنة في ميدان الأطر الفنية الدنيا.
وثاني هذه الاتجاهات أن التجربة في معظم البلدان السائرة في طريق النمو دلت على أن خير سبيل لإعداد الأطر المهنية والفنية المتوسطة ليست هي سبيل المدرسة والدراسة النظامية، بل هي سبيل مراكز التدريب المهني والفني المرتبطة بالمؤسسات والمصانع ومراكز العمل. ومن هنا كان من الضروري أن تقوم عناية خاصة بمراكز التدريب هذه، وألا يقل الاهتمام بها عن الاهتمام بالتعليم الثانوي الفني والعام.
وثالث هذه الاتجاهات أن من أهم عوامل التوازن بين التعليم المهني والفني وبين التعليم النظري والأكاديمي، سواء في مرحلة الدراسة الثانوية أو مرحلة الدراسة العليا، سياسة الالتحاق بكل من التعليم الثانوي والعالي والشروط التي توضع لهذه الغاية والظروف الميسرة لهذا الالتحاق. ومن الهام جداً أن تقوم سياسة الالتحاق أولاً على أساس تربوي وعلمي صحيح (عن طريق التوجيه المدرسي خاصة) وأن تبرز فيها هذه الرغبة في توسيع باب التعليم المهني والفني، وأن تيسر خاصة الالتحاق بالتعليم العالي خاصة لأبناء الطبقات الاجتماعية الفقيرة وأبناء المناطق النائية، وأن يكون وراءها دوماً الحرص على الإفادة الكاملة من احتياطي القابليات لدى جميع أبناء الشعب على اختلاف طبقاته ومنازله.
ورابع هذه الاتجاهات أن العناية بالتعليم المهني والفني ينبغي أن تبدأ منذ السنوات المبكرة من الدراسة. وبدون هذه العناية المبكرة لا تؤدي الجهود في هذا المجال نتائجها المرجوة. ونعني بهذه العناية المبكرة أن تكون مرحلة التعليم الإلزامي نفسها (وقبلها مرحلة رياض الأطفال) مرحلة تساعد على محبة العمل عامة، والعمل اليدوي خاصة منذ نعومة الأظفار، وعلى تكوين المواقف السليمة تجاه العمل والعمال، وعلى تفتيق القابليات والاستعدادات الفنية والمهنية لدى الأطفال.
وخامس هذه الاتجاهات أن تساعد سياسة الأجور التي تضعها الدولة على تشجيع الانتساب إلى فروع التعليم المهني والفني. وواضح أن هذا المطلب ضروري للتغلب على نظرة المجتمع إلى الدراسة المهنية والفنية وإلى العمل المهني عامة، تلك النظرة التي نعرف عمقها وجذورها في بلداننا وفي كثير من البلدان السائرة في طريق النمو وسواها من بلدان العالم. وتساعد على تغيير هذه النظرة أيضاً وسائل الإعلام المختلفة من جهة، وتعريف الآباء والأبناء، من جهة ثانية، بمجالات العمل المفتوحة أمام خريجي الدراسات المهنية والفنية. ولا حاجة إلى القول بعد هذا أن فقدان التوازن في بنية الأجور في بلداننا وسائر البلدان السائرة في طريق النمو عائق أساسي في طريق التقدم الاقتصادي لابد من التغلب عليه.
2- التخطيط الشامل للتربية يفترض بعد هذا قيام التوازن اللازم بين التطور الكمي والتطور الكيفي النوعي للتعليم، ويستلزم بالتالي عناية خاصة بتغيير محتوى التعليم ومضمونه في مراحل الدراسة المختلفة، نعني المناهج وطرائق التعليم والوسائل التعليمية والإدارة التربوية وسواها. ويطول بنا الحديث إن أردنا أن نتريث عند هذا الموضوع الهام، موضوع تطوير محتوى التربية بحيث يلائم حاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وحسبنا أن نذكر بهدفين أساسيين من أهداف هذا التطوير:
أولهما أن يهدف تطوير المناهج والطرائق التعليمية إلى الاستجابة لمتطلبات التنمية في البلدان السائرة في طريق النمو، وإيجاد علاقة أوثق بين محتوى التعليم وبين حاجات الاقتصاد وحاجات القوى العاملة.
وثانيهما أن يستهدف التغيير في بنية المناهج والطرائق وفي شكل إعداد المعلمين وفي بنية الإدارة ووظائفها، زيادة فعالية (Efficiency) النظم التعليمية، أي زيادة مردودها الداخلي من جهة (زيادة أعداد الطلاب الذين يدرسون ويتخرجون، عن طريق القضاء على الإهدار وعن طريق اتباع أساليب تعليمية أجدى تؤدي إلى تعليم عدد أكبر بجهد أقل ونفقات أقل ومعلمين أقل الخ..). وزيادة مردودها الخارجي من جهة ثانية (تخريج الأشخاص المزودين فعلاً بالمهارات والمعارف اللازمة لسوق العمل ولأغراض التنمية) وقد يستلزم الأمر في هذا المجال تحقيق ثورة تربوية كاملة، هي التي يبشر بها رواد التربية في العالم ويدعونها باسم «الثورة التكنولوجية» في التربية. وهي ثورة تريد أن تعيد النظر إعادة كاملة وجذرية في بنية التعليم وطرائقه ووسائله وإطاره. ولا سبيل إلى تفصيل الحديث عنها ههنا. وواضح أن من أهداف هذا التطوير – إلى جانب زيادة إنتاجية النظام التعليمي وربطه بحاجات التنمية – تخفيض كلفة التربية والمساعدة بالتالي على إيجاد مخرج للصعوبات المالية التي تواجهها أمام التزايد الكبير في أعداد الطلاب وأعباء التعليم.
3- التخطيط الشامل للتربية يعني فوق ذلك كله وقبل ذلك كله تحقيق التوازن اللازم بين مراحل التعليم المختلفة من جهة، وبين التعليم النظامي والتعليم غير النظامي من جهة ثانية. أما التوازن بين مراحل التعليم النظامي (من مرحلة رياض الأطفال إلى مرحلة التعليم الإلزامي العام إلى مرحلة التعليم الثانوي إلى مرحلة التعليم العالي) فلا نريد أن نتوقف عنده، لأن مجاله غير هذا المجال. أما الذي يعنينا أن نتوقف عنده – ضمن إطار بحثنا عن تنمية الموارد البشرية من أجل أغراض التنمية العامة – فهو التوازن بين التعليم النظامي والتعليم غير النظامي.
ونظرتنا في هذا المجال لا تكتفي بان تولي هذا التعليم غير النظامي (محور الأمية – تعليم الكبار – التدريب أثناء المهنة – التدريب عن طريق مراكز التدريب – إعادة التأهيل… الخ) أهمية لم تمنح له بعد في معظم البلدان، ولاسيما في البلدان السائرة في طريق النمو، بل هي نظرة تريد أن تنطلق من انقلاب شامل وكامل في مفهومنا للصلة بين التعليم النظامي والتعليم غير النظامي. ويحدد هذا الانقلاب الشامل مفهوم «التربية الدائمة» الذي ذاع في السنوات الأخيرة واتخذ شأناً خاصاً.
إن هذا المفهوم لا يكتفي بالتوقف عند أهمية تعليم الكبار ومحو الأمية الوظيفي أو غير الوظيفي، وعند أهمية التدريب بأشكاله المختلفة. بل يرى أن الحدود والسدود ينبغي أن تزول نهائياً بين هذين النوعين من التعليم النظامي والتعليم غير النظامي، بحيث يصبح ما هو غير نظامي نظامياً بل نظامياً أكثر من تربه الآخر.
إن منطلق فكرة التربية الدائمة هو أن التعليم النظامي الذي يتم في مراحل التعليم المعروفة – بدءاً من رياض الأطفال حتى نهاية التعليم العالي – ينبغي ألا ينظر إليه على انه الجزء الأساسي والأهم في عملية التربية والإعداد للقوى العاملة. بل ينبغي على العكس أن ينظر إليه على أنه جزء صغير من تعليم مستمر، يتم أكثره وأحسنه عن طريق ما اعتبر حتى الآن تعليماً غير نظامي، من مثل تربية الكبار والتدريب أثناء المهنة وإعادة التأهيل والتدريب عن طريق مراكز التدريب، وغير ذلك. إنه يرى في مراحل التعليم النظامي المألوفة جزءاً ومقدمة لتربية وإعداد يستمران طوال مراحل العمر.
ومثل هذه النظرة تنطلق من مبررات عديدة أهمها:
(1) إن اتساع المعارف وتكاثرها من جهة وتقادم هذه المعارف بسرعة من جهة ثانية، يجعلان من المستحيل أن نقدم اليوم لأي إنسان مرة وإلى الأبد، على مقاعد الدراسة، كل ما سيحتاج إليه في مستقبل حياته المهنة الطويلة. ولابد بالتالي أن نجدد التعليم والتدريب الذي نقدمه له تجديداً مستمراً متصلاً، بحيث يتكيف مع مستلزمات العلم المتجدد أبداً والمهارات الفنية المتطورة دوماً. فمن المستحيل في عصرنا، مهما تطل سنوات الدراسة، أن نحيط بكل ما يمكن أن يحتاج إليه المتعلم من معارف ومهارات.
(2) إن حاجات الانتقال المهني – تبعاً لضرورات الاقتصاد وحاجات سوق العمل – جعل من اللازم أن نيسر للمتعلم إمكان الانتقال من مهنة إلى مهنة ومن اختصاص إلى اختصاص آخر قريب منه، وذلك عن طريق إعادة التأهيل والتدريب.
(3) إن مبررات الانتفاع بالقوى العاملة أطول مدة ممكنة تجعل من الضروري ألا نطيل عزل المتدرب عن سوق العمل وحبسه في دراسة طويلة تستغرق منه الوقت ومن سوق العمل جزءاً كبيراً من قواها.
ومعنى هذا كله أن ما يدعى باسم التعليم النظامي ينبغي أن يقتصر على أساسيات العلوم وأساسيات المعارف، وأن يترك ما عدا ذلك لسائر أشكال التعليم والتدريب خلال العمل، أي لسائر أشكال التربية الدائمة. إن المعرفة الموسوعية والمعلومات الزائدة أمور لابد أن تهجر مقاعد الدراسة، عندما نرى في التعليم الذي يقدم خلالها مجرد أساس عام ضروري لتدريب سوف يستمر لإعادة تأهيل متصل، ولتربية دائمة.
بل إن سنوات الدراسة وساعات الدراسة الأسبوعية وأيام الدراسة السنوية أمور لابد أن يعاد النظر فيها على ضوء هذا المفهوم الجديد، بحيث يمكن التخفيف منها وتطويرها حسب المنطق الجديد، وتحقيق تداخل بينها وبين سنوات العمل.
ويقول موجز، لا توجد حدود فاصلة بين التعليم النظامي والتعليم غير النظامي. وعملية التعليم والإعداد عملية متصلة مستمرة، تأخذ أشكالاً مختلفة، على مقاعد الدراسة حيناً، وفي المصانع والمؤسسات حيناً آخر، وفي الحقل والمزرعة حيناً ثالثاً.
وواضح أن الجمع بين الدراسة والعمل في مرحلة التعليم الثانوي ثم في مرحلة التعليم العالي خاصة، يكون جزءاً متمماً لهذا المفهوم. فالتعليم العالي مثلاً لا يقتصر في مثل هذا المفهوم على الطلاب الذين تخرجوا من الدراسة الثانوية، بل يهتم بجميع أفراد القوى العاملة القادرين على متابعة الدراسة، من اجل إعدادهم أو تحسين إعدادهم. وكلنا يعلم أن مثل هذا النظام قائم اليوم في العديد من الدول وقائم في الاتحاد السوفياتي على نطاق واسع. وهو جدير بأن يعمم من اجل رفع مستوى الكبار وتحسين كفاءاتهم باستمرار.
على أن أهم ما في فكرة التربية الدائمة أنها تقدم حلاً موفقاً وعملياً لمشكلة الربط بين حاجات التربية وحاجات القوى العاملة، أي بين مقدار ما يخرجه نظام التربية من أفراد مؤهلين ومختصين وبين ما تحتاج إليه سوق العمل من هؤلاء الأفراد. وكلنا يعلم أن من العسير تحقيق هذا الربط بين الميدانين من خلال النظام التربوي التقليدي. ذلك أن للتنبؤات التي تقوم لتقدير حاجات المجتمع في السنوات المقبلة من مختلف أنواع المهن تلقى صعوبات فنية عديدة نعرفها جميعاً: وأبرز هذه الصعوبات تغير حاجات سوق العمل تغيراً كبيراً خلال عدد ضئيل من السنوات في عصر سريع التغير وفي مجتمع يخضع لعوامل التطور العديدة. وأهم ما في فكرة التربية الدائمة أنها تجد جواباً لهذه الصعوبة الأخيرة، فنجعل الانتقال المهني ممكناً وتغيير الاختصاص ممكناً، في تربية تقدم على مقاعد الدراسة الأساسيات الصالحة لعدد كبير من الاختصاصات، وتقدم بعد ذلك التدريب وإعادة التدريب اللازمة لكل فرد من أجل ممارسة مهنة معينة.
وواضح أن مفهوم محور الأمية الوظيفي.. يتخذ مكانه البين ضمن إطار هذه «التربية الدائمة». ويكتسب من خلالها نوراً جديداً ومعاني جديدة. إنه يرتبط عند ذلك بمفهوم شامل متكامل للتربية والإعداد، يجعل منهما عملية مستمرة تتم على مقاعد الدراسة كما تتم خلال أنواع التدريب المختلفة وسائر أشكال تربية الكبار. وفي مثل هذه النظرة يتخذ «محو الأمية الوظيفي» معنى واسعاً، فلا يقتصر على محور الأمية بالمعنى الضيق للكلمة، ولا يقتصر على تقديم الإرشاد الفني والتدريب الفني للمنتجين المباشرين أثناء قيامهم بالإنتاج، بل يشمل كل ما يتعلق بأنواع التدريب والإعداد اللازمة للحلو محل المدرسة النظامية (بالنسبة إلى أولئك الذين لم تتح لهم فرصة التعليم) أو لإكمال عمل المدرسة النظامية (بالنسبة إلى أولئك الذين انقطعت بهم سبل الدراسة ولم يكملوها لسبب من الأسباب) أو لمتابعة عمل المدرسة النظامية وتطويره وتجديده (بالنسبة إلى أولئك الذين أكملوا الدراسة النظامية). فالأمية أشكال ومراتب، وإزالتها في جميع هذه الأشكال والمراتب ينبغي أن يكون عملاً متكاملاً، إذا أردنا حقاً أن نربط بين محو الأمية هذا وبين متطلبات التنمية، أي إذا أردناها أن تكون «وظيفية».
ثالثاً: التخطيط من أجل الاستخدام والعمالة:
ولننتقل الآن إلى المسألة الثالثة والأخيرة من المسائل التي ينبغي أن يلتفت إليها تخطيط القوى العاملة، مرتبطة بحاجات التنمية الفعلية في البلدان العربية وفي سائر البلدان النامية، نعني بها مسألة التخطيط من أجل الاستخدام والعمالة. ذلك أن لمشكلة تخطيط القوى العاملة وجهين لا يجوز إهمال ثانيهما كما يجري عادة: الأول هو تهيئة الأشخاص اللازمين لسوق العمل، والثاني إيجاد فرص عمل لسائر أفراد القوى العاملة. لقد احتلت العناية بالمطلب الأول مقام الصدارة في تخطيط القوى العاملة لدى معظم البلدان ولدى البلدان السائرة في طريف النمو. وهذا أمر حق في مراحل النمو التي تمر بها هذه البلدان والتي تحتاج فيها إلى أعداد كبيرة من الاختصاصيين والخبراء في شتى مجالات النشاط الاقتصادي والاجتماعي. غير أن العديد من هذه البلدان، ما لبث أن أخذ يشكو – كما رأينا – من بطالة كبيرة في أوساط المثقفين أنفسهم، ومن فيض حتى في كبار الخبراء والاختصاصيين الفنيين. بحيث قام تناقض ظاهر بين قولنا بضرورة الإكثار من أعداد الاختصاصيين والفنيين وبين استخدامنا الفعلي لهم، وبحيث تعرضت كثير من البلدان لهجرات الأدمغة (لهذا السبب ولأسباب أخرى).
ويصعب هنا أيضاً أن نتحدث بالتفصيل عن معالم السياسة التي تريد أن تأخذ بعين الاعتبار عامل الاستخدام هذا في تخطيطها للقوى العاملة ونكتفي بالإشارة إلى أهمها:
1- ظاهر البطالة بين المثقفين خاصة تستلزم العزوف عن سياسة التوسع العمياء وغير الهادفة في التعليم.
فمن الثابت أن التوسع المذهل الذي تم في التعليم في كثير من البلدان السائرة في طريق النمو في السنوات الأخيرة قد فاق معدل النمو في فرص العمالة. ويمكن القول أن مردود التربية قد ارتفع بمعدل يتراوح بين 5% و15% في كل سنة (تبعاً للبلدان المختلفة) بينما ارتفع معدل العمالة المأجورة أقل من 2% في معظم الأحوال. وهكذا ولدت ظاهرة «بطالة المتعلمين»، هذه الظاهرة التي شملت في كثير من البلدان (كالجمهورية العربية المتحدة والهند وبعض بلدان أمريكا اللاتينية) المستويات العليا في الهرم التربوي.
ومن العسير أن نشير ههنا إلى السياسة التعليمية الصحيحة التي تساعد على مواجهة هذه المعضلة. وحسبنا إن نقول أن قوام الحل، من الوجهة العلمية، لا يثوى في تضييق باب دخول التعليم، بل في التوزيع الصحيح للطلاب على فروع التعليم. والمسألة أولاً وآخراً هي مسألة الأولويات ضمن النظام التعليمي.
ولاشك أن الأولوية فيه ينبغي أن تعطي لتلك الأنواع من التعليم ذات الأهمية الحاسمة في التنمية والتي لا تشكل هدراً أو هدراً كبيراً على الأقل.
إن العمالة إحدى وظائف التنمية الاقتصادية، وإن حدوث أي بطالة أو بطالة جزئية إنما يعود إلى خلل وتشويه في عملية التنمية نفسها.
وكلنا يعلم أن ثمة تناقضاً في البلدان السائرة في طريق النمو بين الحاجة إلى زيادة إنتاجية العمل باستخدام وسائل إنتاج حديثة وبين ما تؤدي إليه هذه الزيادة. ومن العسير إيجاد حل سريع لهذه المعضلة، غير أن من الممكن في نظرنا أن يتم اللجوء خلال مرحلة أولى من التنمية إلى حل وسط، أي إلى ما يدعى بالتكنولوجية المتوسطة، وهي شيء بين الطرائق التقليدية والتكنولوجيا الحديثة، يؤدي إلى استخدام موارد بشرية أكبر ويزيد من فعالية العمل وإنتاجيته في الوقت نفسه.
على أن من أهم أسباب البطالة في البلدان النامية سبب لا يعود إلى التربية ذاتها، بل هو نتيجة النمو الاقتصادي البطيء الذي يزيده حدة التفجر السكاني المريع.
ومن الجدير أن نلاحظ ههنا أن التربية لا تؤدي في الواقع إلى البطالة، بل تغير من نوعية البطالة حين تحول المتعطلين غير المتعلمين إلى متعطلين متعلمين. وكثيراً ما تكون التربية بهذا المعنى وسيلة لتأجيل البطالة. بل إن بعضهم عرّف التعليم العالي في مثل بلداننا بأنه السبيل لتأجيل البطالة عدداً من السنوات.
والحق أن التربية تستطيع أن تلعب دوراً إيجابياً في زيادة العمالة، غير أنها لا تقوى على ذلك إلا بالتعاون مع خطوات أخرى وتدابير أخرى لابد أن تتم في مجال الاقتصاد، وعلى رأسها الاستثمار في القطاعات المنتجة مباشرة.
2- إن إحداث انقلاب شامل في التربية، وإدخال مفهوم «التربية الدائمة» خاصة، من شأنهما، في نظرنا، أن يقدما حلاً ناجحاً لمشكلة البطالة، بالإضافة إلى فوائدهما الأخرى. وأهم ما في هذا المفهوم كما رأينا الربط الوثيق بين العمل والمدرسة، بحيث يزول الطلاق التقليدي بين المدرسة والحياة، بين ما تخرجه التربية وبين حاجات السوق.
يضاف إلى هذا أن «الثورة التكنولوجية» في التربية وضمنها التربية الدائمة، تساعد على زيادة إنتاجية النظام التربوي وتخفيض نفقاته العاجلة والآجلة، وتضمن للمجتمع وفراً هاماً في هذا المجال يمكن أن يستغل لإيجاد فرص العمالة.
ولا نزعم أن هذه الصورة التربوية المنشودة عصا سحرية في وسعها أن تغير البلاد والعباد بين عشية وضحاها، غير أننا نرى أن اقتحامها أمر لا مفر منه إذا أرادت الدول السائرة في طريق النمو أن تتغلب على مشكلاتها التربوية المتزايدة، ولاسيما ما اتصل منها بتزايد الموارد المالية المخصصة للتربية وبتزايد أعداد الخريجين العاطلين.
وبعد،
هذه لمسات، رقيقة وإطلالة عابرة على موضوع دقيق شائك مترامي الأطراف. ولعل كل مسألة من المسائل التي أثرناها تستلزم وحدها بحثاً برأسه. ولعلنا طرحنا من المشكلات أكثر مما قدمنا من حلول. غير أن طرح المسألة نصف الحل كما يقول المثل اللاتيني.

أهم مصادر البحث
1- معهد التخطيط القومي: تخطيط القوى العاملة في الجمهورية العربية المتحدة، نوفمبر 1966.
2- مجلس الإعمار الأردني: دراسة القوى البشرية للمؤسسات المنتظمة. حزيران 1965.
3- أن . ك . ناير: مسح لاحتياجات ليبيا من الطاقات البشرية والفنية والمهنية والعمال المهرة خلال السنوات 1964 – 1969. وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، أكتوبر 1964.
4- الدكتور صلاح الدين الشيخلي: تخطيط القوى العاملة في العراق، مطبعة الحكومة، بغداد 1969.
5- وزارة التخطيط: أسلوب التنسيق بين التخطيط التربوي والتخطيط الاقتصادي. وزارة التخطيط بالجمهورية العراقية. تموز 1969.
6- الخطة الخمسية الثانية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في سورية 1966 – 1970 هيئة تخطيط الدولة، دمشق 1967.
7- الخطة الخمسية الثالثة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في سورية 1971 – 1975، هيئة تخطيط الدولة، دمشق 1967.
8- المجموعة الإحصائية لعام 1968، المكتب المركزي للإحصاء، الجمهورية العربية السورية.
9- تقدير حجم الأفراد العلميين والمهنيين خلال الأعوام 1967 – 1975. المكتب المركزي للإحصاء. الجمهورية العربية السورية.
10- التركيب الطبقي للريف العربي السوري. مذكرة رقم (47) صادرة عن هيئة تخطيط الدولة، حزيران 1969.
11- أحمد زين الدين: بعض الخصائص السكانية في الجمهورية العربية السورية، وزارة التخطيط، كانون الثاني 1966.
12- النشرة الإحصائية السنوية لوزارة الشؤون الاجتماعي والعمل، لعام 1968، دمشق، تشرين الثاني 1969.
13- نشرة إحصائية عن نتائج إحصاء المشتغلين في مؤسسات القطاع الخاص. المملكة العربية السعودية – وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، 1968 (الجزء الأول والثاني).
14- النشرة الإحصائية السنوية الأولى، المملكة العربية السعودية، وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، 1387هـ.
15- Liban : Prévisions sur les besoins en main d`oeuvre et les besoins en formation. Document Preparé pour le seminaire OCDE – INAD. Byrouth, 14-21 Novembre 1966.

16- Manpower Aspects of Educatioal Planning. Unesco, 1`I.E.P., 1968.