هل العرب على مفترق مصيري جديد؟مسيرة الحركة العربية في 70 عاماً

مجلة الأسبوع العربي العدد /620/ – 26 نيسان – 1971
هل العرب على مفترق مصيري جديد؟
مسيرة الحركة العربية في 70 عاماً
بعد إعلان اتحاد الجمهوريات العربية ما هي الطريق الذي سارت فيه الحركة العربية؟ إن مسيرة الحركة العربية لم تكن كلها، منذ أوائل هذا القرن حتى اليوم، هزائم، ولم تكن كلها انتصارات. كانت حافلة بالآمال، كما كانت مفعمة بالخيبة.. ثلاثة من المفكرين الذين رافقوا هذه المسيرة يلقون نظرة تقويم: عبد الله عبد الدائم: مفكر سوري له عدة مؤلفات عن القضية العربية، منح الصلح، كاتب لبناني شارك ولا يزال في مقالات تعالج شؤون النضال العربي وشجونه، هنري كنت، محام فلسطيني ومؤلف، يعكف حالياً على إعداد تاريخ شامل للجانب القانوني الحقوقي من القضية الفلسطينية.
تحقيق بقلم محمود سويد
– هل الذي تحقق في مستوى الآمال، أم هو مدعاة للخيبة؟
– هل ستستمر قضية فلسطين عامل تفجير في الحياة العربية؟
– هل يمكن تجاوز الجامعة العربية نحو علاقات أكثر تطوراً؟
– هل كنت تتصوّر شكلاً مختلفاً للمراحل العملية التي مرت فيها الحركة العربية؟
عبد الله عبد الدائم:
المعركة الأساسية هي في وعي الوجود العربي لذاته وإدراكه أهمية خاصة
التاريخ لا يتوقف عند المناسبات ليحتفل بها، ولكن الناس هم الذين يتوقفون، ليحتفلوا أو ليحاسبوا. أما التاريخ فيمضي، فقيراً أو يتحدد بإرادة صانعيه، ثم ينسلخ عنها فيبدو شخصية معنوية مستقلة، يحاكمها الآخرون، كما لو كانت بالفعل، منفصلة عنهم.
في مراحل بناء كيان الأمة، تتداخل مراحل التاريخ وتتقاطع. تقف على رأس مرحلة لتلقي نظرة على الماضي، فإذا بالماضي قريب حتى اليوم، فسبعون سنة هي سبعة عقود. بين 1900 و1971 هل تحقق شيء؟ ما هو حساب الخسائر والأرباح؟ ما هي حصيلة حقبة من تاريخ هذه المنطقة، التي لا تزال تكتب تاريخها حرفاً حرفاً وكلمة كلمة، تصنعه بالإرادة الواعية حيناً، وبالإرادة المختنقة قهراً، حيناً آخر، بالدم والعرق والجهد في كل الأحيان.
لقد تحقق الكثير في حساب الأرباح: تفجرت اليقظة القومية في أوائل القرن، واستقلت الدول العربية، وقامت الجامعة العربية على مستوى ما تحقق. قامت ثورة مصر عام 1952 وتحققت وحدة مصر وسورية عام 1958 وقامت ثورة العراق في تموز من العام نفسه، ومحاولة الوحدة الثلاثية (مصر، سورية، العراق) عام 1963 ومشروع الاتحاد الرباعي عام 1970 (مصر، سورية، ليبيا، السودان)… وتخلل ذلك لقاءات عربية في إطار الجامعة أو خارجه، عسكرية واقتصادية وثقافية.
وتحقق الكثير أيضاً في حساب الخسائر. أبرزه، محطات ثلاث: الهزيمة الفلسطينية عام 1948، والهزيمة العربية عام 1967 وبينهما سقوط وحدة مصر وسورية عام 1961.
هذه «الجردة» السريعة، هي 70 سنة من تاريخ العرب. من على قمة هذه الحقبة، وفي منعطف من أكثر منعطفات التاريخ العربي دقة وخطورة، يحاول ثلاثة مفكرين إلقاء نظرة تقويم على حصيلة هذه المرحلة: هل الذي تحقق في مستوى الآمال، أم هو مدعاة للخيبة؟.. ما هي العقبات التي حالت دون تطور أكثر إيجابية في مسيرة الوحدة العربية؟
الأمة والحركة القومية
تاريخ أية قضية قومية هو تاريخ النضال المتصل في سبيل نقل الوجود القومي من إطار المشاعر إلى حيز الواقع. ذلك أن حياة الأمة ومقومات بنيتها وتكوينها، غير أنه غير متحقق بعد في واقعها السياسي وكيانها المادي. بكلمة أخرى، هنالك الأمة الموجودة من حيث المبدأ دوماً وأبداً، وهنالك الحركة القومية التي تجد لتحيل هذا الوجود بالقوة إلى وجود بالفعل.
وهنالك دون شك علاقة جدلية وصلة تأثر وتأثير متبادلين بين الأمة كوجود ضمني، وبين القومية التي تناضل لقلب هذا الوجود الضمني إلى واقع فعلي تجسده كيانات سياسية واقتصادية وثقافية. فمن شأن النضال القومي حين يعمق ويشتد أن يبرز وجود الأمة الضمني ويظهره ويؤكده، كما من شأنه حين يغفو ويركد أن يطمسه ويشكك فيه. كذلك من شأن الوجود الأصيل الضمني للأمة حين يكون عميق الجذور والمقومات أن يحرك العمل القومي ويشحذه ويغذيه، كما من شأنه، حين يكون واهياً ضعيف المنبت والأصول، أن يعطل حركة العمل القومي وأن يبطل أثرها.
فالقومية ليست شيئاً موجوداً ما علينا إلا أن نكشفه، ولا هي في مقابل ذلك أسطورة يكفي أن نخلقها لنخلق وجود الأمة. والحق بين هذا وذاك، أي أن القومية عمل ونضال في سبيل تحقيق ما هو موجود في حيز الإمكان، كما أن وجود الأمة الضمني ووجود مقوماتها أصلاً هو المبرر الأساسي والعامل الرئيسي في نجاح ذلك العمل والنضال.
وتاريخ اليقظة العربية هو تعبير عن هذه العلاقة الجدلية بين الأمة العربية ككيان أصيل موجود ضمناً، وبين الفكرة القومية والنضال القومي من أجل قلب هذا الوجود إلى كيان فعلي.
ويتابع الدكتور عبد الدائم قائلاً:
غير أن حركة اليقظة العربية حسبت حتى الآن أن النضال القومي في سبيل تجسيد وجود الأمة العربية – وهو وجود أصيل له مقوماته التي لا مراء فيها – يقتصر على النضال السياسي، دون سواه من أشكال النضال الفكري، أو يغلب هذا النضال السياسي – على أقل تقدير – على سواه من صور النضال وينسى ما عداه وما وراءه.
هذا هو المعنى البعيد الثاوي وراء الثورة العربية الكبرى، ووراء إنشاء الجامعة العربية، بل وراء الوحدة بين مصر وسورية ووراء الاتحاد الرباعي إلى حد بعيد.
صحيح أن هذه الحركات القومية أرادت أن تجسد سياسياً، وفي إطار الكيانات السياسية، نضالاً أوسع نطاقاً تم على المستويات الفكرية والثقافية. غير أن من الصحيح كذلك أن الوزن الذي أعطته لذلك النضال الفكري والثقافي كان هزيلاً، وأنها لم تمنحه دوره الفعال خاصة بعد قيام الكيانات السياسية. ولهذا كانت هذه الكيانات السياسية كيانات عابرة تعيش ما عاشت بعض العوامل والظروف السياسية الحادة التي أدت إلى خلقها. وكثيراً ما قادت إلى تراجع مؤقت في مستوى الوعي القومي الذي ينبغي أن يكون في الأصل محركها ودرعها.
من هنا كانت مهمة الحركة القومي العلمية والصادقة أن تعتبر العمل القومي نضالاً يومياً متصلاً، لا في سبيل إيجاد الكيانات السياسية المجسدة للفكرة القومية فحسب – وهي كيانات تظل إلى حد كبير نوعاً من البنى الفوقية- بل في سبيل القيام بجهد متآخذ متكامل يجعل من الأسس الفكرية موقداً يغذي العمل السياسي المباشر ودعامة تثبت أقدامه، كما يجعل من الوحدات السياسية مناخاً ملائماً لانطلاق النضال الفكري والسعي الثقافي.
صحيح أن هنالك ظروفاً سياسية واقعية يجدر اغتنامها في سبيل التعجيل بالحركة القومية وإيجاد المتكآت المادية لوثبتها. وصحيح أن وراء كثير من الحركات القومي في العالم عوامل سياسية ساعدت على تشكيلها وتجسدها. غير أن من الصحيح كذلك أن الكيانات القومية التي استطاعت أن تعمر وتعيش هي تلك التي سبقت نشأتها السياسية ورافقتها ولحقت بها إرهاصات فكرية وجهود ثقافية واجتماعية حددت المعنى الواقعي لتلك الكيانات وبينت أبعادها ورسمت استراتيجية مسيرتها. وإذا كان من الخطأ أن نهمل دور العوامل السياسية في خلق الوحدات القومية، فمن الخطأ أن ننسى أن تلك العوامل السياسية تعمل وتفعل وتبقى بمقدار ما في قلبها من وعي عميق للأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتلك الوحدات، وبمقدار ما يرافق ظهورها تحديد واضح لأهدافها ورسم بين لطريق سيرها.
نحو أسلوب علمي عقلاني
يجيب عبد الله عبد الدائم:
لقد أسهمت هذه المشكلة القومية الكبرى دون شك في تفتيح الوعي القومي وفي إبراز أهمية خلق الكيان العربي الموحد بوصفه رد الفعل الطبيعي على التحدي الصهيوني الذي يهدد وجود الأمة العربية وينذرها بالفناء. ولكن هذا الإسهام ظل إلى حد كبير ذيلاً وتابعاً للأحداث السياسية الآنية المباشرة، ولم يرق – بشكل كاف. إلى أن يخلق وعياً قومياً مقيماً يجاوز فصول المسرح السياسي المقطعة. ولو لم يكن الأمر كذلك، لوجب أن نشهد حتى قبل ظهور الكيان الإسرائيلي، وبشكل حتمي بعده، خطوات جادة في سبيل خلق الكيان العربي الموحد، القادر وحده على مغالبة الوجود الصهيوني الذي جاء ليلغيه ما دام هذا الوجود الصهيوني لا يستقيم ما استقامت إمكانات الوجود العربي. أو ليس هذا التلكؤ الذي نشهده لدى الوجود العربي في لم شتاته، أوضح دليل على أن الفكر القومي والوعي القومي واستراتيجية النضال القومي أمور ما تزال مقصرة عن الشأو المطلوب، وأنها تتحرك كرد فعل سطحي للتحركات السياسية اللاهثة والمقطوعة الأنفاس؟ أو ليس في تعثر العمل السياسي الخاص بالقضية الفلسطينية وفي حيرته وموسميته دلائل على ضعف الوعي الفكري والتنظيم الاجتماعي والنضال العقلاني وسواها من العوامل التحتية العميقة التي تمنح لذلك العمل السياسي معانيه واستمراره وتضع له أهدافه المتصلة وترسم له سبله الفعالة؟
ولعل إفلاس هذا الأسلوب في معالجة القضية الفلسطينية هو الذي سيساعد في المستقبل على توليد الأسلوب العلمي العقلاني، الذي يربط ربطاً وثيقاً بين العمل السياسي والحربي من جهة وبين النضال الفكري والاجتماعي الذي يجعل تعميق الوعي القومي وتحديد معانيه وسبله الوسيلة المثلى لتحريك الوجود العربي كله ضد الوجود الدخيل.
فالمعركة الأساسية بين العدو الصهيوني وبين الأمة العربية معركة يحددها مدى قدرة الوجود العربي على وعي ذاته وإدراك أهميته وحدته. والسلاح الرئيسي الذي تشهره الصهيونية في وجه البلاد العربية هو السلاح الذي يهدف إلى تفتيت كيانها وإلغاء دور وجودها المترابط الموحد. وعندما يصبح الوعي القومي في منزلة الإدراك لمعنى المصير المشترك وأبعادها ونتائجه وأساليب السعي له، يستطيع كيان البلاد العربية أن ينتفض إرادة وعلماً وخبرة وتخطيطاً في سبيل الدفاع عن ذاته وتثبيت وجوده.
الجامعة العربية: حافز أم عائق؟
بين الأمور الكثيرة التي يختلف فيها العرب، موقفهم من الجامعة العربية. لقد كانت طيلة ربع قرن الأكثر ثباتاً واستمراراً في العلاقات العربية. اعتبرها البعض الحد الأدنى الذي لا بد من استمراره في غياب أشكال من العلاقات أكثر تطوراً. واعتبرها آخرون عائقاً في طريق ولادة مثل هذا الأشكال.
هل تعتقد بإمكان تجاوز الشكل الراهن للعلاقات العربية كما يتمثل في الجامعة ضمن المعطيات الراهنة للوضع العربي؟..
يقول عبد الدائم:
إن العلاقات الراهنة بين الدول العربية – كما تتمثل في الجامعة العربية – علاقات غير فعالة، بل مناقضة للتصور الذي رسمناه لحركة النضال القومي. والإبقاء عليها يعني الإبقاء على أضعف شكل للعمل العربي في الظروف المصيرية القائمة أما إمكان تجاوز هذا الشكل، فرهن بما يتفتح عنه الوعي القومي من جدية وروح واقعية وعلمية.
لقد حملت الجامعة العربية منذ ولادتها حتى الآن نكبات قومية كبرى، عجزت عن مواجهتها على الصعيد السياسي. ولم تفلح في الوقت نفسه في تحريك الوجود القومي من منطلقاته الفكرية والثقافية والاجتماعية العميقة. وكانت في معظم الأحيان ملجأ لتبرير العجز وإعطائه صيغة شرعية، بدلاً من أن تكون تحدياً لنقاط الضعف في العمل العربي وبناء لأسس جديدة في النضال القومي. وفاتها أن تستخلص بوضوح وجرأة الدرس الأكبر من معاناتها للعمل العربي، نعني إدراك أهمية الجهد الثقافي المتصل كأساس للحركة القومية العربية وكموجه رئيسي للجهد السياسي. ورضيت أن تكون محصلة لحيرة العمل السياسي وتعثره، بدلاً من أن تكون عقلنة علمية وثقافية لذلك العمل، ترسم له أطره وتمده بوسائل السير وتصل جهوده المتقطعة وتضعها في قناة منهج متكامل للنهضة القومية العربية.
ولهذا فهي مدعوة – إن أرادت ألا تبقى على هامش النضال القومي – أن تنقلب إلى دماغ مفكر يهب للعمل القومي عمقه العلمي والفكري والاجتماعي، ويساعد العمل السياسي على تبين أهدافه ووسائله، بما يقدمه من نظرة شاملة متكاملة إلى مقومات النضال القومي وأساليبه.