البلدان السائرة بطريق النمو وطريقها إلى التقدم

مجلة الوعي الباكستانية – العدد /11/ – أيلول / سبتمبر 1969
البلدان السائرة بطريق النمو وطريقها إلى التقدم
الدكتور عبد الله عبد الدائم
لعل الهم الأول بل الأوحد للبلدان السائرة في طريق النمو – أمام ما تشهد وترى من تسارع التقدم وجبروته في البلدان المتقدمة – إن تسائل عن الشروط اللازمة للنمو والتقدم، وعن العوامل التي تمكنها من اللحاق سريعاً بالركب المتقدم في سيره.
وهذا التساؤل طبيعي لأسباب عديدة بديهية. على إننا نذكر من بينها أهمها في نظرنا:
1- هنالك دون شك طابع عام شامل يسم عصرنا كله، ويجعل منه عصر التنمية. ولا نغلو إذا قلنا إن التسابق بين الدول يرتد أخيراً إلى التسابق من أجل التنمية، وإن الخلاف بين المذاهب والعقائد والنظم يرجع في النهاية إلى هذه التنمية.
2- وهنالك بعد ذلك – بل قبل ذلك بالقياس إلى البلدان السائرة في طريق النمو – شعور هذه البلدان شعوراً متزايداً يوماً بد يوم بالهوة الكبرى المتعاظمة القائمة بينها وبين الدول المتقدمة. وهذه الهوة تزداد اتساعاً وعمقاً كلما سار الركب، بحيث يصدق أن نقول أن التقدم يقود إلى مزيد منه وإن التخلف يلد التخلف.
فالتقدم يتمّ ويسير وفق متوالية هندسية كما يقول الرياضيون. والتخلف بدوره يقيم عقبات كأداء أمام محاولات التغلب عليه، لاسيما في البلدان التي تعرف تفجراً سكانياً كبيراً، شأن معظم البلدان المتخلفة والسائرة في طريق النمو. وكأن حكمة الإنجيل الشهيرة تنسحب على هذا الميدان كما تنسحب على سواه: “الذي له يعطي ويزاد، والذي ليس له يؤخذ منه”. ولا أدل على ذلك من أن الجهود العديدة القومية والدولية التي بذلت في البلدان المتخلفة والسائرة في طريق النمو من أجل مزيد من التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لم تنجح في السنوات العشر الأخيرة حتى في إبقاء متوسط الدخل الفردي في هذه البلدان ثابتاً، وظل الواقع قاسياً رهيباً يشهد على انحدار متوسط هذا الدخل في معظم تلك البلدان.
والأمر أدهى وأمر إذا استمعنا إلى صوت النبوءات التي ترهص بها الدراسات التي شاعت وذاعت أيامنا هذه، والتي تعنى بدراسة المستقبل والتنبؤ به من أجل توجيهه والقبض على ناصيته. ونعني بتلك الدراسات ما يعرف باسم التحسب prospective. إن هذه الدراسات، حين تعرض علينا صورة العالم في نهاية هذا القرن وفي مطلع القرن المقبل، ترينا الهوة أفدح وأخطر بين بلدان سوف تصل إلى المرحلة التي يدعونها بمرحلة “مجتمعات ما بعد الصناعة” وبين بلدان ستظل تحبو من أجل دخول مرحلة التصنيع دون أن تقوى على دخولها في مطلع القرن الجديد.
3- هذه الصورة القاتمة للحاضر والمستقبل فيما يتصل بتزايد الهوة القائمة بين البلدان المتقدمة والبلدان المتخلفة والسائرة في طريق النمو، تخلق لدى هذه البلدان الأخيرة قلقاً خاصاً، يدفعها إلى مزيد من البحث عن شروط التنمية. ونعني بهذا القلق ما اخذ يراودها من شكوك حول إمكان ردم هذه الهوة المتزايدة في اتساعها، وحول قدرتها على اللحاق بالركب بعد أن أمعن بعيداً، وقطع أشواطاً يصعب جوزها. إن السؤال المر الذي تطرحه هذه البلدان هو السؤال التالي: هل ثمة فرصة أمامها لإدراك الركب بعد أن أوغل، وللحاق بالسفينة بعد أن أبحرت وأغرقت، أم أن الأوان قد فات، وأنها أمام قدر لا يغالب.
* * *
هذه الأسباب التي أشرنا إليها – ووراءها أسباب أخرى عديدة تتفرع منها – تدعو هذه البلدان إلى أن تطرح مسألة التقدم ومسألة الشروط اللازمة له طرحاً علمياً جاداً. والسبب الأخير خاصة يلحف عليها في الجواب ويدعوها إلى التفكير والبحث.
على إننا نخف لنقول – قبل البحث في شروط التقدم – أن هذا التقدم ممكن، وأن ردم الهوة المتزايدة بين البلدان المتقدمة وسواها أمر ليس مستحيلاً ولا صعباً، كما يظن. والمسألة في نظرنا ليست في أن نسائل حول إمكان التقدم، بل أن نسائل عن الشروط القادرة على تحقيقه.
يشهد على ذلك حصاد التجربة العالمية كلها في الماضي والحاضر. فهذه التجربة أثبتت في الواقع أن بلدانا عديدة استطاعت أن تجاوز هوة التقدم التي تفصل بينها وبين بلدان سبقتها أشواطا في حلبته، حين هيأت الشروط اللازمة لذلك. ولسنا في حاجة من أجل ذلك إلى التفصيل في تجارب بلدان مثل اليابان وما أصابته من تقدم سريع منذ القرن الماضي رغم الهوة الشاسعة التي كانت تفصلها عن دنيا الحضارة، ومثل الاتحاد السوفياتي في أوائل هذا القرن، ومثل الصين في السنوات الأخيرة، وكثير غيرها من البلدان التي استطاعت أن تجوز مسافة حسبتها في البداية كبيرة شاسعة. ويعنينا أكثر من هذا أن نستخرج من تجاربها وتجارب سواها على مر التاريخ الدرس الهام الذي يدلنا على الشروط التي حققت بفضلها التقدم، والذي يمكن أن يتم التقدم عن طريقها دوماً وأبداً.
ولن ندخل، لهذا الغرض، في أبحاث نظرية تفصيلية نجدها عند علماء الاقتصاد وفلاسفة التاريخ وسواهم ممن بحث في عوامل النمو والتقدم. ولن نقول هنا مع مثل “آدم سميث Adam Smith”: “إن شرط التقدم هو تقسيم العمل بين أفراد المجتمع” أو مع مثل “فيشر Fisher”: أن شرطه هو قدرة الانتقال وسرعة الانتقال – في الوقت المناسب – من شكل من أشكال الإنتاج إلى آخر، وبوجه أخص من الإنتاج المعتمد على القطاع الأول، قطاع الزراعة والصيد، إلى نشاط معتمد على القطاع الثاني، قطاع الصناعة، ثم على القطاع الثالث، قطاع الخدمات (إن لم نتحدث عن قطاع رابع أضافه الاقتصاديون المحدثون). ولن نذهب إلى القول مع من قال إن شرط التقدم الأول هو التقدم التربوي، وإن البلد المتخلف اقتصادياً هو أولاً وقبل كل شيء بلد متخلف تربوياً. لا، لن نشير إلى هذه الدراسات التحليلية، لا لأننا نحقر شأن هذه العوامل التي نشير إليها، بل لأننا نعتبرها جميعها فروعاً ونتائج لعوامل أساسية هي التي ينبغي أن نبحث عنها.
شرطا التقدم الأساسيان:
فلنطرق الموضوع إذن توا، ولنمض إلى القلب منه، دون الأطراف. لنسائل عن العوامل الأساسية الحاسمة في تحقيق التقدم والنمو. هذه العوامل ترتد في نظرنا إلى عاملين اثنين متكاملين متآخذين. وقيمتهما عندنا تأتي من هذا التكامل والتآخذ. وهما عاملان تشهد عليهما
– في رأينا – التجربة التاريخية والعالمية كلها:
أما العامل الأول فهو عامل طالما أشار إليه الباحثون، حتى ليبدو من باب تحصيل الحاصل. ونعني به تهيئة المهاد اللازم للتقدم العلمي والتكنولوجي. والقول به وتوكيده يبدو دفعاً لأبواب مفتوحة، وإعادة لحقيقة بدهية مكرورة. ومع ذلك، فهو، رغم وضوحه الظاهري، ليس واضحاً على الإطلاق فيما يتعلق بالسبل العملية المؤدية إليه. وأهم ما فيه ليس مجرد تقريره، بل البحث عن الأدوات اللازمة له. ولا نقول جديدا إذا قلنا أن البلدان المتخلفة والسائرة في طريق النمو لا تجد بيسر الطرق المؤدية إلى خلق البنية التربوية والاقتصادية والاجتماعية المؤدية إلى تحقيق هذا المهاد العلمي والتكنولوجي اللازم لأي تقدم. ووضع خطة تجعل كل شيء موجهاً شطر خلق هذه التربة العلمية التكنولوجية أمر ينبغي أن يحتل لديها مكان الصدارة. أما كيف تستطيع أن نضع خطة اقتصادية واجتماعية وخطة تربوية وخطة علمية من أجل بلوغ هذه الغاية فمطلب يصعب الحديث عنه ضمن حدود هذه الكلمة. وحسبنا أن نقول أن نقطة البداية في مثل هذه الخطة جعل النظام التعليمي والتربوي كله (بالمعنى الواسع للكلمة، أي بالمعنى الذي يجاوز التربية المدرسية إلى سائر أشكال تربية الكبار) في خدمة المهاد العلمي والتكنولوجي اللازم للتنمية والتقدم.
على أن معنى هذا الشرط الأول لا يتضح إلا من خلال ترابطه بالشرط الثاني الأساسي من شروط النمو والتقدم. وهو الشرط الذي نريد أن نقف عنده وقفة خاصة، لأنه عامل مهمل ومنسي غالباً، ولأن إهماله يجعل من العسير تحقيق الشرط الأول.
ونقصد بهذا الشرط الثاني ما نستطيع أن ندعوه باسم بعث الإرادة القومية وتحريضها.
إذ لا يكفي أن نقول إننا نريد التقدم، ولا يكفي إن نقول إننا نريد أن نتوسل إليه بزرع التربة العلمية والتكنولوجية اللازمة. وأهم من هذا أن نحرك إرادة التقدم، وأن نجعلها حقيقة واقعة.
أهم من هذا أن نخلق لدى المواطنين في بلد من البلدان إرادة العمل المشترك وإرادة البناء المشترك وروح التفاني والتضحية والإخلاص من أجل هدف مشترك ورسالة مشتركة. إنهم لن يجهدوا في سبيل تطوير مجتمعهم علمياً وصناعياً وتكنولوجياً، إذا لم يحملوا أولاً وقبل كل شيء شعوراً برسالة، وإيماناً بقضية مشتركة ورغبة في بناء قومي جديد.
تجربة اليابان:
وتجربة البلدان التي أحرزت تقدماً سريعاً واستطاعت أن تجاوز تخلفها تشهد على أهمية هذا الشرط الثاني. ويكفي أن نذكر بينها تجربة بلد كاليابان (فضلاً عن تجربة بلدان كالاتحاد السوفياتي والصين، حيث تتّضح بيسر أهمية هذا العامل الإيديولوجي). أن تقدم اليابان في نهابة القرن التاسع عشر (منذ أيام عصر مييجي Meiji الشهير عام 1868) من دون جاراتها، رغم أنها أفقر هذه الجارات في مواردها الطبيعية، لا يرجع كما يظن ويقال غالباً إلى أنها حققت الشرط الأول من شروط التقدم (نعني المهاد العلمي والتكنولوجي اللازم) بل يرجع أولاً وخاصة إلى أنها حققت بالإضافة إليه، وجنباً إلى جنب معه، الشرط الثاني، نعني تحريض الإدارة القومية وروح العمل المشترك.
صحيح أنها قامت منذ ذاك العهد بأكبر جهد لتصنيع التعليم وتحديثه، وأنها أقامت نظام تعليم موحد منذ عام 1872، وأقرت التعليم الإلزامي منذ طور مبكر عام 1886. وصحيح أنها عُنيت بالتعليم العالي وأنشأت جامعة طوكيو منذ عام 1877، ووجهت رعاية خاصة لإيفاد البعثات العديدة إلى أمريكا وأوروبا ولاستدعاء خبراء أجانب للعمل في الصناعات المحدثة ولإعداد الاختصاصيين المحلين. هذا كله صحيح، ولا ينكر منكر دور التربية العلمية ونشرها وتصنيعها في نهضة اليابان الكبرى.
غير أن ما ينساه الكثيرون هو أن هذه النهضة لم تكتمل ولم تعرف طريقها إلى النجاح،
إلا عندما واكبت هذه العناية بخلق المهاد اللازم لنشر العلم والصناعة والتكنولوجيا، عناية أخطر شأناً، هي العناية بخلق الوحدة القومية والثقافة الموحدة، وبتحريض إرادة العمل المشترك. إن الذي نسيه المؤرخون والباحثون أن التربية اليابانية التي أحدثت ذلك الانقلاب الكبير في حياة اليابان وعملت على تصنيعها وإدخالها عصر العلم والصناعة، لم توجه اهتمامها إلى جعل التربية في خدمة العلم والصناعة فحسب، بل وجهت اهتمامها فوق ذلك وقبل ذلك إلى تكوين المواطن المؤمن ببناء بلده، وإلى خلق روح الاستقامة والتضحية والإخلاص والمحبة لديه.
ولا أدل على ذلك من الأمر الملكي الخاص بالتربية الذي صدر علم 1890. فهو يولي اهتماماً خاصاً لدور التربية الخلقي والقومي، إلى جانب دورها في إشاعة روح العلم الحديث وتهيئة الشروط اللازمة للتقدم التكنولوجي. ولا نغلو إذا قلنا أن اليابان – إن كانت قد استطاعت أن تصبح سريعاً قوة حديثة وإن كانت الدراسات التحسبية التي أشرنا إليها ترشحها إلى أن تكون في الذروة بين الدول التي ستدخل مرحلة ما بعد الصناعة – فذلك كله يرجع بالدرجة الأولى إلى روح النظام وإلى الإرادة القومية المشتركة اللتين يسرتهما التربية وساعدت على انتشارهما. وليس من السرف أن نؤكد أن الدور الخلقي للتربية في نهضة اليابان كان أهم من دورها الاقتصادي. على أن الدورين قد اتحدا في النهاية وساعدا على تطور البلد.
من هذا اللقاء الخصيب بين عاملين أساسيين من عوامل التقدم، تولد في نظرنا شرارة التقدم. وعندما يستطيع بلد من البلدان أن يحقق هذا اللقاء يجد طريقه السريع إلى التطور، ويخرج من بحرانه، ويزيل الشكوك القاسية التي تراوده حول قدرته على اللحاق بالركب.
وما لنا نذهب بعيداً، وتاريخ العرب أيام ازدهارهم بعد الإسلام خير شاهد على ما نقوله.
أفلا تشهد الحضارة العربية الإسلامية، في أوج سطوعها، على اتحاد هذين الشرطين الكبيرين؟ ألم يكن وراءها جهدان متلازمان: جهد من أجل خلق الإيمان بالعمل المشترك ومن أجل إشاعة المهاد الخلقي والروحي اللازم لتحريض الإرادة المشتركة وخلق روح التفاني والتضحية، وجهد آخر من أجل نقل التراث الحضاري العلمي خاصة، ومن أجل حضارة علمية تجريبية؟ أو لم تستطع الحضارة العربية الإسلامية – من دون من سبقها من الحضارات – أن تجمع بين العناية بالإنسانيات وما وراءها من خلق للإنسان المؤمن بالقيم، وبين العناية بالبحث التجريبي العلمي الذي يحاول أن يستكنه أسرار الطبيعة ويدرسها من أجل التأثير فيها؟ ألم يكن العرب والمسلمون أيام ازدهارهم رواد البحث التجريبي العلمي (منذ أيام مدرسة بغداد وما بعدها) إلى جانب كونهم رواد الحضارة الإنسانية والخلقية، حضارة القيم والإيمان بالقيم؟
وبعد يطول بنا البحث إن أردنا أن نأتي بالشواهد قديمها وحديثها للتدليل على أهمية اللقاء بين قطبي التقدم في نظرنا، نعني تهيئة المهاد اللازم للتقدم العلمي والتكنولوجي من جهة، وخلق إرادة العمل المشترك والإيمان بالرسالة المشتركة لدى المواطنين من جهة ثانية.
وحسبنا إن أومأنا إيماءات خاطفة إلى هذه الحقيقة التي نراها قمينة بالتأمل والتفحص، والتي نرى فيها طريق التقدم الوحيد. إنها في نظرنا جديرة بأن تخرج البلدان المتخلفة والسائرة في طريق النمو من بحرانها وشكوكها وقلقها وانسحاقها أمام تجربة البلدان المتقدمة.
أما السبيل إلى ذلك فمن الواضح أنها في أية حال سبيل التربية في شتى صورها وأشكالها.
منها ينبغي أن نبدأ، وطريقها ينبغي أن نسلك، إذا أردنا فعلا أن نسلك الطريق وإن دارت.